الاباء والانبياء

23/75

الفصل الحادي والعشرون—يوسف وإخوته

----------------------------

حالما بدأت سنو الشبع بدأ معها التأهب للمجاعة القادمة ، وبموجب تعليمات يوسف بنيت مخازن واسعة جدا في كل الأماكن الرئيسية في كل أرض مصر ، وعملت الترتيبات الكافية لحفظ الفائض من المحصول المنتظر . وقد اتبعت هذه الترتيبات نفسها مدة سبع سني الشبع ، إلى أن غدت كميات القمح المخزونة فوق كل حصر . AA 192.1

والآن بدأت سبع سني الجوع كما تنبأ يوسف . ( فكان جوع في جميع البلدان . وأمّا جميع أرض مصر فكان فيها خبز . ولمّا جاعت جميع أرض مصر وصرخ الشّعب إلى فرعون لأجل الخبز ، قال فرعون لكلّ المصريّين : «اذهبوا إلى يوسف ، والّذي يقول لكم افعلوا» . وكان الجوع على كلّ وجه الأرض ، وفتح يوسف جميع ما فيه طعام وباع للمصريّين ) (تكوين 41 : 54 - 56 والإصحاحات 42 — 50) . AA 192.2

وامتدت المجاعة حتى شملت أرض كنعان ، وأحس الناس بشدة وطأتها ، خصوصا في المكان الذي كان يعقوب ساكنا فيه . فإذ سمعوا عن وجود مؤونة كثيرة اختزنها ملك مصر سافر عشرة من أولاد يعقوب إلى هناك ليشتروا قمحا ، فلما وصلوا إلى هناك أخذوا إلى نائب الملك ، حيث مثلوا أمام سيد الأرض مع آخرين من طالبي القمح ، ( وسجدوا له بوجوههم إلى الأرض ... وعرف يوسف إخوته ، وأمّا هم فلم يعرفوه ) إذ أبدل اسمه العبراني بالاسم الجديد الذي أطلقه عليه الملك ، ولم يكن هنالك غير قليل من الشبه بين رئيس وزراء مصر وذلك الفتى الذي كانوا قد باعوه للإسماعيليين . وحين رأى يوسف إخوته ينحنون ويسجدون أمامه ذكر أحلامه وظهرت أمامه صور الماضي واضحة وجلية . تفحصتهم عينه الحادة البصر فاكتشف أن بنيامين ليس بينهم ، فهل سقط هو الآخر فريسة لغدر أولئك القوم المتوحش وقسوتهم فإذ عزم على معرفة الحقيقة قال لهم بحزم : ( جواسيس أنتم ! لتروا عورة الأرض جئتم ) . AA 192.3

فقالوا له : ( لا يا سيّدي ، بل عبيدك جاءوا ليشتروا طعاما . نحن جميعنا بنو رجل واحدٍ . نحن أمناء ، ليس عبيدك جواسيس ) ثم أراد أن يعلم هل كانت روحهم هي نفس الروح المتغطرسة التي عهدها فيهم حين كان معهم ، كما أراد أن يعرف منهم بعض المعلومات الخاصة ببيتهم ، ومع ذلك فربما كانت روايتهم مضللة . فلما كرر التهمة أجابوه قائلين : ( عبيدك اثنا عشر أخا . نحن بنو رجل واحدٍ في أرض كنعان . وهوذا الصّغير عند أبينا اليوم ، والواحد مفقود ) . AA 193.1

فإذ أخبرهم الحاكم أنه يشك في صدق روايتهم ، وأنه لا يزال يعتبرهم جواسيس أعلن أنه يريد أن يمتحن صدق كلامهم بأن يأمرهم بالبقاء في مصر إلى أن يذهب واحد منهم وينزل إليه بأخيهم الصغير ، فإذا لم يرضوا بذلك فلا بد من معاملتهم كجواسيس . ولكن أولاد يعقوب لم يوافقوا على هذا التدبير ، لأن الوقت اللازم لتنفيذه قد يجعل عائلاتهم تقاسي احتياجا إلى الطعام ومن منهم هو الذي يشرع في ذلك السفر وحده ، تاركا إخوته في السجن ؟ كيف يستطيع أن يقابل أباه في مثل تلك الظروف وقد تراءى لهم أنهم قد يقتلون أو يصيرون عبيدا ، ولو أتى بنيامين فقد يشاركهم في مصيرهم التعس ، ولذلك عزموا على أن يبقوا معا ويتألموا معا ، فذلك أفضل عن أن يجلبوا على أبيهم أحزانا جديدة بخسارته ابنه الوحيد الباقي . ولهذا ألقى بهم في السجن ، حيث ظلوا ثلاثة أيام . AA 193.2

في خلال السنين التي مرت منذ افترق يوسف عن إخوته حصل تغيير في أخلاقهم . كانوا قبلا حسودين وثائرين ومخادعين وقساة ومحبين للانتقام ، أما الآن بعدما محصتهم التجارب والضيقات والمشقات فقد تبرهن أنهم منكرون لذواتهم وأمناء بعضهم لبعض ومكرسون لأبيهم . ومع أنهم كانوا رجالا في منتصف العمر فقد كانوا خاضعين لسلطان أبيهم . AA 193.3

كانت الثلاثة الأيام التي قضوها في سجن مصر أيام حزن مرير عليهم ، لأن أولئك الإخوة تذكروا خطاياهم الماضية ، فإذا لم يجيئوا ببنيامين صدقت التهمة الموجهة إليهم على أنهم جواسيس ، وكان أملهم ضعيفا في أن أباهم سيسمح لهم بأخذ بنيامين معهم . وفي اليوم الثالث أمر يوسف بإحضار الإخوة إليه إذ لم يجرؤ على تعويقهم أكثر من ذلك ، فلا بد من أن أباه وكل العائلات التي معه يقاسون آلام الجوع . فقال لهم : ( افعلوا هذا واحيوا . أنا خائف الله . إن كنتم أمناء فليحبس أخ واحد منكم في بيت حبسكم ، وانطلقوا أنتم وخذوا قمحا لمجاعة بيوتكم . وأحضروا أخاكم الصّغير إليّ ، فيتحقّق كلامكم ولا تموتوا ) فأجمع رأيهم على قبول هذا الاقتراح ، وإن كانوا قد عبروا عن ضعف أملهم في أن أباهم سيرضى بإرسال بنيامين معهم . وكان يوسف يتحدث إليهم عن طريق ترجمان ، فإذ كانوا يظنون أن الحاكم ليس فاهما كلامهم جعلوا يتحدثون معا بكل حرية في حضوره . وقد أنحوا باللائمة على أنفسهم في معاملتهم ليوسف ، ( وقالوا بعضهم لبعضٍ : حقّا إنّنا مذنبون إلى أخينا الّذي رأينا ضيقة نفسه لمّا استرحمنا ولم نسمع . لذلك جاءت علينا هذه الضّيقة ) فقال رأوبين الذي كان قد أعد خطة لإنقاذ أخيه في دوثان . ( ألم أكلّمكم قائلا : لا تأثموا بالولد ، وأنتم لم تسمعوا ؟ فهوذا دمه يطلب ) فإذ كان يوسف يصغي إلى ما قالوا لم يستطع أن يضبط عواطفه فخرج إلى خارج وبكى . فلما عاد إليهم أمر بتقييد شمعون أمام عيونهم ووضعه في السجن . إنهم حين كانوا يعاملون أخاهم بقسوة كان شمعون هو المحرض والعامل الأكبر في إيذاء أخيه ، ولأجل هذا السبب وقع الاختيار عليه . AA 193.4

