الاباء والانبياء

73/75

الفصل الحادي والسبعون—خطية داود وتوبته

إن الكتاب المقدس لا يكثر القول في مدح الناس . وما أقل المجال الذي فيه يعدد فضائل الناس حتى ولو كانوا أفضل من أظلتهم السماء . لم يكن هذا الصمت بدون قصد ، ولا بدون درس نتعلمه ، إذ أن كل الصفات النبيلة التي يتحلى بها الناس هي هبة من الله ، فأعمالهم الصالحة تتم بنعمة الله بالمسيح ، وبما أنهم مدينون لله بالكل ، فمهما يكن لهم من مجد أو يفعلونه من مآثر إنما هو وقف على الله وحده . وما هم سوى آلات في يديه ، وأكثر من هذا - فكما تعلم كل دروس تاريخ الكتاب المقدس - إنه أمر خطر أن نمتدح أو نمجد البشر ، لأنه إذا وصل الإنسان إلى حالة يغيب فيها عن ناظريه اعتماده الكامل على الله ثم يثق بقوته الذاتية فلا بد من سقوطه . إن الإنسان يحارب أعداء أقوى منه ، ( مصارعتنا ليست مع دم ولحم ، بل مع الرؤساء ، مع السلاطين ، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر ، مع أجناد الشر الروحية في السماويات ) (أفسس 6 : 12) ومن المستحيل علينا ، بقوتنا الذاتية ، أن نتجلد في هذا النضال وننتصر . إن كل ما يحول العقل بعيدا عن الله ، وكل ما يسوق الإنسان إلى تمجيد نفسه او الاعتماد على قوته إنما يمهد الطريق لسقوطنا الأكيد . وإن فحوى ما جاء في كتاب الله هو أن يثبت في أذهاننا عدم الثقة بالقوة البشرية ، ويشجعنا على الاستناد على قدرة الله . AA 644.1

إن روح الثقة بالذات وتعظيم الذات هي التي مهدت الطريق لسقوط داود ، فالاطراء والغوايات الماكرة الخاصة بالقوة والترف لم تكن عديمة التأثير فيه . كما أن اختلاطه بالأمم المجاورة كان له تأثيره الشرير . طبقا للعادات التي كانت منتشرة بين ملوك الشرق آنذاك ، كان هناك اعتقاد أن الجرائم التي لا يمكن التغاضي عنها متى ارتكبها أحد الرعايا ، تلك الجرائم نفسها لو ارتكبها الملك لا يحاكم عليها . ولم يكن الملك تحت التزام أن يخضع للنواهي التي كان يخضع لها أحد أفرد الشعب . كل هذا قلل من شعور داود بشر الخطية وشناعتها . وبدلا من أن يتكل بوادعة على قدرة الرب ، بدأ يركن إلى حكمته وقوته . إن الشيطان حالما يفصل النفس عن الله نبع القوة الوحيد فهو سيعمل على إثارة الشهوات النجسة في طبيعة الإنسان الجسدانية ، إن عمل العدو ليس ارتجاليا ولا فجائيا ، فهو في بدئه ليس مفاجئا ، ولا مفزعا . إنه تقويض وتخريب سري خفي لحصون المبادئ . يبدأ بالأمور التي تبدو صغيرة كإهمال الأمانة لله ، وإهمال الاعتماد عليه اعتمادا كليا ، والميل إلى اتباع عادات العالم وأعماله . AA 644.2

قبلما انتهت الحرب مع بني عمون ترك داود قيادة الجيش ليوآب وجاء إلى أورشليم . كان الآراميون قد أخضعو لإسرائيل ، وبدأ هلاك العمونيين الكامل مؤكدا . كما كان داود محاطا بثمار انتصاراته وأمجاد حكمه القوي الحكيم . والآن وهو مستريح وغير محصن اغتنم المجرب هذه ليحتل عقله . إن حقيقة كون الله جعل داود في صلة وثيقة معه وأبدى نحوه رعاية خاصة وأحسن اإيه ، كان ينبغي أن تكون من أقوى البواعث لحفظ أخلاقه طاهرة غير ملوثة . ولكنه وهو يتمتع بالراحة والطمأنينة النفسية ترك الله وخضع للشيطان وجلب على نفسه لوثات الإثم . فذاك الذي أقامته السماء قائدا للأمة وكان مختارا من الله لتنفيذ شريعته داس هو نفسه بقديمه كرامة تلك الشريعة . ذاك الذي كان ينبغي أن يكون رعبا لفاعلي الشر شدد بعمله الشائن هذا أيدي الأشرار . AA 645.1

