الاباء والانبياء

50/75

الفصل الثامن والأربعون—تقسيم كنعان

إن النصرة التي أحرزها إسرائيل في بيت حورون تلاها الغزو السريع لجنوبي كنعان . ( فضرب يشوع كل أرض الجبل والجنوب والسهل ... وأخذ يشوع جميع أولئك الملوك وأرضهم دفعة واحدة ، لأن الرب إله إسرائيل حارب عن إسرائيل . ثم رجع يشوع وجميع إسرائيل معه إلى المحلة إلى الجلجال ) (انظر يشوع 10 : 3 ، 43 ، و أصحاح 11) . AA 452.1

وإذ كانت قبائل شمالي فلسطين مرتعبة من النجاح الذي لازم جيوش إسرائيل تحالفت ضدهم . وعلى رأس ذلك الحلف كان يابين ملك حاصور ، وهو إقليم يقع غربي بحيرة ميروم . ( فخرجوا هم وكل جيوشهم معهم ) كان هذا الجيش أكبر بكثير من أي جيش حارب إسرائيل في كنعان . ( شعبا غفيرا كالرمال الذي على شاطئ البحر في الكثرة ، بخيل ومركبات كثيرة جدا . فاجتمع جميع هؤلاء الملوك بميعاد وجاءوا ونزلوا معا على مياه ميروم لكي يحاربوا إسرائيل ) فقدم الرب ليشوع رسالة تشجيع أخرى تقول : ( لا تخفهم ، لأني غدا في مثل هذا الوقت أدفعهم جميعا قتلى أمام إسرائيل ) . AA 452.2

وعند مياه ميروم سقط يشوع على محلة أولئك الحلفاء وأهلك جيوشهم هلاكا شاملا . ( فدفعهم الرب بيد إسرائيل ، فضربوهم وطردوهم ... حتى يبق لهم شارد ( أما المركبات والخيل التي كان الكنعانيون يعتزون بها ويفتخرون فلم يأخذها بنو إسرائيل لأنفسهم ، فبأمر من الرب أحرقت المركبات وعرقبت الخيل بحيث لم تعد صالحة لاستخدامها في الحرب . إن الإسرائيلين لم يكونو ليضعوا ثقتهم في المركبات أو الخيل بل ( في اسم الرب إلههم ) . AA 452.3

وقد أخذت المدن الواحدة في إثر الأخرى . أما حاصور التي كانت معقل ذلك الحلف فقد أحرقت بالنار ، ثم ظلت الحرب ناشبة لا يخمد أوارها عدة سنين . ولكن في نهايتها كان يشوع سيد كنعان ( واستراحت الأرض من الحرب ) . AA 452.4

ومع أن قوة الكنعانيين كانت قد تحطمت إلا أنهم لم يجردوا من أملاكهم تماما . ففي الغرب كان الفلسطينيون يملكون سهلا خصيبا بقرب شاطئ البحر ، كما أن في شماليهم كانت بلاد الصيدونيين الذين كانوا يمتلكون لبنان أيضا ، وفي الجنوب بالقرب من مصر كان أعداء إسرائيل يحتلون تلك البلاد . AA 453.1

ومع ذلك فإن يشوع لم يكن ليواصل الحرب فقد بقي لذلك القائد العظيم عمل آخر يعمله قبل اعتزال عمله كقائد لإسرائيل . فكل الأرض سواء منها ما أخضع وما لم يخضع بعد كان ينبغي تقسيمها بين الأسباط . وكان ينبغي لكل سبط أن يخضع ميراثه ويسيطر عليه سيطرة كاملة . فإذا برهن الشعب على أمانتهم لله فسيطرد أعدائهم من أمامهم ، كما أنه وعد بأن يعطيهم أملاكا إذا ظلوا أمناء لعهده . AA 453.2

