قِصَّة الفداء

174/229

٤٤ - الارتداد العظيم

عندما أعلن يسوع لتلاميذه عن مصير أورشليم ومشاهد مجيئه الثاني، أنبأهم أيضًا باختبار شعبه منذ اليوم الذي يُؤخذ فيه مِن بينهم إلى يوم مجيئه ثانية لإنقاذهم بقوَّة ومجد كثير. ومِن فوق جبل الزيتون شاهد المُخلِّص العواصف المُزمعة أنْ تهبَّ على الكنيسة الرسوليَّة، وإذ اخترق ببصره حجب المستقبل شاهد الأعاصير العنيفة المدمِّرة التي ستهاجم تابعيه في العصور المقبلة، عصور الظلام والاضطهاد. وبكلمات مختصرة ذات معنى مُخيف أنبأهم بالنصيب الذي سيكيله رؤساء هذا العالَم لكنيسة الله. فعلى أتباع المسيح أنْ يسلكوا طريق الاتِّضاع والعار والألم نفسه الذي سار فيه سيِّدهم. فالعداوة التي هوجم بها فادي العالَم ستُهاجِم كلَّ مَن يؤمِن باسمه. SRAr 320.1

لقد شهد تاريخ الكنيسة الأولى على صدق أقوال المُخلِّص وإتمامها. فقوَّات الأرض والجحيم اصطفَّت ضدَّ المسيح في شخص أتباعه. لقد سبق للوثنيَّة أنْ رأت أنَّه لو انتصر الإنجيل فستزول هياكلها ومذابحها؛ لذلك استجمعت قوَاها لملاشاة المسيحيَّة، وأشعلت ضدَّها نيران الاضطهاد، فجُرِّد المسيحيُّون مِن ممتلكاتهم وطُرِدوا مِن بيوتهم وأوطانهم. لقد صبروا «عَلَى مُجَاهَدَةِ آلامٍ كَثِيْرَةٍ» (عبرانيّين ١٠: ٣٢). «وَآخَرُونَ تَجَرَّبُوا فِي هُزُءٍ وَجَلْدٍ، ثُمَّ فِي قُيُودٍ أَيْضًا وَحَبْسٍ» (عبرانيّين ١١: ٣٦). وكثيرون منهم ختموا شهادتهم بدمائهم. فالسادة منهم والعبيد، الأغنياء والفقراء، العلماء والجهلاء، جميعهم قُتِلُوا بلا رحمة. SRAr 320.2

ولكنَّ الشيطان حاول عبثًا أنْ يُهلِك كنيسة المسيح أو يُخربها بالعنف. إنَّ الصراع العظيم الذي ضحَّى فيه تلاميذ يسوع بحياتهم لم يتوقَّف عندما سقط حاملو الأعلام الأمناء أولئك في مواقعهم، بل كانت هزيمتهم نصرًا. لقد قُتِلَ العاملون في كرْم الربِّ، لكنَّ عَمَلَهُ ظلَّ سائرًا إلى الأمام بثبات. وقد انتشر الإنجيل وزاد عدد معتنقي تعاليمه. وتغلغل في أقاليم لم يتسنَّ حتَّى لأعلام روما وجيوشها أنْ تدخلها. قال أحد المسيحيِّين إذ كان يحاجج الحكَّام الوثنيِّين الذين عزموا على مواصلة الاضطهاد: «يمكنكم أنْ تقتلونا وتعذِّبونا وتدينونا… إنَّ ظلمكم لنا هو خير برهان على براءتنا… ولن تجديكم القسوة نفعًا». لقد كانت تلك القسوة أعظم قوَّة لإقناع الآخرين بتعاليم المسيحيِّين. ثمَّ تابع ذلك الرجل قوله: «وكُلَّما قصصتمونا زاد عددنا؛ إنَّ دم المسيحيِّين هو البذار”. SRAr 321.1

وقد ألقِيَ ألوف منهم في السجون وقُتِلوا؛ ولكنْ قام آخرون مِن رمادهم ليملأوا الفراغ الذي تركه موت هؤلاء. والذين استشهدوا لأجل إيمانهم حُفِظوا للمسيح، وقد حسبهم منتصرين. لقد جاهدوا الجهاد الحسن وسيُوهب لهم إكليل المجد عند مجيء المسيح. إنَّ الآلام التي كابدها المسيحيُّون قرَّبتهم بعضهم مِن بعض ومِن فاديهم. وكان مثالهم الحيُّ واستشهادهم شهادة دائمة للحقِّ؛ وعلى غير انتظار ترك عبيد الشيطان خدمته وانضووا تحت لواء المسيح. SRAr 321.2