الاباء والانبياء

55/75

الفصل الثالث والخمسون—القضاة الأولون

بعدما سكن بنو إسرائيل في كنعان لم تبذل الأسباط مجهودا شديدا لتكملة غزو البلاد ، فإذ قنعوا بالجزء حصلوا عليه خمدت غيرتهم في الحال فلم يواصلوا الحرب ( وكان لما تشدد إسرائيل أنه وضع الكنعانيين تحت الجزية ولم يطردهم طردا ) (قضاة 1 : 28) . AA 487.1

إن الله قد أنجز من قلبه ، بكل أمانة ، وعده الذي قدمه لإسرائيل . لقد كسر يشوع شوكة الكنعانيين ووزع الأرض على الأسباط ، إلا أنه بقي عليهم أن يطردوا سكان البلاد إذ تحققوا من معونة الله لهم . ولكنهم أخفقوا في هذا . فإذ تحالفوا مع الكنعانيين تعدوا أمر الله تعديا مباشرا ، وهكذا أخفقوا إتمام الشرط الذي بموجبه وعد الرب أن يعطيهم أرض كنعان ملكا . AA 487.2

إنه منذ أن تكلم الله معهم أول مرة في سيناء حذرهم من عبادة الأوثان وحالما أعلن الشريعة أرسل إليهم هذه الرسالة بيد موسى فيما يختص بشعوب كنعان ، وهي تقول : ( لا تسجد لآلهتهم ، ولا تعبدها ، ولا تعمل كأعمالهم ، بل تبيدهم وتكسر أنصابهم . وتعبدون الرب إلهكم ، فيبارك خبزك وماءك ، وأزيل المرض من بينكم ) (خروج 23 : 24 ، 25) وقد أكد لهم الرب أنه سيخضع أعداءهم أمامهم ما بقوا هم طائعين إياه ، ( أرسل هيبتي أمامك ، وأزعج جميع الشعوب الذين تأتي عليهم ، وأعطيك جميع أعدائك مدبرين . وأرسل أمامك الزنابير . فتطرد الحويين والكنعانين والحثيين من أمامك . لا أطردهم من أمامك في سنة واحدة ، لئلا تصير الأرض خربة ، فتكثر عليك وحوش البرية . قليلا قليلا أطردهم من أمامك إلى أن تثمر وتملك الأرض ... فإني أدفع إلى أيديكم سكان الأرض ، فتطردهم من أمامك . لا تقطع معهم ولا مع آلهتهم عهدا . لا يسكنوا في أرضك لئلا يجعلوك تخطئ إلي . إذا عبدت آلهتهم فإنه يكون لك فخا ) (خروج 23 : 27 — 33) وقد أعيدت نفس هذه التوجيهات ، أعادها موسى على مسامع الشعب بكل هيبة ووقار ، كما قد رددها يشوع فيما بعد . AA 487.3

لقد وضع الله شعبه في كنعان كمتراس قوي لإيقاف تيار الشر الأدبي عند حده حتى لا يكتسح العالم . كما قصد الله أن يخرج إسرائيل غالبا ولكي يغلب إن بقوا أمناء لإلههم . وكان يريد أن يسلم إلى أيديهم أمما أعظم من الكنعانيين وأقوى ، فوعدهم الرب قائلا : ( لأنه إذا حفظتم جميع هذه الوصايا التي أنا أوصيكم بها ... يطرد الرب جميع هؤلاء الشعوب من أمامكم ، فترثون شعوبا أكبر وأعظم منكم . كل مكان تدوسه بطون أقداكم يكون لكم من البرية و لبنان . من النهر ، نهر الفرات ، إلى البحر الغربي يكون تخمكم . لا يقف إنسان في وجهكم . الرب إلهكم يجعل خشيتكم ورعبكم على كل الأرض التي تدوسونها كما كلمكم ) (تثنية 11 : 22 — 25) . AA 488.1

ولكنهم بغض النظر عن المستقبل الباهر الذي كان ينتظرهم اختاروا طريق الراحة والتمتعات الجسدية ، وتركوا الفرص الذهبية تفلت من أيدهم فلم يكملوا غزو البلاد . ولأجيال طويلة كان الباقون من الشعوب الوثنية يضايقونهم ، فكان أولئك القوم كما قد تنبأ عنهم النبي “أشواكا في أعينكم ، ومناخس في جوانبكم ( (عدد 33 : 5) . AA 488.2

إن الإسرائليين( اختلطوا بالأمم وتعلموا أعمالهم ) لقد تزاوجوا مع الكنعانيين فتفشت الوثنية في كل البلاد كوبأ فتاك ، ( عبدوا أصنامهم ، فصارت لهم شركا . وذبحوا بنيهم وبناتهم للأوثان ... وتدنست الأرض بالدماء ... فحمي غضب الرب على شعبه ، وكره ميراثه ) (مزمور 106 : 34 — 38 ، 40) . AA 488.3

إن الوثنية لم تنتشر ولم يشتد ساعدها حتى انقرض ذلك الجيل الذي كان قد تلقى التعاليم من يشوع ، إلا أن الآباء كانوا قد مهدوا طريق الارتدادا لبنيهم . إن إغضاء أولئك الذي امتلكوا كنعان عن نواهي الرب بذر بذور الشر التي ظلت تؤتي ثمارها المرة مدة أجيال طويلة ، فالعادات البسيطة التي تمسك بها العبرانيون حفظت لهم صحتهم البدنية ، ولكن اختلاطهم بالوثنية جعلهم يفرطون في النهم والشهوات التي أضعفت قواهم الجسمانية تدريجا وأوهنت قواهم العقلية والأدبية . إن خطايا الإسرائيليين فصلت بينهم وبين إلههم ، فتركتهم قوته وما عادوا ينتصرون على أعدائهم . وهكذا حدث أنهم خضعوا لنفس الأمم التي كان يمكنهم إخضاعها بقوة الله . AA 488.4

