الاباء والانبياء

22/75

الفصل العشرون—يوسف في مصر

------------------------

في أثناء ذلك كان يوسف وآسروه سائرين في طريقهم إلى مصر ، وإذ كانت القافلة متجهة جنوبا إلى حدود أرض كنعان ، أمكن ذلك الفتى أن يرى ، من بعد ، التلال التي كانت بينها خيام أبيه ، فبكى يوسف بمرارة هو يذكر أباه المحب في وحدته ومحنته ، ثم مر أمام خاطره المنظر الذي حدث في دوثان ، فرأى إخوته الغاضبين وأحس كأن نظراتهم القاسية منصبة عليه ، كما كانت شتائمهم الجارحة التي أجابوا بها على توسلاته تصك أذنيه . وبقلب واجف نظر إلى الأمام ، إلى المستقبل ، وما كان أعظم التبدل الذي حدث في مركزه - من ابن محبوب من أبيه إلى عبد حقير قاصر ! وإذ كان وحيدا لا صديق يأخذ بناصره فماذا يكون نصيبه في البلاد الغريبة التي هو ذاهب إليها ؟ استسلم يوسف بعض الوقت لحزن ورعب لا ضابط لهما . AA 183.1

لكن في عناية الله حتى هذا الاختبار كان بركة له ، فلقد تعلم في ساعات قليلة ما لم يكن ممكنا أن يتعلمه في سنين بغير هذه الوسيلة ، فإن أباه ، مع أن محبته له كانت قوية ورقيقة قد ظلمه بمحاباته له وإغراقه في محبته إياه . هذا الإيثار غير الحكيم قد أسخط إخوته وأهاجهم لارتكاب تلك الفعلة القاسية التي باعدت بينهما ، وكان لهذه المحاباة أثرها في أخلاق يوسف الذي ظهرت فيه أخطاء كان يجب إصلاحها ، وصار ليوسف الاكتفاء الذاتي ، وأصبح متسلطا ، وإذ كان معتادا رقة أبيه ورعايته فقد أحس أنه غير مهيأ للدخول في نضال مع الصعوبات التي أمامه ، إذ لم يكن ندا لها ، تلك الصعوبات التي ستكتنف حياته وحيدا ، حياة العبد الغريب . AA 183.2

حينئذ اتجهت أفكاره إلى إله أبيه . لقد تعلم منذ طفولته أن يحب هذا الإله ويتقيه ، وقد سمع مرارا كثيرة في خيمة أبيه قصة الرؤيا التي رآها يعقوب حين هرب من البيت منفيا شريدا ، وكان قد سمع أيضا شيئا من مواعيد الله التي وعد بها يعقوب ، وكيف تحققت ، وكيف أنه في ساعة الحاجة أتاه ملائكة الله ليوجهوه ويعزوه ويحرسوه ، كما كان قد تعلم أيضا عن محبة الله في إعداده فاديا للناس . كل هذه الدروس ظهرت واضحة جلية أمامه في تلك الآونة ، فآمن يوسف بأن إله آبائه سيكون إلهه هو . في ذلك المكان وتلك الساعة سلم نفسه للسيد تسليما كاملا ، وصلى طالبا من حافظ إسرائيل أن يكون معه في أرض غربته . AA 183.3

اهتزت نفسه طربا أمام عزمه السامي على أن يبرهن على أمانته وولائه لله ، وأن يتصرف في كل الظروف كما يليق بمن هو من رعايا ملك السماء . إنه سيعبد الرب بقلب كامل ، وسيقابل كل التجارب التي ستصيبه بكل جلد وثبات ، وسيقوم بكل واجباته بأمانة . إن اختبار يوم واحد كان نقطة تحول في حياة يوسف ، فالبلية المخيفة التي حلت به في ذلك اليوم قد أحالته من طفل مدلل إلى رجل مفكر شجاع مالك لنفسه. AA 184.1

