الاباء والانبياء

54/75

الفصل الثاني والخمسون—الأعياد السنوية

كان على بني إسرائيل أن يجتمعوا معا ثلاث مرات في السنة في مقدس الرب لأجل العبادة (خروج 23 : 14 — 16) وقد ظلت شيلوه بعض الوقت الموضع الذي كانوا يجتمعون فيه ، ولكن بعد ذلك صارت أورشليم مركز العبادة للأمة ، وفيها كانت تجتمع الأسباط لإحياء الأعياد المقدسة . AA 481.1

كان شعب الرب محاطين بقبائل شرسة قوية محبة للحروب متلهفة على اغتصاب أراضيهم ، ومع ذلك فقد أمر كل الرجال الأصحاء الأجسام وكل العشب الذين يستطيعون أن يتحملوا مشاق السفر أن يتركوا بيوتهم إلى مكان اجتماع الشعب الواقع في وسط البلاد تقريبا . فما الذي كان يمنع أعدائهم من الإغارة على تلك البيوت العزلاء من السلاح ، وتخريبها بالنار والسيف ؟ وما لذي كان يمنعهم من غزو البلاد وأخذ بني إسرائيل سبايا في أيدي أعدائهم الغرباء ؟ لقد وعد الله أن يحمي شعبه ، ( ملاك الرب حال حول خائفيه ، وينجيهم ) (مزمور 34 : 7) . ففيما كان الإسرائيليون يصعدون للعبادة كانت قوة الله تصد عنهم الأعادء وتردعهم ، وقد وعدهم الله قائلا : ( فإني أطرد الأمم من قدامك وأوسع تخومك ، ولا يشتهي أحد أرضك حين تصعد لتظهر أمام الرب إلهك ثلاث مرات في السنة ) (خروج 34 : 24) . AA 481.2

وأول هذه الأعياد كان عيد الفصح عيد الفطير الذي يقع في شهر أبيب أول شهور السنة اليهودية ويوافق الفترة الواقعة ما بين أواخر مارس (آذار) وأوائل إبريل (نيسان) حين يكون برد الشتاء قد انتهى والمطر المتأخر قد انقطع ، وتكون الطبيعة كلها متهللة بنضارة فصل الربيع وجماله ، ويكون العشب أخضر يانعا على التلال وفي الأودية ، والزهور البرية تزين الحقول في كل مكان- والقمر الذي يكاد يكون بدرا يهج الأمسيات بنوره . هاذ هو الفصل الذي وصفه كاتب النشيد الملهم وصفا بديعا أخاذا حين قال : ( لأن الشتاء قد مضى ، والمطر مرة وزال . الزهور ظهرت في الأرض . بلغ أوان القضب ، وصوت اليمامة سمع في أرضنا . التينة أخرجت فجها ، وقعال الكروم تفيح رائحتها ) (نشيد الأنشاد 2 : 11 — 13) . AA 481.3

ومن كل البلاد كان الحجاج يتقاطرون صاعدين إلى أورشليم . فالرعاة يتركون قطعانهم ورعاة المواشي ينزلون من الجبال ، والصيادون يخرجون من بحر الجليل ، والفلاحون يتركون حقولهم وبنو الأنبياء يتركون مدارسهم المقدسة - ويتجه الجميع إلى المكان الذي كان يظهر فيه للشعب . وكانوا يسيرون في مراحل قصيرة لأن كثيرين منهم كانوا يسافرون سيرا على الأقدام . وكان كثيرون ينضمون إلى القوافل بدون انقطاع فغالبا ما كانت عدد المسافرين في القافلة يصير كبيرا جدا قبل وصولهم إلى المدينة المقدسة . AA 482.1

