الاباء والانبياء

75/75

الفصل الثالث والسبعون— سنو حياة داود الأخيرة

إن سقوط أبشالوم لم يأت بالسلام إلى إسرائيل في الحال . ذلك أن قسماً كبيراً من الأمة اتحدوا في فتنة على أن داود ينبغي ألا يعود إلى عاصمته أو يسترد سلطانه بجون دعوة من الأسباط . وفي الارتباك الذي حدث عقب هزيمة أبشالوم لم يكن هنالك عمل سريع حاسم لإعادة الملك . ولما شرع رجال يهوذا أخيراً في إرجاع داود ثار حسد الأسباط الأخرى وتبعت ذلك ثورة مضادة . ولكن هذه الثورة سرعان ما قمعت فعاد السلام إلى إسرائيل . AA 669.1

إن تاريخ داود يقدم لنا شهادة من أعظم الشهادات المؤثرة وأقواها على المخاطر التي تهدد النفس عن طريق القوة والغنى والكرامة العالمية — الأشياء التي يشتهيها الناس من كل قلوبهم . وقليلون هم الذين جازوا في اختبارات أكثر ملاءمة مما حدث لداود ، لإعدادهم لمثل هذا الاختبار . إن حياة داود الأولى كراعي غنم بما فيها من دروس الوداعة والجد في العمل والصبر عليه ، ورعايته الرقيقة لقطعانه ، واشتراكه مع الطبيعة في عزلته بين التلال ، حيث نمت عبقريته في الموسيقى والشعر ، وتوجيه أفكاره إلى الخالق ، والتدريب الطويل لحياته في البرية وتدريب شجاعته وجلده وصبره وإيمانه بالله — كل هذا كان الرب قد عينها لإعداده للتربع على عرش إسرائيل . كان داود قد تمتع باختبارات ثمينة لمحبة الله ، كما وهبه الله روحه بغزارة . وفي تارخ شاول رأى تفاهة الحكمة البشرية المجردة وعدم جدواها ، ومع ذلك فإن النجاح والكرامة العالميين أضعفا أخلاق داود حتى غلبه المجرب مراراً . AA 669.2

ثم أن اختلاط داود بالشعوب الوثنية جعله يصبو إلى التشبه بهم في عاداتهم القومية ، وأضرم في قلبه طموحا إلى العظمة الدنيوية . إن إسرائيل ، كشعب الرب ، كان مؤهلاً للكرامة ، ولكن عندما تفشت فيهم الكبرياء والثقة بالنفس لم يقنع إسرائيل بهذه الكرامة والرفعة . بل كان اهتمامهم منصرفاً بالأحرى إلى مركزهم بين الشعوب الأخرى . هذه الروح دفعت التجربة إليهم . وداود إذ جعل نصب عينيه توسيع مدى فتوحاته بين الأمم الغريبة ، عول على زيادة جيشه بأن فرض الخدمة العسكرية على كل من قد وصلوا إلى السن القانونية . ولكي يحقق هذه الغاية صار من الضروري إحصاء السكان . إن الكبرياء والطموح هنا اللذان دفعا الملك إلى هذا العمل . وإحصاء الشعب هذا سيبين الفرق بين ضعف المملكة عندما اعتلى داود العرش وقوتها ونجاحها تحت سلطانه . وهذا كان لا بد من أن يعمل على زيادة نمو ما قد سبق فظهر في الملك والشعب من ثقة عظيمة بالنفس . والكتاب يقول : ( ووقف الشيطان ضد إسرائيل ، وأغوى داود ليحصي إسرائيل ) (انظر أخبار الأيام الأول 21) إن نجاح إسرائيل تحت حكم داود ، كان يعزى إلى بركة الله لا إلى مقدرة الملك ولا إلى قوة جيوشه . ومن زيادة الموارد الحربية في المملكة جعل الأمم المجاورة تعتقد أن إسرائيل يثق بجيوشه أكثر ما سثق بقدرة إلهه . AA 669.3