بعد وصول يوسف إلى مصر بيع لفوطيفار ، رئيس شرط الملك ، وظل يخدمه عشر سنين ، وفي ذلك البيت تعرض يوسف لتجارب غير عادية . كان عائشا في وسط عبدة الأوثان ، وكانت عبادة الأوثان محاطة بكل مظاهر أبهة الملوك ، وكانت تسندها ثروة وثقافة أعظم ممالك العالم مدنية في ذلك العصر ، ومع كل ذلك فقد احتفظ يوسف ببساطته وولائه . كانت مناظر الرذيلة وأصواتها حوله ، ولكنه كان كمن لا يرى ولا يسمع ، فلم يسمح لأفكاره أن تحوم حول المواضيع المحرمة ، وإن رغبته في كسب رضى المصريين لم تستطع أن تجعله يخفي مبادئه ، فلو أنه حاول هذا لانهزم أمام التجربة . ولكنه لم يكن ليستحي بدين آبائه ، ولم يحاول إخفاء حقيقة كونه من عبيد الرب . AA 184.2

( وكان الله مع يوسف فكان رجلا ناجحا ... ورأى سيّده أنّ الرب معه ، وأنّ كلّ ما يصنع كان الرب ينجحه بيده ) (أنظر تكوين 39) . لقد زادت ثقة فوطيفار بيوسف يوما بعد يوم ، وأخيرا رقاه وجعله وكيلا له معطيا إياه حق التصرف الكامل في كل أملاكه ، ( فترك كلّ ما كان له في يد يوسف . ولم يكن معه يعرف شيئا إلاّ الخبز الّذي يأكل ) . AA 184.3

إن النجاح الملحوظ الذي رافق كل ما كان تحت يد يوسف لم يكن نتيجة معجزة مباشرة ، ولكن مثابرته وحرصه ونشاطه كللتها كلها بركة الله ، وقد نسب يوسف نجاحه إلى فضل الله ورضاه . وحتى سيده الوثني قبل هذا على أنه سر نجاحه المنقطع النظير . ولولا السعي الثابت الموجه توجيها صائبا لما كان هنالك نجاح ، فتمجد الله في أمانة عبده ، وكان قصده تعالى أنه بالطهارة والاستقامة سيظهر المؤمن بالله مختلفا اختلافا بينا عن عبدة الأوثان ، وبذلك يضيء نور النعمة السماوية في وسط ظلام الوثنية . AA 184.4

اكتسبت رقة يوسف وإخلاصه قلب رئيس الشرط الذي صار يعتبره ، فيما بعد ، ابنا له لا عبدا ، وصارت لهذا الشاب صلة بذوي المقام الرفيع والعلم الواسع ، وحصل على معرفة العلوم واللغات وكل الشؤون - وهذا تهذيب كان لازما له للمستقبل حين يصير رئيس وزراء مصر . AA 185.1

ولكن كان لا بد من أن يجتاز يوسف امتحانا فيه يختبر إيمانه واستقامته في آتون تجارب محرقة ، ذلك أن امرأة سيده أرادت أن تطغي ذلك الشاب لينتهك حرمة شريعة الله . كان طاهر الذيل فيما مضى ولم يتلوث بالنجاسات التي امتلأت بها تلك البلاد الوثنية ، ولكن هذه التجربة المفاجئة القوية الخادعة كيف يواجهها ؟ لقد عرف يوسف جيدا نتائج المقاومة ، فعلى الجانب الواحد كان التستر والرضى والمكافآت ، بينما كان على الجانب الآخر العار والسجن وربما الموت ، فكانت كل حياته المستقبلية متوقفة على قراره في تلك اللحظة . فهل تنتصر المبادئ ، وهل سيظل أمينا لله ؟ لقد كان الملائكة يرقبون ذلك المنظر ترقبا لا يمكن التعبير عنه . AA 185.2

كشف جواب يوسف عن قوة المبادئ الدينية ، فهو لم يرد أن يخون سيده الأرضي الذي وضع ثقته فيه ، وهو يريد أن يكون أمينا لسيده الذي في السماء مهما تكن النتائج . إن كثيرين من الناس وهم تحت عين الله الفاحصة وأنظار الملائكة القديسين يستبيحون أشياء لا يحسبون مجرمين فيها في نظر بنى جنسهم . أما يوسف فقد اتجه فكره أول ما اتجه إلى الله حين قال : ( كيف أصنع هذا الشّرّ العظيم وأخطئ إلى الله ؟ ) . AA 185.3

