الاباء والانبياء

62/75

الفصل الستون—‏ تصلف شاول

‏ بعدما انفض الاجتماع الذي عقد في الجلجال سرح شاول الجش الذي كان قد احتشـد تلبية لدعوته لأجل تحطيم جيش العمونيين ، ولم يبق غير ألفي رجل ليكونوا تحت قيادة الملك في مخماس ، وألف ليكونوا مع ابنه يوناثان في جبعة . إلا أن هذا كان خطأ كبيرا ، حيث كانت قلوب رجال الجيش ممتلئة أملا وشجاعة بعد النصر الذي قد أحرزوه منذ عهد قريب . ولو كان قد سار في طليعة الجيش لمنازلة أعداء إسرائيل الآخرين لكانوا قد ضربوا ضربة ملحقة قوية لتحرير الأمة . AA 555.1

‏ وفي أثناء ذلك كان جيرانهم الفلسطينيون النازعون للحرب نشيطين . فبعد الهزيمة التي لحقتهم عند حجر المعونة كانوا لا يزالون مسيطرين على بعض معاقل الجبال في أرض إسرائيل ، وها هم الآن قد ثبتوا أقدامهم في قلب الأرض ، كما كانوا متفوقين على إسرائيل في التسهيلات والأسلحة والمعدات الحربية . ففي فترة حكمهم العاتي الطويلة الأمد حاولوا توطيد سلطانهم بكونهم نهوا بني إسرائيل عن مزاولة أعمال الصناع لئلا يصنعوا أسلحة حربية . وبعدما تم الصلح كان بنو إسرائيل يلجأون إلى معسكرات الفلسطينيين لكي يحدد كل واحد منجله وفأسه ومعوله . وإذ كان بنو إسرائيل يركنون إلى الراحة وروح الخنوع التي نتجت عن الاضطهاد الطويل الأمد ، أهملوا إهمالا فاضحا ، تزويد أنفسهم بالأسلحة الحربية . كانت القسي والمقاليع تستخدم في الحروب ، وكان في مقدور الإسرائيليين الحصول عليها ، ولكن لا أحد منهم ، باستثناء شالو وابنه يوناثان ، كان يملك سيفا أو رمحا (1 صموئيل 13 : 22) . AA 555.2

‏ ولم تبذل أية محاولة من جانب إسرائيل لإخضاع الفلسطينيين إلا في السنة الثانية من ملك شاول . والذي ضرب أول ضربة هو يوناثان ابن الملك الذي ضرب معسكرهم في جبعة وانتصر . فثار غضب الفلسطينيين بسب هذه الهزيمة التي لحقتهم فتأهبوا للقيام بهجوم خاطف ‏على إسرائيــل . حينئذ أمر شاول أن يضرب بالبوق في كل البلاد إعــلانــاً للحرب ، داعيا الرجال المحاربين بما فيهم الأسباط المستوطنة في عبر الأردن ليحتشدوا في الجلجال . وقــد استجيب هذا النداء . AA 555.3

‏ كان الفلسطينيون قــــد حشدوا جيشا عظيما في مخماس ( ثلاثون آلف مركبة ، وستة آلآف فارس ، وشعباُ كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة ) (1 صموئيل 13 : 5) فلما وصلت الأخبار إلى شاول وجيشه في الجلجال ارتعب الشعب حين فكروا في الجيوش الهائلة التي كان عليهم أن ينازلوها في ساحة القتال ، إذ لم يكونوا مستعدين لمواجهة العدو ، فخاف كثيرون حتى أنهم لم يتجرأوا على محاولة ملاقاة الأعداء ، فعبر بعضهم الأردن ، بينما اختبأ آخرون في المغاير والآبار والمخور التي كانت كثيرة في ذلك الإقليم . ولما دنا وثت اشتباك الجيوش في الحرب كثر عدد الهاربين من جنود إسرائيــل . والباقون الذين لم يهربوا من الجيش امتلئوا تطيرا ورعبا . AA 556.1

‏ عندما مسح شاول ملكا على إسرائيــل في بادئ الأمر قــــدم له صموئيل التوجيهات الواضحة عن الطريق الذي كان عليه أن يسير فيه حينئذ ، إذ قـــال له : ( تنزل قذامي إلى الجلجال ، وهوذا آنا آنزل إليك لأصعد محرقات وأذبح ذبائح سلامة . سبعة أيام تلبث حتى آتي إليك وأعلمك ماذا تفعل ) (1 صموئيل 10 : 8) . AA 556.2