إن داود في وسط المخاطر التي واجهته في حياته الأولى إذ كان شاعرا باستقامة قلبه أمكنه أن يستودع قضيته ليد الله ، وقد قادته يد الرب فعبر بسلام في وسط الأشراك التي لا حصر لها التي نصبت لرجليه . أما الآن وهو مذنب وغير تائب فلم يطلب من السماء عونا ولا إرشادا ، بل حاول انتشال نفسه من المخاطر التي قد أوقعته فيها خطيته . إن بثشبع التي كان جمالها الفتان شركا للملك كانت زوجة لاوريا الحثي الذي كان من أشجع ضباط داود وأشدهم أمانة . وما كان لأحد أن يتنبأ بالنتائج فيما لو اكتشفت الجريمة . إن شرعية الله تحكم على الزاني بالقتل ، وذلك الظابط المنتفخ الروح والذي وقع عليه ذلك الظلم المشين وتلطخ عرضه بالعار ، بإمكانه أن يثأر لشرفه المثلوم ، بقتل الملك ، أو إهاجة الأمة لتثور عليه . AA 645.2

إن كل محاولة بذلها داود لستر خطيته باءت بالفشل . لقد أسلم نفسه لسلطان الشيطان وأحدقت به المخاطر ، وكان أمامه العار الذي هو أمر من الموت . ولم يعد أمامه غير طريق واحد للنجاة . وفي يأسه زج به في طريق الشر فأضاف إلى خطية الزنا خطية القتل . فذلك الذي أتم هلاك شاول كان يحاول أن يقود داود إلى الدمار . ومع أن التجارب كانت مختلفة إلا أنها كانت متشابهة ، في كونها أدت إلى تحدي شريعة الله . كان داود يحاج نفسه قائلا إنه إذا قتل أوريا في الحرب بسيف العدو في جريمة قتله لا يمكن أن تنسب إلى الملك . وستكون بثشع حرة لأن تكون زوجة لداود وستتحول الشكوك بعيدا عنه ، وحيئنذ تحفظ كرامة الملك . AA 645.3

جعل أوريا حامل الأمر بموته هو ، فلقد أرسل بيده خطاب من الملك إلى يوآب يأمره فيه قائلا : ( اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة ، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت ) (انظر 2 صموئيل 11 ، 12) إن يوآب الذي سبق أن لطخ يديه بجريمة قتل طائشة لم يتردد في إطاعة أمر الملك ، وهكذا سقط أوريا بسيف بني عمون . AA 646.1

إن تاريخ حياة داود كملك كان فيما مضى تاريخا عظيما بحيث لم يماثله فيه سوى ملوك قلائل ، فلقد قال الكتاب عنه إنه ( كان يجري قضاء وعدا لكل شعبه ) (2 صموئيل 8 : 15) إنه الاستقامته طفر بثقة الأمة وولائها . ولكنه عندما ترك الله وأسلم نفسه للشرير صار عميلا للشيطان إلى حين . ومع ذلك فقد ظل محتفظا بمركزه وسلطانه اللذين منحه الله إياهما ، وبسبب هذا تطلب طاعة تعرض للخطر نفس من يقدمها . وإذا بيوآب الذي قدم ولاءه للملك لا يتعدى شريعة الله لأن الملك أمره بذلك . AA 646.2

