الاباء والانبياء

57/75

‏الفصل الخامس والخمسون—الصبي صموئيــل

‏ إن ألقانة الذي كان لاويا يسكن في جبل أفرايم كان رجل واسع الثراء وقوي النفوذ ، ‏يحب الله ويتقيه ‏. أما امرأتـه ‏واسمها حنة فكانت حارة وغيورة في تقواها . وإذ كانت سيدة دمثة الأخلاق ، ‏وديعة ومحتشمة ، ‏فقد امتازت أخلا‏قها بالاجتهاد العظيم والإيمان الوطيد. AA 510.1

‏ ولكن البركة التي يطلبها كل عبراني وعبرانية بكل حرارة وغيرة حرم منها ذانك الزوجان التقيان ، ‏فلم تبتهج جوانب ذلك البيت بأصوات الأطفال وضحكاتهم . ثم أن رغبة الزوج في تخليد اسمه قادته - كما قادت آخرين كثيرين ، ‏إلى أن يعقد زواجه على امرأة أخرى . ولكن هذه الخطوة التي دفعه إليها عدم الإيمان بالله لم تأت بالسعادة . نعم إن بنين وبنات قد أضيفوا إلى تلك العائلة ولكن فرح وجمال سنة الله المقدسة (الزواج) قد تشوه ، ‏وسلام العائلة قد تحطم . فلقد كانت فننة الزوجة الجديدة امرأة حسودا وضيقة العقل ممتلئة بالكبرياء والوقاحة ، ‏فبدا لحنة كأن رجاءها قد تحطم ، ‏وصارت الحياة عبئا ثقيلاً عليها ، ‏ومع ذلك فقد واجهت تلك التجربة بكل وداعة وبدون تذمر . AA 510.2

‏ كان ألقانة يحفظ فرائض الله بكل أمانة ، ‏وكانت عبادة الله لم تزل تجرى في شيلوه ، ‏ولكن بسبب اختلال نظام الخدمات استغني عن خدمة ألقانة في مقدس الرب ، ‏تلك الخدمة التي كان ينبغي أن يلازمها لكونه لاويا . ومع ذلك فقد كان يصعد مع عائلته ليسجد للرب ويقدم الذبائح في المواسم المفروضة . AA 510.3

‏ ولكن حتى في غمرة فرحة الأعياد المقدسة المتصلة بخدمة الله كان الروح الشرير الذي أوقع اللعنة على بيت ألقانة يتطفل على ذلك المكان المقدس . فبعد تقديم ذبيحة الشكر اشتركت كل العائلة بموجب العادات المرعية في وليمة مقدسة مفرحة . وفي تلك المناسبات أعطى ألقانة أنصبة لفننة ولكل بنيها وبناتها ، ‏ولكنه لكي يبرهن على اهتمتمه بحنة أعطاها نصيب ‏اثنين ليدل على أن محبته لها لم تنقص بل هي باقية كما لو كانت قد أنجبت ابنا . وحينئذ اشتعلت نار الغيرة والحسد في قلب الزوجة الثانية التي ادعت أن لها الأفضيلة كمن لها الحظوة العظيمة لدى الله ، وجعلت تعير حنة بعقمها كدليل على سخط الرب عليها . وكان هذا يتكرر سنة بعد سنة حتى لم تعد حنة تطيق الاحتمال أكثر . وإذ لم تعد قادرة على إخفاء حزنها أطلقت لنفسها العنان في البكاء وانسحبت تاركة الوليمة . وقد حاول رجلها عبثا أن يطيب قلبها فقال لها ( يا حنة لماذا تبكين ؟ ولماذا لا تأكلين ؟ ولماذا يكتئب قلبك ؟ أما أنا خير لك من عشرة بنين ؟ ) (انظر 1 صموئيل 1 ، 2 : 1 — 11) . AA 510.4

