المُعلّم الأعظم
في الأرض الجيدة
إنّ الزارع لن تواجهه المفشلات على الدوام. فقد قال المُخَلِّص عن البذار الذي سقط على الأرض الجيدة: هذا « هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ وَيَفْهَمُ. وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِثَمَرٍ، فَيَصْنَعُ بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاَثِينَ » ( متى ١٣: ٢٣). « وَالَّذِي فِي الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ، هُوَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ فَيَحْفَظُونَهَا فِي قَلْبٍ جَيِّدٍ صَالِحٍ، وَيُثْمِرُونَ بِالصَّبْرِ » (لوقا ٨: ١٥). COLAr 53.1
إنّ القلب الجيد الصالح الذي يتحدث عنه المثل ليس قلباً خالياً من الخطية، لأن الإنجيل يكرز به للهالكين. وقد قال المسيح، « لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ » ( مرقس ٢: ١٧). إنّ من يخضع لتبكيت الرُّوح الْقُدُس هو الذي له القلب الجيد الصالح. فهو يعترف بذنبه ويحسّ بحاجته إلى رحمة الله ومحبته. وله رغبة مخلصة في معرفة الحق حتى يطيعه. إنّ القلب الجيد هو القلب المؤمن والذي له إيمان بكلمة الله. وبدون إيمان يستحيل على الإنسان أن يقبل الكلمة: « لأَنَّهُ يَجِبُ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي إِلَى اللهِ يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّهُ يُجَازِي الَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ » (عبرانيين ١١: ٦). COLAr 53.2
هذا: « هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ وَيَفْهَمُ » (متى ١٣: ٢٣). إن الفريسيين في أيام المسيح أغمضوا عيونهم لئلا يبصروا وآذانهم لئلا يسمعوا، لذلك لم يمكن للحق أن يصل إلى قلوبهم. وكان عليهم أن يحتملوا العقاب عن جهلهم العنيد وعماهم الذي فرضوه على أنفسهم. ولكن المسيح علم تلاميذه أن يفتحوا أذهانهم للتعليم ويكونوا مستعدين لأن يؤمنوا. وقد نطق عليهم بالبركة لأنهم أبصروا وسمعوا بعيونهم وآذانهم التي آمنت. COLAr 54.1
إنّ السامع الذي يشبه الأرض الجيدة يقبل الكلمة: « لاَ كَكَلِمَةِ أُنَاسٍ، بَلْ كَمَا هِيَ بِالْحَقِيقَةِ كَكَلِمَةِ اللهِ » (١تسالونيكي ٢: ١٣). فالذي يقبل الكتاب على أنه صوت الله متحدثا إليه هو وحده المتعلم الحقيقي الأمين. إنه يرتعد من الكلمة لأنها بالنسبة إليه حقيقة حيّة. وهو يفتح ذهنه وقلبه لقبولها. أمثال هؤلاء السامعين كان كرنيليوس وأصدقاؤه، إذ قال لبطرس الرسول: « وَالآنَ نَحْنُ جَمِيعًا حَاضِرُونَ أَمَامَ اللهِ لِنَسْمَعَ جَمِيعَ مَا أَمَرَكَ بِهِ اللهُ » (أعمال ١٠: ٣٣). COLAr 54.2
إنّ معرفة الحق لا تتوقف بالأكثر على قوة العقل بل على نقاوة القصد وبساطة الإيمان الغيور المستند على الله. فالذين في وداعة قلوبهم يطلبون الإرشاد الإلهي يقترب منهم ملائكة الله. والرُّوح الْقُدُس يُعطى لهم ليكشف لهم عن كنوز الحق الغنية. COLAr 54.3
والسامعون الذين قلوبهم أرض جيدة إذ يسمعون الكلمة يحفظونها. فلا الشيطان ولا كلّ أعوانه الأشرار يستطيعون أن يختطفوها. COLAr 54.4
ولكن مجرّد سماع الكلمة أو قراءتها لا يكفي. فعلى من يرغب في الانتفاع بكلمة الله أن يتأمل في الحق المقدم له. فعليه، بالانتباه الجاد الغيور والتفكير في روح الصلاة، أن يتفهّم معنى كلام الحق ويجرع بعمق من روح أقوال الله المقدسة. COLAr 54.5
