الاباء والانبياء

21/75

الفصل التاسع عشر—الرجوع إلى كنعان

---------------------

بعد عبور الأردن ( أتى يعقوب سالما إلى مدينة شكيم الّتي في أرض كنعان ) (تكوين 33 : 18 ، 20) وهكذا أجيبت صلاة ذلك الشيخ التي قدمها في بيت إيل طالبا من الله أن يرجعه بسلام إلى أرضه ، وقد ظل زمنا ساكنا في وادي شكيم . في هذا المكان وقبل ذلك بأكثر من مئة سنة نصب إبراهيم خيامه أول مرة ، وأقام أول مذبح في أرض الموعد . وفي هذا المكان ( ابتاع قطعة الحقل الّتي نصب فيها خيمته من يد بني حمور أبي شكيم بمئة قسيطةٍ . وأقام هناك مذبحا ودعاه «إيل إله إسرائيل» ( (الله إله إسرائيل) ، وكما فعل إبراهيم من قبل كذلك فعل يعقوب إذ أقام إلى جوار خيمته مذبحا للرب ، ودعا أفراد عائلته لتقديم ذبيحة الصباح وذبيحة المساء ، وفي هذا المكان حفر البئر التي أتى إليها بعد ذلك بسبعة عشر قرنا ابن يعقوب ومخلصه ، والتي جلس عليها ليستريح من حر الهجير ، وأخبر سامعيه المندهشين عن ينبوع الماء الذي ( ينبع إلى حياةٍ أبديّةٍ ) (يوحنا 4 : 14) . AA 174.1

إن فترة إقامة يعقوب وبنيه في شكيم قد انتهت بعمل قاس صارم من أعمال الظلم وسفك الدماء ، ذلك أن ابنة يعقوب الوحيدة حل بها العار والحزن ، فتورط اثنان من إخوتها في ارتكاب جريمة قتل ، فخربت مدينة برمتها ، انتقاما لعمل محرم شرعا ارتكبه مع تلك الفتاة شاب طائش ، والبداءة التي أدت إلى تلك النتائج المرعبة كانت نتيجة عمل ابنة يعقوب التي ( خرجت ... لتنظر بنات الأرض ) (انظر تكوين 34) وهكذا زجت بنفسها بين العشراء الأشرار ، فالذي يطلب السرور بين من لا يخافون الله يضع نفسه في أرض الشيطان ، ويعرض نفسه لتجاربه . AA 174.2

إن قسوة شمعون ولاوي وغدرهما لم يكونا من غير مبرر أو بدون عمل مثير ، ولكنهما في معاملتهما لأهل شكيم ارتكبا خطية فظيعة ، وكانا بكل حرص قد أخفيا عن أبيهما يعقوب مقاصدهما ، فملأته أخبار انتقامهما رعبا . وإذ كان منسحق القلب بسبب غدر ابنيه وظلمهما قال لهما ( كدّرتماني بتكريهكما إيّاي عند سكّان الأرض ... وأنا نفر قليل . فيجتمعون عليّ ويضربونني ، فأبيد أنا وبيتي ) ولكن الحزن والاشمئزاز اللذين بهما وصف تلك الفعلة الدامية يريان في كلامه الذي نطق به بعد ذلك بحوالي خمسين سنة وهو مضطجع على سرير الموت في مصر إذ قال : ( شمعون ولاوي إخوان ، آلات ظلمٍ سيوفهما . في مجلسهما لا تدخل نفسي . بمجمعهما لا تتّحد كرامتي ... ملعون غضبهما فإنّه شديد ، وسخطهما فإنّه قاسٍ ) (تكوين 40 : 5 - 7). AA 174.3

أحس يعقوب بأن هنالك ما يدعو إلى التذلل العميق إذ قد تجلت القسوة والكذب في أخلاق ابنيه ، وفي تلك المحلة كانت آلهة كاذبة ، ورسخت قدم الوثنية في عائلته إلى حد ما ، فهل يعاملهم الله كما يستحقون ، ألا يتركهم لانتقام الأمم المحيطة بهم ؟ AA 175.1

