الاباء والانبياء
الفصل الحادي والستون—رفض شاول
لقد أخفق شاول في احتمال امتحان الإيمان في الموقف الحرج في الجلجال ، فجلب العار على خدمة الرب . إلا أن أخطاءه لم تكن مما لا يمكن معالجته . ولذلك أعطاه الرب فرصة أخرى ليتعلم درس الإيمان غير المرتاب في كلمته والطاعة لأوامره . AA 563.1
فحين وبخه النبي في الجلجال لم يكن شاول يرى خطية عظيمة في المسلك الذي سار فيه بل أحس بأنه قــــد ظلم فحاول أن يزكي أعماله وقــدم أعذارا لتبرير خطيئته . ومنذ ذلك الحين لم يكن يلتقي بالنبي إلا في القليل النادر . لقد أحب صموئيل شاول كما لو كان ابنه ، ومن ذلك الوقت كان يتحاثسى مقابلته على قــــدر الإمكان . AA 563.2
غير أن الرب أرسل عبده برسالة أخرى إلى شاول ، إذ بطاعته لله يمكن أن يبرهن على ولائه له وأهليته لقيادة إسرائيــل ، فجاء صموئيل إلى الملك وأبلغه كلمة الرب . ولكي يدرك الملك أهمية مراعاة ذلك الأمر وإطاعته أعلن صموئيل بكل صراحة أنه يتكلم بناء على أمر الـلــه وبنفس السلطان الذي أتي بشاول إلى العرش . قـــال النبي ( هكذا يقول رب الجنود : إني قــــد افتقدت ما عمل عماليق بإسرائيل حين وقف له في الطريق عند صعوده من مصر . فالآن اذهب واضرب عماليق ، وحرموا كل كل ما له ولا تعف عنهم بل اقتل رجلا وامرأة ، طفلا ورضيعاً ، بقرا وغنماً ، جملاً وحمارا ) (انظر ذ صموئيل 15) إن العمالقة هم الذين كانوا قــــد بدأوا بالعدوان بإثارتهم الحرب على إسرائيــل في البرية . فلأجل هذا العدوان وبسبب تحديهم لــلـــــه ، ووثنيتهم المحطة نطق الرب بحكمه عليهم على لسان موسى . وبناء على أمر الـلــه سجل تاريخ قسوتهم هذه على إسرائيــل إذ أمر الرب قـائــلاً : )تمحو ذكر عماليق من تحت السماء . لا تنس ) (تثنية 25 : 19) وقــد أجل أمر تنفيذ هذا الحكم أربع مئة سنة ، ولكن العمالقة لم يتركوا خطاياهم . عرف الرب أن هذا الشعب الشرير يريد أن يمحو شعبه وعبادته من AA 563.3
الأرض إن كان ذلك ممكنا ، والآن فها قد حان الوقت لتنفيذ هذا الحكم الذي ظل مؤجلا مدة تلك السنين الطوال . AA 564
إن احتمال الـلــه وصبره الذى به يعامل الأشرار يجرئهم على الإمعان في العصيان ، ولكن قصاصهم سيكون مؤكدا وهائلاً ولو أنه تأجل طويلا ( لآنه كما في جبل فراصيم يقوم الـــرب ، وكما في الوطاء عند جبعون يسخط لتنقل فعله ، فعله الغريب ، وليعمل عمله ، عمله الغريب ) (إشعياء 28 : 21) . إن إلهنا الرحيم يعتبر فعل القصاص فعلا غريبا . ( حي آنا ، تقول السيد الـــرب ، إني لا أسر بموت الشرير ، بل بأن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا ) (حزقيال 33 : 11) . الرب ( رحيم ورؤوف ، بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء ... غافر الإثم والمعصية والخطية ) (خروج 34 : 6 ، 7) . إنه لئن كان لا يسر بالانتقام فلا بد من أن ينفذ حكم الدينونة في من يتعدون شريعته ، وهو مضطر لأن يفعل ذلك ليحفظ ساكني الأرض من الفساد والهلاك التام . ولكي يخلص البعض لا بد من أن يقطع أولـئــك الذين قــــد تقسوا في الخطية ، ( الـــرب بطيء الغضب وعظيم القدرة ، ولكنه لآ يتت يبرئ البتة ) (ناحوم 1 : 3) . )بمخاوف في العدل ) (مزمور 65 : 5) سيزكي الرب سلطان شريعته المدوسة تحث الأقدام . وأما حقيقة كونه يحجم عن تنفيذ عدالته فمما يشهد لهول الخطايا التي تستوجب وقوع أحكامه الرهيبة ، كما يشهد لقسوة القصاص الذي ينتظر العصاة . AA 564.1