‏ ظل شارل منتظرا عدة أيام ، ولكنه في خلال تلك المدة لم يبذل أي مسعى حازم لتشجيع الشعب ، كك ولا نفث فيهم روح الثقة بالـلــه . قبل أن ينتهي تماما الميعاد الذي حدده النبي نفد صبر شاول بسبب التأخير ، وسمح لنفسه بأن تفشل في مواجهة الظروف القاسية المحيطة به . وبدلا من أن يعد الشعب بكل أمانة للخدمة التي كان صموئيل آتيا ليقوم بها أوغل في عدم الإيمان والتشاؤم . إن مسألة طلب الـلــه بواسطة الذبيحة كانت عملا غاية في القداسة والأهمية ، وكان الـلــه يريد أن شعبه يفحصون قلوبهم ويتوبون عن خطيتهم حتى تنال الذبيحة قبولا لديه ، وحتى تصحب بركة الـلــه جهودهم لهزيمة العدو . ولكن شاول صار متضجرا ، وعوضا عن أن يتطلع الشعب إلى الـلــه في طلب العون كانوا ينظرون إلى الملك الذي قــــد اختاروه ليرشدهم ويوجههم . AA 556.3

‏ ومع ذلك لم يكف الرب عن أن يرعاهم ، ولم يسمح بأن يوقعهم في الكوارث التي كان يمكن أن تلحق بهم لو أن الذراع البشرية الضعيفة كانت هى مسندهم الوحيد . لقد أتى بهم إلى مأزق ليقنعهم بجهالة الاعتماد على الإنسان ، ‏وليلتفتوا إليه كمعينهم الوحيد . ثم أتى الوقت الذي فيه يمعن شاول ، ‏فكان لا بد أن يبرهن حينئذ ما إذا كان سيعتمد على الـلــه أم لا ، ‏ويظل منتظرا بصبر بناء على أمره ، ‏مبرهنا على أنه الشخص الذي يمكن أن يثق به الـلــه في المواقع الشاقة كحاكم لشعبه ، ‏أم أنه سيكون متذبذبا وغير أهل للمسؤولية المقدسة التي آلت إليه . فهل ذلك الملك الذي قد اختاره إسرائيل سيصغي إلى صوت ملك الملوك قاطبة ؟ وهل سيحول انتباه جنوده الخائري القلوب إلى ذاك الذي فيه وحــده القوة والخلاص الأبديان ؟ AA 556.4

‏ وبصبر نافد انتظر شاول قــــدوم صموئيل ، وكان ينسب الضيق والارتباك وتفرق الجيش إلى غياب النبي ، فقد جاء ميعاد مجيئه ولكن رجل الـلــه لم يأت في الحال . لقد أعاقت عناية الـلــه عبده إلا أن روح شاول الضجرة المندفعة لم تعد تضبط ، وإذ شعر بأنه لا بد من عمل شيء لتهدئة مخاوف الشعب عزم على أن يعقد اجتماعا للقيام بخدمة دينية ، وعن طريق الذبيحة يطلب المعونة من الـلــه . كان الـلــه قــــد أمر بألا يقدم الذبيحة أمامه أحد غير المكرسين لهذه الخدمة . ولكن شاول أمر قـائــلاً : )قدموا إلي المحرقة ) (انظر 1 صموئيل 13) وإذ كان كما هو متسلحا بعدة الحرب اقترب من المذبح وقــدم الذبيحة لــلـــــه . AA 557.1

( وكان لما انتهى من إصعاد المحرقة إذا صموئيل مقبل ، فخرج شاول للقائه ليباركه ) رأى صموئيل في الحال أن شاول قــــد خالف الأوامرالصريحة الصادرة إليه . فتكلم الـلــه بواسطة نبيه أنه في ذلك الوقت سيعلن الـلــه ما يجب أن يفعله إسرائيــل في تلك الضائقة . فلو تمم شاول الشروط التي بموجبها قــــد وعد بالمساعدة الإلهية لكان الـلــه قــــد صنع خلاصا عجيبا لإسرائيل بالقليلين الذين ظلوا على ولائهم للملك . ولكن شاول كان راضيا عن نفسه وعن عمله كل الرضى حتى لقد خرج يستقبل النبي كمن يستحق المديح لا التوبيخ . AA 557.2