وإذ كان يعقوب هكذا منحني النفس تحت ضغط الكدر والانزعاج صدر إليه أمر الرب بالسفر جنوبا إلى بيت إيل ، إن التفكير في ذلك المكان لم يذكر ذلك الشيخ برؤيا الملائكة ومواعيد الله بالرحمة فقط ، بل ذكره أيضا بنذره الذي كان قد نذره هناك أن يكون الرب إلها له ، وقد عقد العزم على أنه قبل الانتقال إلى تلك البقعة المقدسة ينبغي أن يتطهر أفراد أسرته من نجاسات الأصنام ، ولذلك أصدر أمره إلى كل من في محلته قائلا : ( اعزلوا الآلهة الغريبة الّتي بينكم وتطهّروا وأبدلوا ثيابكم . ولنقم ونصعد إلى بيت إيل ، فأصنع هناك مذبحا لله الّذي استجاب لي في يوم ضيقتي ، وكان معي في الطّريق الّذي ذهبت فيه ) (أنظر تكوين 35) . AA 175.2

وبانفعال عميق ردد يعقوب قصة مجيئه إلى بيت إيل أول مرة عندما ترك خيام أبيه تائها وحيدا وهاربا لحياته ، وكيف ظهر له الله في رؤيا الليل ، وعندما راجع معاملات الله العجيبة له لان قلبه ، وتأثر بنوه بقوة علوية قاهرة . لقد لجأ إلى أفعل وسيلة ليعدهم للاشتراك معه في عبادة الله حين يصلون إلى بيت إيل ، ( فأعطوا يعقوب كلّ الآلهة الغريبة الّتي في أيديهم والأقراط الّتي في آذانهم ، فطمرها يعقوب تحت البطمة الّتي عند شكيم ) . AA 175.3

وأوقع الله خوفا على سكان الأرض بحيث لم يحاولوا الانتقام للمذبحة التي حدثت في شكيم ، ووصل أولئك المسافرون إلى بيت إيل دون أن يزعجهم أحد ، وهناك ظهر الرب ثانية ليعقوب وجدد له عهد الموعد ، ( فنصب يعقوب عمودا في المكان الّذي فيه تكلّم معه ، عمودا من حجرٍ ) . AA 175.4

وفي بيت إيل ناح يعقوب على واحدة كانت عضوا مكرما في عائلة أبيه أمدا طويلا - وهي دبورة مرضعة رفقة التي رافقت سيدتها من عبر النهر إلى أرض كنعان ، فقد كان وجود هذه المرأة العجوز رباطا ثمينا ربطه بحياة الصبا وعلى الخصوص ربطه بتلك الأم التي كانت محبتها له قوية ورقيقة جدا ، وقد دفنت دبورة بين الآهات والدموع والحزن والأنين حتى لقد سميت البطمة التي دفنت تحتها ( بلوطة البكاء ) ويجب أن نلاحظ أن ذكرى حياة الخدمة الأمينة التي قضتها هذه المرأة ، صديقة هذه العائلة والنوح عليها استحقا أن يحفظا في كلمة الله . AA 176.1

كانت المسافة بين بيت إيل وحبرون تستغرق سفر يومين فقط ، ولكن قلب يعقوب أثقله حزن عميق إذ ماتت راحيل ، لقد خدم خاله فترتين كل منهما سبع سنين ليظفر بها ، وقد خففت محبته لها ما قاساه من عناء . أما كم كانت تلك المحبة قوية وثابتة فقد ظهر بعد سنين طويلة إذ كان يعقوب مضطجعا على سريره مشرفا على الموت في مصر فأتى ابنه يوسف لزيارته ، فإذ ألقى نظرة على ماضي حياته قال ذلك الشيخ المسن : ( وأنا حين جئت من فدّان ماتت عندي راحيل في أرض كنعان في الطّريق ، إذ بقيت مسافة من الأرض حتّى آتي إلى أفراتة ، فدفنتها هناك في طريق أفراتة ، الّتي هي بيت لحمٍ ) (تكوين 48 : 7) ففي تاريخ العائلة طيلة حياته الطويلة المضطربة لم يذكر غير موت راحيل . AA 176.2