ولكن الرب إذ يوقع الدينونة يذكر الرحمة ، فكان لا بد من إهلاك العمالقة ، أما القينيون الذين كانوا يسكنون بينهم فقد أبقى عليهم . هذا الشعب مع أنه لم يكن حرا تماما من عبادة الأوثان إلا أنهم كانوا عبيدا لله ، وكانوا أصدقاء لإسرائيل . كان حوباب صهر موسى الذى كان قــــد رافق شعب إسرائيــل في رحلاتهم في البرية ، الذي نظرا لخبرته بتلك الأماكن قــــدم لهم خدمات جليلة ، كان هذا الرجل من القينيين . AA 564.2
بعد هزيمة الفلسطينيين في مخماس أثار شاول الحرب على موآب وبني عمون وأدوم والعمالقة والفلسطينيين . وأينما اتجه برجاله كان يكسب انتصارات جديدة . وإذ أعطي تفويضا بمحاربة العمالقة أعلن الحرب في الحال ، وأضيف إلى سلطانه سلطان النبي . فلما استدعي رجال إسرائيل للحرب لبوا النداء وانضووا تحت لوائه . لم يكن القصد من تلك الحملة تعظيم الذات ، إذ لم يكن لإسرائيل أن يحصلوا على فخر الانتصار أو على غنائم أعدائهم . إنما كان AA 564.3
عليهم أن يشتركوا في هذه الحرب إطاعة لأمر الله فقط لتنفيذ دينونته في العمالقة ، فقصد الله أن ترى كل الشعوب هلاك ذلك الشعب الذي تحدى سلطانه ، وأن ترى تلك الشعوب أنه هلك بواسطة نــفـــس الشعب الذين احتقرهم . AA 565
( وضرب شاول عماليق من حويلة حتى مجيئك إلى شور التي مقابل مصر . وآمسك أجاج ملك عماليق حيا ، وحرم جميع الشعب بحد السيف . وغفا شاول والشعب عن أجاج وعن خيار الغنم والبقر والثنيان والخراف ، وعن كل الجيد ، ولم يرضوا أن يحرموها . وكل الأملاك المحتقرة والمهزولة حرموها ) . AA 565.1
إن هــذه النصرة على العمالقة كانت ألمع الانتصارات التي أحرزها شاول ، وهذه أضرمت في قلبه نار الكبرياء التي كان يكمن له فيها أعظم الخطر ، أما أمر الرب الذي قضى بهلاك أعدائه الله هلاكا شاملا فقد نفذه جزئيا ، إذ كان الملك يطمع في أن يزيد من شرف رجوعه الظافر بوجود ملك أسير في ركابه . كما أراد أن يتشبه بعادات الأمم المجاورة له ، فعفا عن أجاج ملك عماليق الشرس الجريء . واحتفظ الشعب لأنفسهم بخيار الغنم والبقر والحيوانات حاملات الأثقال . وقــد اعتذروا عن هذا العصيان بقولهم إنهم قــــد أبقوا على البقر والغنم لتقديمها ذبائح لله . مع أن غرضهم من ذلك كان استخدام هــذه المواشي بديلا عن مواشيهم التي أرادوا الاحتفاظ بها لأنفسهم . AA 565.2
وها هو شاول يواجه آخر امتحان . إن استخفافه المتصلف بإرادة الله الذي أوضح تصميمه على أن يحكم كملك مستقل قــــد برهن على أنه لا يمكن أن يؤتمن على السلطان الملكي كنائب عن الرب . فإذ كان الملك وجيشه عائدين إلى الوطن في فورة الانتصار ، وفي فرح عظيم ، كان يخيم على بيت صموئيل النبي حزن عميق . فلقد تلقى من الرب رسالة فضح فيها تصرف الملك إذ قـــال له : ( ندمت على أني قد جعلت شاول ملكا ، لأنه رجع من ورائي ولم يقم كلامي ) حزن النبي أعمق الحزن على تصرف الملك المتمرد وبكى وصلى طول الليل لعل الرب يلغي حكمه الرهيب . AA 565.3
