قِصَّة الفداء

188/229

لوثر أمام المجلس

وقف لوثر مُطوَّلًا أمام المجلس. جلس الإمبراطور على عرشه، وكان محاطًا بأشهر الشخصيَّات في الإمبراطوريَّة. لم يسبق لإنسان أنْ مَثُل أمام مجمع مهيب كالذي وقف أمامه مارتن لوثر ليُدافع عن إيمانه وعقيدته. SRAr 347.1

إنَّ حقيقة كونه قد مَثُل أمام المجلس كانت علامة على انتصار الحقِّ. كما أنَّ مجرَّد مثول إنسان كان البابا قد أدانه أمام محكمة أخرى، مِن الناحية الفعليَّة، كان يُعَدُّ إنكارًا لسُلطة البابا العليا. ذلك المُصلح الذي حرمته الكنيسة وحظره البابا مِن عِشرة الناس قد مُنِح تأكيدًا بالحماية وأعطِي فرصة للدفاع عن نفسه مِن قِبَل أعلى الشخصيَّات في الإمبراطوريَّة. كانت روما قد أمرته بأنْ يلزم الصمت، لكنَّه كان على وشك أنْ يتحدَّث في حضور الآلاف مِن كلِّ أنحاء العالَم المسيحيّ. ومع أنَّ لوثر كان هادئًا ومسالِمًا فقد كان شجاعًا ونبيلًا، وهكذا وقف كشاهد لله أمام عظماء الأرض. قدَّم لوثر جوابه بصوت مكبوت متواضع مِن دون عنف أو غضب. وكان يبدو عليه الخجل والاستحياء والوقار؛ ومع ذلك فقد أبدى ثقة وفرحًا أدهشا المحفل. SRAr 347.2

لقد شعر بالغضب مِن قوَّة كلام لوثر أولئك الذين في عنادهم أغمضوا عيونهم حتَّى لا يروا النور وأصرُّوا على عدم الاقتناع بالحقِّ. فلمَّا انتهى مِن خطابه قال له الناطق باسم المجلس بغضب: «إنَّك لم تُجِب على السؤال المطروح عليك… المطلوب منك أنْ تُعطي جوابًا واضحًا وصريحًا… فهل تتراجع أم لا؟». SRAr 347.3

أجاب المُصلِح قائلًا: «حيث إنَّك يا صاحب الجلالة وأنتم يا أصحاب السموِّ والعظمة تطلبون منِّي جوابًا واضحًا بسيطًا ومُحدَّدًا فسأقدِّم جوابي، وها هو: أنا لا يمكنني أنْ أخضِع إيماني فأجعله تحت رحمة البابا أو المجامع لأنَّه واضح وضوح الشمس أنَّهم في أحيان كثيرة قد أخطأوا وناقضوا بعضهم بعضًا. ولذلك فإذا لم أقتنع مِن شهادة الكتاب المقدَّس أو بالمحاجَّة الواضحة جدًّا، وما لم أقتنع بواسطة النصوص التي قد اقتبستها، وما لم تُلزِم تلك الأقوال ضميري بواسطة كلمة الله، فأنا لا أستطيع ولا أريد أنْ أتراجع. لأنَّه أمرٌ غير مأمون العاقبة أنْ يتكلَّم المسيحيُّ ضدَّ ضميره. هنا أنا أقف ولا يمكنني أنْ أفعل غير ذلك؛ وليساعدني الله. آمين”. SRAr 348.1

وهكذا وقف هذا الرجل البارُّ ثابتًا على الأساس الراسخ، أساس كلمة الله. وقد استنار مُحيَّاه بنور السماء. وظهرت للجميع عظمته وطهارة خلقه وسلامه وفرح قلبه وهو يشهد ضدَّ سلطان الضلال ويُبرِز سموَّ ذلك الإيمان الذي يغلب العالَم. SRAr 348.2

لقد وقف صامِدًا كالصخر، بينما تلاطمت عليه أمواج أقسى القوى في العالَم. إنَّ بساطة كلماته وهيئته التي خلت مِن الخوف وهدوءه وعيناه اللتان تنطقان بأفصح بيان وعزمه الثابت الذي ظهر في كلِّ كلمة وفي كلِّ تصرُّف، هذا كلُّه ترك أثرًا عميقًا على نفوس الحاضرين. وقد اتَّضح أنَّه لا يمكن إقناعه بالخضوع لمطالب روما لا بالوعود ولا بالتهديد. SRAr 348.3