وقبلما سمح يوسف لإخوته بالسفر أصدر تعليماته بأن يعطى لهم قمح وأن توضع فضة كل واحد منهم سرا في فم عدله ، وأن يعطوا علفا لدوابهم في طريق عودتهم إلى وطنهم ، ففي طريق عودتهم إذ كان أحدهم يفتح عدله ليعطي عليقا لحماره أدهشه أنه رأى صرة الفضة ، وإذ أخبر الباقين بذلك خافوا وارتعدوا وطارت قلوبهم ، وقال الواحد للآخر : ( ما هذا الّذي صنعه الله بنا ؟ ) فهل يعتبرون هذا دليلا على إحسان الله إليهم ، أم أنه سمح بحدوث هذا قصاصا لهم على خطاياهم ليغوصوا إلى أعماق الشقاء ؟ لقد اعترفوا أن الله قد رأى خطاياهم وها هو يعاقبهم عليها . AA 194.1

وكان يعقوب ينتظر عودة بنيه بفارغ صبر ، فلما وصلوا تجمهر حولهم كل من في المحلة حين سمعوهم يقصون على أبيهم كل ما حدث لهم . فامتلأت كل القلوب خوفا وفزعا ، إذ بدا لهم كأن تصرف الحاكم المصري يدل على سوء النية . ومما حقق مخاوفهم أنهم حين فتحوا عدالهم وجد كل منهم فضته في فم عدله . فصاح أبوهم الشيخ يقول في حزن : ( أعدمتموني الأولاد . يوسف مفقود ، وشمعون مفقود ، وبنيامين تأخذونه . صار كلّ هذا عليّ ) فأجابه رأوبين قائلا : ( اقتل ابنيّ إن لم أجئ به إليك . سلّمه بيدي وأنا أردّه إليك ) فهذا الكلام الدال على الطيش لم يفرج بال يعقوب ، فكان جوابه : ( لا ينزل ابني معكم ، لأنّ أخاه قد مات ، وهو وحده باق . فإن أصابته أذيّة في الطّريق الّتي تذهبون فيها تنزلون شيبتي بحزنٍ إلى الهاوية ) . AA 194.2

ولكن الجوع طال أمده ، وبمرور الوقت كادت تنفد كمية القمح التي أتوا بها من مصر . كان أولاد يعقوب يعلمون أنهم عبثا يعودون إلى مصر بدون بنيامين ، وكان أملهم ضعيفا في زحزحة أبيهم عن عزمه ، فانتظروا النتيجة وهم صامتون . وقد ظهر شبح المجاعة الهائلة القادمة عليهم بكل وضوح ، وعلى الوجوه القلقة في تلك المحلة قرأ الشيخ نبأ حاجتهم ، وأخيرا قال لهم ( ارجعوا اشتروا لنا قليلا من الطّعام). AA 195.1

فأجابه يهوذا قائلا : ( إنّ الرّجل قد أشهد علينا قائلا : لا ترون وجهي بدون أن يكون أخوكم معكم . إن كنت ترسل أخانا معنا ، ننزل ونشتري لك طعاما ، ولكن إن كنت لا ترسله لا ننزل . لأنّ الرّجل قال لنا : لا ترون وجهي بدون أن يكون أخوكم معكم ) . وإذ رأى يهوذا أن أباه قد بدا يتراجع عن عزمه أضاف قائلا : ( أرسل الغلام معي لنقوم ونذهب ونحيا ولا نموت ، نحن وأنت وأولادنا جميعا ) ثم تطوع بأن يكون ضامنا لأخيه وأن يتحمل اللوم إلى الأبد إذا أخفق في إعادة بنيامين إلى أبيه. AA 195.2

لم يستطع يعقوب أن يمانع أكثر من ذلك ، فأوصى أولاده بالتأهب للسفر ، وأمرهم بأخذ هدية معهم ليقدموها للحاكم ، هدية مما يمكن استخلاصه من تلك الأرض التي قد ضربها الجوع ( قليلا من البلسان ، وقليلا من العسل ، وكثيراء ولاذنا وفستقا ولوزا ) كما أمرهم بأخذ فضة مضاعفة ، ثم قال لهم : ( وخذوا أخاكم وقوموا ارجعوا إلى الرّجل ) وإذ كانوا مزمعين أن يشرعوا في تلك الرحلة المشكوك فيها نهض أبوهم الشيخ ورفع يديه إلى السماء ونطق بهذه الصلاة . ( والله القدير يعطيكم رحمة أمام الرّجل حتّى يطلق لكم أخاكم الآخر وبنيامين . وأنا إذا عدمت الأولاد عدمتهم ) . AA 195.3

ساروا في رحلتهم عائدين إلى مصر ومثلوا أمام يوسف ، فحالما وقع نظره على بنيامين ، ابن أمه ، تأثر تأثرا عميقا ، ومع ذلك أخفي عواطفه وأمر بأن يؤخذوا إلى بيته ، وأن تعمل الترتيبات اللازمة ليتغدوا معه . وفيما هم ذاهبون إلى بيت الحاكم خاف أولئك الإخوة خوفا عظيما ، إذ ظنوا أنهم سيحاسبون على الفضة التي وجدت في عدالهم ، وخطر لهم أنه ربما تكون الفضة قد وضعت في عدالهم عن عمد لتلفيق تهمة ضدهم بموجبها يؤخذون عبيدا . ففي ضيقهم تكلموا مع وكيل بيت يوسف ، وقصوا عليه الظروف التي اضطرتهم للمجيء إلى مصر ، وبرهانا على براءتهم أخبروه بأنهم ردوا الفضة التي وجدوها في عدالهم ، كما أحضروا فضة أخرى ليشتروا طعاما ، وقالوا أيضا : ( لا نعلم من وضع فضّتنا في عدالنا ) فأجابهم الرجل قائلا : ( سلام لكم ، لا تخافوا . إلهكم وإله أبيكم أعطاكم كنزا في عدالكم . فضّتكم وصلت إليّ ) فزايلهم الانزعاج ، ولما انضم إليهم شمعون بعد ما أخرج من السجن أحسوا أن الله رحيم بهم حقا . AA 195.4