إن ندامة الله لا تشبه ندامة الإنسان . ( نصيح إسرائيــل لآ يكذب ولآ يندم ، لآنه ليس إنسانا ليندم ) (1 صموئيل 15 : 11 ، 29) إن ندامة الإنسان تتضمن تغيير الفكرة أما ندامة الله فتتضمن تغيير الظروف والعلاقات . فالإنسان يمكنه أن يغير علاقته بالله بإذعانه للشروط التي بموجبها يحصل على رضى الرب ، كما يمكنه بعمله الشرير أن يبعد نفسه عن حالة الرضى الإلهي . ولكن الرب ( هو هو أمسا واليوم وإلى الأبد ) (عبرانيين 13 : 8) إن عصيان شاول غير علاقته بالـلــه ، ولكن شروط القبول لدى الـلــه لم تتبدل . إن مطاليب الـلــه كانت كما هي لأنه )ليس عنده تغيير ولآ ظل دوران ) (يعقوب 1 : 17) . AA 565.4
في صبيحة اليوم التالي انطلق النبي بقلب منسحق لملاقاة الملك المخطئ . وقــد كان صموئيل يأمل أن شاول إذ يفكر ويتأمل ، سيشعر بخطيته ، وأنه بتوبته وتذلــلـــــه قــــد يعود الرب للرضى عنه . غير أن الإنسان متى ابتدأ أولى خطواته في طريق العميان فذلك الطريق يمسي سهلا ممهدا . إن شاول الذي قــــد أفسده عصيانه أقدم على ملاقاة صموئيل بكذبة على لسانه ، إذ صاح قـائــلاً : ( مبارك أنت للرب . وقد أقمت كلام الرب ) . AA 567.1
غير أن الأصوات التي وقعت على أذني النبي كذبت كلام الملك العاصي . فعندما سأله النبي ذلك السؤال السديد قـائــلاً : ( وما هو صوت الغنم هذا في أذني ، وصوت البقر الذي أنا سامع ؟ ) أجابه شاول بقوله : ( من العمالقة ، قد أتوا بها ، لأن الشعب قد عفا عن خيار الغنم والبقر لأجل الذبح للرب إلهك . وأما الباقي فقد حرمناه ) لقد أطاع الشعب أوامر شاول . ولكنه كان على استعداد لأن يلقي تبعة خطيته وعصيانه على الشعب لكي يحمي نفسه . AA 567.2
إن رسالة رفض الـلــه لشاول جلبت على قلب صموئيل حزنا لا يعبر عنه . ومع ذلك كان لا بد للنبي أن يبلغها له على مسامع كل جيش إسرائيــل ، في حين كانوا ممتلئين من الفخر وبهجة الانتصار ، ذلك الانتصار الذي عزوه إلى شجاعة ملكهم وحسن قيادته ، لأن شاول لم يشرك الـلــه في نصرة إسرائيــل في هذه الحرب ، ولكن عندما رأى النبي البرهان على عصيان شاول اهتاج وثار غضبه لأن ذاك الذي قــــد أنعم الـلــه عليه بتلك الإنعامات السامية عصى أوامر السماء وجعل إسرائيــل يخطئ ، فلم ينخدع صموئيل بحيل الملك ومراوغاته ، بل بحزن ممتزج بالغضب أعلن له قـائــلاً : ( كف فأخبرك بما تكلّم به الرب إليّ هذه الليلة ... أليس إذ كنت صغيراً في عينيك صرت رأس أسبــاط إسرائيــل ) ثم أعاد على مسامعه أمر الرب الذي قــــد أصدره إليه خاصا بعماليق وطلب منه أن يخبره لماذا عصى ذلك الأمر الإلهي . AA 567.3
أصر شاول على تبرئة نفسه قـائــلاً : ( إني قــــد سمعت لصوت الـــرب وذهبت في الطريق التي أرسلني فيها الـــرب وأتيت بأجاج ملك عماليق وحرمت عماليق . فأخذ الشعب من الغنيمة غنما وبقرا ، أوائل الحرام لأجل الذبح للرب إلهك في الجلجال ) . AA 567.4