إن الله هو الذي كان قد أعطى السلطان لدواد ولكن ليستخدم فقط وفق شرعية الله . فعندما أمر بعمل ما هو مضاد لشريعة الله ، صارت إطاعة ذلك الأمر خطية ، ( السلاطين الكائنة هي مرتبة من الله ) (رومية 13 : 1) ولكنا يجب ألا نطيع السلاطين في ما يخالف شريعة الله . إن بولس الرسول إذ يكتب لأهل كورنثوس يقدم لنا المبدأ الذي ينبغي لنا السير بموجبه إذ يقول : ( كونوا متمثلين بي كما أنا أيضا بالمسيح ) (1 كورنثوس 11 : 1) . AA 646.3

أرسل إلى الملك تقرير عن تنفيذ أمره ولكنه كتب بكل حرص حتى لا يؤاخذ يوآب أو الملك ، وإن يوآب ( أوصى الرسول قائلا : عندما تفرغ من الكلام مع الملك عن جميع أمور الحرب ، فإن اشتعل غضب الملك ... فقل : قد مات عبدك أوريا الحثي أيضا . فذهب الرسول ودخل وأخبر داود بكل ما أرسله فيه يوآب ) . AA 646.4

فكان جواب الملك هكذا : ( هكذا تقول ليوآب : لا يسؤ في عينيك هذا الأمر ، لأن السيف يأكل هذا وذاك . شدد قتالك على المدينة وأخربها . وشدده ) . AA 646.5

ناحت بثشبع على رجلها بعدد أيام المناحة المعتادة . وفي نهاية تلك الأيام : ( أرسل داود وضمها إلى بتيه ، وصارت له امرأة ) إن ذاك الذي لم يسمح له ضميره الحساس وشعوره السامي بالشرف والكرامة ، وحتى مع وجود الخطر على حياته أن يمد يده إلى مسيح الرب ، هذا الإنسان سقط تلك السقطة الهائلة المشينة ، حتى أنه ظلم واحدا من أخلص جنوده وأشجعهم ، وقتله على أمل أن يتمتع بثمار خطيته دون أن يزعجه أحد . وأسفاه ! كيف اكدر الذهب وتغير الإبريز الجيد ! (مراثي 4 : 1) . AA 647.1

لقد صور الشيطان للناس من البدء المكاسب والمغانم التي يمكن أن تجنى عن طريق العصيان . هكذا خدع الملائكة وهكذا جرب آدم وحواء ليخطئا ، وهكذا هو يبعد جماهير غفيرة من الناس عن طريق الطاعة لله . إن طريق العصيان تبدو مقولبة ومرغوبا فيها ، ولكن ( عاقبتها طرق الموت ) (أمثال 14 : 12) طوبى لأولئك الذين بعدما خاطروا بأنفسهم وساروا في هذه الطريق يعرفون هول مرارة ثمار الخطية ويرجعون عنها في الوقت المناسب . إن الله في رحمته لم يترك داود ليغوى ويهلك هلاكا تاما بفعل أجرة الخطية الخادعة . AA 647.2

ثم إن الأمر كان يستدعى تداخل الله أيضا لأجل إسرائيل . وبمرور الوقت تسربت أخبار خطية داود ضد بثشبع وعلم الناس بها . وقد صارت شكوك الشعب في أنه ربما يكون الملك هو الذي تسبب في قتل أوريا . لقد أهين الله وهو الذين أحسن إلى داود ورفعه ، ولكن خطية داود أساءت تمثيل صفات الله وألحقت باسمه العار ، بل لقد خفضت من مقياس التعدي في إسرائيل ، وقللت في كثير من العقول كراهية الخطية ، كما أن أولئك الذين لم يكونوا يحبون الله ، ولا يتقونه ، ازدادت بها جرأتهم في ارتكاب المعاصي . AA 647.3

وقد أمر الرب ناثان النبي أن يحمل رسالة توبيخ إلى داود . وكانت رسالة مرعبة في قسوتها . قليلون هم الملوك الذين كان يمكن مخاطبتهم بمثل رسالة التوبيخ تلك ، بدون أن تكلف مقدمها حياته . و لقد نطق ناثان برسالة الله بدون خوف أو وجل ، ولكن بحكمة سماوية لكي يسترعي عطف الملك ويوقظ ضميره ويستخرج من بين شفيته حكم الموت على نفسه . وقد رفع قضيته أمام داود كالشخص الذي أقامه الله حفيظا على حقوق شعبه . ردد النبي على مسامع الملك قصة وقع فيها على أحد الناس ظلم وعسف اقتضى الإنصاف . AA 647.4