( وتركوا الرب إله آبائهم الذي أخرجهم من أرض مصر) ( وساق مثل الغنم شعبه ... أغاظوه بمرتفعاتهم ، وأغاروه بتماثيلهم ) ولذلك فالرب ( رفض مسكن شيلو ، الخيمة التي نصبها بين الناس . وسلم للسبي عزه ، وجلاله ليد العدو ) (قضاة 2 : 12 ، مزمور 78 : 52 ، 58 ، 60 ، 61) ومع ذلك فهو لم يترك شعبه كلية ، فقد كانت هنالك بقية ظلت أمينة للرب ، ومن وقت إلى آخر أقام رجالا أمناء جبابرة بأس ليقمعوا الوثنية ويخلصوا الإسرائيليين من أعدائهم . ولكن عندما كان المنقذ يموت ويتحروون من سلطانه كانوا يعودون بالتدريج إلى أوثانهم . وهكذا ظلت قصة الارتداد والتأديب والاعتراف والنجاة تتكرر مرارا كثيرة . AA 489.1

إن ملك ما بين النهرين وملك موآب ، ومن بعدهما الفلسطينيون والكنعانيون في حاصور تحت قيادة سيسرا هم بدورهم ضايقوا إسرائيل وقد أقام الرب عثنيئيل وشمجر وأهود ودبورة وباراق لإنقاذ شعبه . ولكن بعد ذلك : ( عمل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب ، فدفعهم الرب ليد مديان ) (انظر قضاة 6 — 8) لم تكن يد المضايقين شديدة قبل ذلك على الأسباط الساكنين شرقي الأردن ، ولكن في الكوارث التي حلت بالشعب في هذا الوقت كان هم أول من قاسوا الأمرين . AA 489.2

إن العمالقة الذين كانوا يسكنون في جنوبي كنعان والمديانيين الذين كانوا حالين عند حدودها الشرقية وفي الصحراء الممتدة وراء تلك الحدود كانوا لا يزالون أعداء إسرائيل القساة العديمي الرحمة . إن الإسرائيليين في أيام موسى كانوا قد أهكلوا أمة المديانيين تقريبا ، ولكنهم منذئد نموا وتكاثروا واشتدت سواعدهم . وكانوا يتلهفون على الانتقام . والآن بعد ما ارتفعت يد الله الحافظة عن إسرائيل وتركهم الرب فقد واتت المديانيين الفرصة السانحة . ولم تكن الأسباط التي سكنت شرقي الأردن هي وحدها التي قاست الويلات من جراء إغارات الأعداء وتخريبهم بل كل البلاد كذلك . إن سكان الصحراء الشرسين المتوحشين الذين كانوا ( كالجراد في الكثرة ) تجمعوا في داخل البلاد بغنمهم ومواشيهم . وكوبإ مهلك شامل انتشروا في البلاد من نهر الأردن إلى سهول الفلسطينيين وقد جاءوا عندما بدأ الحصاد ولبثوا هناك حتى جمعت آخر ثمار الأرض . لقد نهبوا من الحقول خيراتها الوفيرة وسلبوا وأساءوا معاملة السكان ثم عادوا إلى قفارهم . ولذلك اضطر الإسرائيليون الساكنون في العراء إلى ترك بيوتهم والتجمع في المدن ذات الأسوار ليحتموا في حصونها ، أو حتى ليحتموا في الكهوف والمعاقل الصخرية بين الجبال . وقد دام ذلك الضيق سبع سنين كاملة . وحيئنذ لما أصاخ الشعب وهم في ضيقتهم إلى توبيخات الرب واعترفوا بخطاياهم أقام لهم الله مخلصا آخر . AA 489.3

كان جدعون بن يوآش من سبط منسى . إن قسم السيط الذي كانت هذه العائلة تمني إليه لم يتول مركز قيادة ، إلا أن عائلة يوآش اشتهرت بالشجاعة والاستقامة . وقد قيل عن أولاد يوآش الشجعان : ( كل واحد كصورة أولاد ملك) (قضاة 8 : 18) كل أولئك الأولاد سقطوا في حربهم مع المديانيين ولم يبق منهم غير واحد ، وقد كان الغزاة يرهبون اسمه . ثم جاءت الدعوة من الله إلى جدعون ليخلص شعبه . وكان في ذلك الحين يخبط بعض الحنطة ، التي أخفيت كمية قليلة منها عن عيون الأعداء ، وإذ لم جدعون يجرؤ على أن يخبطها في البيدر ذهب إلى مكان قريب من المعصرة ، ولأن ميعاد نضج العنب لم يكن قد جاء لم يكن هناك اهتمام كبير بالكروم . وإذ كان جدعون يقوم بعمله في تكتم وسكون جعل يتأمل بحزن في حالة إسرائيل ، وكيف يمكن كسر نير أولئك الظالمين عن أعناق شعبه . AA 490.1

