الاباء والانبياء

56/75

الفصل الرابع والخمسون—شمشون

في وسط الارتداد المتفشي في البلاد ظل عبيد الرب الأمناء مواظبين على التوسل إليه تعالى حتى يخلص إسرائيل . ومع أنه لم تكن هنالك استجابة حسب الظاهر ، ومع أن شر الطغاة اشتد على إسرائيل وتفاقم عاما بعد عام فإن عناية الله كانت تعد لهم المعونة . حتى إنه في بدء سني طغيان الفلسطينيين وظلمهم لشعب الله ولد ابن قصد الله أن يذل بواسطته قوة أعدائهم الأشداء . AA 501.1

فعلى حدود البلاد المشرفة على سهول الفلسطينيين كانت بلدة صغيرة تدعى صرعة . وكانت عائلة منوح التي تنتمي إلى سبط دان تسكن في تلك البلدة ، وهي إحدى العائلات القليلة التي ظلت أمينة للرب في وسط الارتداد العام . فظهر )ملاك الرب) لامرأة منوح العاقر وبشرها بأنها ستنجب ابنا به يبتدئ الرب يخلص إسرائيل . ونظرا لذلك قدم لها الملاك التوجيهات الخاصة بعاداتها الخاصة ، وكيفية معاملتها لابنها أيضا ، قائلا : ( والآن فاحذري ولا تشربي خمرا ولا مسكرا ، ولا تأكلي شيئا نجسا ) (انظر قضاة 13) ونفس هذا النهي لزم فرضة على الصبي منذ البداية ، يضاف إلى ذلك أن شعره يجب ألا يحلق لأنه سيكرس لله كنذير منذ ولادته . AA 501.2

بحثت المرأة عن رجلها ، وإذ وجدته جعلت تصف له هيئة الملاك الذي ظهر لها وأخبرته برسالته . فإذ خشى الزوج أن يخطئا في أي شيء يختص بهذا العمل العظيم المنوط بهما صلى قائلا : ( أسألك يا سيدي أن يأتي أيضا إلينا رجل الله الذي أرسلته ، ويعلمنا ماذا نعمل للصبي الذي يولد ؟ ) . AA 501.3

لما ظهر الملاك ثانية كان سؤال منوح هو هذا : ( ماذا يكون حكم الصبي ومعاملته ؟ ) فكرر الملاك تعليماته السابقة قائلا : ( من كل ما قلت للمرأة فلتحتفظ . من كل ما يخرج من جفنة الخمر لا تأكل ، وخمرا ومسكرا لا تشرب . وكل نجس لا تأكل . لتحذر من كل ما أوصيتها ) . AA 501.4

كان الله قد أعد للابن الموعود به لمنوح عملا هاما ليقوم به . ولكي تكون له المؤهلات اللازمة لهذا العمل كان ينبغي تنظيم عادات الأم وطفلها وضبطها بكل حرص ، فكان أمر الملاك لامرأة منوح يقول : خمرا ومسكرا لا تشرب ، وكل نجس لا تأكل . لتحذر من كل ما أوصيتها ( . إن الطفل لا بد أن يتأثر بعادات أمه إن اللخير أو للشر . فينبغي لها أن تحضع للمبادئ السامية وتمارس الاعتدال وإنكار الذات إن كانت تطلب لوليديها الخير . إن المشيرين غير الحكماء يلحون على المرأة بضرورة إشباع كل رغبة وكل ميل ، ولكن مثل هذا التعليم كاذب ومضر وخبيث . إن المرأة بموجب أمر الله نفسه قد صارت تحت أقدس الالتزامات لتمارس فضيلة ضبط النفس والتعفف . AA 502.1

والآباء والأمهات أيضا هم تحت هذا الالتزام . وكلا الأبوين ينقلان صفاتهما الذهنية والجسمانية وطباعهما وشهواتهما لأولادهما . إنه بسبب إفراط الآباء يفتقر الأولاد في الغالب إلى القوة الجسمانية والمقدرة العقلية والأدبية . فمدمنو شرب الخمر والتدخين يمكن أن ينقلوا إلى أبنائهم الشهوة التي لا يمكن إشباعها والدم الثائر والأعصاب المتوترة المهتاجة . إن الناس الخلعاء غالبا ما يورثون أولادهم أميالهم النجسة وحتى أمراضهم الخبيئة كتركة . وحيث أن الأولاد يكونون أقل مناعة في مقاومة التجربة من والديهم فإن كل جيل جديد ينحط أكثر من سابقه . إن الوالدين مسؤولون إلى حد كبير ليس فقط عن شهوات أولادهم الجامحة وشهوتهم الفاسدة للطعام ، بل أيضا عن علل الألوف الذين يولدون صما أو عميا او أعلاء أو معتوهين. AA 502.2