ولما قابلهم الحاكم مرة أخرى أحضروا إليه الهدية ( وسجدوا له إلى الأرض ) ومرة أخرى تذكر يوسف أحلامه . وبعدما سلم على ضيوفه أسرع يسأل : ( أ سالم أبوكم الشّيخ الّذي قلتم عنه ؟ أحيّ هو بعد ؟ فقالوا : عبدك أبونا سالم . هو حيّ بعد ) ثم وقعت عينيه على بنيامين فقال أهذا أخوكم - الصغير الذي قلتم لي عنه . ثم قال ( الله ينعم عليك يا ابني ) ولكن عواطف حنوه غلبته فلم يستطع أن يقول شيئا آخر ، ( فدخل المخدع وبكى هناك ) . AA 196.1

بعدما ضبط عواطفه وتجلد عاد إليهم ثم تقدموا جميعا إلى مائدة الوليمة . وبموجب قانون الطبقات كان محرما على المصريين أن يأكلوا مع أي أناس من أمة أخرى ، ولذلك كان لبني يعقوب مائدة خاصة بهم ، كما جلس الحاكم وحده نظرا لسمو مركزه ، وقد جلس المصريون على موائد أخرى وحدهم . فلما جلس الجميع اندهش الإخوة لأنهم انتظموا في جلستهم بموجب النظام المضبوط حسب أعمارهم ، ( ورفع حصصا من قدّامه إليهم ) أما حصة بنيامين فكانت أكثر من حصص جميعهم خمسة أضعاف . فبهذا التفضيل الذي به ميز بنيامين أراد يوسف أن يتحقق هل كانوا سيحسدون أخاهم الأصغر ويبغضونه كما قد فعلوا به هو أم لا . وإذ كانوا لا يزالون يظنون أن يوسف لا يفهم كلامهم جعلوا يتحدثون معا بكل حرية ، وهكذا كانت لديه فرصة عظيمة لمعرفة مشاعرهم الحقيقية . وإذ أراد أن يمتحنهم امتحانا آخر ، أمر قبل سفرهم أن يوضع طاسه الخاص الذي يشرب فيه ، طاس الفضة سرا في عدل أخيهم الأصغر . AA 196.2

بكل فرح واغتباط عادوا في طريقهم إلى وطنهم ، وكان معهم شمعون وبنيامين ، وساقوا أمامهم دوابهم المحملة بالقمح وهم جميعا يحسون أنهم قد نجوا من كل المخاطر المحدقة بهم . ولكن ما أن وصلوا إلى أطراف المدينة حتى أدركهم وكيل الحاكم وقال لهم تلك الكلمة الجارحة : ( لماذا جازيتم شرّا عوضا عن خيرٍ ؟ أليس هذا هو الّذي يشرب سيّدي فيه ؟ وهو يتفاءل به . أسأتم في ما صنعتم ) قيل أن ذلك الطاس كانت فيه خاصية عجيبة وهي اكتشاف أي مادة سامة توضح فيه . وفي تلك العصور كانت مثل تلك الكأس غالية القيمة جدا ، إذ كانت تقي صاحبها من الموت بالسم . AA 196.3

فأجاب أولئك المسافرون الوكيل بقولهم : ( لماذا يتكلّم سيّدي مثل هذا الكلام ؟ حاشا لعبيدك أن يفعلوا مثل هذا الأمر ! هوذا الفضّة الّتي وجدنا في أفواه عدالنا رددناها إليك من أرض كنعان . فكيف نسرق من بيت سيّدك فضّة أو ذهبا ؟ الّذي يوجد معه من عبيدك يموت ، ونحن أيضا نكون عبيدا لسيّدي ) . AA 197.1

فقال الوكيل : ( نعم ، الآن بحسب كلامكم هكذا يكون . الّذي يوجد معه يكون لي عبدا ، وأمّا أنتم فتكونون أبرياء ) . AA 197.2

وبدأ التفتيش في الحال ( فاستعجلوا وأنزلوا كلّ واحدٍ عدله إلى الأرض ، وفتحوا كلّ واحدٍ عدله ) ففتش الوكيل في كل عدل مبتدئا من عدل رأوببن وهكذا بالترتيب إلى أن وصل إلى عدل أخيهم الأصغر . وقد وجد الطاس في عدل بنيامين . AA 197.3

فمزق الإخوة ثيابهم علامة على منتهى الحزن والتعاسة ، ثم عادوا متباطئين إلى المدينة ، وبموجب وعدهم كان لا بد أن يصير بنيامين عبدا مدى الحياة . فتبعوا الوكيل إلى القصر ، وإذ وجدوا أن الحاكم لا يزال هناك وقعوا أمامه على الأرض ، فقال لهم : ( ما هذا الفعل الّذي فعلتم ؟ ألم تعلموا أنّ رجلا مثلي يتفاءل ؟ ) وقد قصد يوسف بهذا أن يسوقهم إلى الاعتراف بخطيتهم . إنه لم يدّع قط أن له قوة على التفاؤل ، ولكنه أراد أن يجعلهم يعتقدون أنه يستطيع أن يقرأ أسرار حياتهم الخفية . AA 197.4

فقال يهوذا : ( ماذا نقول لسيّدي ؟ ماذا نتكلّم ؟ وبماذا نتبرّر ؟ الله قد وجد إثم عبيدك . ها نحن عبيد لسيّدي ، نحن والّذي وجد الطّاس في يده جميعا ) . AA 197.5

فأجابهم بقوله : ( حاشا لي أن أفعل هذا ! الرّجل الّذي وجد الطّاس في يده هو يكون لي عبدا ، وأمّا أنتم فاصعدوا بسلامٍ إلى أبيكم ) . AA 197.6