وكانت بهجة الطبيعة توقظ في قلوب شعب إسرائيل مشاعر الفرح والشكر لمانح كل الخيرات . وقد أنشدت الجموع تلك المزامير العبرية الجليلة وكانوا يعظمون مجد الله وجلاله . وحين كان ضارب البوق يعطي إشارة البدء في الترنيم تصحبه أصوات الصنوج ، كانت مئات الأصوات تنشد أنشودة الشكر فترتفع تلك النغمات متهللة وقائلة ( فرحت بالقائلين لي : « إلى بيت الرب نذهب» . تقف أرجلنا في أبوابك يا أورشليم ... حيث صعدت الأسباط ، أسباط الرب ... ليحمدوا اسم الرب ... اسألوا سلامة أورشليم : ( ليسترح محبوبك ) (مزمور 122 : 1 — 6) . AA 482.2

وإذ كان بنو إسرائيل يرفعون أنظارهم إلى التلال التي حولهم حيث اعتاد الوثنيون أن يوقدوا النار على مذابحهم كانوا يترنمون قائلين : ( أرفع عيني إلى الجبال ، من حيث يأتي عوني ! معونتي من عند الرب ، صانع السماوات والأرض ) (مزمور 121 : 1 ، 2)) المتوكلون على الرب مثل جبل صهيون ، الذي لا يتزعزع ، بل يسكن إلى الدهر . أورشليم الجبال حولها ، والرب حول شعبه من الآن وإلى الدهر ) (مزمور 125 : 1 ، 2) . AA 482.3

وبعدما يصعدون فوق التلال ويشرفون على المدينة المقدسة كانوا يتطلعون بوقار وخشوع إلى جموع العابدين وهم سائرون في طريقهم إلى الهيكل وإذ كانوا يرون دخان البخور صاعدا ويسمعون أبواق اللاويين معلنة بدء الخدمة المقدسة كانوا يندمجون في وحي الساعة وينشدون قائلين : ( عظيم هو الرب وحميد جدا في مدينة إلهنا ، جبل قدسه . جميل الارتفاع ، فرح كل الأرض ، جبل صهيون . فرح أقاصي الشمال ، مدينة الملك العظيم) (مزمور 48 : 1 ، 2) ( ليكن سلام في أبراجك ، راحة في قصورك ) ( افتحوا لي أبواب البر . أدخل فيها وأحمد الرب ) ( أوفي نذوري للرب مقابل شعبه ، في ديار بيت الرب ، في وسطك يا أورشليم . هللويا ) (مزمور 122 : 7 ، 118 : 19 ، 116 : 18 ، 19) . AA 482.4

وكانت كل بيوت أورشليم تفتح أبوابها على سعتها لاستقبال أولئك الحجاج ، وكانت تعد لهم الحجرات وتفرش مجانا . ومن ذلك لم يكن كافيا لتلك الجماعات العظيمة ، ولذلك كانوا ينصبون الخيام في ما يمكن الحصول إليه من أرض فضاء في المدينة وفوق التلال المتاخمة . AA 483.1

وفي عشية اليوم الرابع عشر من الشور كانوا يحتفلون بعيد الفصح . وكانت طقوسه المقدسة المؤثرة تذكرهم بنجاتهم من عبوديتهم في مصر ، وترمز إلى الذبيحة التي تخلص من عبودية الخطية . ولكن حين أسلم المخلص حياته على جلجثة بطلت فريضة الفصح كرمز ، ومن ثم فقد سنت فريضة عشاء الرب تذكارا لنفس الحادثة التي كان الفصح رمزا لها . AA 483.2

وبعد الفصح كان يجيء عيد الفطر الذي يستمر سبعة أيام وكان لهم في كل من اليوم الأول والسابع من هذا العيد محفل مقدس . ولم يكن يعمل فيهما عمل إصافي . وفي ثاني أيام العيد كانوا يقدمون لله باكورات غلات السنة . وكان الشعير هو أول الحبوب التي تنضج عند بدء العيد في فلسطين . وكان الكاهن يردد حزمة من الشعير أمام مذبح الله ، اعترافا منه بأن كل شيء للرب . ولم يكن الحصاد يجمع إلا بعد ممارسة هذه الشعائر . AA 483.3