إن راحيل قبيل موتها أنجبت ليعقوب ابنا ثانيا ، وفيما كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة سمّت الطفل الوليد ( بن أوني ) أي ابن حزني ، أما أبوه فقد سماه بنيامين أي ابن يميني أو قوتي ، وقد دفنت راحيل حيث ماتت ، وأقيم عمود فوق قبرها لتخليد ذكراها . AA 176.3

وفي الطريق إلى أفراتة تلطخت عائلة يعقوب بجريمة أخرى بشعة ، كانت السبب في حرمان رأوبين الابن البكر من امتيازات البكورية وأمجادها . AA 176.4

أخيرا وصل يعقوب إلى نهاية رحلاته ، ( وجاء يعقوب إلى إسحاق أبيه إلى ممرا ، قرية أربع ، الّتي هي حبرون ، حيث تغرّب إبراهيم وإسحاق ) (تكوين 35 : 27) وقد ظل هناك طيلة السنوات الأخيرة من حياة أبيه . وفي نظر إسحاق الذي كان ضعيفا وأعمى كانت الرعاية التي لقيها من هذا الابن الذي طال اغترابه مصدر عزاء له مدى سني الوحدة والحرمان . AA 176.5

التقى يعقوب أخاه عيسو أمام سرير أبيه عند موته ، إن عيسو الابن الأكبر كان ينظر إلى الأمام إلى هذه الحادثة كفرصة للانتقام ، أما الآن فقد تغيرت مشاعره تغيرا عظيما ، وأما يعقوب الذي قنع بالبركات الروحية للبكورية فقد تنازل لأخيه الأكبر عن ميراث أبيهما وثروته ، وهذا كان كل الميراث الذي كان عيسو يشتهيه ويقدره ، وقد زال من قلبيهما كل نفور وحسد وعداء ، ومع ذلك فقد انفصل أحدهما عن الآخر ، وانتقل عيسو إلى جبل سعير . والله الذي هو غني في البركات منح يعقوب ثروة زمنية فضلا عن الخير الأعظم الذي طلبه ، ( أنّ أملاكهما كانت كثيرة على السّكنى معا ، ولم تستطع أرض غربتهما أن تحملهما من أجل مواشيهما ) (تكوين 37 : 7) وكان هذا الانفصال متفقا مع قصد الله حيال يعقوب ، وحيث أن كلا من ذينك الإخوين كان يخالف الآخر في معتقده الديني فكان خيرا لهما أن يعيشا منفصلين . AA 177.1

لقد تلقى كل من يعقوب وعيسو معرفة الله بكيفية متشابهة ، وكان كل منهما حرا في أن يسير في طريق وصايا الرب ويظفر برضاه ، ومنهما لم يختارا كلاهما نفس هذا الطريق ، إذ سارا في طريقين مختلفين ، وزادت شقة البعد بينهما شيئا فشيئا . AA 177.2