فبحزن عميق تقدم يهوذا إلى الحاكم وصرخ قائلا : ( استمع يا سيّدي . ليتكلّم عبدك كلمة في أذني سيّدي ولا يحم غضبك على عبدك ، لأنّك مثل فرعون ) وبكلام فصيح مؤثر جدا جعل يصف حزن أبيه عند فقد يوسف ، وأنه كان يرفض رفضا باتا أن ينزل ابنه بنيامين معهم إلى مصر لأنه الابن الوحيد الباقي له من أمه راحيل التي كان يحبها أعمق الحب ، ثم قال : ( فالآن متى جئت إلى عبدك أبي ، والغلام ليس معنا ، ونفسه مرتبطة بنفسه ، يكون متى رأى أنّ الغلام مفقود ، أنّه يموت ، فينزل عبيدك شيبة عبدك أبينا بحزنٍ إلى الهاوية ، لأنّ عبدك ضمن الغلام لأبي قائلا : إن لم أجئ به إليك أصر مذنبا إلى أبي كلّ الأيّام . فالآن ليمكث عبدك عوضا عن الغلام ، عبدا لسيّدي ، ويصعد الغلام مع إخوته . لأنّي كيف أصعد إلى أبي والغلام ليس معي ؟ لئلاّ أنظر الشّرّ الّذي يصيب أبي ) . AA 197.7

اكتفى يوسف بذلك ، فلقد رأى في إخوته ثمار التوبة الحقيقية . فإذ سمع كلام يهوذا وهو يقدم ذلك العرض النبيل أمر بإخراج كل من في البيت ما عدا أولئك الرجال . ثم أطلق صوته بالبكاء وصرخ قائلا : ( أنا يوسف . أحيّ أبي بعد ؟ ) . AA 199.1

وقف إخوته بلا حراك . لقد عقد الخوف والذهول ألسنتهم عن الكلام . هل حاكم مصر هذا هو أخوهم يوسف الذي حسدوه وكانوا ينوون قتله وأخيرا باعوه بيع العبيد ! ومرت أمام عقولهم كل معاملاتهم الشريرة التي عاملوه بها . لقد ذكروا أنهم ازدروا أحلامه وحاولوا عدم تحقيقها ، ولكنهم قاموا بدورهم كاملا لتحقيقها . والآن ، وقد صاروا تحت سلطانه وفي قبضة يده ، فلا شك في أنه سينتقم منهم بسبب الظلم الذي أوقعوه عليه . AA 199.2

وإذ رأى ارتباكهم خاطبهم برفق قائلا : ( تقدّموا إليّ ) فلما تقدموا إليه تابع كلامه قائلا : ( أنا يوسف أخوكم الّذي بعتموه إلى مصر . والآن لا تتأسّفوا ولا تغتاظوا لأنّكم بعتموني إلى هنا ، لأنّه لاستبقاء حياةٍ أرسلني الله قدّامكم ) وإذ أحس بأنهم قاسوا ما فيه الكفاية لأجل قسوتهم عليه حاول بنبل أن يطرد مخاوفهم ويخفف من مرارة لومهم لأنفسهم . AA 199.3

فاستأنف كلامه قائلا : ( لأنّ للجوع في الأرض الآن سنتين . وخمس سنين أيضا لا تكون فيها فلاحة ولا حصاد . فقد أرسلني الله قدّامكم ليجعل لكم بقيّة في الأرض وليستبقي لكم نجاة عظيمة . فالآن ليس أنتم أرسلتموني إلى هنا بل الله . وهو قد جعلني أبا لفرعون وسيّدا لكلّ بيته ومتسلّطا على كلّ أرض مصر . أسرعوا واصعدوا إلى أبي وقولوا له : هكذا يقول ابنك يوسف : قد جعلني الله سيّدا لكلّ مصر . انزل إليّ . لا تقف . فتسكن في أرض جاسان وتكون قريبا منّي ، أنت وبنوك وبنو بنيك وغنمك وبقرك وكلّ ما لك . وأعولك هناك ، لأنّه يكون أيضا خمس سنين جوعا . لئلاّ تفتقر أنت وبيتك وكلّ ما لك . وهوذا عيونكم ترى ، وعينا أخي بنيامين ، أنّ فمي هو الّذي يكلّمكم ... ) ثم وقع على عنق بنيامين أخيه وبكى . وبكى بنيامين على عنقه . وقبل جميع إخوته وبكى عليهم . وبعد ذلك تكلم إخوته معه ، وباتضاع اعترفوا بخطيتهم والتمسوا منه الصفح . لقد قاسوا طويلا من القلق وتبكيت الضمير ، وابتهجوا الآن لأنه لم يزل حيا . AA 199.4

وصلت تلك الأخبار بسرعة إلى الملك الذي إذ أراد أن يظهر شكره ليوسف وافق على دعوة الحاكم لإخوته قائلا : ( خيرات جميع أرض مصر لكم ) وقد أرسل أولئك الإخوة إلى أبيهم مزودين بمؤونة وافرة وعجلات وكل ما كان لازما لنقل كل عائلاتهم وخدمهم إلى مصر . وأعطى يوسف لبنيامين عطايا أثمن مما أعطى لسائر إخوته . وإذ كان يخشى لئلا تنشب بينهم منازعات وهم في طريق عودتهم إلى وطنهم ، وإذ أوشكوا على السفر قدم لهم هذه النصيحة : ( لا تتغاضبوا في الطّريق ) . AA 200.1

فعاد بنو يعقوب إلى أبيهم بهذا الخبر المفرح ، ( يوسف حيّ بعد ، وهو متسلّط على كلّ أرض مصر . فجمد قلبه لأنّه لم يصدّقهم . ثمّ كلّموه بكلّ كلام يوسف الّذي كلّمهم به ، وأبصر العجلات الّتي أرسلها يوسف لتحمله . فعاشت روح يعقوب أبيهم . فقال إسرائيل : كفى ! يوسف ابني حيّ بعد . أذهب وأراه قبل أن أموت ) . AA 200.2

بقي للإخوة العشرة عمل آخر من أعمال التذلل والانسحاق . فها هم الآن يعترفون لأبيهم بكذبهم وقسوتهم التي مررت حياته وحياتهم طوال تلك السنين . ولم يكن يعقوب يظن أنهم سينحدرون إلى تلك الدركة من السفالة بارتكابهم لتلك الخطية ، ولكنه إذ رأى أن الله المتسلط على كل الأحداث قد حول ذلك الشر إلى خير غفر لأولاده المخطئين وباركهم . AA 200.3