ومع أن شعب إسرائيل كانوا يفخرون بعظمتهم القومية فإنهم لم ينظروا بعين الرضى إلى خطة داود في تعميم الخدمة العسكرية إلى هذا الحد الكبير . إن ذلك الإحصاء المقترح أحدث كثيراً من التذمر ، ونتج عن ذلك أنه رؤي من الضروري استخدام الضباط العسكريين بدلا من الكهنة والقضاة الذين سبق لهم إحصاء الشعب . إن الغاية من هذا الإجراء كانت مناقضة مباشرة لمبادئ الحكومة التي يرأسها الله (الثيوقراطية) وحتى يوآب نفسه الذي كان قبلا رجلا مستهترا احتج قائلاً : ( ليزد الرب على شعبه أمثالهم مئة ضعف . أليسوا جميعا يا سيدي الملك عبيدا لسيدي ؟ لماذا يطلب هذا سيدي ؟ لماذا يكون سبب إثم إسرائيل ؟» فاشتد كلام الملك على يوآب . فخرج يوآب وطاف كل إسرائيل ثم جاء إلى أورشليم ( وقبل أن يتم الإحصاء تبكت داود على خطيته ، وإذ شعر بذنبه ( قال داود لله : لقد أخطأت جدا حيث عملت هذا الأمر . والآن أزل إثم عبدك لأني سفهت جداً ) وفي الصباح التالي جيء إلى داود برسالة على يد جاد النبي تقول : )هكذا قال الرب : ثلاثة أنا عارض عليك فاختر لنفسك واحداً منها فأفعله بك. فجاء إلى داود وقال له : هكذا قال الرب : اقبل لنفسك : إما ثلاث سنين جوع ، أو ثلاثة أشهر هلاك أمام مضايقيك وسيف أعدائك يدركك ، أو ثلاثة أيام يكون فيها سيف الرب ووبأ في الأرض ، وملاك الرب يعثو في كل تخوم إسرائيل . فانظر الآن ماذا أرد جوابا لمرسلي ) . AA 670.1

فكان جواب الملك هكذا : ( قد ضاق بي الأمر جداً . دعني أسقط في يد الرب لأن مراحمه كثيرة ، ولا أسقط في يد إنسان ( . AA 670.2

فضربت الأرض بالوبأ الذي أهلك من إسرائيل سبعين ألفا . ولم يكن الوبأ قد وصل إلى أورشليم بعد : ( ورفع داود عينيه فرأى ملاك الرب واقفا بين الأرض والسماء ، وسيفه مسلول بيده وممدود على أورشليم . فسقط داود والشيوخ على وجوههم مكتسين بالمسوح ) فتوسل الملك لأجل إسرائيل قائلاً : ( ألست أنا هو الذي أمر بإحصاء الشعب ؟ وأنا هو الذي أخطأ وأساء ، وأما هؤلاء الخراف فماذا عملوا ؟ فأيها الرب إلهي لتكن يدك عليّ وعلى بيت أبي لا على شعبك لضربهم ) . AA 671.1

إن عمل ذلك الإحصاء أحدث سخطا بين الشعب ، ومع ذلك فقد كانوا يحبون نفس الخطايا التي دفعت داود إلى ذلك العمل . وكما أن الرب بسبب خطية أبشالوم افتقد داود بالقصاص ، فكذلك بسبب خطايا داود عاقب إسرائيل على خطاياهم . AA 671.2

إن الملاك المهلك وقف خارج أورشليم إذ نزل على جبل المريا ( في بيدر أرنان اليبوسي ) فذهب داود بناء على إرشادات النبي إلى الجبل حيث بنى مذبحا للرب ( وأصعد محرقات وذبائح سلامة ، ودعا الرب فأجابه بنار من السماء على مذبح المحرقة ) (أخبار الأيام الأول 21 : 26) ( واستجاب الرب من أجل الأرض ، فكفّت الضربة عن إسرائيل ) (2 صموئيل 24 : 25) . AA 671.3