لم يكن الله متعسفا حين حرم عيسو من بركات الخلاص ، إن عطايا نعمته بالمسيح مباحة للجميع ، فليس هنالك اختيار غير ما يختار الإنسان لنفسه ، الذي قد يكون مدعاة لهلاكه ، لقد أوضح الله في كلمته الشروط التي بموجبها يمكن أن تختار كل نفس للحياة الأبدية - وهي الطاعة لوصاياه بالإيمان بالمسيح . اختار الله شخصية متفقة مع شريعته ، وكل من يتمم مطاليبه يقدم له دخول إلى ملكوت المجد ، ولقد قال المسيح نفسه : ( الّذي يؤمن بالابن له حياة أبديّة ، والّذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة ) (يوحنا 3 : 36) ( ليس كلّ من يقول لي : يا رب ، يا رب ! يدخل ملكوت السّماوات . بل الّذي يفعل إرادة أبي الّذي في السّماوات ) (متى 7 : 21) وفي سفر الرؤيا جاء قوله ( طوبى للّذين يصنعون وصاياه لكي يكون سلطانهم على شجرة الحياة ، ويدخلوا من الأبواب إلى المدينة ) (رؤيا 22 : 14) وفيما يتعلق بخلاص الإنسان النهائي فهذا هو الاختبار الوحيد الموضح لنا في كلمة الله . AA 177.3

كل من يتمم خلاصه بخوف ورعدة لا بد من أن يختار ، والذي يلبس سلاح الله الكامل ويجاهد جهاد الإيمان الحسن يختار ، كذلك يختار من يصحو للصلاة ويفتش الكتب ويهرب من التجربة ، وكذلك يختار كل من يظل مؤمنا ومطيعا لكل كلمة تخرج من فم الله ، إن بركات الفداء مباحة للجميع ، وسيتمتع بثمار هذا الفداء كل من يتممون الشروط . AA 178.1

لقد احتقر عيسو بركات العهد ، وإذ فضل الخير الزمني على الخير الروحي حصل على ما اشتهاه ، وباختياره المتعمد هذا انفصل عن شعب الله . أما يعقوب فاختار ميراث الإيمان ، نعم إنه حاول الحصول عليه بالمكر والغدر والكذب ولكن الله سمح لخطيته أن تعمل على تقويمه ، ولكن يعقوب في كل اختباره المرير في سنيه الأخيرة لم يحد عن غرضه ، ولا نبذ اختياره . لقد تعلم أنه بالتجائه إلى المهارة البشرية والمكر للحصول على البركة كان يحارب الله ، فمنذ تلك الليلة التي قضاها مصارعا بجوار يبوق خرج من المعمعة رجلا آخر ، لقد انتزعت من قلبه كل ثقة بالنفس ، ومنذ ذلك الوقت لم يبق أثر لمكره الماضي وبدلا من المكر والخداع اتسعت حياته بالبساطة والصدق ، وتعلم درس الاعتماد البسيط على ذراع القدير . وفي وسط التجارب والضيقات انحنى أمام إرادة الله في تذلل وخضوع . إن العناصر المنحطة والزغل الذي كان يشاهد في أخلاقه احترق في آتون النار ، أما الذهب الحقيقي فقد تنقى ، حتى أن إيمان إبراهيم وإسحاق قد رؤي في بريقه في يعقوب . AA 178.2

إن خطية يعقوب وما جرته من حوادث كان لها أثر شرير - أثر نضجت ثماره المريرة في أخلاق أولاده وحياتهم ، فإذ بلغ أولئك الأولاد دور الرجولة نمت في حياتهم أخطاء خطيرة ، ففي العائلة ظهرت مساوئ تعدد الزوجات جلية ، هذا الشر الرهيب يعمل على تجفيف منابع المحبة ، وتأثيره يضعف أقوى الربط المقدسة . وإن غيرة الأمهات الكثيرات مررت العلائق العائلية ، وشب الأولاد - على المنازعات والتبرم بكل سلطان يفرض عليهم ، وأظلمت حياة أبيهم لسبب القلق والحزن . AA 178.3

ومع ذلك فقد كان أحد أولئك الأبناء يختلف اختلافا بينا في أخلاقه عن باقي إخوته ، وهو ابن راحيل الأكبر - يوسف الذي بدا أن جماله الطبيعي كان انعكاسا للجمال الداخلي المنبعث من عقله وقلبه . فإذ كان ذلك الصبي طاهرا ونشيطا وفرحا برهن على غيرته الأدبية وثباته ، لقد أصغي إلى تعاليم أبيه وأحب الطاعة لله . وإن الصفات التي اشتهر بها في مصر بعد ذلك - كاللطف والإخلاص والصدق - كانت قد ظهرت من قبل في حياته اليومية ، فإذ كانت أمه قد ماتت تعلقت كل عواطفه بأبيه ، كما ارتبط قلب أبيه بهذا الصبي ، ابن شيخوخته . فأحبه ( أكثر من سائر بنيه ) (أنظر تكوين 37) . AA 178.4