لو أننا نربي في أنفسنا عادة التفكير في أن الله يرى ويسمع كل ما نفعله ونقوله ، وبكل أمانة يسجل أقوالنا وأفعالنا ، وأننا لا بد أن نحاسب على هذه كلها فإن ذلك يجعلنا نخاف من ارتكاب الخطية . ليذكر الشباب دائما أنهم أينما كانوا ، ومهما يكن ما يفعلونه فهم في حضرة الله . إن كل أعمالنا مراقبة ، إذ لا تخفي على الله خافية ، ولا يمكننا إخفاء طرقنا عن عيني الله العلي . إن الشرائع البشرية التي هي في بعض الأحيان صارمة يتعداها الناس أحيانا دون أن يلاحظ ذلك أحد ، ولذلك يعفون من القصاص . ولكن الحال مع شريعة الله تختلف تماما . إن أشد الليالي حلوكة لا تصلح ستارا يستتر وراءه المجرمون . قد يظن المذنب أنه منفرد بنفسه ولا رقيب عليه ، ولكن كل عمل يعمل يراه الرقيب غير المنظور . إن نفس بواعث قلبه وأفكاره مكشوفة أمام عين الله الفاحصة ، فكل عمل وكل كلمة وكل فكر يلاحظ ملاحظة دقيقة كأنما ليس في كل العالم غير إنسان واحد ، وكل انتباه السماء مركز عليه . AA 185.4

قاسى يوسف آلاما كثيرة بسبب استقامته ، لأن تلك المرأة التي جربته انتقمت منه بأن اتهمته بجريمة دنسة شنيعة وتسببت في طرحه في السجن . لو أن فوطيفار صدق اتهامات زوجته ليوسف لكان قد حكم على ذاك الشاب العبراني بالموت ، ولكن العفة والاستقامة اللتين اتصف بهما يوسف ولم يتخل عنهما قط كانتا من أنصع البراهين على براءته ونزاهته . ولكن لكي ينقذ سمعة بيته ترك يوسف ليقاسي العار والسجن . AA 186.1

في بداءة الأمر عومل يوسف بقسوة من سجانيه . يقول المرنم : ( آذوا بالقيد رجليه . في الحديد دخلت نفسه ، إلى وقت مجيء كلمته . قول الله امتحنه ) (مزامير 105 : 18 ـ 19) ومع ذلك فإن أخلاق يوسف الحقيقية تضيء بنور عظيم حتى وهو يرسف في أغلاله في ظلمات السجن ، إذ تمسك بإيمانه وصبره . لقد عوقب على سني خدمته الأمينة بمنتهى القسوة والظلم ، ولكن هذا لم يجعله شكسا أو عديم الثقة ، بل كان يملك السلام الذي جاءه من شعوره ببراءته ، وقد سلم أمره لله . لم يفكر في المظالم التي وقعت عليه ، بل نسي أحزانه في سبيل التخفيف من أحزان من هم حوله . لقد وجد عملا يعمله حتى وهو في السجن . وكان الله يعده في مدرسة الضيق والألم لنفع أعظم ، وهو لم يرفض ذلك التدريب اللازم ولا تبرم به . فإذ رأى آثار الظلم والطغيان المتفشي في السجن ، ورأى آثار الجريمة تعلم دروسا في العدل والعطف والرحمة أعدته لاستخدام سلطانه بحكمة ورفق . AA 186.2

وبالتدريج نال يوسف ثقة رئيس بيت السجن ، وأخيرا وكل إليه أمر كل المسجونين . إن الدور الذي قام به في السجن ، أي استقامة حياته اليومية وعطفه على المتضايقين والمحزونين هو الذي أفسح المجال لنجاحه وكرامته في مستقبل أيامه . إن كل شعاعة من النور نسلطها على الآخرين ترتد إلينا ، فكل كلمة رفق أو عطف تقال لإنسان حزين ، وكل جهد يبذل للتخفيف من آلام المظلومين ، وكل عطية تقدم لمحتاج ، إن كان الباعث عليها صالحا وصائبا ، ستنتج عنها بركة لمقدمها . AA 186.3

كان رئيس خبازي الملك ورئيس سقاته قد طرحا في السجن لذنب من الذنوب ، ووضعا تحت إشراف يوسف . وفي ذات صباح إذ لاحظ أنهما مغتمان جدا سألهما بكل رفق عن السبب في انقباضهما ، فقيل له أن كلا منهما قد حلم حلما جديرا بالاعتبار وهما يتوقان لمعرفة تفسيرهما ، فقال يوسف : ( أليست لله التّعابير ؟ قصّا عليّ ) (أنظر تكوين 40) . فلما قص عليه كل منهما حلمه أخبرهما بالتفسير . في ثلاثة أيام يرد رئيس السقاة إلى مقامه ويعطي الكأس في يد فرعون كالسابق ، أما رئيس الخبازين فسيقتل بأمر الملك ، وكما فسر لهما كذلك حدث . AA 187.1