‏ لم تنطق حنة بكلمة تعيير أو تعنيف ، لأن ذلك الحمل الذي لم يستطع أي صديق بشري أن يشاطرها في حمله ألقته على الله . فبكل حرارة وغيرة توسلت إلى الله أن ينزع عارها ويمنحها تلك العطية الثمينة - ابنا ترضعه وتربيه له . وقد نذرت نذرا مقدسا أنه إن منحها طلبها فستكرس ابنها للرب منذ ولادته . كانت حنة قد اقتربت من مدخل الخيمة ، وفي مرارة نفسها ( صلت . . . وبكت بكاء ) ولكنها كانت تصلي إلى الله وهي صامتة فلم تنطق بكلمة . في تلك الأوقات الشريرة قلما كانت ترى مثل مناظر العبادة تلك . ولم يكن الأكل في غير وقار والشراهة وحتى السكر من الأمور النادرة الوجود حتى في أثناء الأعياد الدينية . فإذ رأى عالي رئيــس الكهنة حنة ظنها سكرى . وإذ ظنها تستحق التوبيخ قال لها بعبوسة : )حتى متى ‏تسكرين ؟ انزعي خمرك عنك ) . AA 511.1

‏ ولكن مع أن هذا الكلام أفزع حنة وزاد من آلامها فقد أجابت بكل لطف قائلة : )لا يا سيدي . إني إمرأة حزينة الروح ولم أشرب خمرا ولآ مسكراً ، بل أسكب نفسي أمام الرب . لا تحسب امتلأت ابن بليعال ، لأنـــي من كثرة كربتي وغيظي قد تكلمت إلى الآن ) . AA 511.2

‏ وقد تـأثر رئيس الكهنة تـأثـيــرا عميقا لأنه كان رجل الله وبدلا من التوبيخ باركها وقال لها : )اذهبي بسلام ، وإله إسرائيل يعطيك سؤلك الذي سألته من لدنه ) . AA 511.3

‏ أجيبت صلاة حنة فنالت العطية التي طلبتها بكل لجاجة ، ودعت اسم ابنها صموئيل )مسؤول من الله) . ولما كبر ذلك الطفل وأمكنه الانفصال عن أمه تممت نذرها . لقد أحبت ابنها على قدر ما في قلب الأم من حب ، وإذ كانت قواه تنمو يوما فيوما وكانت تستمع لكلامه الصبيانى أحاطته بمحبة قلبها بشوق أزيد . لقد كان هو ابنها الوحيد وهبة السماء الخاصة لها ، ‏ولكنها تقبلته على أنه الكنز المكرس لله ، ولم تكن تريد أن تحنث في عهدها فتمنع العطية عمن قد أعطاها . AA 511.4

‏ومرة ‏أخرى سافرت حنة مع رجلها إلى شيلوه وقدمث إلى عالي الكاهن باسم الرب هبتها الثمينة قائلة : ( لأجل هذا الصبي صليت فأعطاني الرب سؤلي الذي سألته من لدنه . وأنا أيضا قد ـعرته للرب . جميع أيام حياته هو عارية للرب ) فتأثر عالي تأثيرا عميقا بإيمان هذه المرأة ‏الإسرائيلية وتكريسها . وحيث أنه كان يحب أولاده حبا مفرطا ، أحس بالرهبة والتذلل وهو يرى تلك التضحية العظيمة التي قــــد أقدمث عليها هذه الأم في الانفصال عن ابنها الوحيد لتكرسه لخدمة الله . أحس أنه قد توبخ على محبته الأنانية لأولاده . وفي تذلل ووقار سجد للرب مصليا . AA 512.1

‏ امتلأ قلب هذه الأم فرحا وشكرا ، وتاقت إلى أن تسكب شكرها لله ، فحل عليها روح الوحي ، فصلت حنة قائلة : ( فرح قلبي بالرب . ارتفع قرني بالرب . اتسع فمي على أعدائي ، لأنـــي قد ابتهجت بخلاصك . ليس قدوس مثل الرب ، لآنه ليس غيرك ، وليس صخرة مثل إلهنا . لآ تكثروا الكلام العالي المستعلي ، ولتبرح وقاحة من أفواهكم . لأن الرب إله عليم ، وبه توزن الأعمال ... الرب يميت ويحيي . يهبط إلى الهاوية ويصعد . الرب يفقر ويغني . يضع ويرفع . يقيم المسكين من التراب . يرفع الفقير من المزبلة للجلوس مع الفقراء ويملكهم كرسي المجد . لأن للرب أعمدة ‏الأرض ، وقد وضع عليها المسكونة . أرجل أتقيائه يحرس ، والأشرار في الظلام يصمتون . لأنه ليس بالقوة يغلب إنسان . مخاصموا الرب ينكسرون . من السماء يرعد عليهم . الرب يدين أقاصي الأرض ، ويعطي عزا لملكه ، ويرفع قرن مسيحه ) . AA 512.2