لكن حتى هذه المحبة كانت ستصير علة للمتاعب والأحزان . إن يعقوب لم يتصرف بحكمة في تفضيله ليوسف ، لأن هذا أثار حسد باقي بنيه ، فإذ كان يوسف يعاين تصرفات إخوته الشريرة انزعج جدا ، وتجرأ على الاعتراض عليهم بلطف ، ولكن هذا لم يزدهم إلا بغضا له وسخطا عليه . إنه لم يحتمل أن يراهم يخطئون إلى الله ، فبسط أمرهم أمام أبيه على أمل أن سلطته كأب تقودهم إلى الإصلاح . AA 179.1

تجنب يعقوب ، بكل حرص ، إثارة غضبهم ، فلم يلجأ إلى الخشونة أو القسوة ، بل بتأثر عميق عبر الأب لأولاده عن جزعه عليهم ، وتوسل إليهم أن يوقروا شيبته ولا يجلبوا على اسمه العار ، وفوق الكل طلب منهم ألا يهينوا الله باستخفافهم بوصاياه . فإذ أحس أولئك الشبان بالخجل لأن أمرهم قد انكشف بدا كأنهم قد تابوا ، ولكنهم كانوا يخفون مشاعرهم الحقيقية التي زاد في مرارتها ذلك التشهير بهم . AA 179.2

إن تلك الهدية التي قدمها يعقوب لابنه والتي هى قميص غالي الثمن مما كان يلبسه ذوو الرفعة والوجاهة ، مما برهن على أنه كانت تعوزه الفطنة . هذه الهدية نظر إليها الأولاد على أنها دليل على محاباة أبيهم ليوسف ، وأثار ذلك في نفوسهم التوجس لئلا يكون قصد أبيهم أن يتخطاهم جميعا ويمنح البكورية لابن راحيل ، وزاد من حقدهم أن ذلك الصبي أتاهم يوما يقص عليهم حلما ، قال : ( ها نحن حازمون حزما في الحقل ، وإذا حزمتي قامت وانتصبت ، فاحتاطت حزمكم وسجدت لحزمتي ) . AA 179.3

فصاح إخوته في حسد وغضب ، ( ألعلّك تملك علينا ملكا أم تتسلّط علينا تسلّطا؟(. AA 179.4

بعد ذلك بقليل حلم حلما آخر شبيها بالأول في دلالته ، وقصه عليهم قائلا : ( إنّي قد حلمت حلما أيضا ، وإذا الشّمس والقمر وأحد عشر كوكبا ساجدة لي ) وفسر الإخوة هذا الحلم بسرعة وسهولة كالحلم الأول ، وإذ كان أبوه حاضرا وسامعا وبخه قائلا : ( ما هذا الحلم الّذي حلمت ؟ هل نأتي أنا وأمّك وإخوتك لنسجد لك إلى الأرض ؟ ) ولكن مع القسوة التي ظهرت في كلام يعقوب فقد كان يؤمن أن الرب قد كشف ليوسف عن المستقبل . AA 179.5

إذ وقف ذلك الصبي أمام إخوته وقد أضاء وجهه الجميل بروح الإلهام لم يستطيعوا أن يمنعوا أنفسهم من الإعجاب به ، ومع ذلك فلم يريدوا أن يتركوا طرقهم الشريرة ، بل كانوا يبغضون حياة النقاوة التي كان يحياها يوسف لأنها كانت توبيخا لخطاياهم . إن نفس الروح التي سيطرت على قايين ألهبت قلوبهم . AA 180.1