وقد وكل أمر توزيع الأرض اإى يشوع وألعازار رئيس الكهنة ورؤساء الأسباط . أما تحديد مكان كل سبط فكان يحكم فيه بموجب القرعة . إن موسى كان قد عين حدود البلاد كما كانت ستقسم بين الأسباط حين يمتلكون كنعان . وكان قد عين رؤساء من كل سبط ليكون حاضرا في وقت التوزيع . وحيث أن سبط لاوي كان مكرسا لخدمة المقدس فلم يكن لهم نصيب في هذا التقسيم ، إنما خصصت لهم ثمان وأربعون مدينة في كافة أنحاء البلاد ميراثا لهم . AA 453.3

ولكن قبل البدء في توزيع الأرض التي دخلوها جاء كالب يصحبه رؤساء سبطه وقدموا مطلبا خاصا . كان كالب ، ما عدا يشوع ، أكبر رجل في إسرائيل سنا . إن كالب ويشوع هما وحدهما دون جميع الجواسيس اللذان قدما تقريرا حسنا عن أرض الموعد ، وشجعا الشعب على أن يصمدوا ويمتلكوها باسم الرب . والآن فها كالب يذكر يشوع بوعد الرب الذي قدمه له جزاء أمانته ، ( إن الأرض التي وطئتها رجلك لك تكون نصيبا ولأولادك إلى الأبد ، لأنك اتبعت الرب إلهي تماما ) (يشوع 14 : 6 — 15) ولذلك طلب أن تعطى له حبرون ملكا ، وفي هذه المدينة عاش إبراهيم وإسحاق ويعقوب سنين طويلة ، ولما ماتوا دفنوا جميعا في مغارة المكفيلة . لقد كانت حبرون موطن بني عناق الذين كان يخشى بأسهم والذين كان منظرهم مرعبا ومخيفا جدا حتى لقد ارتعب منهم الجواسيس الآخرون أشد الرعب ، وكان ذلك الرعب كافيا لأن يلاشي من قلوب كل إسرائيل الشجاعة ، فهذا المكان دون باقي الأماكن هو الذي اختاره كالب ميراثا له إذ اتكل على قدرة الله . AA 453.4

قال كالب : ( والآن فها قد استحياني الرب كما تكلم هذه الخمس والأربعين سنة ، من حين كلم الرب موسى بهذا الكلام ... والآن فها أنا اليوم ابن خمس وثمانين سنة . فلم أزل اليوم متشددا كما في يوم أرسلني موسى . كما كانت قوتي حيئنذ ، هكذا قوتي الآن للحرب وللخروج وللدخول . فالآن أعطنى هذا الجبل الذي تكلم عنه الرب في ذلك اليوم . لأنك أنت سمعت في ذلك اليوم أن العناقيين هناك ، والمدن عظيمة محصنة . لعل الرب معي فأطردهم كما تكلم الرب ) . وقد وقف إلى جانب كالب في هذا الطلب رؤساء سبط يهوذا . فإذ كان كالب هو نفسه الشخص المعين من هذا السبط لتوزيع الأرض فقد اختار أن يشرك هؤلاء الرجال معه في تقديم هذا الطلب حتى لا يبدو وأنه قد استخدم سلطته ليحصل على امتياز أناني . AA 454.1