بعد قليل سار الأب وأولاده وعائلاتهم وغنمهم وبقرهم وخدمهم الكثيرون متجهين إلى مصر . وتابعوا سيرهم بقلوب يغمرها الفرح . ولما وصلوا إلى بئر سبع قدم الأب الشيخ ذبائح شكر وتوسل إلى الله أن يؤكد لهم أنه سيذهب معهم . فجاءت إليه كلمة الله في رؤى الليل تقول له : ( لا تخف من النّزول إلى مصر ، لأنّي أجعلك أمّة عظيمة هناك . أنا أنزل معك إلى مصر ، وأنا أصعدك أيضا ) . AA 200.4

إن هذا الوعد : ( لا تخف من النّزول إلى مصر ، لأنّي أجعلك أمّة عظيمة هناك ) كان وعدا له دلالته . لقد أعطي الوعد لإبراهيم بأن نسله سيكون كثيرا جدا كنجوم السماء ، ولكن إلى ذلك الحين كانت تلك الأمة المختارة قد نمت نموا بطيئا ، ولم تكن أرض كنعان حينئذٍ تصلح لأن تكون ميدانا لنمو تلك الأمة كما سبقت النبوات . فلقد كانت كنعان تحت سيطرة قبائل قوية لم يكن ممكنا انتزاع الأرض منهم إلى الجيل الرابع (تكوين 16 : 15) . فإذا كان نسل إسرائيل سيصيرون أمة عظيمة في كنعان ، فإما أن يطردوا سكان البلاد وهذا ما لم يكونوا يستطيعون عمله كما قال لهم الله أو يتفرقوا بينهم ، ولكن لو أنهم اختلطوا بالكنعانيين فذلك يجعلهم يتعرضون لغوايات الأشرار ، فيشاركونهم في عبادة الأوثان . أما مصر فقد قدمت لهم الشروط اللازمة لإتمام قصد الله . فلقد سمح لهم بالنزول في جزء من الأرض كله ري وخصب وبذلك قدمت لهم فرصة للنمو السريع . أما النفور والكراهية التي ستبدو من المصريين نحوهم بسبب صناعتهم ( لأنّ كلّ راعي غنمٍ رجس للمصريّين ) هذا النفور سيساعدهم على أن يظلوا شعبا خاصا منعزلا ، ويباعد بينهم وبين مشاركة المصرين في عبادة الأوثان . AA 200.5

حالما وصلت تلك الجماعة إلى مصر تقدموا مباشرة إلى أرض جاسان ، وإلى هناك أتى يوسف في مركبته الرسمية يتبعه موكب لائق بأمير . لقد نسي يوسف جلال بيئته وعظمة مركزه ، ولكن فكرا واحدا شغل عقله وشوقا واحدا طاغيا اهتز له كيانه . فإذ أبصر أولئك المسافرين مقبلين عليه لم يعد يستطيع السيطرة على تلك الأشواق التي ظلت محتبسة في داخله سنين هذا عددها ، فقفز من مركبته وأسرع متقدما للترحيب بأبيه ، حيث ( وقع على عنقه وبكى على عنقه زمانا . فقال إسرائيل ليوسف : «أموت الآن بعد ما رأيت وجهك أنّك حيّ بعد» ( . AA 201.1

ثم أخذ يوسف خمسة من إخوته ليوقفهم أمام فرعون وليحصلوا على هبة الأرض التي سيسكنون فيها . وقد كان الملك يريد أن يكرم أولئك الرجال بتعيينهم في وظائف حكومية اعترافا منه بفضل رئيس وزرائه ، ولكن يوسف الذي كان أمينا في عبادته لله أراد أن يجنب إخوته التجارب التي سيتعرضون لها في بلاط الملك الوثني ، لذلك نصح لإخوته بأنه متى سألهم الملك أن يجيبوه بكل صراحة عن حرفتهم . وعمل أولاد يعقوب بنصيحة أخيهم كما حرصوا على أن يقولوا أنهم قد أتوا ليتغربوا في الأرض لا ليسكنوا فيها بصفة مستديمة ، وبذلك احتفظوا بحقهم في الرحيل إن هم أرادوا . وقد عين لهم الملك مساكن وأرضا في )أفضل الارض( أي أرض جاسان . AA 201.2

وبعد وصولهم إلى مصر بقليل أتى يوسف بأبيه وقدمه إلى الملك . كان ذلك الشيخ الجليل غريبا في بلاط الملك ، ولكنه في وسط مناظر الطبيعة السامية كانت له شركته مع ملك أعظم وأقوى ، والآن ، وهو عالم بسمو مكانته رفع يديه وبارك فرعون . AA 202.1

عندما التقى يعقوب يوسف ابنه أول مرة في مصر ، تكلم يعقوب كما لو أنه بتلك النهاية المفرحة لكل مخاوفه وأحزانه الطويلة كان مستعدا للموت . ولكن سبع عشرة سنة كانت ستوهب له ليقضيها في مقر جاسان الهادئ ، وكانت هذه السنون سعيدة ومفرحة بعكس ما كانت السنون التي سبقتها . ورأى في بنيه برهانا على صدق توبتهم كما رأى عائلته محاطة بكل الظروف المساعدة على نومها حتى تصير أمة عظيمة ، وقد تمسك إيمانه بوعد الرب الأكيد باستقرارهم في كنعان . وكان هو نفسه محاطا بكل دلائل المحبة والرضى التي أمكن رئيس وزراء مصر أن يمنحها له . وإذ كان سعيدا بوجوده مع ابنه الذي كان قد فقده سنين طويلة نزل إلى قبره بسكينة وسلام. AA 202.2

لما شعر يعقوب أن يوم مماته يقترب أرسل في استدعاء يوسف . وإذ كان لا يزال متمسكا بوعد الله الخاص بامتلاكهم كنعان أوصى ابنه قائلا : ( لا تدفنّي في مصر ، بل اضطجع مع آبائي ، فتحملني من مصر وتدفنني في مقبرتهم ) فوعده يوسف بذلك ، ولكن يعقوب لم يقنع بذلك بل طلب منه أن يقسم قسما مقدسا بأن يدفنه إلى جوار آبائه في مغارة المكفيلة . AA 202.3