كان إخوته مضطرين للانتقال من مكان إلى آخر بحثا عن مرعى لقطعانهم ، وكثيرا ما كانوا يغيبون عن البيت شهورا عديدة ، وبعد الحوادث التي ذكرناها آنفا ذهبوا إلى المكان الذي كان أبوهم قد اشتراه في شكيم ، ومر بعض الوقت ولم تأت منهم أخبار ، فبدا أبوهم يخشى على سلامتهم بسبب القسوة التي بدت منهم نحو أهل شكيم ، ولذلك أرسل إليهم يوسف ليفتقد سلامتهم ويرد له خبرا ، ولو كان يعقوب عليما بالشعور الحقيقي الذي يكنه أولاده ليوسف لما ائتمنهم عليه ، ولكنهم كانوا بكل حرص قد أخفوا حقيقة شعورهم . AA 180.2

افترق يوسف عن أبيه بقلب فرحان ، ولم يكن ذلك الأب الشيخ ولا ابنه الشاب يحلمان بما ستتمخض عنه الأيام من أحداث قبلما يجتمع شملهما ثانية . فبعد ما وصل يوسف إلى شكيم وحيدا بعد سفرة طويلة لم يجد إخوته ولا أغنامهم ، فلما سأل عنهم قيل له إنهم في دوثان ، كان قد سار على قدميه مسافة تجاوزت الخمسين ميلا ، وكان باقيا عليه مسافة أخرى تبلغ الخمسة عشر ميلا ، ولكنه أسرع في سيره ولم يفكر في تعبه ، لأنه كان يريد أن يخفف من جزع أبيه ، كما كان يتوق إلى لقاء إخوته الذين كان يحبهم رغم قسوتهم عليه . AA 180.3

رآه إخوته قادما نحوهم ، ولكن لا تفكيرهم في سفره الطويل الذي قام به لكي يفتقدهم ويطمئن على سلامتهم ، ولا تعبه أو جوعه ، ولا ما يتطلبه ذلك من كرم ومحبة أخوية من جانبهم حياله - لا شيء من كل ذلك أمكن أن يخفف من مرارة بغضتهم له ، ولكن منظر ذلك القميص الذي كان يرمز إلى محبة أبيه له أصابهم بالجنون فصاحوا يقولون في سخرية : ( هوذا هذا صاحب الأحلام قادم ) . فالحسد وحب الانتقام اللذان أضمروهما له طويلا تحكما فيهم الآن ، فقالوا : ( فالآن هلمّ نقتله ونطرحه في إحدى الآبار ونقول : وحش رديء أكله . فنرى ماذا تكون أحلامه ) . AA 180.4

لولا رأوبين لكانوا قد نفذوا مقصدهم ، فلقد أجفل من الاشتراك معهم في قتل أخيه ، واقترح عليهم أن يطرحوه حيا في بئر ويتركوه هناك ليموت ، وكان في دخيلته ينوي أن ينقذه ويعيده إلى أبيه ، فبعدما أقنعهم رأوبين جميعا بقبول اقتراحه تركهم خشية أن تنغلب عليه عواطفه وتكشف لهم نواياه عن حقيقته . AA 181.1

أما يوسف فقد أقبل عليهم غير مرتاب بوجود أي خطر ، بل كان فرحا لأن غايته من بحثه الطويل عنهم قد تحققت ، ولكن بدلا من التحيات التي كان ينتظرها منهم روّعته نظراتهم الغاضبة ، نظرات الوعيد والتهديد ، فأمسكوه وجردوه من قميصه ، وقد نم تعييرهم وتهديدهم له عن نية الغدر به ، ولم يعبأوا بتوسلاته ، لقد صار الآن تحت رحمة أولئك الذين كانوا يبغضونه إلى حد الجنون ، فبكل وحشية سحبوه إلى جب عميق وألقوا به فيه ، وإذ تأكد لديهم استحالة هروبه تركوه ليهلك جوعا ، ( ثمّ جلسوا ليأكلوا طعاما ) . AA 181.2