عبر ساقي الملك عن أعمق عواطف الشكر ليوسف لأجل تفسيره المفرح لحلمه ولأجل كثير من دلائل الاهتمام والشفقة التي قدمها له . فإذ أشار يوسف إلى الظلم الذي وقع عليه بطرحه في السجن بكلمات مؤثرة جدا توسل إليه أن يعرض قضيته أمام الملك قائلا : ( إنّما إذا ذكرتني عندك حينما يصير لك خير ، تصنع إليّ إحسانا وتذكرني لفرعون ، وتخرجني من هذا البيت . لأنّي قد سرقت من أرض العبرانيّين ، وهنا أيضا لم أفعل شيئا حتّى وضعوني في السّجن ) رأى رئيس السقاة الحلم يفسر بكل تفصيلاته كما قال يوسف ، ولكن حينما عاد إليه رضى الملك لم يعد يفكر في من قد أحسن إليه ، فظل يوسف سجينا سنتين أخريين ، وذلك الأمل الذي كان قد انتعش في داخله زال شيئا فشيئا ، فأضيفت إلى كل التجارب الماضية مرارة الجحود . AA 187.2

لكن يدا إلهية كانت مزمعة أن تفتح أبواب السجن ، فلقد حلم ملك مصر حلمين في ليلة واحدة ، كلاهما لاح أنه يشير إلى الحادث نفسه ، كما لاح أنه ينبئ بكارثة قادمة . لم يستطع الملك تفسيرهما وظلا مبعثا لاضطراب فكره ، وكذلك لم يستطع سحرة مصر ولا حكماؤها أن يفسروا الحلمين ، فزاد ارتباك الملك واضطرابه ، وشمل الرعب كل بلاط الملك . فذلك الاهتياج الشامل أعاد إلى رئيس السقاة ذكرى ظروف حلمه ، وذكر يوسف فوخزه ضميره وخزات الندم على عدم عرفانه بالجميل ، ففي الحال أخبر الملك كيف أنه هو ورئيس الخبازين قد حلم كل منهما حلما وهما في السجن ، وكيف أن غلاما عبرانيا فسر لهما حلميهما ، وكما عبر لهما كذلك حدث . AA 187.3

كان أمرا مهينا لفرعون أن يتحول عن سحرة مملكته وحكمائها ليستشير عبدا غريبا ، ولكنه كان مستعدا لقبول أحقر الخدمات إذا كان يجد راحة لفكره المضطرب. فاستدعى يوسف في الحال ، فخلع ثياب سجنه ولبس ثيابا أخرى وحلق ، لأن شعره كان قد طال في سني الهوان التي قضاها في السجن ، ثم أدخل إلى الملك . AA 188.1

( فقال فرعون ليوسف : «حلمت حلما وليس من يعبّره . وأنا سمعت عنك قولا ، إنّك تسمع أحلاما لتعبّرها» . فأجاب يوسف فرعون : «ليس لي . الله يجيب بسلامةٍ فرعون» ) (أنظر تكوين 41) إن جواب يوسف لفرعون يكشف عن اتضاعه وإيمانه بالله ، فهو بكل وداعة ينفي عن نفسه مجد امتلاكه لأي حكمة فائقة في قلبه . ( ليس لي ) إن الله وحده هو الذي يستطيع كشف الأسرار . AA 188.2

وبعد ذلك بدأ فرعون يقص حلميه فقال : ( إنّي كنت في حلمي واقفا على شاطئ النّهر ، وهوذا سبع بقراتٍ طالعةٍ من النّهر سمينة اللّحم وحسنة الصّورة ، فارتعت في روضةٍ . ثمّ هوذا سبع بقراتٍ أخرى طالعةٍ وراءها مهزولة وقبيحة الصّورة جدّا ورقيقة اللّحم . لم أنظر في كلّ أرض مصر مثلها في القباحة . فأكلت البقرات الرّقيقة والقبيحة البقرات السّبع الأولى السّمينة . فدخلت أجوافها ، ولم يعلم أنّها دخلت في أجوافها ، فكان منظرها قبيحا كما في الأوّل . واستيقظت . ثمّ رأيت في حلمي وهوذا سبع سنابل طالعة في ساق واحدٍ ممتلئة وحسنة . ثمّ هوذا سبع سنابل يابسة رقيقة ملفوحة بالرّيح الشّرقيّة نابتة وراءها . فابتلعت السّنابل الرّقيقة السّنابل السّبع الحسنة . فقلت للسّحرة ، ولم يكن من يخبرني ) . AA 188.3