وفجأة ظهر له ( ملاك الرب ) وخاطبه بقوله ( الرب معك يا جبار البأس ) . AA 490.2

فكان جواب جدعون : ( أسألك يا سيدي ، إذا كان الرب معنا فلماذا أصابتنا كل هذه ؟ وأين كل عجائبه التي أخبرنا بها آباؤنا قائلين : ألم يصعدنا الرب من مصر ؟ والآن قد رفضنا الرب وجعلنا في كف مديان) . AA 490.3

فأجابه رسول السماء قائلا : ( اذهب بقوتك هذه وخلص إسرائيل من كف مديان . أما أرسلتك ؟ ) . AA 490.4

إلا أن جدعون كان يطلب علامة يتحقق بها من أن ذاك الذي يخاطبه هو ملاك العهد الذي صنع العظائم لإسرائيل في القديم . إن ملائكة الله الذين تحادثوا مع إبراهيم مكثوا عنده ذات مرة وتناولوا طعاما من وليمته التي أولمها لهم . ولذلك فقد توسل جدعون إلى هذا الرسول الإلهي أن يبقى ضيفا عنده . فأسرع إلى خيمته وأعد من القليل الذي عنده جديا وبعض الفطير فاحضر هذه ووضعها أمامه . ولكن ملاك الرب أمره قائلا : ( خذ اللحم والفطير وضعهما على تلك الصخرة واسكب المرق (. وفعل جدعون كذلك ، وحينئذ أعطيت له العلامة التي كان يطلبها فإن ملاك الرب مد ظرف العكاز الذي بيده ومس اللحم والفطير فصعدت نار من الصخرة وأكلت اللحم والفطير وحيئنذ اختفى ملاك الرب عن عينيه . AA 490.5

إن يوآش أبا جدعون الذي شارك مواطنيه في الارتداد كان قد أقام مذبحا عظيما للبعل في عفرة حيث كان ساكنا . وأمام المذبح كان شعب المدينة يسجدون ، فأمر جدعون أن يهدم هذا المذبح للرب على الصخرة التي أحرقت الذبيحة التي قدمها ، وأن يقدم على المبذح الذي في شيلوه . ولكن ذلك الذي أقام الخدمة الطقسية والذي كانت كل الذبائح والتقدمات تشير إليه كان له سلطان أن يغير مطاليبها . إن خلاص إسرائيل كان يبنغي أن سبقفه احتجاج مقدس على عبادة البعل . فعلى جدعون أن يشن الحرب على الوثنية قبلما يخرج لمحاربة أعداء شعبه . AA 491.1

وقد نفذ جدعون الأمر الإلهى بكل أمانة . فإذ كان يعلم أنه سيلاقي مقاومة لو فعل ذلك على ملأ من الناس قام بذلك العمل خفية ، وبمساعدة عبيده أمكنه إتمام العمل كله في ليلة واحدة . فلما جاء أهل عفرة في صبيحة اليوم التالي ليقدموا عبادتهم للبعل كان غضبهم عظيما . وكانوا يديرون قتل جدعون لولا أن يوآش - الذي كان قد أخبر بزيارة الملاك لابنه - تصدى للدفاع عن ذلك الابن - قال يوآش : ( أنتم تقاتلون للبعل ، أما أنتم تخلصونه ؟ من يقاتل له يقتل في هذا الصباح . إن كان إلها فليقاتل لنفسه لأن مذبحه قد هدم ) . فإذا كان البعل عاجزا عن الدفاع عن مذبحه فكيف يؤتمن على حياة عابديه ليحميهم ؟ AA 491.2

لقد استبعدت كل فكرة للالتجاء إلى العنف حيال جدعون ، وحين ضرب بالبوق معلنا الحرب كان رجال عفرة أول من اجتمعوا تحت رايته . وقد أرسل جدعون رسلا إلى سبط منسى الذي ينتمى إليه ، كما إلى أشير وزبلون ونفتالي فلبى الجميع النداء . AA 491.3

ولم يجرؤ جدعون على أن يجعل نفسه على رأس الجيش قبل الحصول على برهان جديد على أن الله قد دعاه إلى ذلك العمل وأنه سيكون معه . فصلى إلى الله قائلا : ( إن كنت تخلص بيدي إسرائل كما تكلمت ، فها إني واضع جزة الصوف في البيدر ، فإن كان طل على الجزة وحدها ، وجافا على الأرض كلها ، علمت أنك تخلص بيدي إسرائيل كما تكلمت ) في الغد كان في الجزة طل أما الارض فكان فيها جفاف . ومع ذلك فقد تطرق الشك إلى نفسه حيث أن الصوف يمتص الرطوبة عادة متى كان شيء منها في الجو ، ولذلك فلم يكن الامتحان باتا . ولهاذا سأل جدعون أن تعكس العلامة وقد تسول إلى الرب ألا يسخط عليه بسبب هذا الحذر الشديد . وقد أجيب إلى طلبه . AA 491.4

تشجع جدعون فقاد جيشه بمحاربة الغزاة ، وقد ( اجتمع جميع المديانيين والعمالقة وبي المشرق معا وعبروا ونزلوا في وادي يزرعيل ) ولم يكن عدد الجيش الذي كان تحت قيادة جدعون يزيد على اثنين وثلاثين ألفا ، ولكن مع كثرة عدد جيوش الأعداء الذين انتشروا أمامه قال له الرب : ( إن الشعب الذي معك كثير علي لأدفع المديانيين بيدهم ، لئلا يفتخر علي إسرائيل قائلا : يدي خلصتني . والآن ناد في آذان الشعب قائلا : من كان خائفا ومرتعدا فليرجع وينصرف من جبل جلعاد ) فأولئك الذين لم يكونوا راغبين في مواجهة المخاطر والمشقات أو كانت مصالحهم الدنيوية تجتذب قلوبهم بعيدا عن عمل الله لم يكونوا ليزيدوا من قوة جيوش إسرائيل ، بل اإن وجودهم سيضعف من قوة رجال الحرب . AA 492.1

