الاباء والانبياء
الفصل الثانى والستون —مسح داود
على مسافة أميال قليلة جنوبي أورشليم ( مدينة الملك العظيم ) توجد بيت لحم ، حيث ولد داود بن يسى ، ثبلما ولد فيها الطفل يسوع ، واضجع في المذود وسجد له المجوس القادمون من المشرق ، بأكثر من ألف سنة . فقبل تجسد المخلص بقرون كان داود ، وهو في ريعان الصبا ، يحرس قطعانه وهي ترعى على التلال المحيطة بيبت لحم ، وهناك تغنى ذلك الراعي البسيط بمزاميره التي كانث من تأليفه ، كما زادث أنغام العود من حلاوة صوته الصافي الفتي حين كان يضرب عليه ، فاختار الـلــه داود ، وأعده ، وهو في حياة العزلة مع قطعانه ، للعمل الذي قصد أن يضعه أمانة بين يديه في السنين التالية . AA 574.1
وفيما كان داود عائشا في خلوته في حياته المتواضعة ، حياة رعاية الغنم ، خاطب الرب النبي صموئيل عنه إذ يقول الكتاب : “حتى متى تنوح على شاول ، وأنا قد رفضته عن أن يملك على إسرائيل ؟ املأ قرنك دهنا وتعال أرسلك إلى يسّى البيتلحمي ، لأني قد رأيت لي في بنيه ملكاً ... خذ بيدك عجلة من البقر وقل : قد جئت لأذبح للرب . وادع يسّى إلى الذبيحة ، وأنا أعلّمك ماذا تصنع . وامسح لي الذي أقول لك عنه . ففعل صموئيل كما تكلم الرب وجاء إلى بيت لحم . فارتعد شيوخ المدينة عند استقباله وقالوا : أسلام مجيئك ؟ فقال : سلام (انظر 1 صموئيل 16) قبل شيوخ المدينة الدعوة إلى الذبيحة ، ودعا صموئيل يسى وبنيه أيضا فبني المذبح وأعدت الذبيحة . وكان كل أبناء يسى حاضرين ما خلا داود أصغر البنين الذي ترك لحراسة الغنم إذ لم يكونوا يأمنون أن تترك الغنم دون حراسة . AA 574.2
وبعد الانتهاء من تقديم الذبيحة قبل التقدم للتناول من وليمة التقدمة ابتدأ صموئيل عمله النبوي بفحص أبناء يسى ذوي المظهر النبيل . كان أليأب هو الابن الأكبر وكان أقرب إخوته شبها بشاول في طول قامته وجمال منظره فاسترعى انتباه النبي بجمال صورته وحسن شكله ، وإذ نظر صموئيل إلى نبل هيئته فكر قـائــلاً : ( هذا حقا هو الرجل الذي قــــد اختاره الرب ليخلف شاول ) وكان ينتظر مصادقـة الرب لكي يمسحه . ولكن الرب لم ينظر إلى العينين (المظهر الخارجي) . ذلك أن ألياب لم يكن يتقي الرب ، فلو دعي لاعتلاء العرش لأصبح ملكا عاتيا متجبرا ، فقال الرب لصموئيل : ( لآ تنظر إلى منظره وطول قامته لأني قد رفضته . لآنه ليس كما ينظر الإنسان . لأن الإنسان ينظر إلى العينين ، وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب ) . إن الجمال الخارجي لا يمكن أن يعطي النــفـــس حظوة لدى الـلــه . إنما الحكمة والتفوق الظاهران في الأخــلاق والتصرف يعبران عن جمال الإنسان الحقيقي ، وإن الاستحقاق الداخلي وتفوق القلب هما اللذان يقرران قبولنا أمام رب الجنود . فكم ينبغي أن نشعر بعمق هذا الحق في حكمنا على ذواتنا وعلى الآخرين . يمكننا أن نتعلم من خطأ صموئيل بطل التقدير الذي يستند