ثم بقيت هنالك مسأله أخرى هامة ، فإن ابني يوسف كان لا بد أن يحسبا من بني إسرائيل . فإذ كان ذلك آخر لقاء بين يسوف وأبيه أحضر معه ابنيه أفرايم ومنسى . فهذان الشابان كانا مرتبطين عن طريق أمهما بأسمى وظائف الكهنوت المصري . ثم أن مركز أبيهما فتح أمامهما موارد الثروة والشهرة لو أنهما اختارا الارتباط بالمصيريين ومع ذلك فإن رغبة أبيهما يوسف كانت أن يتحدا بشعبهما . ولقد أعلن إيمانه بهذا الموعد نيابة عن ابنيه ، رافضا كل الكرامات التي يمكن أن يقدمها البلاط المصري في مقابل مكان بين عشائر الرعاة المحتقرين الذين استؤمنوا على أقوال الله. AA 202.4

فقال يعقوب : ( الآن ابناك المولودان لك في أرض مصر ، قبلما أتيت إليك إلى مصر هما لي . أفرايم ومنسى كراو بين وشمعون يكونان لي ) كان لا بد من أن يتبناهما وأن يكون كل منهما على رأس سبط مفصل . وهكذا نجد أن أحد امتيازات البكورية التي كان رأوبين قد أضاع حقه فيها صار من حق يوسف - أي نصيب اثنين في إسرائيل . AA 202.5

كانت عينا يعقوب ضعيفتين لكبر سنه لم يفطن لوجود ذينك الشابين . أما الآن وقد تراءى له أنه رأى معالم صورتهما سأل ابنه قائلا : ( من هذان ؟ ) فإذ علم من هما قال له : ( قدمهما إلى لأباركهما ) فلما اقتربا منه احتضنهما وقبلهما ثم وضع يديه بوقار على رأسيهما مباركا إياهما ، ومن ثم قدم هذه الصلاة ، ( الله الذي سار أمامه أبواي إبراهيم وإسحاق ، الله الذي رعاني منذ وجودي إلى هذا اليوم ، الملاك الذي خلصني من كل شر ، يبارك الغلامين ) لم يكن يرى فيه روح الاعتماد على النفس ، كلا ولا اعتمد على القوة البشرية أو المكر ، لقد كان الله هو الذي حفظه وسنده . إنه لم يتذمر على أيام الشر التي مرت به ، ولم يعتبر تجاربها وأحزانها على أنها أشياء معاكسه له ، ولم يذكر إلا رحمة الله ورأفته اللتين كانتا تلازمانه مدى أيام غربته . AA 203.1

وبعدما انتهى يعقوب من بركته أعطى ابنه يقينا ، تاركا للأجيال القادمة ، مدى سنين طويلة من العبودية والآلام والأحزان — هذه الشهادة لإيمانه ( ها أنا أموت ، ولكن الله سيكون معكم ويردكم إلى أرض آبائكم ) . AA 203.2

وفي النهاية اجتمع كل بني يعقوب حول فراش أبيهم الذي كان يحتضر . فدعا بنيه وقال لهم : ( اجتمعوا واسمعوا يا بني يعقوب ، واصغوا إلى إسرائيل أبيكم ) )أنبئكم بما يصيبكم في آخر الأيام ) . ولطالما فكر في أمر مستقبلهم بخوف وجزع ، وحاول أن يرسم لنفسه صورة لتاريخ كل سبط . فالآن فيما كانوا مجتمعين حول سريره منتظرين الحصول على بركته الأخيرة حل عليه روح الوحي ، وأمامه في رؤيا نبوية انكشف له مستقبل نسله ، فجعل يذكر أسماء بنيه واحدا بعد الآخر ، ويصف أخلاق كل منهم ، ويتنبأ ، في كلمات مختصرة بتاريخ كل سبط في السنين القادمة — فقال : ( رأوبين ، أنت بكري قوتي واول قدرتي ، فضل الرفعة وفضل العز ) . AA 203.3

وهكذا صور الأب صورة لما كان يجب أن يكون عليه مركز رأوبين بوصفه الابن البكر . إلا أن خطيته الشنيعة التي ارتكبها في غدر جعلته غير مستحق لبركة البكورية . ثم استأنف يعقوب كلامه عن رأوبين قائلا : ( فائرا كالماء لاتتفضل ) . AA 203.4

لقد أعطى الكهنوت للاوي والملك والوعد بمسيا ليهوذا ، ونصيب اثنين من الميراث ليوسف . أما سبط رأوبين فلم يرتفع إلى أية درجة من الرفعة أو السمو أو الشهرة في إسرائيل . لم يكن في الكثرة كما كان سبط يهوذا أو يوسف أو دان ، وكان أول الأسباط التي أخذت في السبي . AA 204.1

بعد رأوبين يأتي شمعون ولاوي الأصغر منه سنا . لقد اتحدا معا في قسوتهما ووحشيتهما التي عاملا بها أهل شكيم ، وكان أكثر الأخوة إجراما عندما بيع يوسف عبدا . وقد أعلن عنهما أبوهما قائلا : ( أقسمهما في يعقوب ، وأفرقهما في إسرائيل). AA 204.2

وعندما عمل تعداد لإسرائيل قبيل الدخول إلى كنعان كان سبط شمعون أصغر الأسباط ، وعندما بارك موسى الشعب بركته الأخيرة لم يقل شيئا عن شمعون ، وعندما استقر الشعب في أرض كنعان لم يعط لهذا السبط غير جزء صغير من نصيب سبط يهوذا . والعائلات التي صارت قوية فيما بعد كونوا مستعمرات مختلفة وأقاموا في مقاطعات خارج حدود الأرض المقدسة . وكذلك لاوي لم يعط له ميراث ما خلا ثمانيا وأربعين مدينة متفرقة في أماكن مختلفة في البلاد . وفيما يختص بهذا السبط فإن إخلاصهم وولائهم للرب عندما ارتدت الأسباط الأخرى حفظ لهم حقهم في خدمة الهيكل المقدسة. وهكذا استحالت اللعنة إلى بركة . AA 204.3

أما أفضل وأسمى بركات البكورية فقد أعطيت ليهوذا . إن معنى اسم يهوذا هو الحمد ، وهو ينكشف لنا في التاريخ النبوي لهذا السبط إذ يقول يعقوب : ( يهوذا ، إياك يحمد إختوك يدك على قفا أعدائك ، يسجد لك بنو أبيك ، ويهوذا جرو أسد ، من فريسة صعدت يا ابني ، جثا وربض كأسد وكلبوة . من ينهضه ؟ لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجلية حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب ) . AA 204.4

إن الأسد الذي هو ملك الغابة هو رمز مناسب لهذا السبط الذي أتى منه داود وابن داود ، شيلون الذي هو ( الأسد الذي من سبط يهوذا ) الذي له ستخضع كل القوات أخيرا ، وكل الأمم ستقدم سجودها وولائها . AA 204.5

