خواطر من جبل البَرَكَة
« لِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ؟ » (متى 7: 3)
حتى الحكـم القـائل: « أَنْتَ الَّذِي تَدِينُ تَفْعَلُ تِلْكَ الأُمُورَ بِعَيْنِهَا » لا يصل إلى جسامة خطية من يجترئ على انتقاد أخيه أو إدانته. قال يسوع: « لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك وأمّا الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها » (متى 7: 3). ArMB 60.2
إن كلامه يصف الإنسان الذي هو سريع في اكتشاف النقائص التي في الآخرين. وعندما يظنّ أنّه قد اكتشف عينا في الخلق أو الحياة يكون غيّوراً جدا في محاولة توجيه الأنظار إليه، أمّا يسوع فيعلن أنّ نفس الخلق الذي يتربى وينمو في عمل هذا الأمر الذي لا يمتّ إلى المسيحية بسبب هو بالمقارنة مع الخطأ المنتقد كالخشبة بالنسبة إلى القذى. إنّ انعدام روح الاحتمال والمحبة من قلب الإنسان هو الذي يقوده إلى أن يجعل « مِنْ الحَبّة قبّة » كما يقولون. فالذين لم يختبروا قطّ انسحاق التسليم الكامل للمسيح لا يظهرون في حياتهم تأثير محبة المسيح المهدئة الملطفة. إنّهم يشوّهون روح الإنجيل روح اللطف والرقة والمجاملة، ويجرحون النفوس الغالية التي قد مات المسيح لأجلها. وطبقاً للتشبيه الذي أورده مخلصنا نجد أنّ من يحتضن روح الانتقاد يرتكب خطية أعظم من ذاك الذي يتهمه، لأنّه فضلا عن كونه يرتكب نفس الخطية فهو يضيف إليها خطية الغرور والانتقاد. ArMB 60.3
إنّ المسيح هو النموذج الحقيقي الوحيد للخلُق، فالذي يقيم نفسه نموذجا للآخرين يضع نفسه في موضع المسيح. وحيث أنّ الآب « قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلابْنِ » (يوحنا 5: 22) فكل من يجرؤ على إدانة بواعث الآخرين فإنّما يغتصب من جديد حق ابن الله. هؤلاء القضاة والمنتقدون المزعومون يقفون في صف المدعو ضد المسيح « الْمُقَاوِمُ وَالْمُرْتَفِعُ عَلَى كُلِّ مَا يُدْعَى إِلهًا أَوْ مَعْبُودًا، حَتَّى إِنَّهُ يَجْلِسُ فِي هَيْكَلِ اللهِ كَإِلهٍ، مُظْهِرًا نَفْسَهُ أَنَّهُ إِلهٌ » (2 تسالونيكي 2: 4). ArMB 60.4
إنّ الخطية التي تقود إلى أتعس النتائج هي الروح الانتقادية الفاترة الحقود التي تتصف بها الفرَيسية. فعندما يخلو الاختبار الديني من المحبة فإنّ يسوع لا يكون فيه، وشمس حضوره لا تكون هناك. ولا يمكن لأي نشاط دؤوب أو غيرة مسيحية أن تسد هذا النقص. قد يكون هنالك إدراك وفهم حاد عجيب لاكتشاف نقائص الآخرين، ولكن كل من يحتضن هذه الروح يقول له يسوع: « يَا مُرَائِي، أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ » (متى 7: 5). إنّ مرتكب الخطأ هو أول من يشتبه في الخطأ. فهو إذ يدين إنسانا آخر يحاول أن يخفي شر قلبه أو يجد له عذرا. إنّه عن طريق الخطية حصل الناس على معرفة الشر، وما أن أخطأ الزوجان الأولان حتى بدأ كل منهما يتهم الآخر، وهذا ما لابد أن تفعله الطبيعة البشرية عندما لا تسيطر عليها نعمة المسيح. ArMB 60.5
إنّ الناس عندما يمعنون في هذه الروح روح الاتهام لا يكتفون بتوجيه الأنظار إلى ما يظنّون أنّه نقص في أخيهم. فإذا لم تفلح الوسائل اللطيفة في جعله يفعل ما يظنّون أنّه يجب أن يعمل يلجأون إلى الإرغام. فبقدر ما يستطيعون يرغمون الناس على الامتثال لآرائهم عما هو حقّ. هذا ما فعله اليهود في عهد المسيح وما قد فعلته الكنيسة منذ ذلك الحين كلما أضاعت نعمة المسيح. فإذ وجدت نفسها مجرّدة من سلطان المحبة مدّت يدها لتمسك بذراع الدولة لتفرض عقائدها وتنفذ قراراتها. هذا هو السرّ في كل الشرائع الدينية التي سُنت وسرّ كل اضطهاد وقع منذ أيام هَابِيل إلى يومنا الحاضر. ArMB 61.1