قال النبي : ( كان رجلان في مدينة واحدة ، واحد منهما غني والآخر فقير . وكان للغني غنم وبقير كثيرة جدا . وأما الفقير لم يكن له شيئا إلا نعجة واحدة ضغيرة قد اقتناها ورباها وكبرت معه ومع بنيه جميعا . تأكل من لقمته وتشرب من كأسه وتنام في حضنه ، واكن له كابنة . فجاء ضيف إلى الرجل الغني ، فعفا أن يأخذ من غنمة ومن بقره ليهيء للضيف الذي جاء إليه ، فأخذ نعجة الرجل الفقير وهيأ للرجل الذي جاء إليه ) . AA 648.1

ثار غضب داود وصاح قائلا : ( حي هو الرب ، إنه يقتل الرجل الفاعل ذلك ، ويرد النعجة أربعة أضعاف لأنه فعل هذا الأمر ولأنه لم يشفق ) . AA 648.2

فثبت ناثان عينيه محدقا بهما في الملك وإذ رفع يمناه إلى السماء قال له برصالة : ( أنت هو الرجل ! ) ثم عاد يقول له : ( لماذا احتقرت كلام الرب لتعمل الشر في عينيه ؟ ) قد يحاول المذنب إخفاء جريمته عن عيون الناس كما قد فعل داود ، وقد يحاولون دفن شرهم بعيدا عن عيون الناس وعلمهم إلى الأبد ، ولكن ( كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا ) (عبرانيين 4 : 13) ( لأن ليس مكتوم لن يستعلن ، ولا خفي لن يعرف ) (متى 10 : 26) . AA 648.3

قال ناثان للملك : ( هكذا قال الرب إله إسرائيل : أنا مسحتك ملكا على إسرائيل وأنقذتك من يد شاول ... لماذا احتقرت كلام الرب لتعمل الشر في عينيه ؟ قد قتلت أوريا الحثي بالسيف ، وأخذت امرأته لك امرأة ، وإياه قتلت بسيف بني عمون . والآن لا يفارق السيف بيتك إلى الأبد ... هأنذا أقيم عليك الشر من بيتك ، وآخذ نسائك أمام عينيط وأعطيهم لقريبك ... لأنك أنت فعلت بالسر وأنا أفعل هذا الأمر قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس ) . AA 648.4

وقد مس توبيخ النبي قلب النبي داود فاستيقظ ضميره ، وظهرت جريمته أمامه كما هي في شناعتها فانحنت نفسه في توبة وانحساق أمام الرب ، وبشفتين مرتعشتين من فرط التأثر قال : ( قد أخطأت إلى الرب ) إن كل ظلم يرتكبه أي إنسان ضد الآخرين يصل من المظلومين إلى الله . لقد ارتكب داود خطية هائلة في حق أوريا وفي حق بثشبع فأحس بكل هذا وتألم أشد الألم . ولكن خطيته ضد الله كانت أعظم من ذلك بما لا يقاس . AA 648.5

ومع أنه لم يكن رجل واحد في إسرائيل ينفذ حكم الموت في مسيح الرب فقد ارتعب داود لئلا يقطع بالموت بقضاء الله السريع وهو مجرم وغير مغفور الإثم . ولكن الرب أرسل إليه رسالة على لسان النبي تقول : ( الرب أيضا قد نقل عنك خطيتك . لا تموت ( ومع ذلك فالعدل لا بد من أن يستوفي حقه إذ انتقل حكم الموت من داود إلى ابنه الذي كان ثمرة إثمه . وهكذا أعطيت للملك فرصة للتوبة بينما كانت آلام ذلك الطفل وموته كجزء من قصاصه أقسى عليه من موته هو . فلقد قال له النبي : ( غير أنه من أجل أنك قد جعلت بهذا الأمر أعداء الرب يشمتون ، فالابن المولود لك يموت (. AA 648.6