‏ بدا على وجه صموئيل جزع وضيق شديدان . وإذ سأل الملك قـائــلاً : ( ماذا فعلت ؟ ) قـــال شاول ، مقدما أعذارا عن تصلفه : ( رأيت أن الشعب قــــد تفرق عني ، وأنت لم تأت في أيام الميعاد ، والفلسطينيون متجمعون في مخماس ، فقلت : الآن ينزل الفاسطينيون إليّ إلى الجلجال ولم أتضرع إلى وجه الـــرب ، فتجلدت وأصعدت المحرقة ) . AA 557.3

( فقال صموئيل لشاول : قــــد انحمتقت ! لم تحفظ وصية الـــرب إلهك التي أمرك بها ، لأنه الآن كان الرب قد ثبت مملكتك على إسرائيل إلى الأبد . وأما الآن فمملكتك لا تقوم . قد انتخب الرب لنفسه رجلا حسب قلبه ، وأمره الرب أن يترأس على شعبه ... وقام صموئيل وصعد من الجلجال إلى جبعة بنيامين ) . AA 557.4

‏ إما أن يكف إسرائيــل عن أن يكون شعبا لله وإما أن المبادئ التي قامت عليها الملكية ينبغي أن تحفظ ، وينبغي أن تسوس الأمة قوة إلهية . فإذا أراد إسرائيــل أن يكون بجملته للرب ، وإذا خضعت الإرادة البشرية الأرضية لإرادة الـلــه فسيظل شاول ملكا على إسرائيــل . وما دام الشعب والملك يخضعون نفوسهم لــلـــــه فسيظل حاميا إياهم مدافعا عنهم . ولكن لا يمكن أن تنجح الملكية في إسرائيــل إلا إذا اعترفت بسلطان الـلــه المطلق في كل شيء . AA 558.1

‏ فلو أن شاول أبدى احتراما لمطاليب الـلــه في وقت التجربة هذا لكان الـلــه قد تمم إرادته فيه . إن إخفاقه في هذه المرة برهن على عدم لياقته لأن يكون نائبا عن الـلــه أمام الشعب ، لأنه سيضلل الشعب . والقوة الحاكمة لن تكون إرادة الـلــه بل إرادته هو . ولو كان شاول أمينــاً لثبتت مملكته إلى الأبد . ولكن حيث أنه قد أخفق ، فقصد الـلــه لا بد أن يتم عن طريق شخص آخر . وينبغي أن يسند حكم إسرائيــل إلى شخص يحكم الشعب بموجب إرادة السماء . AA 558.2

‏ إننا لا نعرف أية مصالح عظيمة تتعرض للخطر عند امتحان الـلــه إيانا ، إذ لا أمان إلا في الطاعة الكاملة لكلمة الـلــه . إن كل مواعيده مقدمة على شرط الإيمان والطاعة . وإخفاقنا في الإذعان لأوامر الرب يمنع إتمام مواعيد الكتاب الثمينة عنا ، فينبغي ألا نتبع بواعثنا أو نعتمد على حكم الناس بل ينبغي أن نضع نصب عيوننا إرادة الـلــه المعلنة ونسلك بموجب أمره الثابت ، مهما تكن الظروف المحيطة بنا ، لأن الـلــه سيتولى النتائج ، حيث بأمانتنا لكلمته يمكننا في وقت التجربة أن نبرهن أمام الناس والملائكة أن الرب يمكنه أن يثق بنا لننفذ إرادته في الضيقات ونكرم اسمه ونبارك شعبه . AA 558.3

‏ لقد كان شاول في حالة جفاء مع الـلــه ومع ذلك فهو لم يرغب في إخضاع قلبه بالتوبة . فلما كان يعوزه من التقوى الصادقة أراد أن يعرض عنه بغيرته في الطقوس الدينية . لم يكن شاول يجهل هزيمة إسرائيــل حين حمل حفني وفينحاس التابوت إلى المحلة ، ومع علمه بكل هذا فقد عزم على أن يستحضر التابوت المقدس . ومعه الكاهن الذي يلازمه . ولو أمكنه بهذه الوسيلة أن يلهم شعبه بالثقة لكان يمكنه أن يجمع شمل جيشه المشتت ، من جديد ، ويحارب ‏الفلسطينيين ، وفي هذه الحالة يمكنه أن يستغني عن حضور صموئيل ومعاضدته ، وهكذا يتخلص من انتقادات ذلك النبي وتوبيخاته التي كان يكرهها . AA 558.4