وبكلمات ثرية وخطيرة اكتسح النبي حصن الأكاذيب ذاك ونطق بالحكم الذي لا يرد قـائــلاً : ( هل مسرة الرب بالمحرقات والذبائح كما باستماع صوت الرب ؟ هوذا الاستماع أفضل من الذبيحة ، والإصغاء أفضل من شحم الكباش . لأن التمرد كخطية العرافة ، والعناد كالوثن والترافيم . لأنك رفضت كلام الرب رفضك من الملك ) . AA 568.1
فلما سمع الملك هذا الحكم المخيف صرخ قـائــلاً : ( أخطأت لأني تعديت قول الرب وكلامك ، لأني خفت من الشعب وسمعت لصوتهم ) إن شاول إذ ارتعب من تشهير النبي به اعترف بخطيته التي كان قــــد أصر على إنكارها ، ومع ذلك فقد أصر على إلقاء اللوم على الشعب معلنا أنه قــــد أخطأ خوفا منهم . AA 568.2
إن ما دفع ملك إسرائيــل إلى أن يتوسل إلى صموئيل قـائــلاً )فاغفر خطيتي وارجع معي فأسجد للرب ) لم يكن حزنه على الخطية بل خوفه من القصاص . ولو كان شاول قــــد تاب توبة صادقة لاعترف بخطيته علنا . ولكن همه الأول كان منصرفا إلى الإبقاء على سلطانه والاحتفاظ بولاء الشعب ، كما كان يرغب في أن يحظى بشرف وجود صموئيل معه ليقوى نفوذه على الأمة . AA 568.3
فأجابه النبي بقوله : ( لا أرجع معك لأنك رفضت كلام الرب ، فرفضك الرب من أن تكون ملكاً على إسرائيل ) ودار صموئيل ليمضي ، فإذ كان الملك في شدة الكرب والخوف أمسك بذيل جبة صموئيل ليمنعه من الذهاب فانمزق في يده ، ولهذا قال له النبي : ( يمزق الرب مملكه إسرائيل عنك اليوم ويعطيها لصاحبك الذي هو خير منك ) . AA 568.4
والآن صار شاول أكثر انزعاجا لنفور صموئيل منه أكثر من انزعاجه لسخط الـلــه عليه . لقد عرف أن الشعب يثقون بالنبي أكثر مما يثقون به هو . ولو أن شخصا آخر يمسح ملكا بأمر الـلــه فإنه يمسى ، كما شعر شاول ، من المستحيل عليه (شاول) أن يحتفظ بسلطانه ، كما كان يخشى من نشوب ثورة ضده في الحال لو تركه صموئيل نهائيا ، فتوسل شاول إلى النبي أن يكرمه أمام الشيوخ والشعب بالاشتراك العلني معه في خدمة دينية . وبناء على تعليمات إلهية أجاب صموئيل الملك إلى طلبه حتى لا يكون هنالك مجال لقيام ثورة . إلا أنه بقي هناك كشاهد صامت في الخدمة لس إلا . AA 568.5
وكان لا بد حينئذ من إجراء عمل رهيب من أعمال العدل ، إذ كان على صموئيل أن يزكي مجد الـلــه وكرامته ويوبخ شاول على تصرفه علانية فأمر بإحضار أجاج ملك عماليق إليه . وكان أجاج أكثر الناس إجراما وأبعدهم عن الرحمة دون كل من قد سقطوا بسيف إسرائيل . فكره شعب الـلــه وطلب إهلاكهم ، وكان له أكبر نفوذ في نشر عبادة الأوثان ، فأتى هذا الرجل امتثالا لأمر النبى متملقا نفسه بأن خطر الموت قد زال . ولكن صموئيل قال له : )كما أثكل أمك بين النساء . فقطع صموئيل أجاج أمام الرب ) ثم عاد صموئيل بعد ذلك إلى بيته في الرامة كما عاد شاول إلى بيته في جبعة . ولم يقابل النبي الملك بعدئذ غير مرة واحدة . AA 569.1