فأجيب إلى طلبه في الحال ، لأنه لم يكن هنالك شخص آخر يمكن أن يركن إليه في غزو معقل الجبابرة هذا غير كالب ، ( فباركه يشوع ، وأعطى حبرون لكالب بن يفنة ملكا ... لأنه اتبع تماما الرب إله إسرائيل ) لقد كان إيمان كالب الآن كما كان حين قدم لموسى تقريرا يناقض ذلك التقرير المشؤوم الذي قدمه الجواسيس الآخرون . لقد آمن بوعد الله في أنه سيورث شعبه أرض كنعان . وفي هذا اتبع الرب تماما . لقد احتمل مع باقي الشعب متاعب الاغتراب الطويل في البرية ، كما أنه شاطر المذنبين في حمل أثقالهم وخيبة آمالهم ، ومع ذلك فهو لم يشك من هذا بل مجد رحمة الرب التي حفظته في البرية في حين سقطت جثث إخوته وقطعوا من أرض الأحياء . ففي وسط المشقات والمخاطر والضربات والكوارث التي حلت بالشعب وهم هائمون في البرية ، وفي أثناء سني الحرب منذ دخولهم كنعان حفظه الرب واستحياه . والآن بعدما جاوز الثمانين من العمر لم تفتر همته ولا وهن عزمه . إنه لم يطلب لنفسه بلادا مفتتحة مغلوبة على أمرها ، بل طلب أمان الذي ظن الجواسيس أنه من المستحيل إخضاعه دون باقي الأماكن أجمع . ولكنه بمعونة الله سيغتصب هذا الحصن من أيدي الجبابرة الذين صعقت قوتهم إيمان إسرائيل . إن الدافع الذي حدا كالب على أن يتقدم بهذا الطلب لم يكن رغبته في الكرامة الشخصية أو تعظيم الذات ، ولكن ذلك المحارب الشيخ الباسل كان يتوق إلى أن يعطي للشعب مثالا به يكرم الله ويشجع باقي الأسباط على أن يخضعوا إخضاعا كاملا تلك الأرض التي ظن آباؤهم أنه يستحيل التغلب عليها . AA 454.2

لقد حصل كالب على الميراث الذي قد وضع عليه قلبه مدة أربعين سنة . وإذ وثق بأن الله سيكون معه ( طرد ... من هناك بين عناق الثلاثة ) (يشوع 15 : 14) . وبعدما حصل على ميراث لنفسه ولبيته لم تضعف غيرته ولم يستقر في مكانه ليتمتع بميراثه بل ظل يواصل الحرب وقام بغزوات جديدة لأجل خير الأمة ومجد الله . AA 455.1

لقد هلك الجبناء والعصاة في البرية أما الجاسوسان الباران فقد أكلا من عنب أشكول ، فلقد أعطي لكل حسب إيمانه . إن غير المؤمنين رأوا مخاوفهم قد تحققت فبالرغم من وعد الرب أعلنوا أنه يستحيل عليهم أن يرثوا كنعان فلم يرثوها . أما أولئك الذين وثقوا بالله غير ناظرين إلى الصعوبات التي عليهم أن يواجهوها بل إلى قدرة معينهم القدير فقد دخلوا الأرض الشهية . إن العظماء قديما ( بالإيمان : قهروا ممالك ... نجوا من حد السيف ، تقووا من ضعف ، صاروا أشداء في الحرب ، هزموا جيوش غرباء ) (عبرانيين 11 : 33 ، 34) ، ( هذه هي الغلبة التي تغلب العالم : إيماننا ) (1 يوحنا 5 : 4) . AA 455.2

وهنالك طلب آخر يختص بتقسيم الأرض ، وقد كشف عن روح تختلف اختلافا بينا عن روح كالب . هذا الطلب تقدم به بنو يوسف أي سبط أفرايم مع نصف سبط منسى . إن هذين السبطين نظرا لكثرة عدد أفرادهما طلبا نصيبا مضاعفا من الأرض . إن النصيب المعين لهما كان أغنى الأرض بما ذلك سهل شارون الخصيب ، إلا أن معظم المدن الرئيسية في ذلك الوادي كانت لا تزال في أيدي الكنعانيين . ولذلك انكمش رجال ذينك السبطين وتراجعا أمام عناء وخطر إخضاع تلك الأملاك فرغبوا في أن يضاف إلى أملاكهم قسم آخر مما سبق للجيوش إخضاعه . لقد كان سبط أفرايم من أكبر أسباط إسرائيل وكان يشوع ينتمي إلى ذلك السبط ، ولذلك اعتبر رجال ذلك السبط أنهم يستحقون أن يعاملوا معاملة خاصة . وكلم بنو يوسف يشوع قائلين : “لماذا أعطيتني قرعة واحدة وحصة واحدة نصيبا وأنا شعب عظيم ؟ ” (يشوع 17 : 14 — 18) ولكنهم لم يستطيعوا زحزحة ذلك القائد الذي لا يلين عن مبدأ العدالة المشدد . AA 455.3