عندما ضرب ابن داود توسل إلى الله طالبا شفاءه بالصوم والتذلل العميق . لقد خلع عنه ثيابه الملكية وألقى عنه تاجه وكان يضطجع على الأرض ليلة بعد أخرى في حزن وانسحاق قلب متشفعا في ذلك الطفل البريء المتألم لأجل ذنب أبيه ، ( فقام شيوخ بيته عليه ليقيموه عن الأرض فلم يشأ ) . مرارا كثيرة حين كان يقضي على أشخاص أو مدن بأحكم إلهية كان التذلل والتوبة يرفعان عنهم الضربات ، وكان الإله الدائم الرحمة السريع في الغفران يرسل رسل السلام ، وإذ تشجع داود بهذا الفكر واظب على تقديم توسلاته وابتهالاته ما بقي الطفل على قيد الحياة . وعندما علم بموته خضع لحكم الله بكل هدوء . لقد وقعت أول ضربة من ضربات الدينونة التي اعترف هو نفسه بأنها عادلة . ولكنه إذ كان واثقا برحمة الله لم يكن بلا عزاء . AA 649.1

إن كثيرين جدا ممن قرأوا قصة سقوط داود سألوا هذا السؤال : لماذا أشهرت هذه القصة على الناس ، لماذا رأى الله أنه من المناسب أن يكشف للعالم عن تلك النقطة السوداء في حياة ذاك الذس أكرمته السماء هذا الإكرام العظيم ؟ إن النبي في توبيخه لدواد أعلن عن خطيته قائلا : ( أنك قد جعلت بهذا الأمر أعداء الرب يشمتون ) . فعلى مدى الأجيال المتعاقبة كان الملحدون يشيرون إلى أخلاق داود وعليها تلك اللطخات السوداء ويقولون في سخرية وانتصار : ( هذا هو الرجل الذي حسب قلب الله ) وهكذا وقع التعيير على الذين ، وشمت الناس بالله وبكلامه ، وتقست النفوس في عدم إيمانها ، وكثيرون وهم ملتحفون برداء التقوى صاروا أكثر جرأة في ارتكاب الخطية . AA 649.2

ولكن تاريخ داود لا يشجع أحدا على ارتكاب الخطية . إه حين كان سائرا حسب مشورة الله إنما قال الله عنه أن رجل حسب قلبه . فلما أخطأ لم يعد هذا الوصف يصدق عليه ، حتى رجع إلى الرب تائبا . ثم أعلنت كلمة الله بكل وضوح قائلة : ( وأما الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الرب ) كما قال الرب لداود على لسان النبي : ( لماذا احتقرت كلام الرب لتعمل الشر في عينيه ؟ ... والآن لا يفارق السيف بيتك إلى الأبد ، لأنك احتقرتني ) . إن داود مع كونه قد تارب عن خطيته وغفر له الله، وقلبه ، فقد حصد حصادا وبيلا لذلك البذار الذي قد زرعه . إن أحكام الله عليه وعلى بيته تبين كراهية الله للخطية . AA 649.3

لقد كانت عناية الله قبل ذلك تحفظ داود من كل مؤامرات أعدائه ، واستخدمها لله في ردع شاول عن إيذاء داود . ولكن عصيان داود غير علاقة الله به . فالله لا يمكنه بأي حال أن يبيح الإثم ، فلم يعد يمكنه استخدام قوته في وقاية داود من نتائج خطيته ، كما قد حفظه من عداوة شاول . AA 650.1

لقد حصل تبدل عظيم في داود نفسه . إن شعوره بخطيته وبنتائجها البعيدة المدى جعله مسنحق الروح ، وقد أحس بأنه قد أذل في نظر رعاياه وضعف تأثيره . كان قبل ذلك يعزو نجاحه إلى سلامة طويته ، وطاعته لأوامر الله . أما الآن فبعدما عرف رعاياه ما عرفوا عن خطيته ، فقد صار يمكنهم أن يرتكبوا الخطية بأكثر حرية . ثم أن سلطته في بيته ، وحقه في الاحترام والطاعة من أبنائه قد ضعف شأنهما . إن شعوره بذنبه جعله يصمت في الوقت الذي كان يجب فيه عليه أن يدين الخطية ، إن هذا الشعور جعل ذراعه أعجز من أن تنفذ وتقر العدالة في بيته ، فأثر مثاله الشرير في بنيه ، ولم يتدخل الله ليمنع وقوع العواقب الرهيبة . لقد سمح للأمور أن تجري في مجراها الطبيعي وهكذا وقعت على داود تأديبات قاسية. AA 650.2