‏ كان كلام حنة هذا نبوة ، ‏عن داود الذى سيملك على إسرائيل ، وعن مسيا ، مسيح الرب . وإذ أشارت في صلاتها إلى افتخار امرأة ، ‏وقحة محبة للخصام ، أشارث أيضا إلى هلاك أعداء الله والنصرة ‏النهائية لشعبه المفدي . AA 512.3

‏ وقد عادت حنة بهدوء من شيلوه إلى بيتها في الرامة تاركة الصبي صموئيل يتدرب على الخدمة في بيت الله بإشراف رئيس الكهنة . لقد علمت ابنها منذ الطفولة الباكرة ، ‏أن يحب الله ويوقره معتبرا نفسه خاصة الرب . وعن طريق كل شيء مألوف لديه مما يحيط به حاولت ‏تلك الأم أن ترشد أفكاره إلى الخالق . وحين انفصلت تلك الأم الأمينة عن ابنها لم يزايلها جزعها عليه ، فكانت تصلي لأجلـــه كل يوم . وفي كل سنة كانت تصنع له بيديها جبة يخدم بها . وحين كانت تصعد إلى شيلوه مع رجلها لأجل الصلاة كانت تقدم له هذه الجبة كتذكار لمحبتها له . وكان كل خيط في هذه الجبة الصغيرة تنسجه بصلاة لأجل ابنها لكي يكون طاهرا ونبيلا وصادقا . لم تطلب لابنها عظمة عالمية ولكنها توسلت إلى الله بحرارة أن يبلغ ابنها إلى تلك العظمة التي تقدرها السماء - لكي يكرم الله ويبارك بني جنسه . AA 512.4

‏ ما كان أعظم جزاء حنة ! وما أعظم مثالها مشجعا على الأمانة ! لدى كل أم فرص غالية لا تقدر بثمن ومصالح ثمينة جدا . إن حلقة الواجبات المتواضعة التي باتت النساء يعتبرنها أعمالا مضنية ينبغي أن ينظرن إليها على أنها عمل جليل ونبيل . إنه امتياز للأم أن تبارك العالم بقوة تـأثـيــرها ، وإذ تقوم بهذا العمل يمتلئ قلبها فرحا . يمكنها أن تصنع مسالك مستقيمة يسير فيها صغارها في نور الشمس وفي الظلام إلى المرتفعات المجيدة في الأعالي . ولكن على الأم أن تتبع تعاليم المسيح في حياتها إذا أرادت أن تشكل أخلاق أولادها حسب المثال الإلهي . إن العالم مشحون بالمؤثرات المفسدة . فالأزياء والعادات لها تـأثـيــر قوي في الصغار . فإذا أخفقت الأم في واجب التعليم والإرشاد والردع فأولادها بالطبع سيرفضون الخير ويتحولون إلى الشر . فلتتعود كل أم التوجه إلى مخلصها بهذه الصلاة : أخبرنا ماذا يكون حكم الصبي ومعاملته ؟) (قضاة 13 : 12) . وعليها أن تلتفت التفاتا خاصا إلى التعليمات التي قد أوردها الله في كلمته ، وستعطى لها الحكمة على قدر ما تحتاج . AA 513.1

‏ ( وأما الصبي صموئيل فتزايد نموا وصلاحا لدى الرب والناس آيضا ) ومع أن صموئيل قضى أيام شبابه في خيمة الاجتماع مكرسا وقته لعبادة الله فإنه لم يكن بعيدا عن متناول العادات الشريرة والقدوة السيئة . فإن أبناء عالي لم يكونوا يخشون الله ولا أكرموا أباهم . إلا أن صموئيل لم يختلط بهم ولا سار في طريقهم الشريرة ، فقد كان يسعى دائما إلى أن يكون كما أراده الله أن يكون . وهذا هو امتياز كل شاب . إن الله يسر حتى حين يكرس الصغار أنفسهم لخدمته . AA 513.2