وقد صار قانونا في إسرائيل أنه قبل الذهاب إلى الحرب يطلق هذا النداء في كل الجيش : ( من هو الرجل الذي بنى بيتا جديدا ولم يدشنه ؟ ليذهب ويرجع إلى بيته لئلا يموت في الحرب فيدشنه رجل آخر . ومن هو الرجل الذي غرس كرما ولم يبتكره ؟ ليذهب ويرجع إلى بيته لئلا يموت في الحرب فيبتكره رجل آخر . ومن هو الرجل الذي خطب امرأة ولم يأخذها ؟ ليذهب ويرجع إلى بيته لئلا يموت في الحرب فيأخذها رجل آخر . ثم يعود العرفاء يخاطبون الشعب ويقولون : من هل الرجل الخائف والضعيف القلب ؟ ليذهب ويرجع إلى بيته لئلا تذوب قلوب إخوته مثل قلبه ) (تثنية 20 : 5 — 8) . AA 492.2

ولأن عدد رجال جدعون كان قليلا جدا بالنسبة إلى جيوش الأعداء كف عن إطلاق النداء المعتاد ، ثم امتلأ دهشة حين أعلن له الرب أن جيشه أكبر مما يزلم . ولكن الرب رأى الكبرياء وعدم الإيمان رابضين في قلوب شعبه . فإذ أيقظهم نداء جدعون انضموا إلى الجيش بسرعة . ولكن كثيرين منهم امتلأت قلوبهم خوفا حين رأوا جمع المديانيين . ومع ذلك فلو انتصر إسرائيل لكان نفس أولئك الرجال ينسبون المجد لأنفسهم بدلا من أن ينسبوا النصرة إلى الرب . AA 492.3

أطاع جدعون أمر الرب . وبقلب أثقله الحزن رأى اثنين وعشرين ألفا أو أكثر من ثلثي الجيش كله يعودون إلى بيوتهم . ومرة أخرى قال له الرب : ( لم يزل الشعب كثيرا . انزل بهم إلى الماء فأنقيهم لك هناك . ويكون أن الذي أقول لك عنه : هذا يذهب معك ، فهو يذهب معك ، وكل من أقول لك عنه : هذا لا يذهب معك فهو لا يذهب ) فنزل بالشعب إلى الماء إذ كانوا مزمعين أن يزحفوا فورا لمنازلة العدو . وعدد يسير منهم ولغوا بأيديهم قليلا من الماء في سيرهم . أما الغالبية العظمى منهم فجثوا على ركبهم لشرب الماء ، وبكل تأن وتمهل جعلوا يشربون من وجه مياه الجدول وكان عدد الذين ولغوا بأيديهم ثلاث مئة من جيش قوامه عشرة آلاف . ومع ذلك فهؤلاء هم الذين اختيروا أما باقي رجال الجيش فسمح لهم بالعودة إلى بيوتهم . AA 492.4

إن الخلق غالبا ما يختبر بأبسط الوسائل . فأولئك الذين كانوا في وقت الخطر منصبين على تزويد أنفسهم بما تحتاجه أجسادهم لم يكونوا رجالا يركن إليهم في إبان الطوارئ والأزمات . والرب لا مكان عنده في عمله للمتراخين المتكاسلين ولا للمنغمسين في مسرتاهم وملاذهم ، فالذين اختارهم الله هم تلك الشرذمة التي لم تسمح لحاجاتها أن تعطلها عن أداء واجبها . إن أولئك الثلاثة مئة رجل المختارين لم يكونوا رجالا شجعانا وضابطين أنفسهم فحسب ، بل كانوا أيضا رجال إيمان . لم ينجسوا أنفسهم بالوثنية . كان الله يستطيع أن يوجههم وعن طريقهم يصنع خلاصا لإسرائيل . إن النجاح ليس موقوفا على كثرة العدد ، فالله يستطيع أن يخلص بالقليل كما بالكثير . إنه لا يتمجد بكثرة عدد من يخدمونه كما بأخلاقهم . AA 493.1

أوقف الإسرائيليون فوق جبهة جبل يطل على الوادي حيث حلت جيوش الغزاة ، ( وكان المديانيون والعمالقة وكل بني المشرق حالين في الوادي كالجراد في الكثرة ، وجمالهم لاعدد لها كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة ) ولما تفكر جدعون في الحرب المزمعة أن تنشب في الغد ارتجف قلبه ، ولكن الرب خاطبه في هدأة الليل وأمره أن ينزل في صحبة فورة غلامه إلى محلة المديانيين وقال له إنه قد يسمع هناك أخبار تزيده شجاعة . فذهب ، وإذ كان واقفا خلف إحدى خيام الأعداء في دجى الليل وسكونه سمع جنديا يقص على زميل له خبر حلمه قائلا : ( هوذا قد حلمت حلما ، وإذا رغيف خبز شعير يتدحرج في محلة المديانيين ، وجاء إلى الخيمة وضربها فسقطت ، وقلبها إلى فوق فسقطت الخيمة ) . فأجابه الآخر جوابا أبهج قلب ذلك السامع غير المنظور (جدعون) إذ قال : ( ليس ذلك إلا سيف جدعون بن يوآش رجل إسرائيل . قد دفع الله إلى يده المديانيين وكل الجيش ) فأيقن جدعون أن الله هو الذي كان يكلمه عن طريق ذينك الرجلين الغريبين . وإذ عاد إلى الرجال القليلين الذين كانوا تحت قيادته قال لهم : ( قومو لأن الرب قد دفع إلى يديكم جيش المديانيين ) . AA 493.2