ظل داود سنة كاملة بعد سقطته عائشا في طمأنينة ظاهرية إذ لم توجد علامة خارجية على سخط الله عليه . ولكن قضاء الله كان معلقا فوق رأسه ، وكانت الدينونة قادمة سريعا وبكل تأكيد ، التي لم تقدر أن تمنعها توبة ، تلك الدينونة هي الحزن والعار اللذان سيكتنفان حياته الأرضية بالظلمة الداجية . إن أولئك الذين حين يشيرون إلى مثال داود محاولين التقليل من هول جرائمهم ، عليهم أن يعرفوا من تاريخ الكتاب أن طريق العصيان وعر ومخيف . ومع أنهم كداود يرجعون عن طريقهم الشرير فإن نتائج الخطية ستكون مريرة بحيث يصعب احتمالها حتى في هذه الحياة . AA 650.3

لقد قصد الله أن يكون تاريخ سقوط داود إنذارا ، لكي لا يحس حتى أولئك الذين قد أحسن إليهم وباركهم ، بالطمأنينة فيهملون السهر والصلاة . وهكذا برهن ذلك التاريخ على أن أولئك الذين بكل وداعة طلبوا أن يتعلموا هذا الدرس الذي قصد الله أن يتعلموه أنه كان درسا نافعا لهم . ومن جيل إلى جيل أدرك ألوف الناس هول خطرهم نظرا لقوة المجرب . إن سقوط داود الرجل الذي قد أكرمه الله أيقظ في داخلهم شعور عدم الثقة بالنفس أو الإركان إليها . لقد أيقنوا أن الله وحده يستطيع أن يحفظهم بقوته بالإيمان . وإذ عرفوا أن في الله وحده توجد قوتهم وسلامتهم صاروا يخشون أن يخطوا الخطوة الأولى في طريق الشيطان . AA 650.4

وحتى قبلما نطق الله بحكمه على داود بدا يحصد ثمار العصيان . فضميره لم يكن مستريحا . وفي المزمور الثاني والثلاثين يصور حزن روحه الذي كان يتألم منه قائلاً : ( طوبى للذي غفر إثمه وسترت خطيته . طوبى لرجل لا يحسب له الرب خطية ، ولا في روحه غش . لما سكت بليت عظامي من زفيري اليوم كله ، لأن يدك ثقلت علي نهارا وليلا . تحولت رطوبتي إلى يبوسة القيظ ) (مزمور 32 : 1 — 4) . AA 651.1

أما المزمور الحادي والخمسون فهو تعبير عن توبة داود لما جاءته رسالة التوبيخ من قبل الله : ( ارحمني يا الله حسب رحمتك . حسب كثرة رأفتك امح معاصي . اغسلني كثيرا من إثمي ، ومن خطيتي طهرني . لأني عارف بمعاصي ، وخطيتي أمامي دائما ... طهرني بالزوفا فأطهر . اغسلني فأبيض أكثر من الثلج . أسمعني سرورا وفرحا ، فتبتهج عظام سحقتها . استر وجهك عن خطاياي ، وامح كل آثامي . قلبا نقيا اخلق في يا الله ، وروحا مستقيما جدد في داخلي . لا تطرحني من قدام وجهك ، وروحك القدوس لا تنزعه مني . رد لي بهجة خلاصك ، وبروح منتدبة اعضدني . فاعلم الأثمة طرقك ، والخطاة إليك يرجعون . نجني من الدماء يا الله ، إله خلاصي ، فيسبح لساني برك ) (مزمور 51 : 1 — 14) . AA 651.2