‏ أصبح صموئيل تحت رعاية عالي . وقد اجتذب جمال أخلاقه إليه قلب ذلك الكاهن الشيخ فأحبه جدا . كان مشفقا وكريما ومطيعا ووقورا . وإن عالي الذي آلمه عصيان بنيه وجد ‏الراحة والعزاء والبركة في محضر ذلك الفتى الذي وكل إليه أمر رعايته ، ‏فكان صموئيل معينا ومحبا ، ‏ولذلك أحب عالي هذا الشاب حبا حانيا لم يحببه أب ابنه ، ‏وقد كان أمرآ غريبا أن ينشأ بين رئيــس قضاة الأمة وهذا الصبي البسيط مثل تلك المحبة القوية . فلما هاجمت عالي متاعب الشيخوخة وآلامها ومضايقاتها وامتلأت قلبه جزعا وحزنا بسبب طريق الخلاعة الذي سار فيه بنوه ذهب إلى صموئيل في طلب العزاء . AA 513.3

‏ لم يكن أمرا مألوفا أن يبدأ اللاويون في ممارسة خدماتهم الخاصة حتى يبلغوا الخامسة والعشرين من العمر . ولكن صموئيل استثني من هذا القانون . وفي كل سنة كانت تسند إليه أمانات وودائع أهم ، ‏وإذ كان بعد فتى صغيرا ألبس أفودا من كتان علامة على تكريسه لعمل المقدس . ومع أن صموئيل كان فتى صغيرا جدا أتي به يخدم فى خيمة الاجتماع فقد وضعت عليه واجبات ليقوم بها في خدمة الله على قدر طاقته . كانت هذه الخدمات وضيعة في بادئ الأمر ولم تكن مسرة ولكنه قام بها بأفضل ما استطاع وبنفس راغبة . لقد حمل ديانته معه وهو يقوم بكل واجبات حياته فاعتبر نفسه خادما لله واعتبر عمله عمل الله . وقد قبلت كل مساعيه وجهوده لأن الحافز الذي دفعه للقيام بها كان محبته لله ورغبته المخلصة فى عمل إرادته . وبهذه الكيفية صار صموئيل عاملا مع رب السماء والأرض ، ‏فأهله الله ليقوم بعمل عظيم لإسرائيل . AA 514.1

‏ لو تعلم الأولاد أن يعتبروا الأعمال اليومية المتواضعة على أنها الطريق الذي رسمه لهم الرب ، ‏والمدرسة التى يتدربون فيها على القيام بخدمة أمينة وفعالة فكم كان عملهم يبدو ملذا أكثر ومشرفا أكثر ! إن كوننا نقوم بواجبنا اليومي كما للرب يكسب أصغر الأعمال جمالا عظيما ويربط بين من يشتغلون على الأرض والخلائـق المقدسة التي تفعل إرادة الـلــه فى السماء . AA 514.2

‏ إن النجاح في هذه الحياة وفي نيل الحياة الأبدية يتوقف على التفاتنا واهتمامنا بكل أمانة اهتماما يرضاه الـلــه بصغائر الأشياء ، فالكمال يرى فى أصغر أعمال الـلــه كما فى أعظمها . إن اليد التي قد علقت العوالم فى الفضاء اللانهائــي هي التي قد زينت الحقول بالزهور والزنابق في أجمل تكوين . وكما أن الـلــه كامل فى محيطه كذلك علينا نحن أيضا أن نكون كاملين في محيطنا . إن البناء القوي المتناسق لخلق قوي جميل إنما يبنى عن طريق قيام الأفراد ‏بواجباتهم ، فينبغي أن تمتاز حياتنا بالأمانة فى صغار الأمـــور كما فى كبارها بكل دقة . إن الأمانة فى الأمـــور الصغيرة والقيام بأعمال الولاء الصغيرة وأعمال الشفقة الزهيدة كل ذلك يجعل طريق الحياة منيرا بنور الفرح . ومتى انتهى عملنا على الأرض سيرى أن كل عمل من الأعمال الزهيدة التي عملناها بأمانة كان له تـأثـيــر للخير لن يمحى . AA 514.3

‏ إن شباب عصرنا الحاضر يمكنهم أن يصيروا أعزاء فى نظر الـلــه كما كان صموئيل . إذ باحتفاظهم باستقامتهم المسيحية بكل أمانة يمكنهم أن يحدثوا أثرا قويا فى عمل الإصـلاح . مثل هؤلاء الرجال يحتاجهم العالم اليوم . ولكل منهم عمل يمكن أن يسنده إليه الـلــه . إن الناس لم يحصلوا قط على نتائج صالحة لأجل الـلــه والبشرية أعظم مما يمكن أن يحققه اليوم أولئك الذين يكونون أمناء للودائع التي سلمهم إياها الرب . AA 515.1

* * * * *