إن السؤال الذي ينبغي أن يقدمه كل الآباء والأمهات هو هذا : ( ماذا نفعل للطفل الذي يولد لنا ؟ ( إن كثيرين لا يعتبرون تأثير الآباء في أولادهم أمرا ذا شأن . ولكن التعليمات المرسلة من السماء لذينك الأبوين العبرانيين وتكرارها مرتين بصفة قاطعة وكيفية مهيبة جليلة ، كل ذلك يرينا كيف ينظر خالقنا إلى هذا الأمر . AA 502.3

ولم يكن يكفي أن يرث الابن الموعود به ميراثا صالحا من أبويه ، بل لا بد أن يتبع ذلك تدريب الصبى المدقق وتكوين عادات حسنة فيه ، فأمر الله أن قاضي إسرائيل ومخلصه العتيد ، ينبغي أن يتربى على العفة التامة وضبط النفس منذ الطفولة . كان يجب أن يكون نذيرا لله من البطن فينهى نهيا دائما عن تعاطي الخمر أو المسكر . ينغي أن يتعلم الأولاد دروس العفة وإنكار الذات وضبط النفس منذ صباهم . AA 502.4

كان نهي الملاذ يشمل ( كل نجس ) . إن التمييز بين الطاهر والنجس من أصناف العطام لم يكن قانونا طقسيا تعسفيا بل كان مبنيا على مبادئ صحية . وعلى مراعاة هذا التميز يمكن ، إلى حد كبير تتبع الحيوية المدهشة التي متاز بها الشعب اليهودي طوال آلاف السنين . إن مبادئ العفة ينبغي أن تتعدى المشروبات الروحية ، فاستعمال الأطعمة المنبهة والعسرة الهضم هو في الغالب مضر بالصحة كتلك المشروبات سواء بسواء ، وفي حالات كثيرة يبذر بذار السكر . إن العفة الحقيقية تلزمنا بأن نستغني كلية عن كل ما يضر ، وأن نستعمل الأشياء الصحية بدراية . قليلون هم الذين يدركون هذا الأمر كما يجب وهو إلى أي حد يكون لعاداتهم في التعذية دخل في صحتهم وخلقهم ونفعهم في هذا العالم ومصيرهم الأبدي . إن قابلية المرء للطعام ينبغي أن تكون خاضعة دائما للقوى العقلية والأدبية ، كما ينبغي أن يكون الجسم خادما للعقل ، لا أن يكون العقل خادما للجسم . AA 503.1

وقد تم وعد الله لمنوح في وقته بولادة ابن له سمي شمشون . وإذ نما الصبي اتضح أن له قوة جسمانية خارقة . ومع ذلك فهذا لم يكن متوقفا على عضلاته المفتولة بل على حالته كنذير ، تلك الحالة التي كان شعره المسترسل رمزا لها ، كما كان شمشون وأبواه يعلمون ذاك جيدا . فلو أن شمشون أطاع أوامر الرب بكل أمانة كما فعل أبواه لكان انتهى إلى مصير أنبل وأسعد مما انتهى إليه . لكن اختلاطه بالوثنيين أفسده. وإذ كانت صرعة قريبة من بلاد الفلسطينيين صارت له معهم علاقات حبية . وهكذا نشأت بينه وبينهم في شبابه صداقات جعل تاثيرها حياته مظلمة بجملتها . وامتلكت فتاة فلسطينيية من مدين تمنة عواطف شمشون فعول على أن يتخذها زوجة . كان جوابه على كلام أبويه الذين كانا يخافان الله ولهذا حاولا إقناعة بالعدول عما قد عزم عليه ، قوله : “أنها حسنت في عيني ) (انظر قضاة 14 — 16) وأخيرا خضع أبواه لرغائبه فتزوجها . AA 503.2

