الاباء والانبياء

74/75

الفصل الثاني والسبعون—تمرد أبشالوم

( ويرد ... أربعة أضعاف ) - هذا هو الحكم الذي حكم به داود على نفسه دون حذر ، وهو يصغي إلى المثل الذي ضربه ناثان النبي ، وبموجب حكمه هذا كان لا بد أن يحاكم . كان لا بد أن يسقط أربعة من بينه وستكون خطيته السبب في خسارة كل أولئك الأبناء . AA 653.1

لقد سمح داود أن تمر تلك الجريمة المخزية التي ارتكبها أمنون ابنه البكر بدون قصاص أو توبيخ . لقد حكمت الشريعة بقتل الزاني ، وأن جريمة أمنون غير الطبيعية جعلت ذنبه مضاعفا. غير أن داود الذي كان مستذنبا من نفسه لأجل خطيته لم يستطع أن يسلم المذنب للعدالة . أما أبشالوم الذي كان الحارس الطبيعي لأخته التي وقع عليها ذلك الظلم الفاحش ، فقد ظل يضمر نية الانتقام عامين كاملين ، وذلك ليضرب أمنون الضربة القاضية في النهاية . وفي وليمة أقيمت لبني الملك قتل أمنون الثمل الفاسق بأمر أبشالوم أخيه . AA 653.2

لقد حكم على داود بقصاص مضاعف ، إذ وصلت إليه رسالة مرعبة تقول : ( قد قتل أبشالوم جميع بني الملك ، ولم يتبق منهم أحد ) (انظر 2 صموئيل 13 — 19) ( فقام الملك ومزق ثيابه واضطجع على الأرض وجميع عبيده واقفون وثيابهم ممزقة ) . ولما رجع بنو الملك إلى أورشليم مرتعبين أعلنوا الحقيقة لأبيهم . أن أمنون وحده قتل ( رفعوا أصواتهم وبكوا ، وكذلك بكى الملك وعبيده بكاء عظيما جدا ) ولكن أبشالوم هرب إلى تلماي ملك جشور أبي أمه . AA 653.3

إن أمنون كان قد ترك لينغمس في الملذات والشهوات كباقي بني الملك . وقد سعى لأن يشبع كل أفكار قلبه دون اعتبار لمطاليب الله ، وبالرغم من هول خطيته فقد صبر الله عليه طويلا فلقد أعطي مهلة سنتين لعله يتوب لوكنه ظل سادرا في خطيته. وإذ AA 653.4

كانت جريمته تثقل كاهل حصده الموت في انتظار الدينونة أمام الكرسي القضاء الرهيب . AA 654

لقد أهمل داود واجب معاقبة أمنون على جريمته . فبسبب عدم أمانة الملك الأب ، ولعدم توبة الابن ، سمح الرب للحوادث أن تجري في مجاراها الطبيعي ولم يردع أبشالوم . حين يهمل الآباء أو الملوك معاقبة الإثم فالله يتولى بنفسه القضية . وقوته الرادعة تتخلى قليلا عن ردع قوات الشر ، وبذلك تحدث سلسلة من الظروف بحيث تعاقب الخطية بالخطية . AA 654.1

إن النتائج الشريرة لتساهل داود نحو أمنون لم تنته ، لأنه من هنا ابتدأ ـ ابتعاد أبشالوم وانصرف قلبه عن أبيه . بعد هربه إلى جوشر ، وإذ أحس داود أن جريمة ابنه تستحق القصاص حرم عليه الرجوع . إن هذا لم يقلل من تعقيد الشرور التي زج فيها الملك ، بل زادها تفاقما وتعقيدا . ثم إن أبشالوم الشاب النشيط الطموح العادم المبادئ ، الذي ، إذ أوصد الباب في وجهه دون الاشتراك في شؤون المملكة لكونه منفيا ، سرعان ما أسلم نفسه للتـآمر الخطر . AA 654.2

وبعد نهاية سنتين عزم يوآب على أن يصلح ذات البين بين الأب وابنه . وإذ وضع هذا الغرض نصب عينيه استعان بامراة من تقوع اشتهرت بالحكمة . فإذ لقنها يوآب كلاما ، تقدمت إلى الملك قائلة إنها امرأة أرملة كان لها ابنان هما كل عزائها ومصدر إعالتها . فتخاصما في الحقل وقتل أحدهما أخاه . وهوذا كل الأقرباء والعشيرة يطلبون مني تسيلم قاتل أخيه إلى ولي الدم ( فيطفئون جمرتي التي بقيت ، ولا يتركون لرجلي اسما ولا بقية على وجه الأرض ) . فتأثر الملك من هذا الكلام وأكد للمرأة أنه سيحفظ سلامة ابنها . AA 654.3

بعدما حصلت منه على وعود متكررة بأنه سينقذ حياة ذلك الشاب ، توسلت إلى الملك أن يطيل أناته عليها معلنة أنه قد تكلم كمذنب لكونه لم يرد منفيه ، ثم قالت : ( لأنه لا بد أن نموت ونكون كالماء المهراق على الأرض الذي لا يجمع أيضا . ولا ينزع الله نفسا بل يفكر أفكارا حتى لا يطرد عنه منفيه ) إن هذا التحوير الرقيق المؤثر لمحبة الله للخاطئ ، الذي نطق به يوآب الجندي الخشن الطباع ، هو برهان مدهش على معرفة الإسرائيليين لحقائق الفداء العظيمة . فالملك إذ كان يشعر بحاجته إلى رحمة الله لم يستطع مقاومة هذا الطلب أو رفضه ، فأصدر أمره إلى يوآب قائلا : ( اذهب رد الفتى أبشالوم ) . لقد سمح لأبشالوم بالعودة إلى أورشليم على ألا يظهر في قصر الله ولا يقابل أباه . لقد بدأ داود الآن يرى مساوئ محبته المفرطة لأولاده وعدم حزمه نحوهم ، ومع أنه أحب ذلك الابن الجميل الموهوب حبا حانيا فقد أحس أنه من الضروري كدرس لأبشالوم وللشعب أنه لا بد من إعلان كراهيته لمثل هذه الجريمة . فسكن أبشالوم في بيته سنين ولكنه كان ممنوعا من الظهور في بلاط الملك. ثم سكنت أخته معه ، وكان وجودها أمامه مذكرا دائما له بالظلم الذي لا يجبر الذي وقع عليها . كان الشعب يقدرون هذا الأمير على أنه بالحري بطل لا مذنب ، وإذ ظفر بهذا التقدير جعل همه الوحيد كسب قلوب الشعب . وإذ كان جميلا في مظهره الشخصي نال إعجاب كل من رآه ، ( ولم يكن في كل إسرائيل رجل جميل وممدوح جدا كأبشالوم ، من باطن قدمه على هامته لم يكن فيه عيب ) إن الملك لم يتصرف تصرفا حكيما حين ترك شابا له أخلاق أبشالوم - في طموحه واندفاعه وسرعة اهتياجه - ليطيل التفكير في المظالم المزعومة . ثم إن سماح داود له بالعودة إلى أورشليم دون السماح له بالمثول في حضرته آمال قلوب الشعب إليه (أي أبشالوم) وزاد من عطفهم عليه . AA 654.4