إنّ المسيح لا يسوق الناس بل يجتذبهم إلى نفسه. والإرغام الوحيد الذي يستخدمه هو وازع المحبة. فعندما تحاول الكنيسة وتبدأ في طلب معاضدة القوات الزمنية ومساندتها حينئذ يتضح أنّها قد تجردت من قوة المسيح ـ تحريض المحبة الإلهية. ArMB 61.2
ولكنّ الصعوبة تكمن في أعضاء الكنيسة كل بمفرده. فمن هنا يجب البدء بالعلاج. إنّ يسوع يأمر المشتكي أن يخرج الخشبة من عينه أولا وينبذ الروح الانتقادية ويعترف بخطيته ويتركها قبلما يحاول إصلاح الآخرين « لأَنَّهُ مَا مِنْ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تُثْمِرُ ثَمَرًا رَدِيًّا، وَلاَ شَجَرَةٍ رَدِيَّةٍ تُثْمِرُ ثَمَرًا جَيِّدًا » (لوقا 6: 43). إنّ هذه الروح المشتكية التي تحتضنها هي ثمر شرّير رديء وهو يدل على أنّ الشجرة ردية. إنّه أمر غير نافع لكم كونكم تبنون أنفسكم على البرّ الذاتي. فالذي تحتاجونه هو تغيير القلب. فينبغي أن يكون لكم هذا الاختبار قبلما تكونون مؤهلين لإصلاح الآخرين لأنّه « مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْب يَتَكَلَّمُ الْفَمُ » (متى 12: 34). ArMB 61.3
عندما تحدث أزمة في حياة أيّة نفس وحاولت أنت أن تقدم لها مشورة أو إنذارا فإنّ أقوالك يكون لها وزن التأثير للخير فقط على قدر ما اكتسبته قدوتك وروحك لك. فعليك أن تكون صالحا قبلما تستطيع أن تصنع صلاحاً. وأنت لا تستطيع أن تبذل تأثيرا بغير الآخرين ما لم يتضع قلبك ويتنقّى ويصير رقيقاً بنعمة المسيح. فبعدما يحدث فيك هذا التغيير سيكون أمرا طبيعياً بالنسبة إليك أنّك تعيش لتبارك الآخرين كما هو أمر طبيعي أن تخرج شجرة الورد أزهارها العطرة، أو الكرمة عناقيدها الأرجوانية. ArMB 61.4
فإن كان المسيح فيك « رَجَاءُ الْمَجْدِ » فلن يوجد فيك ميل لمراقبة الآخرين والتشهير بأخطائهم. وبدلا من محاولة الاتهام والإدانة فسيكون هدفك تقديم المعونة والبركة والخلاص. وعندما تتعامل مع من هم مخطئون فأنت تنتبه إلى الوصية القائلة: « نَاظِرًا إِلَى نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضًا » (غلاطية 6: 1). وستذكر المرّات الكثيرة التي فيها أخطأت، وكم كان من الصعب عليك أن تجد الطريق المستقيم بعدما تنكّبت عنه. وأنت لن تدفع أخاً لك إلى ظلمة أشد حلوكة بل بقلب مفعم بالعطف تخبره بخطره. ArMB 61.5
إنّ من يكثر من النظر إلى صليب جلجثة ذاكرا خطاياه التي وضعت على المُخَلِّص هناك لن يحاول أن يقدر درجة إثمه بالمقارنة مع أثم الآخرين. وهو لن يثِبَ إلى كرسي الدينونة ليتهم إنسانا آخر. لا يمكن أن تكون هناك روح الانتقاد أو تمجيد الذات من جانب من يسيرون في ظل صليب جلجثة. ArMB 61.6
إنّك، إلى أن تحس أنّك تستطيع التضحية بعظمتك الذاتية بل أن تضع حياتك لكي تخلّص أخا مخطئا، تستطيع أن تخرج الخشبة من عينك فتكون متأهباً لمساعدة أخيك. فإن استطعت ذلك فيمكنك أن تقتربَ منه وتلمس قلبه. إنّه لم يحدث قطُّ أنّ إنسانا قد استُردّ من مركز خاطئ بواسطة التقريع والتعيير، ولكن كثيرين طردوا بعيداً عن المسيح وذلك جعلهم يوصدون قلوبهم دون التبكيت. إنّ الروح الرقيقة والتصرف اللطيف الجذاب يمكن أن يخلص النفس الضالة ويستر كثرة من الخطايا. إن استعلان المسيح في أخلاقك ستكون له قوّة مغيرة لكلّ من تحتك بهم. ليستعلن المسيح فيك كل يوم وحينئذ سيعلن عن طريقك القوة الخالقة في كلمته - التأثير اللطيف المقنع والقادر في نفس الوقت على تجديد نفوس الآخرين في جمال الرب إلهنا. ArMB 62.1