إن شمشون عند بلوغه سن الرجولة ، حين كان يجب عليه ان يتمم رسالة الرب -الوقت الذي كان ينبغي له فيه أن يكون أمينا لله اكثر من أي وقت آخر ، في ذلك الوقت اندمح بين أعداء إسرائيل . إنه لم يسأل هل كان يمكنه أن يمجد الله بصورة أفضل متى اقترن بتلك التي قد اختارها ، أو إذا كان بذلك يضع نفسه في وضع لا يستطيع فيه أن يتمم غرض الله في حياته . لقد وعد الله أن يمنح الحكمة لمن يطلبون إكرامه قبل كل شيء أما أولئك الذين يريدون أن يرضوا أنفسهم فلا وعد لأجلهم . AA 503.3

ما أكثر أولئك الذين يسيرون في نفس طريق شمشون وما أكثر الزيجات التي يرتبط فيها الأبرار بالأشرار لأن الأميال الشخصية هي التي تتحكم في اختيار الزوج أو الزوجة ! إن كلا الطرفين لا يطلبان مشورة الله ولا يجعلان مجده هدفا لهما . على المسيحية أن تستخدم قوتها الضابطة في العلاقات الزوجية . ولكن في غالب الأحيان لا تكون البواعث المؤدية إلى هذا الاقتران متمشية مع المبادئ المسيحية . إن الشطيان يحاول دائما أن يزيد من سيطرته على شعب الله بكونه يغريهم بمصاهرة رعاياه . ولكي يتم له هذا يحاول إثارة الأهواء غير المقدسة في قلوبهم ، غير أن الله علم شبعه في كتابه بكل جلاء ألا يتحدوا من أولئك الذين ليست محبته ثابتة فيهم إذ يقول : ( أي اتفاق للمسيح مع بليعال ؟ وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن ؟ وأية موافقة لهيكل الله مع الأوثان ؟ ) (1 كورنثوس 6 : 15 ، 16) . AA 504.1

وفي وليمة العرس ، صارت لشمشون شركة وألفة مع من كانوا يبغضون الله إله إسرائيل . إن من يدخل في مثل هذه العلاقات بمحض اختياره سيرى أنه من الضروري له أن يتبع ، إلى حد ما ، عادات رفاقه المرعية . إن الوقت الذي يصرف هكذا إنما هو أسوأ مما لو بدد ، فإنه سيسمح لبعض الأفكار بالدخول إلى العقل ، وسيقال بعض الكلام ، والغرض من هذا هو هدم حصون المبادئ القويمة وإضعاف قوة ضبط النفس . AA 504.2

ولكن الزوجة التي في سبيل الظفر بها تعدى شمشون أمر الله ، برهنت على خيانتها لرجلها قبلما انتهت وليمة العرس . فإذ أسخطت شمشمون خيانة زوجته هجرها إلى حين وعاد وحده إلى بيته في صرعة . ولما عاد بعد ذلك إلى عروسه إذ رق قلبه لها وجد أنها قد أعطيت لرجل آخر . ثم إن انتقامه من الفلسطينيين ، إذ أتلف وأحرق كل حقولهم وكرومهم قد أثار غضبهم فقتلوا زوجته مع أن تهديداتهم لها هي التي ساقتها إلى تلك الخديعة التي بسببها بدأ ذلك الاضطراب . لقد برهن شمشون على قوته الخارقة من قبل إذ قتل وحده شبل أسد كما قتل ثلاثين من أهل أشقلون . فلما ثار غضبه حين قتل الفلسطينيون امرأته بطريقة وحشية هاجمهم وضربهم )ضربا عظيما) . وعندما طلب ملجأ يعتصم به من وجه أعدائه ذهب إلى )صخرة عيطم( في أرض يهوذا . AA 504.3

وقد تبعه إلى هذا المكان جيش عظيم من أعدائه ، وإذ بشعب يهوذا وهم في أشد حالات الرعب يوافقون بلك نذالة على تسليم شمشون إلى أولئك الأعداء . ولذلك ذهب إليه ثلاثة آلاف رجل من يهوذا . ولكن حتى مع عظم قتوهم وكثرة عددهم بالنسبة إلى قوته ما كانوا يجرؤون على الاقتراب منه لولا أنهم كانوا موقنين بأنه لن يحلق بمواطنيه أي أذى . قبل شمشون بأن يوثق ويسلم للفلسطينيين ، ولكنه حتم على رجال يهوذا أولا ألا يقعوا هم عليه لئلا يلزموه بأن يهلكهم . فسمح لهم بأن يوثقوه بحبلين جديدين ثم أتوا به إلى معسكر أعدائه الذين إذ رأوه موثقا جعلوا يصيحون صيحات الفرح العظيم . ولكن إذ كان صدى صيحاتهم يرن في جوانب التلال ( حل عليه روح الرب ) فقطع الحبلين الجديدين ، فكانا ككتان أحرق بالنار . وإذ أمسك بأول آلة وجدتها يده ، مع أنها لم تكن أكثر من لحي حمار ، فقد كانت في يده أقوى من السيف والرمح وضرب بهذا اللحي جيش الفلسطينيين فهربوا من أمامه مرتعبين تاركين ألف قتيل في ساحة المعركة . AA 505.1