إن داود إذ كان دائم التفكير في تعديه شرعية الله ، بدا وكأن قواه الأدبية قد أصيبت بالشلل ، فأمسى ضعيفا وحائرا ، بينما قبل ارتكابه لخطيته كان شجاعا وقوي الإرادة . لقد ضعف تأثيره على شعبه ، وكل هذا كان في صالح خطط ابنه غير الطبيعي . AA 655.1

وبفضل تأثير يوآب ، سمح لأبشالوم بالمثول مرة ثانية في حضرة أبيه. ولكن بالرغم من وجود صلح خارجي فقد ظل أبشالوم يحيك مؤامرته لنيل مآربه ، وبدا الآن كما لو كان ملكا ، إذ اتخذ لنفسه مركبة وفرسانا وخمسين رجلا يجرون قدامه . وفيما كان الملك يميل أكثر فأكثر إلى الانفراد والعزلة كان أبشالوم يعمل جاهدا ليظفر برضى الشعب . AA 655.2

إن تأثير إهمال داود ، وعدم حزمه ، وتردده ، انتقل عدواه إلى مرؤوسيه ، فقد طبع إجراء العدل بطابع الإهمال والتأخير ، فحول اأشالوم بكل مكر كل أسباب التبرم لصالحه الشخصي ويوما بعد يوم كان هذا الشاب الجميل الطلعة يرى عند باب المدينة حيث كان جمهور من المتظلمين ينتظرون تقديم ظلاماتهم ، طالبين الإنصاف . وكان أبشالوم يندمج بهم ويصغي إلى قصص الضيم الواقع عليهم عن يعبر لهم هن عطفه عليهم ، ويرثي لآلامهم ، ويعلن أسفه على عدم كفاءة رجال الحكومة . فبعدما كان يستمع لقصة واحد من بني إسرائيل كان ذلك الأمير يقول له : ( أمورك صالحة ومستقيمة ، ولكن ليس من يسمع لك من قبل الملك ) ثم يضيف قائلا : ( من يجعلني قاضيا في الأرض فيأتي إلى كل إنسان له خصومة ودعوى فأنصفه ؟ وكان إذا تقدم أحد ليسجد له ، يمد يده ويمسكه ويقبله ) . AA 655.3

أثارت الشعب دسائس الأمير الماكرة فانتشر السخط على الحكومة بسرعة عظيمة . وكان مديح أبشالوم على كل لسان . واعتبر بصورة عامة وارثا للعرش كما كان الشعب ينظرون إليه بفخر وإعجاب كم هو أهل لهذا المركز السامي ، حتى اضطرمت في قلوبهم رغبة في اعتلائه العرش . ( فاسترق أبشالوم قلوب رجال إسرائيل ) ومع ذلك إذ أعمت عيني الملك محبته لابنه هذا لم يكن يشك في شيء ، لأن حالة العظمة والسؤدد التي ظهر بها أبشالوم ، اعتبر داود أن القصد منها هو إكرام الملك والعرش حيث كان فرحا بالمصالحة مع ابنه . AA 656.1

وإذ كانت عقول الشعب مهيأة لما كان سيتبع ذلك أرسل أبشالوم سرا رجالا منتخبين إلى كل أسباط إسرائيل حتى يتفقوا على الإجراءات اللازمة للقيام بثورة . والآن فها أبشالوم يتسربل بطيلسان الدين ليخفي نواياه الغادرة . فقال إنه قبل نفيه كان قد نذر نذرا على أن يفيه في حبرون ثم التمس من الملك قائلا : ( دعني فأذهب وأوفي نذري الذي نذرته في حبرون ، لأن عبدك نذرا نذرا عند سكناي في جشور في أرام قائلا : إن أرجعني الرب إلى أورشليم فإني أعبد الرب ) . إن ذلك الأب المحب إذ تعزى لوجود هذا البرهان على القتوى في قلب ابنه باركه وأطلقه . وفي هذا الوقت كانت المؤامرة قد اكتلمت ، إن عمل أبشالوم الريائي هذا كان القصد منه ليس فقط التمويه على الملك ، بل ليحصل على ثقة الشعب ، وهكذا يسير في طليعتهم ليثوروا ضد الملك المختار من الله . AA 656.2

انطلق أبشالوم إلى حبرون وانطلق معه ( مئتا رجل من أورشيلم قد دعوا وذهبوا ببساطة ، ولم يكونوا يعلمون شيئا ) ذهب هؤلاء من أورشليم مع أبشالوم غير عالمين أن محبتهم للابن تسوقهم إلى العصيان على أبيه . وحالما وصل أبشالوم إلى حبرون استدعى في الحال أخيتوفل الذي كان من أعظم مشيري داود والذي اشتهر بحكمته وسداد رأيه ، إذ كانت آراؤه سليمة وحكيمة كم يسأل بكلام الله . وإذ صار أخيتوفل من بين المتآمرين على داود فقد جعلت مشورته ومساعدته دعوة أبشالوم تبدو مؤكدة النجاح . كما أن انضمام أخيتوفل إلى أبشالوم جعل كثيرين من ذوي النفوذ في كل أنحاء البلاد ينضوون تحت راية أبشالوم . ولما ضرب البوق مؤذنا بالعصيان ، جعل جواسيس الأمير ينشرون في مكان بأن أبشالوم قد صار ملكا ، فاحتشد حوله كثيرون. AA 656.3