وبناء على توجيه إلهي اقترحت عليه خطة للهجوم نفذها في الحال ، فقسم الثلاث مئة الرجل إلى ثلاث فرق وأعطي لكل رجل بوق وجرة فارغة أخفى في داخلها مصباح ، وأوقف أولئك الرجال بحيث يتقدمون إلى المديانيين من عدة جهات . ففي سكون الليل عندما نفخ جدعون في بوق الحرب نفخت الفرق الثلاث في أبواقها ، ثم إذ كسروا جرارهم وظهرت المصابيح تتوهج انقضوا على الأعداء صائحين صيحة الحرب المخيفة قائلين : ( سيف للرب ولجدعون ) . AA 494.1

أوقظ الجيش النائم فجأة ، ورأوا من كل جانب أضواء لهب المصابيح . ومن كل جهة كانت تسمع أصوات الأبواق مصحوبة بصيحات المهاجمين . فإذ ظن المديانيون أنهم قد صاروا تحت رحمة جيش جرار فزعوا وارتاعوا ، وبصرخات رعب وحشية هربوا لخيامهم ، وإذ ظنوا زملاءهم أعداء لهم جعل الرب سيف كل واحد بصاحبه ، وبكل الجيش فأفنى بعضهم بعضا . ولما ذاعت أنباء انتصار إسرائيل رجع ألوف ممن كان جدعون قد أرجعهم إلى بيوتهم وجعلوا يطادرون أعدائهم الهاربين ، وكان المديانيون متجهين نحو الأردن على أمل أن يبلغوا موطنهم عبر النهر . فأرسل جدعون رسلا إلى سبط أفرايم يستنهضهم ليصدوا الهاربين عند مخاوض الجنوب أما جدعون ففي أثناء ذلك سار هو والثلاث مئة رجل . ( معيين ومطاردين ) فعبروا النهر يتعقبون أعدائهم الذين وصلوا إلى الضفة الأخرى . وقد لحق جدعون بملكي مديان زبح وصلمناع اللذين كانا على كل الجيش ، والذين كانا قد هربا على رأس جيش عدده خمسة عشرة ألف رجل فتشتت شمل ذلك الجيش بالتمام ، وقبض جدعون على ذينك القائدين وقتلهما . AA 494.2

في هذه الغلبة الفردية قتل من أولئك الغزاو ما لا يقل عن مئة وعشرين ألف رجل . فكسرت شوكة مديان بحث لم يعودوا قادرين على أن يشنوا حربا على إسرائيل بعد ذلك . وذاعت الأخبار بسرعة من أقصى البلاد إلى أقصاها أن إله إسرائيل قد حارب عن شعبه مرة أخرى . وإن الكلمات لتعجز عن وصف الرعب الذي استولى على الأمم المجاورة حين علموا بالوسائل البسيطة التي بواسطتها انتصر شعب الله وسحقوا قوة ذلك الشعب الباسل . AA 494.3

إن ذلك القائد الذي اختاره الله ليقهر به المديانيين لم يكن ذا مركز مرموق في إسرائيل إذ لم يكن حاكما ولا كاهنا ولا لاويا . وقد قال عن نفسه أنه الأصغر في بيت أبيه . ولكن الله رأى فيه رجل البسالة والاستقامة . إنه لم يركن إلى نفسه بل رغب في اتباع إرشادات الله . إن الرب لا يستخدم في عمله دائما أولئك الرجال ذوي المواهب العظيمة . بل هو يستخدم أولئك الذين يمكنه أن يستخدمهم أفضل استخدام . يقول الحكيم : ( قبل الكرامة التواضع ) (أمثال 15 : 33) إن الله يستطيع أن يعمل بكيفية أفعل بواسطة أولئك الذين يحسون إحساسا عميقا بعدم كفايتهم والذين يعتمدون عليه كقائدهم ، نبع قوتهم . إنه يجعلهم أقوياء بكونه يقرن ضعفهم بقوته وحكماء بكونه يقرن جهالتهم بحكمته . AA 495.1

لو أن شعب الله يتسربلون بالوداعة الصادقة لكان الرب يصنع لأجلهم أعمالا اعظم . ولكن ، قليلون هم الذين يمكن أن يستند إليهم جانب كبير من المسؤولية أو النجاح دون أن يكونوا واثقين بأنفسهم وناسين اعتمادهم على الله . هذا هو السبب الذي لأجله حين يختار الله من يقومون بعمله يغفل أولئك الذين يكرمهم العالم معتبرا إياهم عظماء وموهوبين وأذكياء أنهم في غالب الأحيان يكونون متكبرين ومتكلين على ذواتهم . فهم يحسون بأنهم أكفاء لأن يعملوا دون انتظار مشورة الله . AA 495.2