إن البقعة التي بنى عليها المذبح ، والتي منذ ذلك الوقت فصاعدا اعتبرت أرضاً مقدسة ، هذه البقعة عرضها أرنان على الملك كهبة ، ولكن الملك أبى قبولها على أنها هبة قائلاً : ( لا ! بل شراء أشتريه بفضة كاملة ، لأني لا آخذ ما لك للرب فأصعد محرقة مجانية . ودفع داود لأرنان عن المكان ذهبا وزنه ست مئة شاقل ) إن هذا المكان الذي فيه بنى إبراهيم المذبح ، ليقدم عليه ابنه ذبيحة ، والذي تقدس الآن بهذا الخلاص العظيم كان هو البقعة التي اختيرت فيما بعد مكانا للهيكل الذي بناه سليمان . AA 671.4

ولكن كان لا بد من أن تتجمع سحابة قاتمة أخرى في سماء حياة داود في سنيه الأخيرة ، حيث بلغ السبعين من العمر آنئذ . فالصعوبات التي لاقاها ، وتعرضه الدائم للخطر في بكور حياته ، وحروبه الكثيرة ، والهموم والضيقات التي اكتنفته فيما بعد — كل هذه امتصت عصارة حياته . ومع أن عقله ظل محتفظا بصفاته وقوته فإن ضعفه وشيخوخته إذ هما يميلان بالشخص إلى الاعتكاف ، قد حالا بينه وبين الإشراف على ما كان يجري في المملكة ، ومرة أخرى نسبت الثورة تحت ظل العرش ، كما ظهرت أيضا ثمار إفراط داود في حبه لأولاده . والذي كان يطمع في العرش في هذه المرة هو أدونيا الذي كان ( جميل الصورة جداً ) في شخصه وهيئته ، ولكنه كان طائشا وعادم المبادئ . ففي شبابه لم يكن يخضع إلا لقليل من الردع ، إذ ( لم يغضبه أبوه قط ، قائلاُ : لماذا فعلت هكذا ؟ ) (انظر 1 ملوك 1) وها هو الآن يتمرد على سلطان الله الذي كان قد انتخب سليمان ليجلس على العرش . إن سليمان بفضل مواهبه الطبيعية وتدينه كان أكثر لياقة من أخيه الأكبر لأن يكون ملكاً على إسرائيل . ومع كون اختيار الله قد أشير إليه بكل وضوح فإن أدونيا لم يعدم أنصاراً يؤيدونه . ويوآب ، مع أنه كان قد ارتكب جرائم كثيرة ، فقد كان قبل ذلك ثابتا على ولائه للجالس على العرش ، ولكنه الآن انضم إلى المتآمرين على سليمان مثلما فعل أيضا أبياثار الكاهن . AA 671.5

لقد نضج العصيان واكتمل ، حيث اجتمع المتآمرون حول وليمة عظيمة في مكان خارج المدينة لينادوا بأدونيا ملكا ، ولكنهم في ذلك الحين أوقفوا عند حدهم ، بواسطة عمل سريع حاسم ، قامت به جماعة قليلة على رأسهم صادوق الكاهن وناثان النبي وبثشبع أم سليمان ، الذين بسطوا المسألة على حقيقتها لدى الملك داود وذكروه باختيار الرب لسليمان ليجلس على العرش ، وفي الحال تنازل الملك عن العرش لسليمان الذي مسح في الحال ونودي به ملكاً . فسحقت المؤامرة في مهدها ، وجلب متزعموها على أنفسهم الموت ، وقد أبقي على حياة أبياثار إكراما لوظيفته وولائه السابق لداود ، ولكنه عزل عن وظيفته كرئيس للكهنة وأعطيت وظيفته لصادوق ونسله ، كما أبقى على حياة يوآب وأدونيا إلى حين ، ولكن بعد موت داود نفذ فيهما حكم الموت جزاء لهما على جريمتهما . هذا ، وإن تنفيذ حكم الموت في ابن داود أكمل الحكم بالأربعة أضعاف الذي برهن على كراهية الله لخطية الأب . AA 672.1