وفي أثناء ذلك وصل الإنذار إلى الملك في أورشليم ، وهذا الإنذار أثار داود فجأة إذ رأى العصيان ينتشر بالقرب من عرشه . إن ابنه - ذلك الابن الذي قد أحبه أبوه ووثق به - يتآمر عليه ليغتصب منه تاجه ، وبلا شك يقلته ، ففي ساعة الخطر العظيم نفض داود عن نفسه تلك الكآبة التي كانت جاثمة على صدره أمدا طويلا ، وبروح الشباب تأهب لمواجهة تلك الظروف الطارئة الرهيبة . بينما كان أبشالوم يحشد قواته في حبرون التي لم تكن تبعد عن العاصمة أكثر من عشرين ميلا . ولذلك فقد يصل الثوار إلى أبواب أورشليم في أقرب وقت . AA 657.1

أطل داود من قصره على عاصمته ، جميلة الارتفاع ( فرح كل الأرض ... مدينة الملك العظيم ((مزمور 48 : 2) وقد اقشعر بدنه عندما خطر له أمر تعريض تلك المدينة للمذابح وسفك الدماء والتخريب . فهل يطلب النجدة من رعاياه الأمناء الذين ظلوا على ولائهم لعرشه ويهب للدافع عن عاصمة ملكه ؟ وهل تسمح له نفسه أن يجعل الدماء تسيل في شوارع أورشليم أنهارا ؟ لقد قرر أمرا . ينبغي ألا تكتوي المدينة المختارة بنيران الحروب وأهوالها . إنه سيترك أورشليم وهكذا يختبر ولاء شعبه:، معطيا إياهم فرصة فيها يلمون شعثهم ويخفون إلى نجدته . وفي هذه الضائقة العظيمة كان واجبه نحو الله ونحو شعبه يقتضيه أن يظل محتفظا بالسلطة التي منحته إياها السماء ، وأن يسلم نتيجة المعركة في يد الله . AA 657.2

وفي اتضاع وحزن خرج داود من باب أورشليم - مطرودا من عرشه ومن قصره ، مطرودا بعيدا عن تابوت الله بسبب ثورة ابنه الذي أحبه . وقد تبع الشعب الملك في موكب طويل حزين كما لو كان موكب مأتم . وكان حرس الملك المكون من الجلادين والسعاة الست مئة رجل القادمين من جت بقيادة إتاي ، في معية الملك . ولكن داود ، الذي امتاز بعدم الأنانية ، لم يرض بأن يشاركه في محنته أولئك الغرباء الذي أتوا ليحتموا تحت ظله . وقد عبر لهم عن دهشته لكونهم مستعدين للقيام بهذه التضحية في سبيله . حيئنذ قال الملك لإيتاي الجتي : ( لماذا تذهب أنت أيضا معنا ؟ ارجع وأقم مع الملك لأنك غريب ومنفي أيضا من وطنك . أمسا جئت واليوم أتهيك بالذهاب معنا وأنا أنطلق إلى حيث أنطلق ؟ ارجع ورجع إخوتك . الرحمة والحق معك ) . AA 657.3

فأجابه إتاي قائلا : ( حي هو الرب وحي سيدي الملك ، إنه حيثما كان سيدي الملك ، إن كان للموت أو للحياة ، فهناك يكون عبدك أيضا ) . كان أولئك القوم قد اهتدوا من الوثنية إلى عبادة الرب ، وها هم الآن يبرهنون بكل نبل عن ولائهم لإلههم ومليكهم ، قبل داود بقلب شاكر تكريسهم أنفسهم لدعواه التي كان يبدو أنها خاسرة ، فعبروا جميعا وادي قدرون في طريقهم إلى البرية . AA 658.1

ومرة أخرى توقف الموكب حيث كان جماعة يلبسون الثياب المقدسة ، ويقتربون من الموكب ، ( وإذا بصادوق أيضا وجميع اللاويين معه يحملون تابوتب عهد الله ) نظر أتباع داود إلى التابوت على أنه فأل خير ، لأن وجود ذلك الرمز المقدس كان ضمانا لنجاتهم ونصرتهم النهائية ، فهو لا بد من أن يلهم الشعب شجاعة حتى يقفوا إلى جانب الملك . كما أن غيابه عن أورشليم سيملأ بالرعب قلوب أتباع أبشالوم . AA 658.2

وإذ أبصر داود التابوت امتلأ قلبه فرحا ورجاء إلى لحظة . ولكن سرعان ما خطرت له خواطر أخرى . إنه كلملك معين من الله على ميراثه كان تحت التزام مقدس . أما الذي كان يحتل أعظم وأسمى مكانة في تفكير ملك إسرائيل ، فلم يكن مصالحه الشخصية ، بل مجد الله وخير شعبه . إن الله الجالس بين الكروبيم قال عن أورشليم : ( هذه هي راحتي ) (مزمور 132 : 14) وبدون سلطان الله لم يكن لكاهن أو ملك الحق في نقل رمز حضور الله من هناك . وعرف داود أن قلبه وحياته ينبغي أن يكونا في توافق وانسجام مع وصايا الله ، وإلا فالتابوت سيكون سبب كارثة له بدلا من أن يكون سبب نجاح وانتصار . لقد كانت خطية داود العظيمة أمامه دائما ، فرأى في هذه المؤامرة دينونة الله العادلة ، حيث استل السيف الذي لن يفارق بيته إلى الأبد . لم يكن يعرف شيئا عن نتيجة ذلك الصراع . ولم يكن له أن ينقل من عاصمة الأمة الشريعة المقدسة ، التي تضمنت إرادة مليكهم الإلهى ، والتي كانت دستور المملكة وأساس نجاحها وازدهارها . AA 658.3

ولذلك أمر صادوق قائلا : ( أرجع تابوت الله إلى المدينة ، فإن وجدت نعمة في عيني الرب فإنه يجرعني ويريني إياه ومسكنه . وإن قال هكذا : إني لم أسر بك . فهأنذا ، فليفعل بي حسبما يحسن في عينيه ) . AA 658.4

ثم عاد داود يقول له : ( أأنت راء ؟ ) (رجل معين من الله لتعليم الشعب) ( فارجع إلى المدينة بسلام أنت وأخيمعص ابنك ويناثان بن أبياثار . ابناكما كلاهما معكما . انظورا . إني أتوانى في سهول البرية حتى تأتي كلمة منكم لتخبيري ) إذ في المدينة يستطيع ذانك الكاهنان أن يقدما له خدمة نافعة ، فإذ يعرفان تحركات الثوار ونواياهم يوصلانها إلى الملك سرا بواسطة ابنيهما أخيمعص ويوناثان . AA 659.1