‏ لقد أعطي الروح القدس لشاول ليغير عقله ويلين قلبه ، ‏كما أنه حصل على تعاليم وسمع توبيخات من نبي الـلــه ، ‏ومع ذلك فكم كان عناده عظيما ؟ ! إن تاريخ أول ملوك إسرائيل بيسط أمامنا مثالا محزنا لقوة العادات المبكرة الخاطئة . إن شاول في شبابه لم يحب الـلــه ولا اتقاه ، ‏وتلك الروح المتهورة التي لم تتدرب في وقت مبكر على الخضوع كانت أبدا مستعدة للتمرد على سلطان الـلــه . إن أولئك الذين يحتضنون في شبابهم روح احترام الـلــه وبكل أمانة يتممون واجبات وظيفتهم سيكونون مهيئين لخدمات أسمى في حياتهم المستقبلة . ولكن الناس لا يستطيعون لمدة سنين كثيرة أن يفسدوا القوى التي أعطاها الـلــه لهم ، ‏وحينئــذ متى رغبوا في التغيير سيرون أن هــذه القوى غضة وحرة لإتخاذ طريق معاكس كليا . AA 559.1

‏ إن محاولات شاول في استنهاض همم الشعب لم تجد فتيلا . وإذ وجد أنه لم يبق من رجاله غير ست مئة رجل ، ‏ترك الجلجال وانسحب إلى الحصن الذي في جبعة الذي كان قد استرده من الفلسطينيين منذ عهد قريب . كان هذا الحصن يقع في جنوبي واد عميق أو ممر بين جبلين يبعد عن أورشليم أميالا قليلة إلى شماليها . وفي شمالي هذا الوادي في مخماس كان يعسكر جيش الفلسطينيين ، ‏بينما خرجت بعض فصائله في جهات متفرقة لنهب البلاد . AA 559.2

‏ وقد سمح الـلــه بأن تنتهي الأمـــور إلى أزمة لكي يوبخ شاول على فساده ويعلم شعبه درس الوداعة والإيمان . وبسبب خطية الملك وتصلفه حين قدم الذبيحة ، حرمه الـلــه من شرف الانتصار على الفلسطينيين . إن يوناثان ابن الملك الذي كان رجلا يخشى الرب هو الذي اختاره الـلــه واسطة لتخليص إسرائيــل . وإذ كان مدفوعا بدافع إلهي اقترح على حامل سلاحه أن يذهبا للقيام بهجوم سري على معسكر العدو قائلا : ( لعل الله يعمل معنا ، لأنه ليس للرب مانع عن أن يخلّص بالكثير أو بالقليل ) (انظر 1 صموئيل 14) . AA 559.3

‏ هذا وإن حامل سلاح يوناثان ، الذي كان هو أيضا رجل إيمان وصلاة ، شجعه على القيام بما اعتزم أن يفعله ، فانسحبا كلاهما من المعسكر سرا لئلا يعارضهما في خطتهما أحد . وبعد صلاة حارة قدماها للرب الذي كان مرشدا لأبويهما اتفقا على علامة يحكمان بموجبها كيف يتقدمان . فلما وصلا إلى الممر الذي يفصل بين الجيش تسلك بسكون تحت ظل الصخرة ، ‏ كما كانت تحجبهما القمم والروابي في ذلك المكان . وإذ اقتربا من معقل الفلسطينيين انكشفا لعيون الأعداء الذين عيروهما قائلين )هوذا العبرانيون خارجون من الثقوب التي اختبأوا فيها ) ثم تهددوهما قائلين : ( اصعدا إلينا فنعلمكما شيئا ) وكانوا يقصدون بذلك أنهم سيؤدبون ذينك الإسرائيليين على جرأتهما . كان هذا التحدي هو العلامة التي كان يوناثان ورفيقه قد اتفقا عليها كدليل على أن الرب سينجحهما في مشروعهما . وإذ غابا عن أنظار الفلسطينيين واختارا طريقا سريا وعرا سار ذانك المحاربان صاعدين إلى قمة صخرة كان الأعداء يعتبرون أنه لا يمكن لأحد الوصول إليها ، فلم تكن محروسة حراسة قوية . وهكذا اخترقا معسكر العدو وقتلا الحراس الذين إذ غلبتهم المفاجأة والخوف لم يبدوا أية مقاومة . AA 559.4