كان من أحب الخطط إلى قلب داود منذ بدء سني حكمه أن يقيم هيكلا للرب . ولكن مع أنه لم يسمح له يتنفيذ غرضه هذا فإن غيرته واهتمامه لم يفترا من هذه الناحية . فلقد جمع كثيراً من المواد الثمينة — كالذهب والفضة وحجارة الجزع وغيرها من الأحجار المختلفة الألوان ، والرخام وأغلى أنواع الخشب . والآن فكل هذه الكنوز الغالية التي قد جمعها ينبغي له أن يسلمها لقوم آخرين ، لأن أيادي أخرى ينبغي أن تبني بيتا يوضع فيه التابوت رمز حضور الله . AA 672.2

وإذ رأى الملك أن نهايته قد دنت استدعى رؤساء إسرائيل مع ممثلين من كل أنحاء المملكة ليتسلموا الميراث الموجود في عهدته . فرغب في أن يسلم إليهم وصية احتضاره ويحصل منهم على الموافقة وعلى المعونة في ذلك العمل العظيم الذي ينبغي إنجازه . ونظرا لضعف الملك الجسماني لم يكن من المتوقع أن يحضر عملية نقل المسؤولية تلك بنفسه . ولكن الوحي الإلهي نزل عليه ، وبقوة وحماسة فوق ما كان منتظرا منه ، استطاع أن يخاطب شعبه لآخر مرة . فأخبرهم بأنه كان يشتاق إلى بناء الهيكل ، إلا أن الرب قد أمر أن يضطلع ابنه سليمان بهذا العمل ، كما أكد الله قائلاً : ( إن سليمان ابنك هو يبني بيتي ودياري ، لأني اخترته لي ابنا ، وأنا أكون له أبا ، وأثبت مملكته إلى الأبد إذا تشدد للعمل حسب وصاياي وأحكامي كهذا اليوم ) ثم قال داود : ( والآن في أعين كل إسرائيل محفل الرب ، وفي سماع إلهنا ، احفظوا واطلبوا جميع وصايا الرب إلهكم لكي ترثوا الأرض الجيدة وتورثوها لأولادكم بعدكم إلى الأبد( (انظر أخبار الأيام الأول 28 ، 29) . AA 673.1

لقد تعلم داود بالختبار وعورة طريق من يبتعدون عن الله . وأحس بدينونة الشريعة الإلهية التي قد نقضها وتعداها ، فحصد ثمار المعصية ، وقد كانت نفسه متأثرة وكان يتوق لأن يرى قادة إسرائيل أمناء لله ، وأن يطيع ابنه سليمان شريعة الله ، معرضاً عن كل الخطايا التي قد أضعفت سلطان أبيه ومررت حياته وجلبت العار على اسم الله . وقد عرف داود أن الأمر يتطلب اتضاع القلب والثقة الدائمة بالله والسهر المتواصل للثبات أمام التجارب التي تكتنف ابنه سليمان في مركزه السامي ، لأن أمثاله من الرجال المشهورين ذوي المكانة الرفيعة هم الهدف الخاص الذي يصوب إليه الشيطان سهامه . ثم إذ اتجه إلى ابنه الذي سبق أن اعترف هو بأنه سيكون خليفته على العرش قال له : ( وأنت يا سليمان ابني ، اعرف إله أبيك واعبده بقلب كامل ونفس راغبة ، لأن الرب يفحص جميع القلوب ، ويفهم كل تصورات الأفكار . فإذا طللبته يوجد منك ، وإذا تركته يرفضك إلى الأبد . انظر الآن لأن الرب قد اختارك لتبني بيتا للمقدس ، فتشدد واعمل ) . AA 673.2