حين دعي شاول إلى العرش كان تقديره لإمكانياته متواضعا ، وكان راغبا في التعلم ، كما كانت تنقصه المعرفة والاختبار ، وفي خلقه نقائص خطيرة . غير أن الـلــه منحه الروح القدس كمرشد ومعين ، ووضعه في مركز يمكن فيه أن يقوي وينمي الصفات التي ينبغي توافرها في ملك إسرائيل . فلو بقي متواضعا طالبا باستمرار إرشاد الحكمة الإلهية لأمكنه أن يتمم واجبات مركزه العظيم بنجاح وكرامة . وكان يمكن ، تحت تـأثـيــر نعمة الـلــه ، أن كل صفة من الصفات الصالحة تزداد قوة ، وكانت الأميال الشريرة تتلاشى قوتها . هذا هو العمل الذي يقصد الرب أن يفعله لكل من يكرمون أنفسهم له . كثيرون هم الذين قد دعاهم الرب ليشغلوا وظائف في عمله ، لأن فيهم روحا متواضعة قابلة للتعلم . وهو في عنايته يضعهم في أماكن يمكنهم فيها أن يتعلموا منه ، حيث سيكشف لهم عن مواطن النقص في أخلاقهم ، وكل من يطلبون معونته يمنحهم قوة لإصلاح أخطائهم . AA 569.2
إلا أن شاول أصر على التشبث بعظمته ، وأهان الـلــه بعدم إيمانه وبعصيانه . ومع أنه عند دعوته إلى الملك كان متواضعا وغير واثق بنفسه فقد جعله النجاح واثقا بذاته . وأول انتصار أحرزه في حكمه أشعل في نفسه كبرياء القلب التي كانت أعظم المخاطر التي تعرض لها ، كما أن شدة البأس والمهارة الحربية التي ظهرت في تخليص يابيش جلعاد أثارا حماسة الأمة كلها . لقد أكرم الشعب ملكهم ، ناسين أنه لم يكن أكثر من وسيلة عميل الـلــه بواسطتها . ومع أن شاول نسب المجد لــلـــــه أولا فإنه بعد ذلك احتفظ بالمجد لنفسه . لقد غابت عن خاطره حقيقة اعتماده على الـلــه فارتد بقلبه عن الرب . وهكذا كان الطريق معبدا لخطيته ، خطية التصلف وانتهاك حرمة الأقداس في الجلجال . وإن نــفـــس ثقته العمياء بنفسه جعلته يرفض توبيخ صموئيل . وإذ اعترف شاول بأن صموئيل نبي مرسل من الـلــه ، وجب عليه حينئذ أن يذعن للتوبيخ وإن كان هو نفسه لم ير في عمله أي خطأ . فلو أنه كان راغبا في رؤية خطئه والاعتراف به لصار هذا الاختبار المر واقيا يحفظه في المستقبل . AA 569.3
لو كان الرب قد انفصل نهائيا عن شاول وقتئذ لما تحدث إليه مرة أخرى بواسطة نبيه حين وكل إليه القيام بعمل خاص لكي يصلح أخطاءه الماضية . فحين يصير واحد ممن يعترفون بأنهم أولاد الـلــه مهملا في عمل إرادته ، وبمثاله يجعل الآخرين عديمي الوقار وغافلين عن وصايا الـلــه ، فمن المستطاع أن تستحيل هزائمه إلى انتصارات إذا قبل التوبيخ بانسحاق قلبي صادق ورجع إلى الـلــه بتواضع وإيمان . إن مذلة الهزيمة تصير غالبا بركة متى أبانت لنا عجزنا عن عمل إرادة الرب بدون معونته . AA 570.1
إن شاول حين صم أذنيه عن سماع التوبيخ المرسل إليه بالروح القدس وأصر على تبرير نفسه في عناد شديد رفض الوسيلة الوحيدة التي كان الـلــه يستطيع بها أن ينقذه من نفسه . إنه بكل إصرار أبعد نفسه عن الـلــه . وما كان يستطيع أن يحصل على معونة الـلــه أو إرشاده ما لم يرجع إليه معترفا بخطيته . AA 570.2
وفي الجلجال تظاهر شاول بأنه رجل ذو ضمير حي إلى درجة عظيمة ، حين وثف أمام جيش إسرائيــل يقدم الذبيحة لــلـــــه . ولكن تقواه لم تكن حقيقية . إن تلك الخدمة الدينية المقدمة في مخالفة صريحة مباشرة لأمر الـلــه كان من نتائجهــا أنها أضعفت يدي شاول إذ أبعدته عن متناول المعونة التي كان الـلــه يرغب كل الرغبة في تقديمها له . AA 570.3