‏ كان ملائكة السماء يحمون يوناثان وتابعه وقد حاربوا معهما ، فسقط الفلسطينيون أمامهما . وقد ارتجت الأرض كما لو أن جمهورا غفيرا معهم فرسان ومركبات يقترب منهم ، فرأى يوناثان دلائل مساعدة الـلــه له ، وحتى الفلسطينيون عرفوا أن الـلــه يعمل لخلاص إسرائيــل ، فاستولى الخوف العظيم على الجيش في الحقل وفي المعسكر ، ووسط الشغب والتشويش ، إذ ظن الفلسطينيون أن جنودهم هم جنود العدو ، بدأوا يقتلون بعضهم بعضا . AA 560.1

‏ وسرعان ما وصلت ضجة الحرب إلى آذان الإسرائيليين ، فأعلن مراقبو الملك شاول عن وجود ارتباك عظيم في محلة الفلسطينيين وأن أعدادهم كانت تتناقص ، غير أنه لم يكن أحد يعرف أن بعض أفراد الجيش العبراني قد تركوا المعسكر . وبعد البحث والاستقصاء وجد أن جميع أفراد الجيش في أماكنهم ما عدا يوناثان وحامل سلاحه . وإذ رأى شاول جنود الفلسطينيين منهزمين قاد جيشه لك للاشتباك معهم . ثم أن العبرانيين الذين كانوا قد هربوا إلى الأعداء ارتدوا الآن يهاجمونهم ، كما خرج عدد غفير من مخابئهم . وبينما هرب الفلسطينيون مندحرين ، جعل بيش إسرائيــل يعمل في أولـئــك الهاربين ضربا وتقتيلا . AA 560.2

‏ ولكي يستفيد شاول من هذه الميزة أعظم استفادة نهى جنوده ، بكل طياشة ، عن تناول أي طعام طول ذلك اليوم ، ثم دعم أمره هذا بلعنة خطيرة إذ قال : ( ملعون الرجل الذي يأكل خبزا إلى المساء حتى أنتقم من أعدائي ) كانت النصرة قد تمت بدون علم شاول أو تعاونه ، ولكنه أراد لنفسه الشهرة بإهلاك الجيش المنهزم إهلاكا تاما . كان الدافع له ‏ على تحريم الطعام هو طموحه النفسي إلى العظمة ، ‏وقد برهن على عدم اكتراثه لحاجات شعبه ما دام أن تلك الحاجات تتعارض مع رغبت في تعظيم ذاته . وكون شاول قد ثبت نهيه بذلك القسم المقدس الخطير برهن على تهوره وفساده . بل إن نــفـــس كلمات اللعنة تبرهن على أن غيرة شاول كانت لأجل نفسه لا لأجل كرامة الـلــه . فهو لم يقل : ( حتى ينتقم الرب من أعدائه ) بل : ( حتى أنتقم من أعدائي ) . AA 560.3

‏ ذلك النهي ساق الشعب إلى تحدي أمر الـلــه ، ‏حيث كانوا مشغولين في الحرب طول اليوم ، ‏وكانوا متعبين وخائرين بسبب الجوع . إذ حالما انتهت ساعات الصوم ، ‏وقعوا على الغنيمة ، ‏وجعلوا يأكلون الدم مع اللحم . وبذلك نقضوا الشريعة التي تحرم أكل الدم . AA 561.1

‏ وفي أثناء معركة ذلك اليوم حدث أن يوناثان الذي لم يسمع أمر الملك أخطأ بغير علم ، ‏إذ أكل قليلا ‏من العسل بينما كان مارا في إحدى الغابات . فلما علم شاول بهذا في السماء أعلن أن مخالفة أمره سيكون قصاصها الموت . ومع أن يوناثان لم يكن قد أخطأ عن عمد ، ‏ومع أن الـلــه قد حفظ حياته ‏بكيفية عجائبية وصنع بيده ذلك الخلاص ، ‏فقد أعلن الملك أنه لا بد من تنفيذ الحكم ، ‏إذ لو أبقى شاول على حياة ابنه ‏لاعتبر ذلك اعترافا منه بأنه قد أخطأ في النطق بذاك القسم الطائش ، ‏وفي هذا إذلال لكبريائه ‏. ثم نطق الملك بذلك الحكم المخيف قائـلاً : ( هكذا يفعل الـلــه وهكذا يزيد إنك موتا تموت يا يوناثان ) . AA 561.2