ثم أعطى داود لسليمان تعليمات دقيقة لبناء الهيكل مع نماذج وأمثلة لكل جزء ، وكل التعليمات الخاصة بالخدمة ، كما قد أعلن له بوحي إلهي . كان سليمان لا يزال غضا ، وقد تهيب مع تلك المسؤوليات الهائلة التي ستثقل عليه في بناء الهيكل وفي حكم شعب الله ، فقال داود لابنه : ( تشدد وتشدد واعمل . لا تخف ولا ترتعب ، لأن الرب الإله إلهي معك . لا يخذلك ولا يتركك ) . AA 673.3

وكذلك أوصي داود الشعب قائلاً : ( إن سليمان ابني الذي وحده اختاره الله ، إنما هو صغير وغض ، والعمل عظيم لأن الهيكل ليس لإنسان بل للرب الإله ) ثم قال : ( وأنا بكل قوتي هيأت لبيت إلهي ) . وجعل داود يعدد الأشياء التي جمعها ، وقال بعد ذلك : ( لأني قد سررت ببيت إلهي ، لي خاصة من ذهب وفضة قد دفعتها لبيت إلهي فوق جميع ما هيأته لبيت القدس : ثلاثة آلاف وزنة من ذهب أوفير ، وسبعة آلاف وزنة فضة مصفاة ، لأجل تغشية حيطان البيوت ) . ثم سأل جمهور المجتمعين الذين قد حضروا عطاياهم السخية ، قائلاً : ( فمن ينتدب اليوم لملء يده للرب ؟ ) . AA 674.1

وسرعان ما استجاب أولئك المجتمعون للنداء ( فانتدب رؤساء الآباء ورؤساء أسباط إسرائيل ورؤساء الألوف والمئات ورؤساء أشغال الملك ، وأعطوا لخدمة بيت الله خمسة آلاف وزنة وعشرة آلاف درهم من الذهب ، وعشرة آلاف وزنة من الفضة ، وثمانية عشر ألف من النحاس ، ومئة ألف وزنة من الحديد . ومن وجد عنده حجارة أعطاها لخزينة بيت الرب ... وفرح الشعب بانتدابهم ، لأنهم بقلب كامل انتدبوا للرب . وداود الملك أيضا فرح فرحا عظيما . AA 674.2

( وبارك داود الرب أمام كل الجماعة ، وقال داود : « مبارك أنت أيها الرب إله إسرائيل أبينا من الأزل وإلى الأبد . لك يا رب العظمة والجبروت والجلال والبهاء والمجد ، لأن لك كل ما في السماء والأرض . لك يا رب الملك ، وقد ارتفعت رأساً على الجميع . والغنى والكرامة من لدنك ، وأنت تتسلط على الجميع ، وبيدك القوة والجبروت ، وبيدك تعظيم وتشديد الجميع ، والآن ، يا إلهنا نحمدك ونسبح اسمك الجليل . ولكن من أنا ، ومن هو شعبي حتى نستطيع أن ننتدب هكذا ؟ لأن منك الجميع ومن يدك أعطيناك . لأننا نحن غرباء أمامك ، ونزلاء مثل كل آبائنا . أيامنا كالظل على الأرض وليس رجاء . أيها الرب إلهنا ، كل هذه الثروة التي هيأناها لنبني لك بيتا لاسم قدسك ، إنما هي من يدك ، ولك الكل . وقد علمت يا إلهي أنك أنت تمتحن القلوب وتسر بالاستقامة . ) أنا باستقامة قلبي انتدبت بكل هذه ، والآن شعبك الموجود هنا رأيته بفرح ينتدب لك . يا رب إله إبراهيم وإسحاق وإسرايل آبائنا ، احفظ هذه إلى الأبد في تصور أفكار قلوب شعبك ، وأعد قلوبهم نحوك . وأما سليمان ابني فأعطه قلبا كاملا ليحفظ وصاياك ، شهاداتك وفرائضك ، وليعمل الجميع ، وليبني الهيكل الذي هيأت له . ثم قال داود لكل الجماعة : «باركوا الرب إلهكم ». فبارك كل الجماعة الرب إله آبائهم ، وخروا وسجدوا ( . AA 674.3