وإذ عاد الكاهنان بالتابوت إلى أورشليم خيمت سحابة حزن أشد سوادا على قلوب أفراد تلك الجماعة ، لقد كان ملكهم هاربا وكانوا هم مطرودين ومتروكين حتى من تابوت الرب وكان المستقبل مظلما أمامهم بالرعب والتشاؤم ، ( وأما داود فصعد في مصعد جبل الزيتون . كان يصعد باكيا ورأسه مغطى ويمشي حافيا ، وجميع الشعب الذين معه غطوا كل واحد رأسه ، وكانوا يصعدون وهم يبكون . وأخبر داود وقيل له : « إن أخيتوفل بين الفاتنين مع أبشالوم ») ومرة أخرى اضطر داود أن يدرك اأن الكوارث التي حلت به إن هي إلا نتائج خطيته . إن ارتداد أخيتوفل الذي كان أقدر المشيرين السياسين وأعظمهم دهاء ، وكان الدافع إليه هو الانتقام للعار الذي لحق عائلته بسبب ظلمه لبثشبع التي كانت حفيدته . AA 659.2

( حمق يا رب مشورة أخيتوفل ) وإذ وصل الملك إلى قمة الجبل سجد لله مصليا وطارحا عليه أثقال نفسه ، وبكل تواضع توسل اإلى الله في طلب الرحمة . فبدا وكأن صلاته قد أجيبت في الحال ، لأن حوشاي الأركي الذي كان مشيرا مقتدرا وحكيما ، والذي برهن على أنه الصديق الأمين لدواد ، جاءه الآن ممزق الثوب والتراب على رأسه ، ليجعل نصيبه مع الملك الهارب المخلوع عن عرشه . وقد رأى داود الآن كما بإرشاد إلهي أن هذا الرجل الأمين الصادق المستقيم القلب ، هو الرجل المطلوب لخدمة مصالح الملك في مجالس الشورى في العاصمة . وحسب طلب داود عاد حوشاي إلى أورشليم ليقدم خدمته لأبشالوم وليحفظ مشورة أخيتوفل الماكرة . AA 659.3

وعلى وميض هذا النور الذي لمع فجأة في ذلك الظلام ، تقدم الملك ورجاله في طريقهم ، ونزلوا من منحدر جبل الزيتون الشرقي ، مخترقين صحراء صخرية موحشة وأودية وعرة وطرقات سحيقة مجرة نحو الأردن . ( ولما جاء الملك داود إلى بحوريم إذا برجل خارج من هناك من عشيرة بيت شاول ، اسمه شمعي بن جيرا ، يسب وهو يخرج ، ويرشق بالحجارة داود وجميع عبيد الملك داود وجميع الشعب وجميع الجبابرة عن يمينه وعن يساره . وهكذا شمعي يقول في سبه : « اخرج ! اخرج يا رجل الدماء ورجل بليعال ! قد رد الرب عليك كل دماء بيت شاول الذي ملكت عوضا عنه ، وقد دفع الرب المملكة ليد أبشالوم ابنك ، وها أنت واقع بشرك لأنك رجل دماء ») . AA 659.4

حين كان داود في النجاح والقوة ، لم يبد من أقوال شمعي أو أعماله ما يدل على عدم ولائه للملك ، ولكن حين أصابت الملك هذه المحنة ، ظهر هذا الرجل البنياميني على حقيقته . لقد أكرم داود وهو متربع على عرشه ولكنه علنه وهو في حال الاتضاع . فإذ كان ذلك الرجل سافلا وأنانيا رأى جميع الناس وكأنهم متصفون بنفس صفاته. وإذ ألهمه شيطانه جعل يصب جامات حقده على ذاك الذي أدبه الله . إن تلك الروح التي تقود الإنسان لأن يفرح وينتصر على من هو في ضيقه ، أو يسبه ، أو يزعجه ويضايقه إنما هي روح الشطيان . AA 660.1

إن تلك الاتهامات التي وجهها شمعي إلى داود كانت كلها مكذوبة - وكانت افتراء خسيسا على غير أساس . إن داود لم يكن مجرما في حق شاول أو بيته . حين وقع شاول تحت سلطانه ، وكان في قدرة يده أن يقتله ، فكل ما عمله أنه قطع طرق جبته ، بل لقد لازم نفسه حتى لكونه أظهر عدم الاحترام هذا نحو مسيح الرب . AA 660.2

لقد قدم داود أدلة مدهشة على تقديره المقدس للحياة الإنسانية حتى حين كان هو نفسه مطاردا كما تطارد الوحوش . وفي أحد الأيام وهو مختبئ في مغادرة عدلام ، إذ عاد بأفكاره إلى حريته في أيام صباه ، تلك الحرية التي لم يكن يعكر صفوها أي اضطراب أو انزعاج ، تأوه ذلك الهارب قائلا : ( من يسقيني ماء من بئر بيت لحم التي عند الباب ؟ ) وكانت بيت لحم في أيدي الفلسطينيين في ذلك الحين ، ولكن ثلاثة من أبطال داود شقوا لأنفسهم طريقا في وسط الحراس وأحضروا لسيدهم الماء من بيت لحم . إلا أن داود لم يرد أن يشربه بل قال :) حاشا لي يا رب أن أفعل ذلك ! هذا دم الرجال الذين خاطروا بأنفسهم ) بل بكل وقار سكبه تقدمه للرب . لقد كان داود رجل حرب ، وقضى جانبا كبيرا من حياته بين مشاهد القسوة والعنف ولكن بين كل من قد مروا بمحنة كهذه ، قليلون هم الذين تأثروا هكذا قليلا ، مثلما تأثر داود ، بتأثيراتها التي تقسي القلب وتثبط العزيمة. AA 660.3

إن أبيشاي ابن أخت داود الذي كان من أشجع ضباطه ، لم يطق صبرا على أقوام شمعي المهينة فصاح قائلا : ( لماذا يسب هذا الكلب الميت سيدي الملك ؟ دعني أعبر فأقطع رأسه ) ولكن الملك منعه قائلا : ( هوذا ابني ... يطلب نفسي ، فكم بالحري الآن بنياميني ؟ دعوه يسب لأن الرب قال له . لعل الرب ينظر إلى مذلتي ويكافئني الرب خيرا عوض مسبته بهذا اليوم ) . AA 660.4