وفي الحملة التي جردها شاول على عماليق ظن أنه قــــد تمم كل ما هو جوهري في ما أمره الـلــه بعمله . ولكن الـلــه لم يرض بطاعة جزئية ولا أغضى عما قــــد أهمل لباعث مقبول حسب الظاهر . إن الـلــه لم يعط الناس الحرية للابتعاد عن مطالبيه . فلقد أعلن إسرائيــل قـائــلاً : ( لا تعملوا ... كل إنســـان مهما صلح في عينيه ) بل )احفظ واسمع جميع هذه الكلمات التي آنا أوصيك بها ) (تثنية 12 : 8 ، 28) ففي الحكم على أي عمل ينبغي ألا نسأل إن كان هنالك ضرر يأتي من إتيانه ، بل يجب أن نسأل هل هو يتمشى مع إرادة الـلــه أم لا . ( توجد طريق تظهر للإنسان مستيمة ، وعاقبتها طرق الموت ) (أمثال 14 : 12) . AA 570.4
( هوذا الاستماع أفضل من الذبيحة ) إن الذبائح الكفارية لم تكن في حد ذاتها ذات قيمة في نظر الـلــه ، بل كان القصد منها أن يعبر مقدمها عن توبته إلى الـلــه ، وإيمانه بالمسيح ، وأن يتعهد بإطاعة شريعة الـلــه في المستقبل ، إذ بدون التوبة والإيمان والطاعة القلبية كانت الذبائح عديمة الفائدة ولا قيمة لها . فحين اقترح شاول أن يقدم ذبيحة مما قد حرمه الـلــه ، متعديا بذلك أمر الرب تعديا مباشرا ، أهين سلطان الـلــه إهانة علنية ، وصار بالإمكان أن تكون تلك الخدمة إهانة للسماء . وحتى الآن ، مع كون خطية شاول ونتائجهــا ماثلة أمامنا ، فما أكثر من يتشبهون به ويسيرون في نــفـــس طريقه ، طريق العصيان ، حيث في أثناء رفضهم الإيمان والطاعة لبعض مطاليب الـلــه ، يواظبون على تقديم خدملت ديانتهم الطقسية لله . إن خدمة مثل هذه لا يمكن أن يستجيب لها روح الـلــه . ومهما يكن أولئك الناس غيورون في ممارسة طقوس الديانة ، فالرب لا يمكن أن يقبلها ما داموا مصرين على مخالفة أمر من أوامره . AA 571.1
)لتمرد كخطية العرافة ، والعناد كالوثن والترافيم ( . إن أول من تمرد هو الشيطان . وكل تمرد على الـلــه ينسب إلى الشيطان وتـأثـيــره مباشرة ، فمن يقاومون حكم الـلــه يكونون قد حالفوا رئيــس العصاة . وهو سيستخدم قوته ودهاءه ليأسر حواسهم ويضل عقولهم ، ويظهر كل شيء في نور كاذب . وكما كانت الحال مع أبوينا الأولين فإن كل من يقعون تحت رقى سحره ، لن يروا سوى المنافع العظيمة التي يتوهمون الحصول عليها عن طريق العصيان . AA 571.2
لا برهان يمكن إيراده على قوة الشيطان الخادعة أقوى من حقيقة كون الكثيرين ممن ينقادون إليه يخدعون أنفسهم باعتقادهم أنهم يخدمون الـلــه . إن قورح وداثان وأبيرام حين تمردوا على سلطان موسى كانوا يظنون أنهم إنما يقاومون مجرد قائد بشري ، إنسانا نظيرهم ، كما كانوا يعتقدون أنهم بالفعل يقدمون خدمة الـلــه . ولكنهم برفضهم خادم الرب المختــار إنما رفضوا المسيح وأهانوا روح الـلــه . كذلك في أيام المسيح فإن كتبة اليهود وشيوخهم ، الذين ادعوا أنهم يغارون على كرامة الـلــه غيرة عظيمة ، صلبوا ابنه . ونفس هذه الروح تربض في قلوب أولئك الذين يصرون على اتباع إرادتهم ضدآ لإرادة الـلــه . AA 571.3