( فقال يوسف لفرعون : حلم فرعون واحد . قد أخبر الله فرعون بما هو صانع ) . كانت سبع سني شبع عظيم قادمة ، فالحقول والحدائق كانت ستأتي بثمار وفيرة جدا ، أكثر مما في أي سنة مضت ، وهذه السنوات كانت ستعقبها سبع سني جوع . ( ولا يعرف الشّبع في الأرض من أجل ذلك الجوع بعده ، لأنّه يكون شديدا جدّا ) وكان تكرار الحلم دليلا على صحته وقرب إتمامه . ثم قال : ( فالآن لينظر فرعون رجلا بصيرا وحكيما ويجعله على أرض مصر . يفعل فرعون فيوكّل نظّارا على الأرض ، ويأخذ خمس غلّة أرض مصر في سبع سني الشّبع ، فيجمعون جميع طعام هذه السّنين الجيّدة القادمة ، ويخزنون قمحا تحت يد فرعون طعاما في المدن ويحفظونه . فيكون الطّعام ذخيرة للأرض لسبع سني الجوع ) . AA 188.4

كان هذا التعبير معقولا ومناسبا جدا ، كما كانت السياسة المقترحة سليمة ودليلا على الفكر الثاقب بحيث لم يكن هنالك شك في صحتها . ولكن من ذا الذي يمكن أن يؤتمن على تنفيذ تلك الخطة ؟ فعلى حكمة هذا الاختيار تتوقف سلامة الدولة . اضطرب الملك ، وظل هذا التعيين موضع تفكير وبحث بعض الوقت . وقد أخبر رئيس السقاة الملك عن الحكمة والفطن التي أبداها يوسف في تدبير أمور السجن ، وكان واضحا أن له مقدرة إدارية فائقة . إن ذلك الساقي الذي كان يلوم نفسه حينئذٍ بشدة حاول أن يكفر عن جحوده السابق بأحر المدح للذي أحسن إليه . وقد دلت تحريات الملك على صدق ما قاله الساقي ، ففي كل المملكة كان يوسف هو الشخص الوحيد المزود بالحكمة لتبصير الملك بالخطر الذي هدد الدولة ، والاستعداد اللازم لمواجهته ، فاقتنع الملك بأن يوسف هو الشخص الوحيد الكفء لتنفيذ الخطة التي قد اقترحها ، وكان واضحا أن قوة إلهية تسنده ، وأنه ليس بين كل موظفي الدولة شخص سواه يستطيع أن يدير شؤونها في تلك الأزمنة . وحقيقة كونه عبدا عبرانيا لم تكن أمرا ذا شأن بالقياس إلى حكمته وسلامة رأيه . فقال الملك لمشيريه : ( هل نجد مثل هذا رجلا فيه روح الله ؟ ) . AA 189.1

وقد تقرر تعيينه ، وأدهش يوسف ما أعلنه الملك حين قال : ( بعد ما أعلمك الله كلّ هذا ، ليس بصير وحكيم مثلك . أنت تكون على بيتي ، وعلى فمك يقبّل جميع شعبي إلاّ إنّ الكرسيّ أكون فيه أعظم منك ) وتقدم الملك ليقلد يوسف أوسمة مركزه الخطير بأن ( خلع فرعون خاتمه من يده وجعله في يد يوسف ، وألبسه ثياب بوصٍ ، ووضع طوق ذهبٍ في عنقه ، وأركبه في مركبته الثّانية ، ونادوا أمامه «اركعوا» (. AA 189.2