لقد كان ضمير داود ينطق في داخله بحقائق مرة ومذلة . وحين كان رعاياه الأمناء مستغربين تلك الظروف المعاكسة التي كان يمر فيها ، فإن الحقيقة لم تكن خافية على الملك ، الذي كثيرا ما كان يتشاءم من مفاجأة مثل تلك الساعة له . بل لقد كان منهدشا من طول احتمال الله إياه وصبره عليه مع كثرة خطاياه ، وتأجليه إيقاع القصاص الذي كان يستحقه داود إلى ذلك اليوم ، والآن وهو يهرب ذلك الهرب السريع المحزن ، وهو حافي القدمين ، وقد طرح عنه ثيابه الملكية ولبس المسوح ، وصدى مراثي أتباعه يتردد في جوانب التلال ، وكان يفكر في عاصمته المحبوبة -المكان الذي كان مسرحا لخطيته - وعندما تذكر صلاح الله وطول أناته لم يكن بلا رجاء كليا ، بل قد أحس أن الرب سيظل يعامله بالرحمة . AA 661.1

إن كثيرين من فاعلي الشر يعتذرون عن خطيتهم إذ يشيرون إلى سقطة داود . ولكن ما أقل أولئك الذين يتوبون كما تاب داود ويتذللون كما تذلل ، وما أقل ما يحتملون التوبيخ والقصاص بصبر كصبره وجلد كجلده ! لقد اعترف بخطيته ، ولسنين اجتهد في القيام بواجبه كعبد أمين لله . لقد تعب لكي يقيم مملكته ويثبتها ، وفي زمن حكمه حصلت على قوة ونجاح عظيمين لم تحصل عليهما من قبل . كما أنه اختزن مواد كثيرة لبناء بيت الله . والآن فهل سينهار ويتلاشى عمله مدى الحياة ؟ وهل توجب على نتائج تلك السنين ، سني الكد المكرس ، وعمل العبقرية والتكريس والإرادة ، أن يوضع بين يدي ابنه الطائش الغادر ، الذي لم يقم وزنا لكرامة الله أو نحاج إسرائيل ؟ كم كان من الطبيعي أن يتذمر داود على الله وهو رازاح تحت هذه البلوى العظيمة الساحقة ! AA 661.2

إلا أنه رأى أن خطيته هي علة كل متابعه . إن كلمات ميخا النبي تنطق بالروح التي ألهمت روح داود أن يقول : ( إذا جلست في الظملة فالرب نور لي . أحتمل غضب الرب لأني أخطأت إليه ، حتى يقيم دعواي ويجري حقي ) (ميخا 7 : 8 ، 9) ولم يترك الرب داود . إذ هذا الفصل في اختباره حين برهن على وداعته وعدم أنانيته ، وكرم نفسه ، وخضوعه تحت أقسى المظالم والإهانات ، وهو من أنبل الاختبارات مدى حياته . إن ملك إسرائيل لم يكن قط عظيما في نظر السماء كما كان في هذه الساعة التي كان فيها في أعمق حالات الهوان كما كان ظاهرا للعيان . AA 661.3

لو سمح الله لداود أن يعيش في خطيته بدون توبيخ ، وأن يظل جالسا على عرشه متمتعا بالسلام والنجاح وهو يتعدى وصايا الله لكان للمشككين والملحدين بعض العذر في اعتبار تاريخ داود عارا على ديانة الكتاب المقدس . ولكن في ذلك الاختبار الذي سمح الرب أن يمر فيه داود يرينا الرب أنه لا يستيطع أن يتساهل مع الخطية أو يعذر مرتكبيها . كما أن تاريخ داود يجعلنا نرى الغايات العظيمة التي جعلها الله في معاملاته للخطية ، وهو يقدرنا كذلك على أن نتتبع مقاصد رحمته وإحسانه حتى في أقسى الأحكام وأشدها حلوكة . لقد سمح الرب بأن يمر داود تحت العصا ولكنه لم يهلكه . كما أن آتون النار يطهر ولكنه لا يهلك . يقول الله : ( إن نقضوا فرائضي ولم يحفظوا وصاياي ، أفتقد بعصا معصيتهم ، وبضربات إثمهم . أما رحمتي فلا أنزعها عنه ، ولا أكذب من جهة أمانتي ) (مزمور 89 : 31 — 33) . AA 662.1

حالما ترك داود أورشليم دخلها أبشالوم بجشيه ، وبدون حرب أمتلك حصن إسرائيل . وقد كان حوشاي بين الأوائل الذين رحبوا بالملك المتوج حديثا ، فاندهش الأمير وابتهج بمجيء صديق أبيه ومشيره . وكان أبشالوم واثقا من النجاح ، حيث أفلح في كل خططه حتى ذلك الحين . وإذ كان يتوق إلى توطيد دعائم عرشه والظفر بثقة الأمة رحب بمجيء حوشاي إلى بلاطه . AA 662.2

كان أبشالوم الآن محاطا بجيش عظيم ، ولكن غالبة رجاله لم يكونوا مدربين على القتال ، كما عرف أخيتوفل جيدا أن موقف داود لم يكن ميؤوسا منه على الإطلاق ، ذلك أن جزءا كبيرا من الأمة كانوا لا يزالون على ولائهم له . كما أنه كان محاطا بمحاربين مدربين أمناء لمليكهم ، وكذلك كان على رأس جيشه قواد مقتدرون ومحنكون ، وعرف أخيتوفل أنه بعدما تنتهي ثورة الحماسة في صالح الملك الجديد لا بد أن يكون هنالك رد فعل . فلو فشلت الثورة فقد يستيطع أبشالوم أن يصطلح مع أبيه ، وحينئذ فإن أخيتوفل مشيره الأعظم سيعتبر أعظم الناس جرما في تلك الثورة وستحل به أقصى عقوبة . ولكي يحول بين أبشالوم وبين التراجع ، أشار عليه أخيتوفل أن يقدم على عمل جعل الصلح بينه وبين أبيه امرا مستحيلا في نظر الأمة كلها . فبمكر جهنمي ألح ذلك السياسي المحتال الفاسد المبادئ على أبشالوم أن يضيف إلى جريمة العصيان جريمة الزنا بالأقارب . وأمام عيون كل شعب إسرائيل ، كان سيستولى على سراري أبيه طبقا لعادات أمم الشرق معلنا بذلك أنه قد جلس على عرش أبيه ، فنفذ أبشالوم ذلك الاقتراح الخسيس . وهكذا تم كلام الله الذي حكم به ، وكلم به داود على لسان النبي حين قال : ( هأنذا أقيم عليك الشر من بيتك ، وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهن لقريبك ... لأنك أنت فعلت بالسر وأنا أفعل هذا الأمر قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس ) (2 صموئيل 12 : 11 ، 12) ولكن ليس معنى هذا أن الله هو المحرض على أعمال الشر هذه ، ولكن بسبب خطية داود لم يستخدم الرب قوته للحيلولة بين أبشالوم وارتكاب الفحشاء . AA 662.3