إلى جمال الوجه أو عظمة القوام . ويمكننا أن نرى عجز الحكمة الإنسانية عن إدراك أسرار القلب أو فهم مشورات الـلــه ما لم يحصل الإنسان على نور خاص من السماء . إن أفكار الـلــه وطرقه في علاقته بخلائقه هى فوق إدراك عقولنا المحدودة . ولكن لنا أن ندرك أن أولاده سيملأون الفراغ المؤهلون لملئه ، وسيكونون قادرين على إتمام نــفـــس العمل المودع بين أيديهم إذا أخضعوا إرادتهم لله حتى لا يفسد تدابيره الصالحة فساد الإنسان. AA 574.3
عبر ألياب بعد أن فحصه صموئيل ، وتبعه على التوالي إخوته الست الباقون الذين كانوا حاضرين أثناء الخدمة ، ولكن بعدما فحصهم النبي لم يعلن الرب عن قبوله لأي واحد منهم . وفي قلق مؤلم نظر النبي إلى آخر واحد من أولـئــك الشبان وقــد بدت عليه الحيرة والارتباك . فسأل يسى قـائــلاً : ( هل كملوا الغلمـــان ؟ ) فأجابه الأب قـائــلاً : ( بقي بعد الصغير وهوذا يرعى الغنم ) فأمره النبي قـائــلاً : ( أرسل وأت به ، لآننا لا نجلس حتى يأتي إلى ههنا ) . AA 575.1
ذعر ذلك الراعي المنفرد من تلك الدعوة غير المنتظرة حين أعلن له الرسول أن النبي قــــد أتى إلى بيت لحم وأنه أرسل يستدعيه . فسأله باندهاش لماذا يرغب قاضي إسرائيــل ونبيه أن يراه ، ولكنه أطاح الدعوة بدون إبطاء . ( وكان أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر ) وعندما رأى صموئيل بفرح ذلك الغلام الراعي الجميل الشهم الوديع جاءه صوت الـلــه يقول : ( ثم امسحه ، لأن هذا هو ) لقد برهن داود على شجاعته وأمانته وهو يقوم بعمله المتواضع في رعاية الغنم ، أما الآن فقد اختاره الرب رئيسا على شعبه ، ( فأخذ صموئيل قرن الدهن ومسحه في وسط إخوته . وحل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعداً ) لقد أنجز النبي العمل المنوط به ثم عاد إلى الرامة مرتاح القلب . AA 575.2
إن صموئيل لم يعلم أحدا بمهمته حتى ولا عائلة يسى ، فعــرفــتـــه حفلة مسح داود في سرية تامة . كان ذاك تلميحا لهذا الشاب عن المستقبل السامي الذي ينتظره ، حتى في غمرة الاختبارات المختلفة والمخاطر التي ستصادفه في حياته المستقبلية ، تلهمه هذه المعرفة أن يكون أمينــاً لقصد الـلــه الذي سيتممه في حياته . AA 576.1
ولكن تلك الكرامة العظيمة التي قد منحت لداود لم تجعله يتيه عجبا ، بل بالرغم من المركز السامي الذي كان سيشغله ظل يمارس عمله في هدوء منتظرا إتمام مقصد الرب في وقته المناسب وبكيفيته الخاصة . وكما كان ذلك الصبي الراعي وديعا ومتواضعا قبل مسحه ، عاد بعدئذ إلى التلال ليحرس غنمه ويرعاها بكل رقة ورفق كما كان قبلا . إلا أنه بإلهام جديد جعل يؤلف ألحانه ويضرب على عوده ، فانبسط أمامه ذلك المنظر ذو الجمال الغني المتنوع ، حيث تلألأت الكروم بعناقيد أثمارها في نور الشمس ، كما تمايلت أشجار الغابة أمام هبات النسيم ، ثم رأى الشمس تغمر السموات بنورها