إن العمل البسيط الذي عمله يشوع حين ضرب رجاله بالبوق في طوافهم حول أريحا ، والذي عملته جماعة جدعون الصغيرة حول جيوش مديان صار فعالا بقوة الله في هدم قوة الأعداء . إن أكمل نظام يمكن أن يبتكره الناس ، منفصلا عن قوة الله وحكمته ، مصيره إلى الفشل ، بينما الوسائل التي لا يرجى منها خير تنجح إذا كانت معينة من الله ، وإذا شرع المسؤولون في تنفذيها بوداعة وإيمان . إن الثقة بالله والطاعة لإرادته أمران جوهريان ولازمان للمسيحي في حربه الروحية كما كانا لازمين لجدعون ويشوع في حربهما مع الكنعانيين . إن الله بمظاهر قدرته المتكررة لأجل إسرائيل أراد أن يقودهم إلى الإيمان به . وأنه يمكنهم بكل ثقة أن يطلبو معونته في كل الطوارئ . وهو الآن على أتم استعداد لأن يعمل مع مجهود شعبه ويصنع عظائم بالوسائط الضعيفة . إن السماء كلها تنتظر منا أن طلبم منها الحكمة والقوة . والله قادر ( أن يفعل فوق كل شيء ، أكثر جدا مما نطلب أو نفتكر ، وبحسب القوة التي تعمل فينا ) (أفسس 3 : 20 ) . AA 495.3

عاد جدعون من مطاردة أعداء الأمة ليواجه انتقاد مواطنيه واتهاماتهم . فحين اجتمع شعب إسرائيل تلبية لندائه ظل رجال سبط أفرايم متخلفين إذ رأوا أن هذا العمل عمل مخطر ، وحيث أن جدعون لم يوجه إليهم دعوى خاصة اعتبروا هذا عذرا لهم حتى لا ينضمو إلى إخوتهم . ولكن عندما وصلتهم أنباء انتصار إسرائيل أكل الحسد قلوبهم لانه لم يكن لهم نصيب في ذلك الانتصار . فبعد هزيمة المديانيين تقدم رجال أفرايم امتثالا لأومر جدعون وأخدوا مخاوض الأردن وبذلك منعوا الهاربين من الإفلات ، وبهذه الوسيلة قتل كثيرون من جيوش العدو ومن بينهم أميران هما غراب وذئب . وهكذا تابع رجال أفرايم المعرفة وأعانوا على تكملة الانتصار . ومع ذلك فقد كانوا حسودين وغاضبين كما لو كان جدعون يتبع إرادته وحكمه الخاص . إنهم لم يروا يد الله عامل في انتصار إسرائيل ولم يقدروا قدرته ورحمته في خلاصهم . فبرهنت هذه الحقيقة على عدم استحقاقهم لأن يختارهم الله كوسائط في يده للعمل معه. AA 496.1

وإذ عادوا بتذكارات انتصارهم وبخوا جدعون بغضب قائلين : ( ما هذا الأمر الذي فعلت بنا ، إذ لم تدعنا عند ذهابك لمحاربة المديانيين ؟ ) . فأجابهم بقوله : ( ماذا فعلت الآن نظيركم ؟ أليس خصاصة أفرايم خيرا من قطاف أبيعزر ؟ ليدكم دفع الله أميري المديانيين غرابا وذئبا . وماذا قدرت أن أعمل نظيركم ؟ ) . AA 496.2

ان روح الحسد كان يمكن أن تتفاقم حتى تصير شجارا عنيفا يفضي إلى سفك الدماء . ولكن جواب جدعون اللين صرف غضب رجال أفرايم بعادوا بسلام إلى بيوتهم . إن جدعون الذي كان ثابتا في المبدأ لا يلين وكان في الحرب )جبار البأس) قد أظهر روح اللطف والرقة النادرة الوجود . AA 496.3

إن شعب إسرائيل اعترافا منهم بالشكر على الخلاص من المديانيين اقترحوا على جدعون أن يملك عليهم وأن يدوم السلطان لنسله مع بعده . ولكن هذ الاقتراح كان انتهاكا لمبادئ حكم الله (الثويوقراطي) . لقد كان الله ملك إسرائيل ، فكونهم يجلوسن على العرش إنسانا لمما يعتبر رفضا لملكهم السماوي . اعترف جدعون بهذه الحقيقة ، وبرهن جوابه على صدق بواعثه ونبلها إذ قال لهم : ( لا أتسلط أنا عليكم ولا يتسلط ابني عليكم . الرب يتسلط عليكم ) . AA 496.4

ولكن جدعون ارتكتب خطا آخر جلب النكبات على بيته وعلى كل إسرائيل . إن وقت البطالة الذي يجيء عقب حرب عظيمة هو وقت غالبا ما يكون مشحونا بمخاطر أعظم من مخاطر الحرب ذاتها . وها هو جدعون يتعرض الآن لهذه المخاطر . لقد انتابه روح الاضطراب . كان قبلا قانعا بتنفيذ الأوامر التي يتلقاها من الله ، أما الآن فبدلا من أن ينتظر إرشاد الله ابتدأ الخطط لنفسه . إن جيوش الله حين تحرز انتصارا عظيما يضاعف الشطيان جهوده ليدمر عمل الله ويلاشيه . وهكذا خطرت ببال جدعون أفكار وخطط كان من نتائجها ضلال شعب إسرائيل . AA 497.1