إنّ الله يأمرنا بأن نملأ عقولنا بالأفكار العظيمة الطاهرة. ويريدنا أن نتأمل في محبته ورحمته وندرس عمله العجيب في تدبير الفداء العظيم. وحينئذ يصير إدراكنا للحق أوضح وأوضح، واشتياقُنا إلى طهارة القلب وصفاء الذهن أسمى وأقدس. وإذ تسكن النفس في الجو النقي، جو التفكير المقدس ستتغير بواسطة الشركة مع الله عن طريق درس كلمته. COLAr 55.1
« يأتي بثمر ». أولئك الذين إذ يسمعون الكلمة يحفظونها سيثمرون في الطاعة. فكلمة الله إذ تُقبل في النفس تظهر في الأعمال الصالحة. وستظهر نتائجها في أخلاق كأخلاق المسيح وحياة كحياته. لقد قال المسيح عن نفسه: « أَنْ أَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا إِلهِي سُرِرْتُ، وَشَرِيعَتُكَ فِي وَسَطِ أَحْشَائِي » (مزمور ٤٠: ٨). « لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي » (يوحنا ٥: ٣٠). والكتاب يقول: « مَنْ قَالَ: إِنَّهُ ثَابِتٌ فِيهِ يَنْبَغِي أَنَّهُ كَمَا سَلَكَ ذَاكَ هكَذَا يَسْلُكُ هُوَ أَيْضًا » (١يوحنا ٢: ٦). COLAr 55.2
وكثيرا ما تصطدم كلمة الله بأخلاق الإنسان الموروثة والتي كوَّنها في نفسه وعادات حياته. ولكنّ السامع الذي يشبه الأرض الجيدة إذ يسمع الكلمة يقبلها ويقبل كل شروطها ومطاليبها. فطباعه وعاداته وأعماله تُخضع لكلمة الله. وفي نظره تُعتبر أوامر الإنسان المحدود المخطئ تافهة بالمقارنة مع كلمة الإله السرمدي غير المحدود. وبقلب كامل وبعزم غير منقسم يطلب الحياة الأبدية وهو سيطيع الحق حتى لو كلفه ذلك الخسارة أو الاضطهاد أو الموت نفسه. COLAr 55.3
وهو يثمر « بالصَّبْر ». ليس واحد ممّن يقبلون كلمة الله معفى من الصعوبات والتجارب، ولكن عندما تأتي التجربة فالمسيحي بالحقّ لا يصير ضجراً أو عديم الثقة أو بائساً. فمع أننا لا نستطيع أن نعرف أو نرى النتيجة المحددة للأحداث ولا أن ندرك قصد الله في معاملات عنايته لنا فينبغي ألاّ نطرح عنا ثقتنا. فإذ نذكر مراحم الرب يجب أن نلقي همنا عليه وبالصبر نتوقع خلاصه. COLAr 55.4
الحياة الروحية تتقوّى بالجهاد. فإذ نحتمل المحن فذلك يزيد من رسوخ خُلُقنا ويزيد من فضائلنا الروحية الثمينة. إنّ ثمر الإيمان الكامل، بالوداعة والمحبة، غالبا ما ينضج بشكل أفضل في وسط عواصف السحب والظلام. COLAr 56.1
« هُوَذَا الْفَلاَحُ يَنْتَظِرُ ثَمَرَ الأَرْضِ الثَّمِينَ، مُتَأَنِّيًا عَلَيْهِ حَتَّى يَنَالَ الْمَطَرَ الْمُبَكِّرَ وَالْمُتَأَخِّرَ » (يعقوب ٥: ٧). وكذلك يجب على المسيحي أن يتوقع بالصبر أن تثمر كلمة الله في حياته. وغالبا عندما نصلي في طلب هبات الروح يعمل الله على إجابة صلواتنا بأن يضعنا في ظروف تنمّي هذه الثمار. ولكننا لا ندرك قصده فنندهش ونيأس. وليس أحد يمكنه أن يظهر هذه المواهب إلاّ عن طريق عملية النمو والإثمار. فعملنا هو أن نقبل كلمة الله ونتمسك بها خاضعين بالتمام لسلطانها وحينئذ يتمّ غرضها فينا. COLAr 56.2
قال المسيح: « إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً » ( يوحنا ١٤: ٢٣). إنّ قوةً أسمى، قوة عقل كامل تحيط بنا لأنّ لنا اتصالا حيّا بنبع القوة الباقية إلى الأبد. وفي حياتنا الإلهية سنُسبى ليسوع المسيح. ولن نعيش فيما بعد الحيــاة العادية حياة الأثرة ولكن المسيح يحيا فينا. وصفاته ستتكرر في طبيعتنا. وهكـذا نثمر ثمر الرُّوح الْقُدُس — « وَاحِدٌ ثَلاَثِينَ وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ مِئَةً » (مرقس ٤: ٢٠). COLAr 56.3