المُعلّم الأعظم
٣ - « أَوَّلاً نَبَاتًا، ثُمَّ سُنْبُلاً ”
(يعتمد هذا الفصل على ما جاء في مرقس ٤: ٢٦-٢٩).
أثار مثل الزارع كثيرا من التساؤل. واستنتج بعض السامعين من المثل أنّ المسيح لن يقيم مملكة أرضية فاستغرب الكثيرون وشملهم الارتباك. فإذ رأى المسيح ارتباكهم استعمل أمثالا أخرى وهو لا يزال يسعى أن يحوّل تفكيرهم عن أمل إقامة مملكة أرضية إلى عمل نعمة الله في القلب. COLAr 57.1
« وَقَالَ: هكَذَا مَلَكُوتُ اللهِ: كَأَنَّ إِنْسَانًا يُلْقِي الْبِذَارَ عَلَى الأَرْضِ، وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلاً وَنَهَارًا، وَالْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ، لأَنَّ الأَرْضَ مِنْ ذَاتِهَا تَأْتِي بِثَمَرٍ. أَوَّلاً نَبَاتًا، ثُمَّ سُنْبُلاً، ثُمَّ قَمْحًا مَلآنَ فِي السُّنْبُلِ. وَأَمَّا مَتَى أَدْرَكَ الثَّمَرُ، فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ الْمِنْجَلَ لأَنَّ الْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ » (مرقس ٤: ٢٦-٢٩). COLAr 57.2
إنّ الزارع الذي « يُرْسِلُ الْمِنْجَلَ لأَنَّ الْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ » (عدد ٢٩) لا يمكن أن يكون غير المسيح. إنّه هو الذي في اليوم الأخير العظيم يحصد الأرض. أمّا الزارع الذي يزرع البذار فيمثّل من يخدمون عوضاً عن المسيح. قيل عن البذار أنّه: « يَطْلُعُ وَيَنْمُو، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ » (عدد ٢٧)، ولكن هذا الكلام لا يصدقُ على ابن الله. فالمسيح لا ينام أبداً على حراسته بل يحرس حراسته ليلاً ونهاراً. ثم هو لا يجهل كيف ينمو البذار. COLAr 57.3
إنّ مَثَل البذار يعلن أن الله يعمل في الطبيعة. فالبذرة لها في ذاتها مبدأ الإنبات، مبدأ غرسه الله بنفسه، ومع ذلك فلو أنّ البذرة تُترك لنفسها فلن تستطيع أن تنبت. والإنسان له دوره الذي يقوم به في المساعدة على نمو البذرة. فعليه أن يعدّ التربة ويخدمها ليزيد من خصوبتها ويلقي فيها البذار. وعليه أن يحرث الحقول. ولكن يوجد حدّ لا يمكن أن يتعداه ولا يستطيع أن يعمل شيئا بعده. فلا قوة الإنسان ولا حكمته تستطيع أن تخرج النبات الحي من البذرة. ولو بذل الإنسان قصاراه فعليه أن يعتمد على ذاك الذي قد ربط الزرع والحصاد بحلقات قدرته العجيبة القادرة على كل شيء. COLAr 58.1
توجد في البذرة حياة، وتوجد في التربة قوة، ولكن ما لم تعمل القوة غير المحدودة ليلاً ونهاراً فلن تأتي البذرة بأي ثمر. وينبغي أن تنزل سيول المطر لترطب وتروي الحقول الظامئة إلى الماء، ويجب أن تعطي الشمس حرارتها، وأن تتصل الكهرباء بالبذرة المدفونة، فالحياة التي قد أودعها الخالق يستطيع هو وحده أن يخرجها. فكل بذرة تطلع وكل نبتة تنمو بقوة الله. COLAr 58.2
« لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الأَرْضَ تُخْرِجُ نَبَاتَهَا، وَكَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ تُنْبِتُ مَزْرُوعَاتِهَا، هكَذَا السَّيِّدُ الرَّبُّ يُنْبِتُ بِرًّا وَتَسْبِيحًا » (إِشَعْيَاء ٦١: ١١). وكما في الزرع الطبيعي كذلك في الزرع الروحي يجب على معلم الحق أن يحاول تهيئة تربة القلب، وعليه أن يلقي البذار، أما القوة التي تستطيع وحدها أن توجد الحياة فهي من الله. يوجد حدّ لا يجدي بعده أي