لو كان الإسرائيليون مستعدين للانضمام إلى شمشون ومتابعة الانتصار لأمكنهم في ذلك الوقت أن يتحرروا من سلطان مستعبديهم . ولكنهم كانوا قد أمسوا أذلاء جبناء . لقد أهملوا العمل الذي أمرهم الله أن يعملوه ألا وهو طرد الأمم من كنعان ، بل لقد اشتركوا معهم في عاداتهم المنحطة محتملين قسوتهم ، وفي تشجيع ظلمهم ما دام أنه غير موجه إليهم . وعندما صاروا هم أنفسهم تحت سلطان الظالمين خضعوا بكل تذلل للانحطاط الذي كان يمكنهم النجاة منه لو أنهم أطاعوا الله . وحين كان الرب يقيم لهم مخلصا كانوا في أحيان كثيرة يهجرونه وينضمون إلى أعدائهم . AA 505.2

وبعد أن انتصر شمشون أقامه الإسرائيليون قاضيا عليهم فقضى لإسرائيل عشرين سنة . ولكن خطوة واحدة خاطئة تمهد الطريق لخطوة أخرى . لقد تعدى شمشون أمر الله باتخاذه لنفسه زوجة من بنات الفلسطينيين . ومرة أخرى سار بينهم بكل جرأة - وهم أعداؤه المميتون - لينغمس في الشهوات غير المشروعة . وإذ اتكل على قوته العظيمة التي ألقت الرعب في قلوب الفلسطينيين ذهب بكل جرأة إلى غزة ليزور امرأة زانية هناك ، فعلم سكان المدينة بمجيئه وكانوا متعطشين للانتقام منه . لقد حبس عدوهم داخل أسوار أمنع مدنهم وأقواها . كانوا موقنين من أنه قد صار فريسة لهم ، وإنما انتظروا إلى الصباح حتى يكمل انتصارهم . غير أن شمشون أوقظ في نصف الليل . إن صوت ضميره الذي كان يستذنبه ملأ نفسه بالندامة حين ذكر أنه قد نقض عهد نذره ولكن مع خطيته لم تتخل رحمه الله عنه . ومرة أخرى أعانته قوته الهائلة على النجاة . إذ عندما وصل إلى باب المدينة قلعه عن مكانه مع العارضة والقائمتين وصعد به إلى رأس الجبل الذي مقابل حبرون . AA 505.3

ولكن حتى هذا الإفلات الحرج لم يوقفه عن السير في طريقه الشرير . لم يحاول في هذه المرة أن يدخل بين أعدائه الفلسطينيين ولكنه ظل يطلب المسرات الشهوانية التي كانت تستهويه لتحدره إلى الهلاك . فالكتاب يقول عنه : ( أحب امرأة في وادي سورق ) ولم تكن تلك المدينة تبعد كثيرا عن مسقط رأسه . وكان اسمها دليلة (أي المهلكة) . وكان وادي سورق مشهور بكرومه . وكان هذا أيضا تجربة لذلك النذير المتردد الذي قد انغمس في شرب الخمر وبذلك فصم رباطا آخر من الربط التي كانت تربطه بالطاهرة بالله . كان الفلسطينيون يراقبون بكل يقظة وحذر حركات عدوهم اللدود ذاك . ولما حط من قدر نفسه بهذه الصلة الدنسة الجديدة عولوا على إهلاكه بواسطة دليلة . AA 506.1

أرسل إلى وادي سورق وفدا مؤلف من رجل قائد عن كل مقاطعة من المقاطعات الفلسطينية ، الذين لم يتجرأوا على محاولة القبض على شمشون ما بقي ممتلكا تلك القوة العجائبية ، ولكن غرضهم كان معرفة سر قوته إن كان ذلك في الإمكان . ولذلك أعطوا رشوة لدليلة حتى تكتشف ذلك السر وتخبرهم به . AA 506.2