إن الرب لكونه قد أمره بتقديم ذبيحة على الصخرة التي ظهر له ملاك الرب عندها ، استنتج أنه قد اختير ليكون كاهنا . وبدون أن ينتظر مصداقة الله ، عزم على إيجاد موضع مناسب ، وأراد أن يسن نظاما للعبادة مشابها لما كان يجري في خمية الاجتماع . وإذ ظفر بتأييد شعبي قوي له لم يجد صعوبة في تنفيذ خطته . وإجابة لطلبه أعطيت له كل أقراط الذهب التي غنموها من المديانيين على أنها نصبه من الغنيمة ، كما جمع الشعب كذلك أشياء أخرى ثمينة ومعها ثياب الأرجوان الغالية التي كان يملكها أمراء مديان . ومن هذه الأشياء صنع جدعون أفودا وصدرة كالتي كان يلبسها رئيس الكهنة . فكان تصرفه هذا شركا لنفسه ولعائلته ولإسرائيل أيضا . وهذه العبادة غير المشروعة أدت بكثيرين من بني إسرائيل أخيرا أن يتركوا الرب تماما ويتعبدوا للأوثان . وبعد موت جدعون اشتركت جماعات كبيرة من الشعب ومن بينهم عائلته في هذا الارتداد . لقد ابتعد الشعب عن الله بواسطة نفس الرجل الذي كان يقوض وثنيتهم من قبل . AA 497.2

قليلون هم الذين يتحققون من مدى انتشار تأثير كلامهم وأعمالهم . كم من مرة تجلب أخطاء الآباء أقسى النكبات على أولادهم وأحفادهم بعد موت الآباء بزمن طويل ! كل إنسان يؤثر في الآخرين تأثيرا خاصا ، وسيعطي حسابا عن نتائج ذلك التأثير . إن الأقوال والأفعال لها تأثير فعال ، والأبدية التي لا نهاية لها ستبرهن على قوة تأثير حياتنا هنا . وإن تأثير أقوالنا وأعمالنا لا بد أن يكون له رد فعل على أنفسنا بالبركة أو باللعنة . هذا الفكر يعطي لحياتنا قدسية وجلال عظيمين كما أنه يحتم علينا أن نقترب إلى الله في صلاة متواضعة خاشعة حتى يقودنا بحكمته . AA 497.3

إن أولئك الذين يحتلون أسمى المراكز يمكن أن يضلوا الآخرين . فأحكم الناس يخطئون ، وأقوى الناس قد يترددون ويعثرون ، لذلك نحن بحاجة إلى أن يشرق علينا دائما نور من السماء لينير طريقنا . إن سلامتنا هي في أن نسلم طرقنا تسليما كاملا لذاك الذي قال : ( اتبعني ) (لوقا 9 : 59) . AA 498.1

( وكان بعد موت جدعون أن بني إسرائيل ... لم يذكروا ... الرب إلههم الذي أنقذهم من يد جميع أعدائهم من حولهم . ولم يعملوا معروفا مع بين يربعل ، جدعون ، نظير كل الخير الذي عمل مع إسرائيل ) فإذ نسوا كل الدين الذي كان في أعناقهم لجدعون قاضيهم ومنقذهم قبل شعب إسرائيل أبيمالك ابن أمته ملكا عليهم ، قبلوا ذاك الذي لكي يوطد سلطانه قتل كل بني جدعون الشرعيين ما عدا واحدا . إن الناس حين يطرحون خوفا الله بعيد عنهم فسرعان ما يبعتدون عن الكرامة والاستقامة ، فتقدير الناس لرحمة الرب سيقودهم إلى تقدير أولئك الذي كجدعون قد استخدمهم الله في يده آلات بارك بها شعبه . إن القسوة التي أبداها بنو إسرائيل نحو بيت جدعون كانت أمرا منتظرا من شعب أبدي مثل هذا الجحود العظيم نحو الله . AA 498.2

وبعد موت أبيمالك ساعد حكم القضاة ، بعض الوقت ، الذين كانوا يتقون الله على صد تيار الوثنية ، ولكن لم يمض وقت طويل حتى عاد الشعب إلى الأعمل الوثينة التي كانت تمارسها القبائل المحيطة بهم . فبين الأسباط الساكنة في الشمال كان كثيرون يتعبدون لآلهة آرام وصيدون ، وفي الجنوب عبدوا آلهة الفلسطينيين ، وفي الشرق عبدوا آلهة موآب وبني عمون ، فارتدت قلوبهم عن إله آبائهم . ولكن الارتدادا سرعان ما جاء في أذياله القصاص . فلقد أخضع بنو عمون الأسباط الساكنة شرقا ، وإذ عبرو الأردن غزوا إقليم يهوذا وأفرايم . وقد صعد الفلسطينيون من السهل الواقع على البحر في الغرب وأحرقوا ونهبوا مدنا كثيرة . ومرة أخرى بدا كأن إسرائيل قد تركوا في قبضة أعداء لا يعرفون الرحمة . AA 498.3

ومرة أخرى طلب الشعب العون من ذاك الذي كانوا قد تركوه وأهانوه . ( فصرخ بنو إسرائيل إلى الرب قائلين : « أخطأنا إليك لأننا تركنا وعبدنا البعليم ») . (انظر قضاة 10 : 10 — 16) ولكن حزنهم لم ينشئ فيهم توبة حقيقية . لقد ناح الشعب لأن خطاياهم جلبت عليهم المتاعب والآلام ولكنهم لم ينوحوا لأنهم قد أهانوا الله بتعديهم شريعته المقدسة ، إن التوبة الحقيقة هي شيء أعظم وأعمق من الحزن على الخطية . إنها الرجوع بعزم صادق عن الشر . AA 498.4