لقد احتل أخيتوفل مركزا مرموقا نظرا لحكمته ، ولكنه كان خاليا من الاستنارة التي مصدرها الله ( بدء الحكمة مخافة الرب ) (أمثال 9 : 10) وأخيتوفل هذا لم يكن حاصلا على هذه الحكمة ، وإلا لما كان يستيطع أن يبني نجاح المؤامرة على جريمة الزنا هذه . إن الناس ذوي القلوب الفاسدة يتآمرون بالشر كما لو لم تكن هنالك عناية الله المسيطرة لتحبط مقاصدهم . ولكن ( الساكن في السماوات يضحك . الرب يستهزء بهم ) (مزمور 2 : 4) والرب يعلن قائلا : ( لم يرضوا مشورتي . رذلوا كل توبيخي . فلذلك يأكلون من ثمر طريقهم ويشبعون من مؤامراتهم . لأن ارتداد الحمقى يقتلهم . وراحة الجهال تبيدهم ) (أمثال 1 : 10 — 32) . AA 663.1

وإذ أفلح أخيتوفل في المؤامرة التي ضمنت سلامته ، ألح على أبشالوم بضرورة العمل السريع للقضاء على داود فقال : ( دعني أنتخب اثني عشر ألف رجل وأقوم وأسعى وراء داود هذه الليلة فآتي عليه وهو متعب ومرتخي اليدين فأزعجه ، فيهرب كل الشعب الذي معه ، وأضرب الملك وحده ، وأرد جميع الشعب إليك ) . وقد أقر مشيرو الملك هذه الخطة ، فلو عملو بها لقتل داود بكل تأكيد إذا لم يتوسط الرب مباشرة لإنقاذه . غير أن حكمة أخرى أسمى وأعظم من حكمة أخيتوفل الذائع الصيت كانت توجه الأحداث ( فإن الرب أمر بإبطال مشورة أخيتوفل الصالحة ، لكي ينزل الرب الشر بأبشالوم ) . AA 663.2

لم يكن حوشاي قد دعي إلى ذلك المجلس ولم يرد هو أن يتطفل عليهم بدون دعوة لئلا تحوم حوله لشكوك ويعتبر جاسوسا . ولكن بعد انفضاض الجلسة ، إذا بأبشالوم الذي كان يقدر حكم مشير أبيه تقديرا عظيما ، يفضي إلى حوشاي يتفاصيل خطة أخيتوفل ، فعرف حوشاي أنه لو نفذ ذلك الاقتراح فلا بد من هلاك داود ، فقال : ( ليست حسنة المشورة التي أشار بها أخيتوفل هذه المرة ) ثم قال : ( أنت تعلم أباك ورجاله أنهم جبابرة ، وأن أنفسهم مرة كدبة مثكل في الحقل . وأبوك رجل قتال ولا يبيت مع الشعب . ها هو الآن مختبء في إحدى الحفر أو أحد الأماكن ) ثم قال إنه إذا طاردت قوات أبشالوم داود فلن يمسكوا الملك . ولو خاب مسعاهم فإن ذلك يثبط عزائمهم ويلحق بدعوى أبشالوم ضررا بالغا . ثم قال : ( لأن جميع إسرائيل يعلمون أن أباك جبار والذي معه ذوو بأس ) ثم اقترح عليه خطة ترحب بها الطبيعة المختالة المحبة لنفيها التي تحب مظاهر القوى والسلطان وترضى غرورها فقال : ( لذلك أشير بأن يجتمع إليك كل إسرائيل من دان إلى بئر سبع ، كالرمل الذي على البحر في الكثرة ، وحضرتك سائر في الوسط . ونأتي إليه إلى أحد الأماكن حيث هو ، وننزل عليه نزول الطل على الأرض ، ولا يبقى منه و لا من جميع الرجال الذين معه واحد . وإذا انحاز إلى مدينة ، يحمل جميع إسرائيل إلى تلك المدينة حبالا ، فنجرها إلى الوادي حتى لا تبقى هناك ولا حصاة ) . AA 663.3

( فقال أبشالوم وكل رجال إسرائيل : إن مشورة حوشاي الأركي أحسن من مشورة أخيتوفل ) ومن كان هنالك رجل لا يمكن التغرير به - رجل سبق فرأى جليا نتيجة خطأ أبشالوم المميت . لقد عرف أخيتوفل أن العصاة قد خسروا دعواهم : كما عرف أنه مهما يكن المصير الذي ينتظر الأمير فإنه لا رجاء للمشير الذي حرضه على ارتكاب أفظع الجرائم . لقد شجع أخيتوفل أبشالوم في ثورته ، وأشار عليه بارتكاب شر الرجاسات ، الأمر الذي جلب العار على أبيه ، كما أشار عليه بقتل داود ودبر الخطة لذلك ، ولقد قضى على آخر أمل في إمكان مصالحته مع الملك . والآن فها أبشالوم نفسه يفضل عليه رجلا آخر . وإذ استولى عليه الحسد والغضب واليأس )انظلق إلى بيته إلى مدينته ، وأوصى لبيته ، وخنق نفسه ومات ) هذه كانت نتيجة حكمة ذلك الإنسان الذي مع كل مواهبه السامية لم يجعل الله مشيرا له . إن الشيطان يخدع الناس بوعود خلابة ، ولكن كل نفس ستجد في النهاية أن أجرة الخطية هي موت (رومية 6 : 23) . AA 664.1

أما حوشاي فإذ لم يكن موقنا بأن الملك المتقلب الرأي (أبشالوم) سيعمل بمشوراته ، لم يضع الوقت ، بل أرسل يندر داود أن يعبر الأردن ويهرب لحياته بدون ِإبطاء . كما أنه أرسل رسالة إلى الكاهنين لكي يرسلاها إلى داود بواسطة ابنيهما وكانت الرسالة تقول : ( كذا وكذا أشار أخيتوفل على أبشالوم وعلى شيوخ إسرائيل ، وكذا وكذا أشرت أنا . فالآن ... لا تبت هذه الليلة في سهول البرية ، بل اعبر لئلا يبتلع الملك وجميع الشعب الذي معه ) . AA 664.2