لقد تكلَّم المسيح على لسان لوثر مقدِّمًا شهادته بقوَّة وعظمة أثارت في الأصدقاء والأعداء على حدٍّ سواء الرهبة والدهشة إلى حين. كان روح الله حاضرًا في ذلك المجلس ليؤثِّر في قلوب رؤساء الإمبراطوريَّة. واعترف العديد مِن الأمراء بعدالة قضيَّة لوثر بكلِّ صراحة وانفتاح. واقتنع الكثيرون منهم بالحقِّ، ولكنَّ بعضهم تأثَّروا تأثُّرًا وقتيًّا. كان هناك فريق آخر لم يُفصحوا عن اقتناعهم حينئذ، ولكنَّهم بعدما فتَّشوا الكتب المقدَّسة لأنفسهم، أعلنوا في الأيَّام التالية عن اقتناعهم بالإصلاح بجرأة عظيمة. SRAr 348.4

كان المُنتخب فريدريك ينظر بجزع وهو متوجّس مِن ظهور لوثر أمام المجلس، وبانفعال عميق أصغى إلى خطابه. لقد فَرِحَ بشجاعة الدكتور وثباته ورباطة جأشه وافتخر لكونه المُدافِع عنه. وراح يقارن بين طرفَي النزاع، فرأى أنَّ حكمة البابوات والملوك والأساقفة قد أبطلتها قوَّة الحقِّ. وقد تكبَّدت البابويَّة هزيمة سيشعر بها الناس في كلِّ الأمم وكلِّ العصور. SRAr 349.1

لو كان المُصلِح قد تنازل عن بندٍ واحد، لكان الشيطان وجنوده قد أحرزوا النصرة، ولكنَّ ثباته الذي لم يتزعزع كان وسيلة تحرير الكنيسة وبداية عهد جديد أفضل. فهذا الرجل الفرد، الذي تجرَّأ على أنْ يُفكِّر ويتصرَّف لنفسه في الشؤون الدينيَّة، كان على وشك أنْ يُحدِث تأثيرًا في الكنيسة والعالَم ليس في عهده هو فقط، بل في كلِّ العصور اللاحقة. وكان ثباته وولاؤه سيُقوِّيان الجميع إلى انقضاء الدهر عندما يجوزون في مِثل ذلك الاختبار. لقد ارتفعت قوَّة الله وجلاله فوق مشورة البشر وفوق قوَّة الشيطان الهائلة. SRAr 349.2

رأيتُ أنَّ لوثر كان مُتحمِّسًا وغيّورًا. كما كان شجاعًا وجريئًا في توبيخ الْخَطِيَّةِ والدعوة إلى الحقِّ. وكان لا يعير اهتمامًا للأشرار أو للشياطين؛ كان يعلم أنَّ الذي كان معه أقوى منهم جميعًا. امتلك لوثر الحماس والشجاعة والجُرأة، وأحيانًا كان مُعرَّضًا لخطر التطرُّف في تصرُّفاته. لكنَّ الله أقام ميلانكثون الذي كان على نقيض لوثر في صفاته، وذلك ليكون مُعينًا يساعده في مواصلة عمل الإصلاح. كان ميلانكثون خجولًا متخوِّفًا حذِرًا وصاحب صبر عظيم. وكان عزيزًا جدًّا عند الله. وكانت معرفته بالأسفار المقدَّسة عظيمة، وكان سديد الرأي ذا حكمة ممتازة. وكان يشبه لوثر في محبَّة عمل الله. لقد جعل الربُّ قلبَي هذين الرجلين يقترنان معًا؛ وكانا صديقَين لا ينفصل أحدهما عن الآخر. كان لوثر عونًا كبيرًا لِـ (ميلانكثون) عندما كان يتعرَّض لخطر الشعور بالخوف والتردُّد، بينما كان ميلانكثون بدوره يُقدِّم عونًا كبيرًا لِـ (لوثر) عندما كان في خطر التسرُّع في تحرُّكاته. SRAr 349.3

إنَّ بصيرة ميلانكثون البعيدة النظر كانت غالبًا ما تساعد الرجلَين على تجنُّب المشكلات التي كان يمكن أنْ تقع على العمل لو أنَّ العمل تُرك لـِ (لوثر) وحده؛ وفي أحيانٍ كثيرة ما كان يمكن للعمل أنْ يتقدَّم إلى الأمام لو أنَّه تُرك لـِ (ميلانكثون) وحده. لقد رأيتُ حكمة الله في اختيار هذين الرجلَين ليواصلا القيام بعمل الإصلاح. SRAr 350.1