وهكذ في أغنية مقدسة ، القصد منها التسبيح في محافل شعبة العامة - في محضر رجال البلاط والكهنة والقضاة والأمراء ورجال الحرب - والتي تحفظ ، إلى آخر الأجيال ، معرفة سقطته ، جعل ملك إسرائيل يذكر خطبته وتوبته ورجاءه في الغفران بواسطة رحمة الله . وبدلا من محاولة إخفاء إثمه أراد أن يتعلم الآخرون ويعتبروا من سقوطه . AA 651.3

كانت توبة داود قوية خالصة وعميقة . فهو لم يحاول التماس عذر عن جريمته ، وليس الذي أوحى إليه تلك الصلاة أي رغبة في اجتناب أحكام الرب التي كانت تتهدده ، ولكنه رأى هول معصيته ضد الله ، ورأى النجاسة التي تلوثت بها نفسه ، فاشمأز من خطيته . إنه لم يطلب في صلاته الغفران فقط بل طلب أيضا طهارة القلب . وداود لم يرض بالهزيمة ولا كف عن النضال يأسا من النصرة ، إذ رأى في مواعيد الله للخطاة التأديب برهانا على غفرانه لخطايا وقبوله إياه ( لأنك لا تسر بذبيحة وإلا فكنت أقدمها ، بمحرقة لا ترضى . ذبائح الله هي روح منكسرة . القلب المنكسر والمنحسق يا لله لا تحتقره ) (مزمور 51 : 16 ، 17) . AA 651.4

ومع أن داود سقط فقد رفعه الله ، وصار الآن في حالة أكثر وفاقا وانسجاما مع الله ، كما صار أكثر عطفا على بني جنسه مما كان قبل سقوطه . وفي غمرة فرحته بالتحرر تغنى قائلا : ( أعترف لك بخطيتي ولا أكتم إثمي . قلت : أعترف للرب بذنبي . وأنت رفعت آثام خطيتي ... أنت ستر لي . ومن الضيق تحفظني . بترنم النجاة تكتنفني ) (مزمور 32 : 5 — 7) . AA 652.1

كثيرون تذمروا على ما يدعونه ظلم الله في إبقائه على داود الذي كان ذنبه عظيما جدا بعد ما رفض شاول بسبب خطايا كانت كما بدا أقل فظاعة من خطايا داود بما لا يقاس كما يقولون . غير أن داود تذلل معترفا بخطيته وتائبا عنها . بينما شاول احتقر التوبيخ وقسى قلبه ولم يتب . AA 652.2

إن هذه الفترة من تاريخ سقوط داود مليئة بالمعاني للخاطئ التائب . إنها من أقوى الأمثلة الفعالة المؤثرة المعطاة لنا عن محاربات البشرية وتجاربها وعن التوبة الصادقة إلى الله والإيمان بالرب يسوع المسيح . وطيلة الأجيال برهن هذا التاريخ على أنه نبع لتشجيع الفنوس التي بعدما سقطت في الخطية باتت تكافح تحت أثقال ذنوبها . إن ألوفا من أولاد الله الذين سقطوا في الخطية إذ كانوا على حافة اليأس ، ذكروا كيف قبل الله توبة داود واعترافه بإخلاص ، ومع ذلك فقد تألم بسبب عصيانه ، فشجعوا هم أيضا على أن يتوبوا ويحاولوا من جديد أن يسيروا في طريق وصايا الله . AA 652.3

إن أي إنسان وهو واقع تحت توبيخات الله ، متى تذلل بالاعتراف والتوبة كما قد فعل داود ، يمكنه أن يتحقق من أن له رجاء . فكل من يقبل مواعيد الله بإيمان سيجد الغفران . إن الرب لن يطرح خارجا أي نفس تائبة توبة صادقة . لقد وعد قائلا : ( يتمسك بحصني فيصنع صلحا معي . صلحا يصنع معي ) (إشعياء 27 : 5) ( ليترك الشرير طريقه ، ورجل الإثم أفكاره ، وليتب إلى الرب فيرحمه ، إلى إلهنا لأنه يكثر الغفران ) (إشعياء 55 : 7) . AA 652.4

* * * * *