كان لدى شاول أكبر برهان على أن صموئيل هو رجل الـلــه الملهم . فاجتراؤه على الاستخفاف بأوامر الرب التي أصدرها إليه بواسطة نبيه ، كان أمرا مضادا لما يمليه العقل والحكم السليم . إن تصلفه المميت لا بد من أن مصدره كان السحر الشيطاني . كان شارل قد أبدى غيرة عظيمة في القضاء على الوثنية والسحر ، ومع ذلك فبعصيانه أمر الـلــه كان مدفوعا بنفس روح المقاومة لله ، ومسوقا بروح الشيطان كمن يستخدمون السحر . وبعدما وبخ أضاف العناد إلى التمرد ، وما كان يمكنه أن يوقع على روح الـلــه إهانة أعظم من هذه حتى لو اشترك علنا في عبادة الأوثان . AA 571.4
إن الاستخفاف بتوبيخات وإنذارات كلمة الـلــه أو روحه هي خطوة خطرة جدا . كثيرون هم الذين كشاول يستسلمون للتجربة إلى أن تعمى عيونهم عن رؤية الصفة الحقيقية للخطية . إنهم يخدعون أنفسهم بالقول إن أمامهم غرضا صالحا ليحققوه ، وإنهم لم يخطئوا في الابتعاد عن مطاليب الرب . هكذا يزدرون روح النعمة حتى لا يعودون قادرين على الإصغاء لصوته ، فيتركون الضلالات التي قد اختاروها . AA 572.1
إن الـلــه حين أعطى شاول لإسرائيل ملكا أعطاهم الملك الذي حسب قلوبهم ، كما قال لهم صموئيل حين تثبت الملك الأول في الجلجال ، إذ قال : ( هوذا الملك الذي اخترتموه ، الذي طلبتموه ) (1 صموئيل 12 : 13) كان جميلا وطويل القامة فارع الطول ، له هيئة ملكية وكان منظره متفقا مع العظمة الملوكية . وكانت شجاعته ومهارته في قيادة الجيوش معتبرة في نظر الشعب أفضل سجايا تضمن للملك الاحترام والكرامة من الأمم الأخرى . ولم يكونوا جزعين لأن ملكهم كان مفتقرا إلى تلك الصفات الأسمى التي هي دون سواها تؤمله لأن يحكم بالعدل والإنصاف . لم يطلبوا ملكا متحليا بنبل الأخــلاق الصحيح ، وله في قلبه محبة الـلــه ومخافته . لم يطلبوا مشورة الـلــه لمعرفة الصفات التي ينبغي توافرها في الملك الذي يستطيع أن يجعل الشعب يظل شعبا مقدسا منفصلا عن الأشرار كشعبه المختــار . لم يطلبوا طريق الـلــه بل طريقهم . ولذلك أعطاهم الـلــه الملك الذي طلبوه - ذاك الذي كانت صفاته إنعكاسا لصفاتهم وشبيهة بها . لم تكن قلوبهم خاضعة لله ، وكذلك لم يكن ملكهم مخضعا بنعمة الـلــه . وتحت حكم هذا الملك سيحصلون على الاختبار اللازم لكي يروا خطأهم ويعودوا إلى ولائهم لله . AA 572.2
ومع ذلك فإن الرب إذ وضع مسؤولية المملكة على عاتق شاول لم يتركه لنفسه بل جعل الروح القدس يستقر على شاول ليعلن له ضعفه وحاجته إلى النعمة الإلهية ولو أن شاول اعتمد على الـلــه لكان قد لازمه . وطالما كانت إرادته خاضعة لإرادة الـلــه وطالما خضع لتدريبات روحه أمكن الـلــه أن يكلل مساعيه بالنجاح . ولكن لما اختار شاول العمل مستقلا عن الـلــه ، لم يعد الـلــه يرقــــده بل اضطر أن يعزله . وبعد ذلك دعا إلى العرش )رجلا حسب قلبه ) (1 صموئيل 13 : 14) - وليس معنى ذلك أنه كان بلا عيب ، بل كام رجلا بدلا من أن يعتمد على نفسه يعتمد على الـلــه ، وينقاد لروحه ، الذي حين كان يخطئ كان يخضع للتوبيخ والتأديب . AA 572.3
* * * * *