وإذ كانت تلك المرأة الخائنة تلح على شمشون بأسئلتها خدعها إذ أخبرها أنه يضعف ويصير كـأحد الناس إذا عملت له بعض الأمور ، فلما بدأت تجرب تلك الأمور اكتشفت خداعه . وحيئنذ اتهمته بالكذب قائلة : ( كيف تقول أحبك ، وقلبك ليس معي ؟ هوذا ثلاث مرات قد ختلتني ولم تخبرني بماذا قوتك العظيمة ) ثلاث مرات تبرهن لشمشون بأنصع البراهين أن الفلسطينيين قد تحالفوا مع تلك المرأة لإهلاكه ، ولما أخفقت في قصدها . اعتبرت المسألة كما لو كانت مزاحا ، فعمي عن الحقيقة المرة وطرد عن نفسه الخوف . AA 506.3

ومن يوم إلى يوم كانت دليلة تلح عليه بسؤالها إلى أن ( ضاقت نفسه إلى الموت ) ومع ذلك فقد بقي إلى جانبها بفعل قوة ماكرة ، فلما انتصرت عليه في النهاية باح لها شمشون بسره إذ قال : ( لم يعل موسى رأسي لأني نذير الله من بطن أمي ، فإن حلقت تفارقني قوتي وأضعف وأصير كـأحد الناس (. وفي الحال بعثت برسول إلى أقطاب الفلسطينيين تلح عليهم في المجيء إليها بدون إبطاء . وبينما كان ذلك البطل نائما حلقت خصل شعره الثقيل . وحيئنذ كما فعلت في المرات الثلاثة السابقة قالت له : ( الفلسطينيون عليك يا شمشون ( وحينما استيقظ فجأة حاول أن يستخدم قوته في إهلاك أعدائه كما فعل من قبل ولكن ذراعيه الضعيفتين لم تستطيعا إسعافه وعرف ) أن الرب قد فارقه ( اذ بعدما حلق شعره ابتدأت دليلة بإذلاله وإيلامه وبذلك اختبرت قوته لأن الفلسطينيين لم يجسروا على الدنو منه حتى تأكد لهم أن قوته قد فارقته . وحيئنذ أمسكوا به وبعدما قلعوا عينيه أخذوه إلى غزة ثم أوثقوه بسلاسل نحاس في دار سجنهم وأرغموه على الشغل الشاق . AA 506.4

ما أعظمه من انقلاب ذاك الذي حدث لمن كان قاضيا لإسرائيل وبطلا مغوارا فها هو الآن ضعيف عاجز وأعمى وسجين وقد انحط مقامه حتى صار مرغما على القيام بأحقر الخدمات ! إنه نقض شروط دعوته المقدسة تدريجيا ، لقد احتمله الله طويلا ولكن عندما أسلم نفسه لسلطان الخطية حتى أنه أفشى سره فارقه الرب . لم تكن هنالك قوة في شعره الطويلة المسترسل إنما كان رمز ولائه لله ، فحين ضحى بذلك الرمز في سبيل الانغماس في الشهوات خسر البركات التي كان شعره رمزا لها أيضا . AA 507.1

وإذ كان شمشون يقاسي الآلام والإذلال والهوان وصار أضحوكة للفلسطينيين عرف الشيء الكثير عن ضعفه أكثر مما عرف من قبل فقادته آلامه وضيقاته إلى التوبة . وحينما ابتدأ شعر رأسه ينبت عادت إليه قوته تدريجا . ولكن أعداءه إذ كانوا يظنون أنه أسير عاجز مصفد في أغلاله لم يتوقعوا شرا . AA 507.2

كان الفلسطينيون ينسبون قوتهم إلى آلهتهم ، ففي فرحهم وافتخارهم تحدوا إله إسرائيل ، فعينوا أياما لعيد يقيمونه تكريما لداجون الإله السمكة ( حارس البحر ) فتجمع الناس من المدن والأرياف ومن كل سهل الفلسطينيين كما جاء أقطابهم . جاءت جماهير كثيرة من العابدين ودخلت الهيكل الواسع حتى امتلأت كل الأروقة إلى السقف ، فكان مشهد ابتهاج وفرح . وبعد تقديم الذبائح التي تجلت فيها الأبهة والعظمة جاء دور الموسيقى والفرح . وحينئذ لكي يقدموا البرهان على انتصار قوة داجون أتي بشمشون . فلما مثل أمامهم استقبلوه بعاصفة من الافتخار . ثم سخر الشعب والأقطاب من شقائه وبؤسه ومجدوا الإله الذي أسقط من خرب أرضهم . وبعد وقت تظاهر شمشوش بالإعياء وطلب أن يمسح له بالاستناد على العموين المتوسطين اللذين كان الهيكل قائما عليهما . ومن ثم نطق بهذه الصلاة الصامتة : ( يا سيدي الرب ، اذكرني وشددني يا الله هذه المرة فقط ، فأنتقم نقمة واحدة عن عيني من الفلسطينيين ) وبعدما نطق بهذه الكلمات أحاط العمودين بذراعيه القويتين ، وإذا صرخ قائلا : ( لتمت نفسي مع الفلسطينيين ) انحنى فسقط البيت ، وفي سقوطه الهائل أهلك كل تلك الجموع الغفيرة في سحقه واحدة ، ( فكان الموتى الذين أماتهم في موته ، أكثر من الذين أماتهم في حياته ) . AA 507.3