وبعد خمسين يوما من تقديم الباكورات كان يحين موعد عيد الخمسين ، وكان يسمى أيضا عيد الحصاد أو عيد الأسابيع . وللتعبير عن شكرهم على الحنطة التي صارت خبزا يؤكل كانوا يقدمون للرب رغيفين مخبوزين مختمرين . وكان عيد الخمسين يستغرق يوما واحدا ويقضى في خدمة دينية . AA 483.4

وفي الشهر السابع كان يجيء موعد عيد المظال أو عيد الجمع . وكان هذا العيد اعترافا من الشعب بسخاء الله وجوده الظاهرين في ثمار البساتين وأشجار الزيتون والكروم . وكان هذا العيد ختام أعياد السنة . لقد أثمرت الأرض ثمارها الوفيرة ، وجمعت الغلال في الأهراء ، كما قد حزنت الثمار والزيت والخمر ، وحفظت الباكورات ، والآن فها الشعب يقدمون عطايا شكرهم لله الذي قد باركهم بتلك البركات الغنية . AA 483.5

وكان هذا العيد فرصة عظيمة لإظهار الفرح أكثر من أي عيد آخر . وكان ميعاده بعد يوم الكفارة العظيم مباشرة حين يقدم للشعب التأكيد بأن إثمهم لن يذكر بعد . فحيث قد حل السلام بينهم وبين الله فها هم الآن يتقدمون أمامه ليعترفوا بصلاحه ويسبحوه على رحمته . فبعد انتهاء أشغال الحصاد وقبل مجيء موعد أعمال العام الجديد كان الشعب أحرارا من الهموم وكان يمكنهم التمتع بتلك الأفراح المقدسة . ومع أن الأبناء وآبائهم هم الذين أمروا بحضور العيد فإن كل أفراد العائلات كانوا يحضرونه على قدر استطاعتهم ، وكانوا يرحبون بالخدم واللاوي والغريب والفقير لمشاركتهم في ولائمهم . AA 484.1

وكعيد الفصح كان عيد المظال عيادا تذكاريا . فلكي يذكر الشعب حياة اغترابهم في البرية كان عليهم أن يخرجوا من بيوتهم ويسكنوا في مظال مصنوعة من أغصان خضراء ، ( أشجار بهجة وسعف النخل وأغصان أشجار غبياء وصفصفا الوادي ) (لاويين 23 : 40 ، 42 ، 43) . AA 484.2

وفي اليوم الأول كان لهم محفل مقدس وقد أضيف إلى أيام العيد السبعة يوم ثامن كان يحفظ بنفس الكيفية . AA 484.3

وفي هذه الاحتفالات السنوية كانت قلوب الكبار والصغار تتشدد في خدمة الله ، بينما اجتماع الشعب من نواحي لبلاد المختلفة قوى الأواصر التي ربطت بينهم وبين الله وبين بعضهم بعضا . وحبذا لو كان لشعب الله في الوقت الحاضر عيد مظال - ذكري مبهجة لبركات الله التي منحها لهم . فكما كان بنو إسرائيل يحتفلون بالنجاة التي صنعها الله لآبائهم وحفظه إياهم بكفية عجائبيه في أثناء رحيلهم عن مصر كذلك ينبغي لنا أن نذكر طرق الله المختلفة التي بها أخرجنا من العالم ومن ظلمة الخطية إلى نوره العجيب نور النعمة والحق . AA 484.4