إن الملك بكل اهتمام قد جمع المواد الغنية لبناء الهيكل وتزيينه ، ثم كتب التسابيح المجيدة التي سيرن صداها في جوانب الهيكل في السنين التالية . وها قلبه الآن يمتلئ فرحا بالله عندما استجاب رؤساء الآباء ورؤساء إسرائيل بكل نبل لدعوته وقدموا أنفسهم للعمل المهم الذي أمامهم . وإذ قدموا خدماتهم كانوا يتوقون إلى عمل ما هو أكثر ، فزادوا من تقدماتهم وقدموا أموالهم الخاصة لتوضع في الخزانة . ثم أحس داود إحساسا عميقا بعدم استحقاقه وهو جمع المواد لبيت الله . وإن تعبير رؤساء المملكة واستجابتهم السريعة ، حيث أنهم بقلوب منتدبة كرسوا أموالهم للرب وكرسوا أنفسهم لخدمته هذا ملأ قلب داود فرحا . ولكن الله وحده هو الذي منح هذا الميل لشعبه ، فينبغي أن يتمجد هو لا الإنسان . إنه هو الذي منح الشغب غنى الأرض ، وروحه هو الذي جعلهم ينتدبون ذخائرهم إلى الهيكل . لقد كان كل شيء من الرب ، فلولا أن محبته كانت ترف على قلوب الشعب لذهبت كل جهود الملك هباء وما كان الهيكل يبنى إطلاقا . AA 675.1

إن كل ما يتناوله الإنسان من غنى سخاء الله لم يزل ملكا لله . إن كل الأشياء الغالية والجميلة في الأرض الممنوحة من الله توضع بين أيدي الناس لاختبارهم — لامتحان عمق محبتهم له وتقديرهم لإحساناته . وسواء أكانت هذه الذخائر هي ذخائر الثروة أو الذكاء ، ينبغي أن توضع بكل رضى تقدمة عند قدمي يسوع . وعلى المعطي أن يقول حينئذ مع داود : ( منك الجميع ومن يدك أعطيناك ) . AA 675.2

وعندما أحس داود بالموت يدنو منه ، فإن العبء الذي أثقل قلبه كان لأجل سليمان ، ولأجل مملكة إسرائيل التي يتوقف نجاحها ومناعتها وازدهارها بالأكثر على ولاء الملك لله ، فقد ( أوصى سليمان ابنه قائلاً : أنا ذاهب في طريق الأرض كلها ، فتشدد وكن رجلا . احفظ شعائر الرب إلهك ، إذ تسير في طرقه ، وتحفظ فرائضه ، وصاياه وأحكامه وشهاداته ... لكي تفلح في كل ما تفعل وحيثما توجهت . لكي يقيم الرب كلامه الذي تكلم به عني قائلاً : إذا حفظ بنوك طريقهم وسلكوا أمامي بالأمانة من كل قلوبهم وكل أنفسهم ، قال لا يعدم لك رجل عن كرسي إسرائيل ) (1 ملوك 2 : 1 — 4) . AA 675.3