إن معظم أولاد يعقوب تنبأ لهم أبوهم بمستقبل ناجح . أخيرا وصل إلى اسم يوسف ، وحينئذ فاض قلب ذلك الأب حين استمطر البركات على ( قمة نذير إخوته : فقال ) يوسف ، غصن شجرة مثمرة ، غصن شجرة مثمرة على عين . ـغصان قد ارتفعت فوق حائط فمررته ورمته واضطهدته أرباب السهام . ولكن ثبتت بمتانة قوسه ، وتشددت سواعد يديه . من يدي عزيز يعقوب ، من هناك ، من الراعي صخر إسرائيل . من إله أبيك الذي يعينك ، ومن القادر على كل شيء الذي يباركك ، تأتي بركات السماء من فوق ، وبركات الغمر الرابض تحت . بركات الثدييين والرحم . بركات أبيك فاقت على بركات أبوي . إلى منية الآكام الدهرية تكون على رأس يوسف ، وعلى قمة نذير إخوته ( . AA 204.6

لقد كان يعقوب دائما إنسانا عميقا وملتهبا في محبته ، وكانت محبته لأولاده قوية ورقيقة ، وإن شهادته لهم في ساعة احتضاره لم تكن نطق إنسان محاب أو حاقد ، فلقد سامحهم جميعا وأحبهم إلى المنتهى . وإن رقته الأبوية كان يمكن أن تدفعه إلى أن يعبر عن مشاعره بكلمات التشجع والرجاء ، ومن قوة الله استقرت عليه ، وتحت تاثير الوحي الإلهي كان ملتزما أن يعلن الحق مهما كان جارحا ومؤلما . AA 205.1

وبعدما نطق يعقوب بآخر بركاته عاد يكرر وصيته لأولاده بخصوص مكان دفنه قائلا : ( أنضم إلى قومي . ادفنوني عن آبائي في المغارة التي في حقل عفرون الحثى . في المغارة التي في حقل المكفلية .. هناك دفنوا إبراهيم وسارة امرأته . هناك دفنوا إسحاق ورفقة امرأته ، وهناك دفنت ليئة ) وهكذا كان آخر ما عمله في حياته أن أعلن إيمانه بوعد الله. AA 205.2

كانت سنو حياة يعقوب الأخيرة سني هدوء وراحة ، بعد حياة كلها اضطرابات ومتاعب ، فلقد انعقدت السحب السوداء في سماء حياته ، ومع ذلك فقد سطع نور شمسه عند غروبها وأنار نور السماء ساعاته الوداعية . والكتاب يقول : ( يحدث أنه في وقت السماء يكون نور ) (زكريا 14 : 7) . ( لاحظ الكامل وانظر المستقيم ، فإن العقب لإنسان السلامة ) )فإن نهاية ذلك الإنسان هي السلام ) (مزمور 37 : 37) . AA 205.3

لقد أخطأ يعقوب ولكنه قاسى أهوالا كثيرة . كان معظم أيام حياته أيام متاعب وهموم وأحزان منذ ذلك اليوم الذي فيه ارتكب خطيته العظيمة التي جعلته يهرب من خيام أبيه ، إذ صار هاربا بلا مأوى ، وانفصل عن أمه التي لم يرها بعد ذلك ، وخدم سبع سنين ليتزوج بالفتاة التي أحبها ، ولكنه خدع خداعا دل على منتهى النذالة ، وقضى عشرين سنة في خدمة خاله الجشع الطماع ، ورأى ثروته تربو وتزيد ، وأولاده يشبون ويكبرون من حوله ، ولكنه لم يسعد بسبب المنازعات الناشبة في عائلته المنقسمة على ذاتها ، كما حزن وتألم للعار لطخ ابنته ، وبسبب الانتقام الرهيب الذي قام به أخواها ، كما حزن لموت راحيل ، وبسبب جريمة رأويين الغير الطبيعية ، وبسبب خطية يهوذا ، وبسبب المكر والخداع الذي عومل به يوسف — يا لها من قائمة طويلة قاتمة سوداء مشحونة بالشرور الظاهرة للعيان ! إنه مرارا كثيرة حصد ثمار ذلك العمل الخاطئ الأول الذي ارتكبه ، ومرارا كثيرة رأى نفس الخطايا التي ارتكبها تتكرر في حياة أبنائه ، ولكن مع أن ذلك التأديب كان مريرا وقاسيا إلا أنه أتم عمله . إن التأديب وإن يكن جالبا للحزن إلا أنه يعطي الذين يتدربون به ( ثمر بر للسلام ) (عبرانيين 12 : 11) . AA 205.4

إن الوحي المقدس يسجل بكل أمانة أخطاء الناس الصالحين، أولئك الذين قد ميزهم الله بإحساناته ورضاه . وفي الحق أن أخطاءهم مشروحة بإسهاب أكثر من فضائلهم ، وكان هذا من أسباب دهشة الكثيرين ، كما أعطى للملحدين مجالا للسخرية بالكتاب . ولكن من أنصع البراهين على صدق كتاب الله أن الحقائق المذكورة فيه لا تعدل ولا تنمق ، وخطايا الشخصيات العظيمة فيه لم تحذف ولا أغفل ذكرها . إن عقول الناس خاضعة للتعصب إلى حد أنه من غير الممكن أن تكون التواريخ العالمية بريئة تماما من المحاباة . ولو أن كتبة الأسفار المقدسة كانوا أناسا غير موحى إليهم من الله فلا شك في أنهم كانوا يوردون أخلاق الشخصيات النبيلة فيها بصورة جميلة جذابة كاذبة . ولكن ، والكتاب على ما هو عليه الآن ، فإن لنا فيه شهادة مضبوطة لاختباراتهم . AA 206.1