أجابهم يشوع قائلا : ( إن كنت شعبا عظيما ، فاصعد إلى الوعر واقطع لنفسك هناك في أرض الفرزيين والرفائيين ، إذا ضاق عليك جبل أفرايم ) . AA 456.1

لقد كشف جوابهم عن السبب الحقيقي للشكوى ، فلقد كان يعوزهم الإيمان والشجاعة لطرد الكنعانيين فلقد قالوا : ( لا يكفينا الجبل . ولجميع الكنعانيين الساكينن في أرض الوادي مركبات حديد ) . AA 456.2

كانت قوة إله إسرائيل كفيلة لشعبه ، فلو كان في قلوب بني سبط أفرايم إيمان كالب وشجاعته لما وقف أمامهم أي عدو . وبكل شجاعة وثبات واجه يشوع في محاولتهم في الهروب من المشقات والمخاطر حين قال لهم : ( أنت شعب عظيم ولك قوة عظيمة ... فتطرد الكنعانيين لأن لهم مركبات حديد لأنهم أشداء ) ، وهكذا نجد أن نفس حججهم انقلبت عليهم فحيث أنهم شعب عظيم كما قالوا فإنهم قادرون على أن يشقوا لأنفسهم كما فعل إخوتهم . فبمعونة الله لا حاجة إلى أن يخافوا من مركبات الحديد . AA 456.3

لقد كان مركز قيادة الجيش فيما مضى في الجلجال ، كما كان مركز خيمة الاجتماع هناك . أما الآن فستنقل الخيمة إلى المكان الذي ستظل فيه دائما . هذا المكان هو شيلوه ، وهي بلدة صغيرة في نصيب أفرايم في بقعة من وسط البلاد بحيث يسهل وصول كل الأسباط إليها . كان هذا القسم من البلاد قد أخضع خصوعا كاملا ولذلك فلن يجرؤ أحد على إزعاج العابدين : ( واجتمع كل جماعة بين إسرائيل في شيلوه وانصبوا هناك خيمة الاجتماع ) والأسباط الذين كانوا معسكرين ، حين انتقلت خيمة الاجتماع من الجلجال ، تبعوها ونصبوا خيامهم بالقرب من شيلوه . وقد ظلت تلك الأسباط هناك إلى أن تفرقوا لامتلاك الأرض . AA 456.4

ظل التابوت في شيلوه مدة ثلاث مئة سنة إلى أن وقع بين أيدي الفلسطينيين ومدرت شيلوه بسبب خطايا بيت عالي . ولم يعد التابوت إلى خيمة الاجتماع في شيلوه قط ، بل نقلت خدمة المقدس إلى الهيكل في أورشليم ، وعادت شيلوه مدينة عديمة الأهمية ، وليس هناك الآن غير الأطلال التي تشير إلى المكان الذي كانت فيه تلك المدينة قبلا . وبعد ذلك بسنين طويلة صار مصير تلك المدينة إنذارا وعبرة لأورشليم ، فلقد أعلن الرب على لسان إرميا النبي قائلا : ( اذهبوا إلى موضعي الذي في شيلوه الذي أسكنت فيه اسمي أولا ، وانظروا ما صنعت به من أجا شر شعبي إسرائيل ... أصنع بالبيت الذي دعي باسمي عليه الذي أنتم متكلون عليه ، وبالموضع الذي أعطيتكم وآبائكم إياه ، كما صنعت بشيلوه ) (إرميا 7 : 12 ، 14) . AA 456.5

( ولما انتهوا من قسمة الأرض ) ووزع على كل الأسباط ميراثهم ، قدم يشوع طلبه ، حيث كان قد أعطي له كما قد أعطي لكالب وعد خاص بالميراث . إلا أنه لم يطلب إقليما متسعا بل مدينة واحدة ، ( حسب قول الرب أعطوه المدينة التي طلب ... فبني المدينة وسكن بها ) (يشوع 19 : 49 ، 50) . والاسم الذي أطلق على المدينة هو تمنة سارح (ومعناه ، النصيب الباقي) . وهذه شهادة ثابتة على نبل أخلاق ذلك الفاتح وروح الإيثار الذي امتاز به الذي بدلا من أن يكون هو أول من يأخذ لنفسه غنائم المدن التي افتتحها ، أخر مطلبه حتى انتهى أفقر الفقراء من أخذ نصيبه . AA 457.1