إن آخر أقوال كان أغنية — أغنية ثقة ذات مبدأ سام جدا وإيمان خالد : ( وحي داود بن يسى ، ووحي الرجل القائم في العلا ، مسيح إله يعقول ، ومرنم إسرائيل الحلو : روح الرب تكلم ... إذا تسلط على الناس بار يتسلك بخوف الله ، وكنور الصباح إذا أشرقت الشمس . كشعب من الأرض في صباح صحو مضيء غب المطر . أليس هكذا بيتي عند الله ؟ لأنه وضع لي عهدا أبديا متقنا في كل شيء ومحفوظا ، أفلا يثبت كل خلاصي وكل مسرتي ؟ ) (2 صموئيل 23 : 1 — 5) . AA 676.1

لئن كان سقوط داود عظيما فإن توبته كانت عميقة ومحبته ملتهبة وإيمانه قوياً . لقد غفر له كثير ولذلك فقد أحب كثيرا (لوقا 7 : 48) . AA 676.2

إن مزامير داود تتناول سلسلة الاختبارات كلها ، فمن أعماق الشعور بالخطية وحكم الإنسان على نفسه ، إلى ذروة الإيمان والشركة السامية مع الله . إن تاريخ حياته يعلن أن الخطية لا تجلب غير العار والويل . ولكنه يعلن أيضاً أن محبة الله يمكنها الوصول إلى أبعد الأعماق ، وأن الإيمان يرفع النفس التائبة إلى حيث تشارك أبناء الله في بنوتهم . ومن بين كل التأكيدات التي تشتمل عليها كلمة الله ، نجد أن تاريخ حياة داود هو من أقوى الشهادات على أمانة الله وعدالته ورحمته القائمة على عهده . AA 676.3

الإنسان ( يبرح كالظل ولا يقف ) ، ( وأما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد ) ، ( أما رحمة الرب فإلى الدهر والأبد على خائفيه ، وعدله على بني البنين ، لحافظي عهده وذاكري وصاياه ليعملوها ) (أيوب 14 : 2 ، إشعياء 40 : 8 ، مزمور 103 : 17 ، 18) . AA 676.4

( كل ما يعمله الله أنه يكون إلى الأبد ) (جامعة 3 : 14) . AA 676.5

ما أمجد المواعيد المقدمة لداود وبيته ، تلك المواعيد التي تتجه إلى الأمام إلى الأجيال الدهرية والتي تتم بكمالها في المسيح . فلقد أعلن الرب ( حلفت لداود عبدي : ... الذي تثبت يدي معه . أيضا ذراعي تشدده ... أما أمانتي ورحمتي فمعه ، وباسمي ينتصب قرنه . وأجعل على البحر يده ، وعلى الأنهار يمينه . هو يدعوني : أبي أنت ، إلهي وصخرة خلاصي . أنا أيضا أجعله بكرا ، أعلى من ملوك الأرض . إلى الدهر أحفظ له رحمتي . وعهدي يثبت له ) (مزمور 89 : 3 — 28) ( وأجعل إلى الأبد نسله ، وكرسيه مثل أيام السماوات ) (مزمور 89 : 29) ( يقضي لمساكين الشعب . يخلّص بني البائسين ، ويسحق الظالم . يخشونك ما دامت الشمس ، وقدام القمر إلى دور فدور ... يشرق في أيامه الصديق ، وكثيرة السلام إلى أن يضمحل القمر . ويملك من البحر إلى البحر ، ومن النهر إلى أقاضي الأرض ) . ( يكون اسمه إلى الدهر . قدام الشمس يمتد اسمه ، ويتباركون به . كل أمم الأرض يطوبونه ) (مزمور 72 : 4 — 8 ، 17) . AA 676.6

( لأنه يولد لنا ولد ونعطي ابنا ، وتكون الرياسة على كتفه ، ويدعى اسمه عجيبا ، مشيرا ، إلها قديرا ، أبا أبديا ، رئيس السلام ) ، ( هذا يكون عظيما ، وابن العلي يدعى ، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ، ولا يكون لملكه نهاية ) (إشعياء 9 : 6 ، لوقا 1 : 32 ، 33) . AA 677.1

* * * * *