تحت أنقاض هيكل داجون دفن الصنم وعابدوه الكهنة والفلاحون والأبطال والأشراف ، ووجدت بينهم جثة ذلك الجبار الذي قد اختاره الله مخلصا لشعبه . وقد وصلت أخبار ذلك الانهيار المخيف الذي حل بهيكل داجون إلى بلاد إسرائيل . فنزل إخوة شمشون وكل بيت أبيه من فوق الجبال وأخرجوا جثمان ذلك الجبار الساقط دون أن يعترضهم أحد ، ( وصعدوا به ودفنوه بين صرعة وأشتأول ، في قبر منوح أبيه ( AA 508.1

إن وعد الله القائل أن شمشون ( يبدأ يخلص إسرائيل من يد الفلسطينيين ) قد تم . ولكن ما أشد الظلام والرعب الذي يتخلل تاريخ تلك الحياة التي كان يمكن أن تكون تسبيحة شكر لله وعنوان فخر ومجد لأمته ! فلو كان شمشون أمينا لدعوته الإلهية لكان غرض الله قد تم بإكرام ذلك النذير وتمجيده . ولكنه استسلم للتجربة وبرهن على عدم أمانته لهذه ، فكانت خاتمة رسالته الهزيمة والعبودية والموت . AA 508.2

كان شمشون أقوى الناس جسما في كل الأرض ، أما فيما يختص بضبط النفس والتعفف والاستقامة فقد كان من أضعف الناس . كثيرون يخطئون فيخلطون بين الشهوة القوية والخلق القوي . ولكن الحقيقة الثابتة هي أن من تتحكم فيه شهوته هو إنسان ضعيف . إن عظمة الإنسان الحقيقية تقاس بقوة المشاعر التي يضبطها لا بقوة المشاعر التي تتحكم فيه . AA 508.3

لقد كانت عناية الله ترعى شمشون لكي يتأهب لإنجاز العمل الذي دعى ليحلمه . فمن بدء حياته كان مخاطا بظروف موآتية لتنمية قواه الجسمانية وتنشيط قواه العقلية وطهارته ‏الأدبية . ولكنه تحت تـأثـيــر عشرائه الأشرار أفلت من يده تمسكه بالله الذي هو الحارس الوحيد للإنـسان . وقد جرفه تيار الشر . إن لأولئك الذين يجربون وهم سائرون في طريق الواجب أن يتأكدوا أن الله سيحفظهم ، ‏ولكن إذا أصر الناس طوعا على وضع أنفسهم تحت سلطان التجربة فسيسقطون إن عاجلاً أو آجلاً . AA 508.4

‏ إن الشيطان يستخدم كل قوته في تضليل نفس الأشخاص الذين يريد الله أن يستخدمهم للقيام بعمل خاص . إنه يهاجم مواطن الضعف فينا فيعمل عن طريق الضعفات الكائنة في الخلق ليسيطر على الإنسان بجملته . وهو يعرف أنه إذا أبقى الإنسان على تلك النقائص ولم يسع في إصلاحها فإنه (أي الشيطان) سينتصر . ولكن لا حاجة لأن ينهزم أحد ، ‏فالإنسان لا يترك وشأنه ليقهر قوة الشر بمجهوده الواهن الضئيل . إن المعونة قريبة وهي تعطى لكل نــفـــس تطلبها بكل القلب ، ‏كما أن ملائكـة الله الذين كانوا يصعدون وينزلون على السلم التي رآها يعقوب في حلمه سيتقدمون بالمعونة لكل نفس ترغب في الصعود حتى إلى سماء السماوات . AA 509.1

* * * * *