‏ إن شاول لم يكن يستطيع أن يدعي لنفسه شرف الانتصار ، ولكنه كان يرجو أن يحصل على الكرامة لكونه قــــد احتفظ بقدسية قسمه . فأراد أن يثبت في أذهان رعاياه حقيقة كون سلطة الملك ينبغي أن تظل مصونة حتى ولو ضحى بابنه . وفي الجلجال ، ومنذ عهد قريب ، انتحل شاول لنفسه وظيفة الكاهن مخالفا بذلك أمر الرب . وعندما وبخه صموئيل على ذلك برر نفسه في عناد . أما الآن فحين خولف أمره -مع أنه كان أمرا غير معقول ، وكانت المخالفة بغير علم - حكم ذلك الملك الأب على ابنه بالموت . AA 561.3

‏ ولكن جموع الشعب رفضوا السماح للملك بتنفيذ ذلك الحكم ، وإذ تحدوا غضب الملك قالوا : ( أيموت يوناثان الذي صنع هذا الخلاص العظيم في إسرائيــل ؟ حاشا ! حي هو الـــرب ، لا تسقط شعرة من رأسه إلى الأرض لأنه مع الله عمل هذا اليوم ) ولم يستطع ‏الملك المتكبر أن يستخف بذلك القرار الإجماعي فحفظت حياة يوناثان . AA 561.4

‏ أحس شاول أن ابنه قد فضل عليه بواسطة الشعب وبواسطة الرب ، وأن نجاة يوناثان كانت توبيخا قاسيا لتهور الملك ، فخالجه إحساس داخلي بأن لعناته سترتد على رأسه . ولم يعد يواصل الحرب ضد الفلسطينيين بعد ذلك ، بل رجع إلى بيته عابسا ساخطا . AA 562.1

‏ إن أولئك الذين هم أكثر الناس استعدادا للاعتذار عن خطاياهم أو تبرير أنفسهم ، هم في غالب الأحيان أقسى الناس في الحكم على الآخرين وإدانتهم . إن كثيرين كشاول يجلبون على أنفسهم سخط الـلــه ، ولكنهم يرفضون النصح ويحتقرون التوبيخ . ومع اقتناعهم بأن الرب ليس معهم فهم لا يريدون أن يروا في أنفسهم سببا لضيقاتهم ومتاعبهم . إنهم ينمون في داخلهم روح الكبرياء والافتخار ، وهم في نــفـــس الوقت يمعنون في حكمهم الجائر وتوبيخهم الصارم للآخرين الذين هم أفضل منهم ، فيحسن بأولئك الذين قد أقاموا أنفسهم قضاة أن يتأملــوا في هذه الكلمات التي قد نطق بها المسيح حين قال : “بالدينونة التي بها تدينون تدانون ، وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم ) (متى 7 : 2) . AA 562.2

‏ وما يحدث غالبا هو أن أولئك الذين يحاولون تعظيم أنفسهم يرضعون في مراكز تكشف عن خلقهم الحقيقي . كذلك كانت الحال مع شاول ، فإن مسلكه أقنع الشعب بأن كرامة الملك وسلطانه أغلى في نظره من العدل أو الرحمة أو الإحسان . وهكذا اقتنع الشعب بخطئهم في رفض حكم الـلــه . لقد استبدلوا بالنبي التقي (صموئيل) الذي استمطرت صلواته البركات ، ملكا استمطر عليهم اللعنات في غيرته العمياء . AA 562.3

‏ ولولا أن رجال إسرائيل توسطوا لإنقاذ حياة يوناثان لكان منقذهم قد هلك بناء على قرار الملك . ما أشد الهواجس والشكوك التي بها اتبع الشعب قيادة شاول بعد ذلك ! وما كان أمر الفكر بأنه قد أجلس على العرش بناء على طلبهم هم ! إن الرب يحتمل عصيان الناس طويلا ويقدم للجميع فرصة فيها يرون خطاياهم ويتركونها . ولكن في حين يبدو أنه ينجح أولئك الذين يستخفون بإرادته ويحتقرون إنذاراته ، فإنه في وقته المعين لا بد من أن يظهر جهالتهم . AA 562.4

* * * * *