ثم أجابهم الرب بواسطة أحد أنبيائه قائلا : ( أليس من المصريين والأموريين وبني عمون والفلسطينيين خلصتكم ؟ والصيدونيون والعمالقة والمعونيون قد ضايقوكم فصرختم إلي فخلصتكم من أيديهم ؟ وأنتم قد تركتموني وعبدتم آلهة أخرى . لذلك لا أعود أخلصكم . امضوا واصرخوا إلى الآلهة التي اخترتموها ، لتخصلكم هي في زمان ضيقكم ) . AA 499.1

إن هذه الاقوال المقدسة والمخيفة تنتقل بالذهن إلى الأمام إلى مشهد آخر — مشهد يوم الدينونة الأخير العظيم - حيت يقف أولئك الذين قد رفضوا رحمة الله واحتقروا نعمته وجها لوجه أمام عدالته . فأمام عرش الدينونة ذاك لا بد من أن أولئك الذين استخدموا الوزنات المعطاة لهم من الله ، الوقت والمال والحقل لخدمة آلهة هذا العالم سيعطون عنا حسابا أمام الديان . لقد تركوا صديقهم الأمين المحب ليسيروا في طريق الراحة والمسرات العالمية . إنهم في وقت ما قصدوا أن يرجعوا إلى الله ، ولكن العالم بما فيه من جاهلات وأباطيل ومخاتلات استولى على كل اهتمامهم . ثم أن التسليات التافهة والكبرياء والتأنق في اللبس والانغماس في شهوى الطعام قست قلوبهم وخدرت ضمائرهم حتى لم يسمعوا صوت الحق . كما أنهم استخفوا بواجبهم وازدروا الأمور العظيمة القيمة حتى لم تعد في قلوبهم أية رغبة في التضحية بأي شيء لأجل ذاك الذي قدم كثيرا وضحى كثيرا لأجل الإنسان . إلا أنهم في وقت الحصاد لا بد من أن يحصدوا ما قد زرعوه . AA 499.2

يقول الرب : ( لأني دعوت فأبيتم ، ومددت يدي وليس من يبالي ، بل رفضتم كل مشورتي ، ولم ترضوا توبيخي ... إذا جاء خوفكم كعاصفة ، وأتت بليتكم كالزوبعة ، إذا جاءت عليكم شدة وضيق . حيئنذ يدعونني فلا أستجيب . يبكرون إلي فلا يجدونني . لأنهم أبغضوا العلم ولم يختاروا مخافة الرب . لم يرضوا مشورتي . رذلو كل توبيخي . فلذلك يأكلون من ثمر طريقهم ، ويشبعون من مؤامراتهم) ( أما المستمع لي فيسكن آمنا ، ويستريح من خوف الشر ) (أمثال 1 : 24 — 31 ، 33) . AA 499.3

أما الآن فقد تذلل الإسرائيليون أمام الرب ( وأزالوا الآلهة الغربية من وسطهم وعبدوا الرب ) . فحزن قلب الله المحب و ( وضاقت نفسه بسبب مشقة إسرائيل ) آه ما أعظم رحمة الله الصابرة ! فحين أزال شعبه الآلهة الغريبة التي حجبت وجهه عنهم سمع صلاتهم وللحال بدأ يعمل لأجلهم . AA 499.4

ثم أقام لهم الرب يفتاح الجلعادي مخلصا ، فحارب بني عموت وسحق قوتهم . وفي هذه المرة ذل بنو إسرائيل تحت أيدي أعدائهم ثماني عشرة سنة ، ومع ذلك فسرعان ما نسوا الدرس الذي علمتهم إياه المتاعب والضيقات . AA 500.1

ولما عاد شعب الله إلى طريقهم الشريرة سمح الرب للفلسطينيين أعدائهم الأشداء بأن يسحقوهم ويضطهدوهم . وقد ضايقهم أعداءهم لسنين طويلة . وفي بعض الأحيان كان أولئك الأعداء القساة الميالون للحرب يخضعونهم تماما . لقد اندمجو مع هؤلاء الوثينيين اورتبطوا بهم في مسراتهم وعبادتهم حتى بدا كأنهم صاروا واحدا معهم في روحهم ومصالحهم . وحيئنذ انقلب أصدقاء إسرائيل هؤلاء فصاروا ألد أعدائهم وحاولوا بكل وسيلة أن يهلكوهم . AA 500.2

إن المسيحيين في غالب الأحيان يتشبهون ببني إسرائيل في الخضوع لتأثير العالم والتشبه به في المبادئ والعادات ليظفروا بصداقة الأشرار ، ولكن في النهاية سيظهر أولئك الذين يتظاهرون بصداقتهم لشعب الله على حقيقتهم وإذا بهم أخطر الأعداء . إن الكتاب يعلمنا صريحا أنه لا يمكن أن تكون هنالك شركة أو انسجام بين شعب الله والعالم . يقول يوحنا الرسول : ( لا تتعجبوا يا إخوتي إن كان العالم يبغضكم ) (1 يوحنا 3 : 13) . ومخلصنا يقول : )اعلموا أنه قد أبغضني قبلكم ) (يوحنا 15 : 18) . إن الشيطان يستخدم الأشرار تحت ستار من الصداقة المصطنعة في إغواء شعب الله حتى يرتكبوا الخطية ليفصلهم عنه ، فمتى قوض حصن دفاعهم يقود أتباعه لينقلبوا عليهم ويسعى لتكميل هلاكهم . AA 500.3

* * * * *