إن الذين أحسن الله إليهم فأكرمهم وائتمنهم على مسؤوليات جسام انغلبوا أحيانا أمام التجربة فارتكبوا الخطية ، تماما كما نكافح نحن في أيامنا هذه ونترنح وكثيرا ما نسقط في الخطأ . فحياتهم بكل ما فيها من أخطاء وحماقات مبسوطة أمامنا لأجل تشجيعنا وإنذارنا . فلو صورهم الكتاب على أنهم معصومون من الخطأ ، فإننا بطبيعتنا الخاطئة نيأس بسبب أخطائنا وسقطاتنا . ولكن إذ نرى آخرين فد كافحوا في وسط المثبطات كما هي حالنا حيث سقطوا في التجربة كما فعلنا نحن ، ومع ذلك تشجعوا وغلبوا بنعمة الله ، فإننا نتشجع في سعينا في أثر البر . وكما كانت الحال معهم ، إذ مع كونهم انهزموا وتقهقروا فقد استردوا مواقعهم وباركهم الله فكذلك نحن أيضا يمكننا أن ننتصر بقوة يسوع . ومن ناحية أخرى يمكن أن تكون شهادة حياتهم تحذيرا لنا ، فهي ترينا أن الله لا يمكن أن يبرر الفاجر ، إنه يرى الخطية في أحب الناس إليه ، ويحاسبهم عليها بكل دقة وصرامة أكثر مما يعامل به أولئك الذين عندهم قليل من النور والمسؤولية . AA 206.2

بعد دفن يعقوب عاد الخوف يعتصر قلوب إخوة يوسف ، إذ بالرغم من رأفته ومظاهر محبته لهم فإن شعورهم بجريمتهم جعلهم متخوفين ومتطيرين . ربما هو أخّر انتقامه منهم توقيرا لأبيهم ، ولكن الآن ، قد خلا له الجو ، فلا بد من أن يصب عليهم جام انتقامه ، لأجل جريمتهم بعدما أرجأه طويلا . لم يجرؤوا على الظهور أمامه بأنفسهم فأرسلوا إليه رسالة يقولون فيها : ( أبوك أوصى قبل موته قائلا : هكذا تقولون ليوسف : آه ! اصفح عن ذنب إخوتك ، فإنهم صنعوا بك شرا . فالآن اصفح عن ذنب عبيد إله أبيك ) تأثر يوسف من هذه الرسالة أبلغ تأثر حتى أنه بكى . وإذ تشجع إخوته بهذه العواطف النبيلة أتوا ووقعوا أمامه وقالوا : ( ها نحن عبيدك ) لقد كانت محبة يوسف لإخوته عميقة ، ولا أثر فيها للأنانية ، فآلمه الفكر بأنهم يعتبرون أنه يضمر لهم الشر أو ينوي أن ينتقم منهم ، لذلك قال لهم ( لا تخافوا . لأنه هل أنا مكان الله ؟ أنتم قصدتم لي شرا ، أما الله فقصد به خيرا ، لكي يفعل كما اليو م ، ليحيي شعبا كثيرا ، فالآن لا تخافوا ، أنا أعولكم وأولادكم ) . AA 207.1

كانت حياة يوسف رمزا لحياة المسيح . فالحسد هو الذي دفع إخوة يوسف ليبيعوه بيع العبيد ، وكانوا يؤملون أن يحولوا بينه وبين التفوق عليهم . وحين أخذ إلى مصر كانوا يهنئون أنفسهم بأنه لن يعود يزعجهم بأحلامه ، بحيث استبعدوا إمكانية تحقيق تلك الأحلام . ولكن الطريق الذي انتهجوه قد سيطر عليه الله لكي يتم ذلك الشيء الذي قصدوا إحباطه . وكذلك كهنة اليهود وشيوخهم يحسدون المسيح خشية أن يجتذب إليه جماهير الشعب فينفضون من حولهم ، ولقد صلبوه وقتلوه ليحولوا بينه وبين صيرورته ملكا ، ولكنهم بعملهم هذا كانوا يساعدونه على تحقيق السيادة والملك لنفسه. AA 207.2

إن يوسف عن طريق بيعه عبدا في مصر صار مخلصا لعائلة أبيه ، ومع ذلك فهذه الحقيقة لم تخفف من هول جريمة إخوته . وهكذا إذ صلب المسيح بأيدي أعدائه صار فاديا ومخلصا لجنسنا الساقط ، وملكا على كل العالم ، ولكن جريمة قاتليه كانت شنيعة جدا كما لو أن العناية الإلهية لم تسيطر على الأحداث لمجده ولخير الانسان . AA 207.3

وكما بيع يوسف بأيدي إخوته إلى قوم وثنيين هكذا بيع المسيح لألد أعدائه بيد أحد تلاميذ. إن يوسف اتهم باطلا وطرح في السجن لأنه كان إنسانا فاضلا ، وكذلك المسيح احتقر ورذل لأن حياته البارة المنكرة لذاتها كانت توبيخا صارما للخطية. ومع أنه لم يرتكب ظلما ولا هفا هفوة فقد حكم عليه بالموت بناء على شهادة شهود الزور . ثم أن صبر يسوف ووداعته وهو يواجه الظلم والتعسف ، وغفرانه السريع وإحسانه النبيل لإخوته المخادعين — كل هذا يرمز إلى احتمال المخلص ، في غير تذمر أو شكوى حقد الأشرار وافتراءاتهم وإهاناتهم ، وغفرانه ليس فقط لقاتليه بل أيضا لكل من يأتون إليه معترفين بخطاياهم وطالبين الغفران . AA 207.4

لقد عاش يوسف أربعا وخمسين سنة بعد موت أبيه. عاش ليرى أولاد أفرايم إلى الجيل الثالث ، كما أن ( أولاد ماكير بن منسى أيضا ولدوا على ركبتي يوسف ) رأى شعبه في حال النمو والنجاح . وعلى مر السنين لم يتزعزع إيمانه بأن الله سيرجع إسرائيل إلى أرض الموعد . AA 208.1

وحين رأى يوسف أن نهايته قد دنت استدعى أقرباءه إليه . ومع أنه كان مكرما في أرض الفراعنة فقد كان يعتبر مصر أرض مذلة له وأرض اغتراب . وكان آخر عمل عمله إعلانه لهم أنه قد ألقى قرعته مع بني إسرائيل . كان آخر ما قاله أن ( الله سيفقتدكم ويصعدكم من هذه الأرض إلى الأرض التي حلف لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ) وقد استحلف بني إسرائيل أن يحملوا عظامه إلى أرض كنعان . ( ثم مات يوسف وهو ابن مئة وعشر سنين ، فحنطوه ووضع في تابوت في مصر ) وطيلة أجيال التعب التي مرت بعد ذلك كان ذلك التابوت مذكرا لبني إسرائيل بكلمات يوسف التي نطق بها عند موته ، وشاهدا لهم بأنهم إنما هم غرباء في مصر ، وآمرا إياهم بأن يحتفظوا بآمالهم مركزة في أرض الموعد ، لأن يوم النجاة والخلاص آت ما من ذلك بد . AA 208.2

* * * * *