لكن بعضا منهم كانوا غير مستريحين إذ لم يكونوا يشعرون بنشوة الفرح والرضى التي كانوا يتوقعونها من ذلك الانتقام ، وبعد ذاك بقليل كانت تقترب منهم قافلة إسماعيليين قادمة من عبر الأردن في طريقهم إلى مصر ، وهم حاملون عطورا وتجارات أخرى ، وإذا بيهوذا يقترح على إخوته أن يبيعوا أخاهم إلى هؤلاء التجار الوثنيين بدلا من تركهم إياه ليموت ، فبينما يزيحونه فعلا من طريقهم يظلون أبرياء من دمه ، وقال يلح عليهم : ( لأنّه أخونا ولحمنا ) فوافقوا جميعا على هذا الاقتراح ، وبادروا إلى يوسف فسحبوه من الجب . AA 181.3

فلما أبصر التجار برقت في ذهنه تلك الحقيقة المرعبة ، إن صيرورة المرء عبدا كان مصيرا أمر من الموت . وفي عذابه ورعبه جعل يتوسل إلى إخوته الواحد بعد الآخر ، ولكن بلا جدوى ، وقد ثارت عواطف بعضهم بالشفقة عليه ، إلا أنهم لخوفهم من سخرية الباقين بهم ظلوا صامتين ، وأحسوا جميعا أنهم كانوا قد أمعنوا في عدوانهم بحيث لا يمكنهم التراجع ، فلو أنهم أبقوا على يوسف فلا بد من أن يخبر أباه بكل شيء ، وأبوهم لا يمكنه أن يتغاضى عن قسوتهم على ابنه الحبيب ، فإذ قسوا عليه وصموا آذانهم عن سماع توسلاته أسلموه إلى أيدي أولئك التجار الوثنيين ، وبعد ذلك سارت القافلة في طريقها حتى غابت عن الأنظار . AA 181.4

عاد رأوبين إلى الجب فلم يجد يوسف هناك ، ففي رعبه ولومه لنفسه مزق ثيابه ، وأتي إلى إخوته وهو يصرخ قائلا : ( الولد ليس موجودا ) فإذ علم رأوبين بمصير يوسف وأنه لا يمكنه استرجاعه مال إلى الاشتراك مع باقي إخوته في محاولة ستر جريمتهم ، فبعدما ذبحوا تيسا من المعزى غمسوا قميص يوسف في دمه وأحضروه إلى أبيهم قائلين إنهم وجدوه ملقى في أحد الحقول ، وأنهم يخشون لئلا يكون هو قميص أخيهم وقالوا : ( حقّق أقميص ابنك هو أم لا ؟ ) لقد كانوا يتوقعون رؤية هذا المنظر برعب ، ولكنهم لم يكونوا متأهبين لرؤية ذلك الغم والعذاب الذي يمزق القلب ، وذلك الاستسلام الكلي للحزن الذي كانوا مضطرين لمشاهدته . قال يعقوب : ( قميص ابني ! وحش رديء أكله ، افترس يوسف افتراسا ) . فحاول بنوه وبناته باطلا أن يعزوه ، بل ( مزّق ... ثيابه ، ووضع مسحا على حقويه ، وناح على ابنه أيّاما كثيرة ) واتضح أن مرور الزمن لم يخفف من لوعته وحزنه ، فقد قال : ( إنّي أنزل إلى ابني نائحا إلى الهاوية ) تلك كانت صرخة اليأس التي صعدت من أعماقه ، فإذ كان أولئك الشبان مرتعبين مما قد فعلوا ، وخائفين في الوقت نفسه من لوم أبيهم أخفوا في قلوبهم حقيقة جريمتهم التي كانت عظيمة وهائلة جدا حتى في نظرهم . AA 182.1

* * * * *