( أقامه سيّدا على بيته ، ومسلّطا على كلّ ملكه ، ليأسر رؤساءه حسب إرادته ويعلّم مشايخه حكمة ) (مزامير 105 : 21 ، 22) . من السجن خرج يوسف ليصير رئيسا على كل أرض مصر . لقد كان مركزا مجيدا ، ومع ذلك كان محفوفا بالمكاره والمخاطر . ولا يمكن أن أحدا يقف في مكان عال شاهق دون أن يتعرض للخطر . فكما أن العاصفة تترك زهور الوادي الوادعة دون أذى بينما هي تقتلع الأشجار العظيمة من فوق أعالي الجبال ، فكذلك من قد احتفظوا بأمانتهم واستقامتهم في حياتهم المتواضعة قد يجرفون إلى أعماق الجب بفعل التجارب التي تهاجم النجاح والكرامة الزمنيين . ولكن أخلاق يوسف صمدت في الضراء والسراء ، أمام الضيق وأمام النجاح . إن نفس الأمانة ونفس الاستقامة والإخلاص ظهرت حين وقف في قصر الفراعنة كما كانت ظاهرة حين كان في بيت السجن . كان لا يزال غريبا في أرض وثنية ، منفصلا عن عائلته التي كانت تعبد الله ، ولكنه كان موقنا أن يد الله تسدد خطواته . وباعتماده المستمر على الله قام بأعباء واجبات وظيفته ، وبسبب يوسف اتجه انتباه ملك مصر وعظمائها إلى الإله الحقيقي . ومع أنهم كانوا متمسكين بأوثانهم فقد تعلموا أن يكرموا المبادئ المعلنة في حياة وأخلاق يوسف الذي كان يعبد الرب . AA 189.3

ولكن كيف استطاع يوسف أن يكتب لنفسه ذلك التاريخ المجيد ، تاريخ الخلق المتين والاستقامة والحكمة ؟ إنه في فجر حياته فضل الواجب على هوى النفس ، ثم أن استقامته في شبابه ، والثقة البسيطة والطبيعة النبيلة في حياته الباكرة آتت ثمارها في حياته وهو رجل . إن حياته النقية البسيطة وافقت النمو النشيط لقوى جسده وذهنه. وإن شركته مع الله في أعماله ، وتأمله في الحقائق العظيمة المسلمة لورثة الإيمان ، كل ذلك رفع من طبيعته الروحية وعظمها ، ووسع عقله وقواه أكثر من أية دراسة أخرى . ثم إن التفاته لواجبه في كل مركز من مراكزه التي مر فيها ، من أدناها إلى أسماها ، كان تدريبا لكل قواه للوصول إلى أعلى خدمة . إن من يحيا حياة مطابقة لإرادة الخالق يحرز لنفسه أصدق وأنبل نمو في الأخلاق . ( هوذا مخافة الرب هي الحكمة ، والحيدان عن الشّرّ هو الفهم ) (أيوب 28 : 28) . AA 190.1

قليلون هم الذين يدركون تأثير أمور الحياة الصغيرة في تكوين الأخلاق . ليس شيء مما لنا به شأن يعتبر صغيرا حقا . فالظروف المختلفة التي نواجهها يوما فيوما ، القصد منها اختبار أمانتنا وإعدادنا لمسؤوليات أعظم . فبثباتنا على مبادئنا في شؤون حياتنا العادية يصبح العقل قادرا على الاضطلاع بالواجب أكثر مما لو عمد الإنسان إلى الأميال الباطلة واللذات الوقتية . فالعقول التي تدرب هذا التدريب لا تترجح بين الصواب والخطأ كالقصبة التي تحركها الريح . أمثال هؤلاء يكونون مخلصين لواجبهم لأنهم دربوا أنفسهم على صفات الأمانة والحق . ومتى كانوا أمناء في القليل فسيحصلون على قوة تجعلهم أمناء في الكثير . AA 190.2

إن الخلق القويم هو أثمن بكثير من ذهب أوفير ، إذ بدونه لا يقدر أحد أن يرقى إلى العظمة الشريفة ، ولكن الخلق ليس شيئا يورث أو يباع بالمال . إن السمو الخلقي والصفات الذهنية الجميلة لا يحصل عليها المرء بمحض الصدفة ، وإن أثمن المواهب لن تكون لها قيمة ما لم يرقّها الإنسان ويصلح من شأنها ، وإن تكوين الخلق النبيل هو عمل يحتاج إلى كل يوم من أيام العمر ، ويجب أن يكون نتيجة الجد والمثابرة المتواصلين . إن الله يعطى الفرص ، والنجاح موقوف على كيفية انتهازها . AA 191.1

* * * * *