مجهود بشري. ففي حين يجب علينا أن نكرز بالكلمة فإننا لا نستطيع أن نمنح القوة المحيية للنفس والتي تنبت البرّ والتسبيح. ففي الكرازة بالكلمة يجب أن تكون هناك قوة عاملة فوق القوة البشرية. فبواسطة روح الله وحده يمكن أن تكون الكلمة حية وفعالة لتجديد النفس للحياة الأبدية. هذا ما حاول المسيح أن يطبعه في أذهان تلاميذه. فقد علمهم أنه لا يوجد شيء يملكونه في أنفسهم بمقدوره أن ينجح أعمالهم وخدماتهم، إنما قوة الله الصانعة المعجزات هي وحدها التي تعطي لكلامه الفعالية. COLAr 58.3
إنّ عمل الزارع هو عمل الإيمان. إنّه لا يستطيع أن يدرك سرّ استنبات البذار ونموه. ولكن له ثقة في العوامل التي بها يجعل الله النباتات تطلع وتزدهر. إنّه إذ يلقي البذار في الأرض يبدو وكأنّه يبدّد الحبوب الثمينة التي تحتاجها عائلـته لإمـدادها بالخبز. إلاّ أنّه فقط يتخلى عن خير حاضر في انتظار حصاد أعظم. إنّه يلقي البذار بعيداً منتظرا أن يحصل على أضعاف كثيرة في حصاد وفير. وكذلك عل خدام المسيح أن يخدموا منتظـرين حصـاداً من البذار الذي يزرعـونه. COLAr 59.1
وقد يظل البذار الجيد مدفونا في قلب بارد محب لذاته عالمي دون أن يلاحظه أحد، ودون أن يعطي أيّة دلالة على أنّ جذوره تمتد في الأرض، ولكن بعد ذلك حين يهب روح الله على النفس فإنّ البذار المدفون يطلع وأخيراً يثمر لمجد الله. وفي عمل حياتنا نحن لا نعلم أيهما سينجح هذا أو ذاك. إذ ليس لنا نحن أن نبتّ في الجواب. إنّما علينا أن نقوم بعملنا ونترك النتائج في يد الله: « فِي الصَّبَاحِ ازْرَعْ زَرْعَكَ، وَفِي الْمَسَاءِ لاَ تَرْخِ يَدَكَ » (جامعة ١١: ٦). إنّ ميثاق الله العظيم يعلن قائلاً: « مُدَّةَ كُلِّ أَيَّامِ الأَرْضِ: زَرْعٌ وَحَصَادٌ … لاَ تَزَالُ » (تكوين ٨: ٢٢). وبالاستناد على هذا الوعد يحرث الفـلاح ويزرع. وفي مجـال الزرع الروحي علينا أن نخدم بثقة لا تقل عن ثقة الفلاح متكلين على كلام الرب وتأكيداته. « هكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ فَمِي. لاَ تَرْجعُ إِلَيَّ فَارِغَةً، بَلْ تَعْمَلُ مَا سُرِرْتُ بِهِ وَتَنْجَحُ فِي مَا أَرْسَلْتُهَا لَهُ » (إِشَعْيَاء ٥٥: ١١). « الذَّاهِبُ ذَهَابًا بِالْبُكَاءِ حَامِلاً مِبْذَرَ الزَّرْعِ، مَجِيئًا يَجِيءُ بِالتَّرَنُّمِ حَامِلاً حُزَمَهُ » (مزمور ١٢٦: ٦). COLAr 60.1
إنّ استنبات البذار يرمز إلى بدء الحياة الروحية. ونمو النبات هو رمز جميل للنمو المسيحي. فكما في الطبيعة كذلك في النعمة، فلا يمكن أن تكون هنالك حياة ما لم يكن نمو. فالنبات إمّا أن ينمو أو يذوي ويموت. وكما أنّ نموه ساكن ولا يُرى بالعين بل هو مستمر كذلك الحال في نمو الحياة المسيحية. وفي كل طور من أطوار النمو يمكن أن تكون حياتنا كاملة، ولكن إذا تم قصد الله من جهتنا فسيكون هناك نمو مطرد وتقدم مستمر. إنّ التقديس عمل يدوم مدى الحياة. فبقدر ما تتضاعف الفرص المقدمة لنا يتسع اختبارنا وتزداد معرفتنا. وسنتشدد لحمل المسؤوليات وسيكون نضوجنا بنسبة امتيازنا. COLAr 60.2