وهي مثل العروس الخارج من حجلته يبتهج مثل الجبار للسباق في الطريق . وكانت هنالك أيضا قمم الجبال الشامخة نحو السماء ، وعلى مسافة بعيدة ارتفعت ثمم جبال موآب الجرداء ، وفوق هذه كلها ارتفعت القبة الزرقاء على علو عظيم . ووراء ذاك كان الـلــه . لم يكن ذاك الفتى يستطيع أن يرى الـلــه ، ولكن أعماله كانت تتحدث عن مجده . فنور النهار المنسكب على الغابات والجبال والمراعي وجداول المياه كان يسمو بالعقل إلى فوق ، حيث يرى أبا الأنوار الذي منه تنحدر كل عطية صالحة وكل موهبة تامة ، فالإعلانات اليومية لصفات الخالق وجلاله قــــد ملأت قلب ذاك الشاعر الشاب تعبدا وفرحا . وبالتأمل في الـلــه وفي أعماله ، نمت قوى عقل داود وقلبه وتقوت فيه ليقوم بعمل حياته المستقبلة . كان في كل يوم يزيد شركته مع الـلــه قوة وتوثقا . وكان عقله يتغلغل باستمرار في أعماق جديدة لمواضيع جديدة حتى يستلهم أغانيه ويوقظ موسيقى عوده ليترنم . إن الألحان العذبة التي كان يترنم بها بصوته الرخيم وتحمل على أجنحة الهواء كانت التلال تردد صداها ، حتى كأنها تجاوب مع بهجة أغاني الملائكة في السماء . AA 576.2
من ذا الذي يستطيع أن يقيس نتائج وتـأثـيــرات تلك السنين سني التعب والتيهان بين التلال الموحشة ؟ إن شركة داود وعشرته مع الطبيعة ومع الـلــه ، ورعايته لقطعانه ، والمخاطرا التي حاقت به ، ونجاته منها ، وأحزان حياته المتواضعة وأفراحها ، لم تكن لتكون أخلاقه وتؤثرعلى حياته المستقبلة فحسب ، ولكنها بواسطة مزامير مرنم إسرائيل الحلو كانت مدى الأجيال اللاحقة كلها ستضرم نار المحبة والإيمان في قلوب شعب الـلــه لتقربهم إلى قلب إلههم الذي لا تنقطع محبته والذي به تحيا كل خلائقه . AA 577.1
كان داود في نشاط شبابه وجماله يتأهب ليتبوأ مكانة مرموقة بين أشراف الأرض ، فذكاؤه وملكاته التي كانت هبات ثمينة من الـلــه له قد استخدمت لتعظيم مجد مانحها الإلهي ، كما أن الفرص المعطاة له للتفكير والتأمل زودته بتلك الحكمة والتقوى التي جعلته محبوبا من الـلــه وملائكته . فإذ كان يفكر في كمالات خالقه كانت تنكشف أمامه آراء أوضح عن الـلــه ، فأريق نور على المواضيع الغامضة ، وحلت المشكلات ، والأمـــور المربكة صارت في حالة انسجام ، وكل شعاعة من نور جديد كانت تشيع في نفسه أحاسس فرح جديد غامر ، وتطلق منه أعذب تسابيح الحمد والولاء لمجد الـلــه والفادي . إن المحبة التي حركته ، والأحزان التي أحدقت به ، والانتصارات التي لازمته ، كانت مواضيع يتأمل فيها عقله النشيط . وإذ كان يرى محبة الـلــه في كل حوادث العناية في حياته كان قلبه يختلج بتكريس وشكر أعمق . وصوته العذب يرتفع منشدا بأنغام أشجى ، وألحانه التي يوقعها على عوده كانت تنطق بفرح أعظم . وهكذا كان ذلك الفتى الراعي يتقدم من قوة إلى قوة ومن معرفة إلى معرفة لأن روح الـلــه كان حالا عليه . AA 577.2
* * * * *