أما أولئك الذين كانوا يعيشون بعيدا عن خيمة الاجتماع فكان لزاما عليهم أن يقضوا أكثر من شهر من كل سنة في ممارسة الأعياد السنوية . إن هذا المثال مثال التكريس لله ينبغي أن يثبت في أذهاننا أهمية العبادة لله ، وضرورة وضع مصالحنا العالمية في المرتبة الثانية بعد مصالحنا الروحية والأبدية . إننا نخسر خسارة جسيمة متى أهملنا امتياز الاجتماع معا لكي يشدد أحدنا الآخر ويشجعه في خدمة الله وعبادته . إن حقائق كلمة الله تفقد أهميتها وقوتها المنعشة المحيية لعقولنا ، وقلوبنا لا تعود تستنير أو تستيقظ بالتأثيرات المقدسة وتضعف في الروحيات بسبب إهمال هذا الواجب . وفي معاشراتنا كمسيحيين نخسر كثيرا لانعدام روح العطف نحو بعضنا بعضا . إن ذلك الذي يحبس نفسه وينطوي على نفسه لا يملأ المركز الذي جعله الله فيه . كلنا أولاد لآب واحد وكل منا يعتمد على الآخر لأجل السعادة . علينا مطاليب لله وللبشرية . إن إنماء العناصر الاجتماعية في طبيعتنا إنماء مناسبا هو الذي يجعلنا عطوفين على إخوتنا ويمنحنا السعادة حين نسعى لنباركهم . AA 484.5

ولم يكن عيد المظال تذكاريا فحسب ولكنه كان رمزيا أيضا . إنه لم يكن فقط يشير إلى حياة الاغتراب السابقة في البرية ، ولكنه كعيد الحصاد كان احتفالا بجمع ثمار الأرض ، وهو يشير إلى الأمام إلى يوم الجمع العظيم حين يرسل رب الحصاد جماعة الحصادين ليجمعوا الزوان ويحزموه حزما يحرق ويجمعوا الحنطة إلى المخزن . في ذلك الحين سيهلك جميع الأشرار ويكونون ( كأنهم لم يكونو ) (عوبديا 16) وكل صوت في كل المسكونة سيشترك في الفرح والتسبيح لله ، يقول الرائي : ( وكل خليقة مما في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض ، وما على البحر ، كل ما فيها ، سمعتها قائلة : « للجالس على العرش وللخروف البركة والكرامة والمجد والسلطان إلى أبد الآبدين») (رؤيا 5 : 13) . AA 485.1

لقد سبّح بنو إسرائيل الله في عيد المظال حين عادوا بالذكرى إلى رحمته التي ظهرت في نجاتهم من عبودية مصر ، ورعايته الرقيقة لهم في أثناء سني اغترابهم في البرية . كما فرحوا أيضا لشعورهم بغفرانه لهم وقبوله إياهم بواسطة خدمة يوم الكفارة التي سبق انتهاؤها . ولكن متى جمع مفديو الرب في كنعان السماوية آمنين ، ونجو إلى الأبد من عبودية اللعنة إذ أن ( كل الخليقة تئن وتتمخض معا إلى الآن ) (رومية 8 : 22) فسيفرحون بفرح ملئ بالمجد لا ينطق به . وحيئنذ سيكمل العمل العظيم ، عمل كفارة المسيح لأجل الناس وستمحى خطاياهم إلى الأبد . AA 485.2

( تفرح البرية والأرض اليابسة ، ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس . يزهر إزهارا ويبتهج ابتهاجا ويرنم . يدفع إليه مجد لبنان . بهاء كرمل وشارون . هم يرون مجد الرب ، بهاء إلهنا . حينئذ تتفقع عيون العمي ، وآذان الصم تتفتح . حينئذ يقفز الأعرج كالإيل ويترنم لسان الأخرس ، لأنه قد انفجرت في البرية مياه ، وأنهار في القفر . ويصير السراب أجماُ ، والمعطشة ينابيع ماء ... وتكون هناك سكة وطريق يقال لها ) الطريق المقدسة ( . لا يعبر فيها نجس ، بل هي لهم . من سلك في الطريق حتى الجهال ، لا يضل . لا يكون هناك أسد ، وحش مفترس لا يصعد إليها ، لا يوجد هناك . بل يسلك المفديون فيها ومفديو الرب يجرعون ويأتون إلى صهيون برتنم ، وفرح أبدي على رؤوسهم . ابتهاج وفرح يدركانهم . ويهرب الحزن والتنهد ) . (إشعياء 35 : 1 ، 2 ، 5 ، 10) . AA 486.1

* * * * *