إنّ النبات ينمو بواسطة إمداده بما قد أعده الله للإبقاء على حياته. فهو يعمّق جذوره في الأرض ويستقي من نور الشمس وحرارتها والندى والمطر. ويقتبل العناصر المانحة الحياة من الهواء. وكذلك على المسيحي أن ينمو بالتعاون مع العوامل الإلهية. فإذ نحس بعجزنا علينا أن نحسن استخدام الفرص الممنوحة لنا للحصول على اختبار أكمل. وكما يرسل النبات جذوره في الأرض كذلك علينا نحن أن نغرس أصولنا في المسيح. وكما يقبل النبات حرارة الشمس والندى والمطر كذلك علينا نحن أن نفتح قلوبنا للروح القدس. والعمل يُعمل: « لاَ بِالْقُدْرَةِ وَلاَ بِالْقُوَّةِ، بَلْ بِرُوحِي قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ » (زكريا ٤: ٦). فإذا كنا نثبت أفكارنا وعقولنا في المسيح فسيأتي إلينا: « كَالْمَطَرِ. كَمَطَرٍ مُتَأَخِّرٍ يَسْقِي الأَرْضَ » (هوشع ٦: ٣). وسيشرق علينا كشمس البر تشرق « وَالشِّفَاءُ فِي أَجْنِحَتِهَا » (ملاخي ٤: ٢). وحينئذ يقال عنا « يُزْهِرُ كَالسَّوْسَنِ » « يُحْيُونَ حِنْطَةً وَيُزْهِرُونَ كَجَفْنَةٍ » (هوشع ١٤: ٥، ٧). وإذ نعتمد على المسيح دائما كمخلصنا الشخصي ننمو فيه في كل شيء الذي هو رأسنا. COLAr 61.1
إن الحنطة تنمو وتتطور « أَوَّلاً نَبَاتًا، ثُمَّ سُنْبُلاً، ثُمَّ قَمْحًا مَلآنَ فِي السُّنْبُلِ» (مرقس ٤: ٢٨). إن غاية الفلاح من إلقاء بذاره والعناية بالنبات النامي هو محصول الحنطة. إنّه يبتغي الحصول على خبز للجياع وبذار للمحاصيل القادمة. وكذلك الزارع الإلهي ينتظر حصاداً جزاء له على تعبه وتضحيته. إنّ المسيح يسعى لكي يطبع صورته في قلوب الناس، وهو يفعل ذلك عن طريق من يؤمنون به. إنّ غاية الحياة المسيحية هي الإتيان بثمر — انطباع صفات المسيح في قلب المؤمن حتى تنطبع في قلوب الآخرين. COLAr 62.1
إنّ النبات لا ينبت ولا ينمو ولا يثمر لنفسه بل ليعطي « زَرْعًا لِلزَّارِعِ وَخُبْزًا لِلآكِلِ » (إِشَعْيَاء ٥٥: ١٠). كذلك ليس لإنسان أن يعيش لنفسه. فالمسيحي في العالم هو نائب عن المسيح لأجل خلاص نفوس الغير. COLAr 62.2
ولا يمكن أن يكون هنالك نمو أو إثمار في الحياة المتركزة في ذاتها. فإذا كنت قد قبلت المسيح كمخلصك الشخصي فعليك أن تنسى ذاتك وتجتهد في مساعدة الآخرين. تحدَّث عن محبة المسيح وأخبر الناس عن جوده. وقم بكلّ واجب يعرض لك. تثقَّل بمسؤولية نفوس الناس وضعها على قلبك، وبكل وسيلة في مقدورك حاول أن تخلّص الهالكين. وإذ تحصل على روح المسيح — روح المحبة المنكرة لذاتها والعمل لأجل الآخرين فستنمو وتأتي بثمر. وستنضج هبات الروح في خلقك. وسيزيد إيمانك وتتعمق اقتناعاتك وتتكمل محبتك. وستعكس صورة المسيح في نفسك في كل ما هو طاهر ونبيل وجميل. COLAr 62.3
« وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ » (غلاطية ٥: ٢٢، ٢٣). هذا الثمر لا يمكن أن يفنى بل لابد أن يثمر ثمراً كجنسه، حصاداً للحياة الأبدية. COLAr 63.1
« مَتَى أَدْرَكَ الثَّمَرُ، فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ الْمِنْجَلَ لأَنَّ الْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ » (مرقس ٤: ٢٩). إنّ المســيح ينتظـر باشتيــاق أمنيتـه لإظهــار ذاتـه في كنيستـه. وعنــدما تنطبـع صفات المسـيح في شعبه تمـاما فحينئذ سيطالب بهم كخـاصته. COLAr 64.1
إنّه امتياز لكل مسيحي ليس فقط أن ينتظر مجيء ربنا يسوع المسيح بل أيضاً أن يطلب سرعته (٢بطرس ٣: ١٢). فلو أن كل من يُدعون باسمه يثمرون لمجده فما كان أسرع ما يُزرع العالم كله ببذار الإنجيل. وكان الحصـاد الأخير العظـيم ينضج سريعا وكان المسـيح يأتي ليجمـع الثمـر الثمين. COLAr 64.2