وقد اشتبه في الشابين حاملي الرسالة وطوردا ، إلا أنهما أفلحا في إنجاز مأموريتهما الخطرة . وإذ كان داود مجهدا وحزينا بعدما قضى اليوم الأول في الهرب ، قبل الرسالة التي تستعجله في عبور الأردن تلك الليلة لأن ابنه يطلب نفسه . AA 665.1

يا ترى ، ماذا كانت المشاعر التي جاشت في قلب ذلك الملك الأب الذي عومل بمنتهى القسوة والظلم هو مهدد بالخطر الرهيب ؟ ( جبار بأس ) رجل حرب ، وملك كانت كلمته قانونا ، يسلمه ابنه الذي أحبه وتغاضى عنه ووثق به بدون حكمة ، وقد ظلمته وهجرته أمته التي كانت مرتبطة به بأوثق ربط الإكرام والولاء - فبأي كلمات سكب داود مشاعر نفسه ؟! وفي ساعة أقسى تجربة حلت بداود كان قلبه مستندا على الله فرنم قائلا : ( يا رب ، ما أكثر مضايقي ! كثيرون قائمون علي . كثيرون يقولون لنفسي : ليس له خلاص بإلهه . أما أنت يا رب فترس لي . مجدي ورافع رأسي . بصوتي إلى الرب أصرخ ، فيجيبني من جبل قدسه . أنا اضطجعت ونمت . استيقظت لأن الرب يعضدني . لا أخاف من بوات الشعوب المصطفين علي من حولي . للرب الخلاص على شعبك بركتك ) (مزمور 3 : 1 -8) . AA 665.2

عبر داود النهر العميق السريع الجريان ومعه رجال الحرب والسياسية ، والشيب والشباب والنساء والأطفال في دجى الليل ، ( وعند ضوء الصباح لم يبق أحد لم يعبر الأردن ) . AA 665.3

ارتد داود وجيشه إلى محنايم التي كانت عاصمة مملكة إيشبوشث من قبل . وكانت تلك المدينة محصنة تحصينا قويا إذ كانت محاطة بإقيلم جبلي يصلح لأن يكون ملجأ وملاذا في حالة الحرب . وكانت تلك البقعة غنية بالمؤونة والمأكل ، وكان شعبها مواليا لداود . وفي هذا المكان انضم إلى داود كثيرون من أتباعه ، كما أحضر كثيرون من رجال الأسباط الأثرياء أطعمة فاخرة وكثيرة ، وكثيرا من اللوازم الأخرى . AA 665.4

وقد أتمت مشورة حوشاي غرضها إذ أعطت لداود فرصة للهرب ، ولكن الأمير الطائش المندفع لم يمكن إيقافه طويلا ، بل سرعان ما خرج ليطارد أباه ( وعبر وعبر أبشالوم الأردن هو وجميع رجال إسرائيل معه ) . وقد جعل أبشالوم عماسا بن أبيجايل أخت داود رئيسا على جيشه ، وكان جيشه عظيما إلا أنه لم يكن مدربا التدريب الكافي وكان مستعدا استعدادا ضعيفا لمنازلة جنود أبيه المدربين . AA 665.5

قسم داود جيشه إلى ثلاث كتائب تحت قيادة يوآب وأبيشداي وإتاي الجتي ، وكان يريد أن يقود الجيش بنفسه في ساحة القتال ، ولكن قواد الجيش والمشيرين والشعب اعترضوا على ذلك قائلين بكل حماسة : ( لا تخرج ، أننا إذا هربنا لا يبالون بنا ، وإذا مات نصفنا لا يبالون بنا . والآن أنت كعشرة آلاف منا . والآن الأصلح أن تكون لنا نجدة من المدينة . فقال لهم الملك : ما يحس في أعينكم أفعله ) . AA 666.1

ومن فوق أسوار المدينة كانت ترى صفوف جيوش الثوار الطويلة بكل وضوح . إن ذلك المغتصب كان معه جيش عظيم بينما جيش داود بالنسبة إليهم لم يكن أكثر من حفنة من الرجال . ولكن حين نظر الملك إلى الجيش المعادي فإن الفكر الذي ملأ عقله لم يكن التاج أو المملكة ولا حتى حياته هو التي تتوقف على نتيجة الحرب ، ولكن قلب ذلك الأب كان مفعماً بالحب والإشفاق على ابنه المتمرد العاصي . وإذ كان الجيش يخرج صفوفاً من أبواب المدينة ، جعل داود يشجع جنوده الأمناء موصيا إياهم بأن يخرجوا واثقين بأن إله إسرائيل سينصرهم . ولكن حتى في ذلك الحين لم يستطع إخفاء محبته لأبشالوم . حيث عندما كان يوآب خارجاً على رأس الكتيبة الأولى مارا بمليكه ، ذلك الرجل الذي انتصر في أكثر من مائة معركة أحنى رأسه المتكبر ليسمع آخر رسالة من الملك الذي قال بصوت مرتعش من فرط التأثر : ( ترفقوا لي بالفتى أبشالوم ) ولكن جزع الملك الذي جعل الجيش وقواده يعتقدون أن داود يعلن بهذا الكلام أن أبشالوم أغلى ، في نظره ، من المملكة ، وأغلى حتى من رعاياه الأمناء لعرشه ، هذا زاد من غضب الجنود على ذلك الابن غير الطبيعي . AA 666.2

جرت المعركة في غابة قرب الأردن حيث لم تكن كثرة جيش أبشالوم لصالحه ، ففي وسط أدغال الغابة ومستنقعاتها أصاب تلك الفرق غير المدربة الارتباك ولم يمكن السيطرة عليهم ( فانكسر هناك شعب إسرائيل أمام عبيد داود ، وكانت هناك مقتلة عظيمة في ذلك اليوم . قتل عشرون ألفاُ ) فإذ رأى أبشالوم أنه خسر المعركة استدار ليهرب ولكن رأسه أمسك في أغصان شجرة امتدت هنا وهناك ، والبغل الذي كان يمتطيه أبشالوم مر من تحته ، وترك معلقاً بلا نصير ، فريسة لأعدائه ، فوجده أجد الجنود على هذه الحالة ، ولكنه أبقى عليه خشية أن يسخط عليه الملك إن أوقع به أي أذى ، ولكنه أخبر يوآب بما قد رآه . أما أن يسخط عليه الملك إن أوقع به أي أذى ، ولكنه أخبر يوآب بما قد رآه . أما يوآب فلم يكن يردعه أي مبدأ أو ضمير . لقد سبق له أن كان صديقاً لأبشالوم إذ أصلح بينه وبين أبيه مرتين ، ولكنه خان الأمانة بقحة ، ولولا المزايا التي حصل عليها أبشالوم بواسطة تشفع يوآب لما حدثت تلك الثورة بكل أهوالها . والآن فها قج صار في قدرة يوآب أن يقضي على المحرض على كل هذا الشر بضربة واحدة ( فأخذ ثلاثة سهام بيده ونشبها في قلب أبشالوم ... وأخذوا أبشالوم وطرحوه في الوعر في الجب العظيم ، وأقاموا عليه رجمة عظيمة حداً من الحجارة ) . AA 666.3

وهكذا هلك المحرضان على الثورة في إسرائيل ، أخيتوفل الذي مات إذ خنق نفسه ، والأمير أبشالوم الذي كان جماله موضع فخر إسرائيل ، قد قطع في عنفوان شبابه ، وطرحت جثته في جب ، وغطتها رجمة عظيمة من الحجارة ، دليلاً على العار الأبدي . إن أبشالوم وهو بعد حب كان قد أقام لنفسه نصباً عظيماً في وادي الملك ، ولكن التذكار الوحيد الذي دل على قبره ، كان رجمة الحجارة في البرية . AA 667.1

لما مات قائد العصيان ضرب يوآب بالبوق ليوقف الجيش عن ملاحقة الجنود الهاربين . ثم أرسل في الحال رسل ليحملوا الأخبار إلى الملك . AA 667.2

وإذ نظر الرقيب الواقف على سور المدينة إلى ناحية ساحة القتال رأى رجلا يجري وحده ، وسرعان ما رأى رجلا آخر . وإذ اقترب أول الرجلين قال الرقيب للملك الذي كان منتظراً بجزار الباب : ( إني أرى جري الأول كجري أخيمعص بن صادوق (. فقال الملك : هذا رجل صالح ويأتي ببشارة صالحة. فنادى أخيمعش وقال للملك : «السلام» . وسجد للملك على وجهه إلى الأرض . وقال :) مبارك الرب إلهك الذي دفع القوم الذين رفعوا أيديهم على سيدي الملك) فلما سأله الملك قائلاً : ( أسلام للفتى أبشالوم ؟ (أجابه أخيمعش جوابا دل على المراوغة . AA 667.3

ثم أقبل الرسول الثاني يصيح قائلاً : ( ليبشر سيدي الملك ، لأن الرب قد انتقم لك اليوم من جميع القائمين عليك( ومرة أخرى نطقت شفتا الأب بذلك السؤال الذي ملك عليه كل حواسه قائلاً ( أسلام للفتى أبشالوم ؟ ( فإذ لم يكن ذلك الرسول يستطيع إخفاء تلك الأخبار المحزنة قال للملك : )ليكن كالفتى أعداء سيدي الملك وجميع الذين قاموا عليك للشر(. وقد كان هذا الكلام كافياً ، فلم يسأل داود سؤالاً آخر ، ولكنه وهو خافض الرأس ) وصعد إلى علية الباب وكان يبكي ويقول وهو يتمشى : با ابني أبشالوم ، يا ابني ، يا ابني أبشالوم ! يا ليتني مت عوضاً عنك ! يا أبشالوم ابني ، با ابني (! AA 667.4

وإذ عاد الجيش المنتصر من ساحة القتال ، اقترب من المدينة وكانت التلال تردد صدى هتافات انتصارهم . ولكن حالما دخلوا من باب المدينة انقطع هتافهم ، ونكسوا أعلامهم في أيديهم ، وتقدموا إلى الأمام بنظرات ذليلة ، وكانوا أشبه بالقوم المنهزمين منهم بالمنتصرين . لأن الملك لم ينتظر ليرحب بهم ، ولكن من العلية التي فوق الباب كان يسمع صوت صراخه وعويله وهو يقول ( يا ابني أبشالوم ، با ابني ، با ابني أبشالوم ! يا ليتني من عوضاً عنك ! يا أبشالوم ابني ، با ابني ) ! AA 668.1

( فصارت الغلبة في ذلك اليوم مناحة عند جميع الشعب ، لأن الشعب سمعوا في ذلك اليوم من يقول إن الملك قد تأسف على ابنه . وتسلل الشعب في ذلك اليوم للدخول إلى المدينة كما يتسلل القوم الخجلون عندما يهربون في القتال ) . AA 668.2

فامتلأ يوآب غضباً . لقد أعطاهم الرب سببا للنصرة والفرح ، وما هو أكبر عصيان عرف في تاريخ إسرائيل قد سحق وقضي عليه ، ومع ذلك فقد استحالت تلك النصرة إلى نوح على ذاك الذي كلفتهم جريمته دماء آلاف من أشجع الرجال . فاندفع يوآب الفظ الشرس إلى حضرة الملك وبكل جرأة قال له : ( قد أخزيت اليوم وجوه جميع عبيدك ، منقذي نفسك اليوم وأنفس بنيك وبناتك ... بمحبتك لمبغضيك وبغضك لمحبيك ، لأنك أظهرت اليوم أنه ليس لك رؤساء ولا عبيد ، لأني علمت اليوم أنه لو كان أبشالوم حياً وكلنا اليوم مةتى ، لحسن حينئذ الأمر في عينيك . فالآن قم واخرج وطيب قلوب عبيدك ، لأني قد أقسمت بالرب إنه إن لم تخرج لا يبيت أحد معك هذه الليلة ، ويكون ذلك أشر عليك من كل شر أصابك منذ صباك إلى الآن ) . AA 668.3

ومع أن هذا التوبيخ كان جافا وقاسياً على الملك المنكسر القلب فإنه لم يحمل داود على الحقد ، وإذ رأى أن قائده كان على صواب خرج إلى الباب ، وحيا جنوده البواسل بكلمات التشجيع والمدح وهم يمرون أمامه . AA 668.4

* * * * *