وقد أفرزت ست مدن للاويين ، ثلاث منها على كل جانب من جانبي الأردن — أفرزت هذه المدن لتكون مدن ملجأ ليهرب إليها القاتل ليحتمي فيها . إن موسى هو الذي كان قد أمر بتخصيص تلك المدن لتلك الغاية ( ليهرب إليها القاتل الذي قتل نفسا سهوا . فتكون لكم المدن ملجأ ... لكيلا يموت القاتل حتى يقف أمام الجماعة للقضاء ) (عدد 35 : 11 ، 12) . هذا الإجراء الرحيم صار لازما بسبب وجود عادة الثأر الشخصي القديمة التي بموجبها تؤول معاقبة القاتل إلى أقرب الأقرباء أو الوريث الأقرب إلى القتيل . أما في الحالات التي فيها تثبت الجريمة بجلاء فلم يكن هناك ما يدعوا للانتظار حتى يجري القضاة المحاكمة . فيمكن لولي الدم أن يتعقب المجرم في أي مكان ويقتله أينما يجده . ولم ير الرب مناسبة إبطال تلك العادة في ذلك الحين ، إلا أنه أعد العدة ليكفل سلامة من يقتلون سهوا بغير تعمد . AA 457.2

ثم وزعت مدن الملجأ بحيث تكون كل منها على مسافة سفر نصف يوم في أي قسم من أقسام البلاد . والطرق المؤدية إليها كان يجب أن تظل دائما ممهدة وفي حالة جيدة . وعلى طول الطريق كانت لوحات للإعلان أو لافتات يكتب عليها بخط كبير واضح كلمة ( ملجأ ) حتى لا يتعطل الهارب لحظة واحدة . وكان يمكن لأي عبراني أو نزيل أو غريب أن يستفيد من هذا التدبير . ولئن كان محرما على أحد أن يقتل إنسانا بريئا بتهور وفي غير روية ، فلم يكن المجرمون ليفلتوا من القصاص . كانت السلطات الحاكمة هي التي تحكم في قضية اللاجئ بمنتهى العدالة . فقط حين كان يوجد سليم النية في تهمة القتل العمد كان يسمح له بالاحتماء في مدينة الملجأ . أما المجرمون فكانوا يسلمون إلى أيدي ولي الدم . وأما أولئك الذين كان لهم حق الاحتماء بمدينة الملجأ فقد كانوا يتمتعون بذلك الامتياز على شرط أن يبقوا داخل أسوار تلك المدينة . فلو أن أحدهم تجول هنا أو هناك خارج الحدود المفروضة ووجده ولي الدم فلا بد أن يدفع حياته ثمنا للاستهانة بتدبير الرب . وعند موت الكاهن العظيم كانت تعطى الحرية لأولئك اللاجئين في العودة إلى بلادهم . AA 457.3

وعند النظر في قضية قتل ما ، لم يكن يحكم على المتهم بالموت بناء على شهادة شاهد واحد ، حتى ولو كان هنالك برهان عرضي قوي بإدانته . فلقد أمر الرب قائلا : ( كل من قتل نفسا فعلى فم شهود يقتل القاتل . وشاهد واحد لا يشهد على نفس للموت ) (عدد 35 : 30) . إن المسيح هو الذي أعطى التعليمات لموسى لأجل إسرائيل . وحين كان هو بنفسه مع تلاميذه على الأرض ، عندما كان يعلمهم عن كيفية معاملة المخطئين ردد ذلك المعلم العظيم هذا الدرس على مسامعهم ، وهو أن شهادة رجل واحد لا تبرئ ولا تدين . إن أفكار وآراء إنسان واحد لا تقضي في الأمور المختلف عليها . وفي كل هذه المسائل ينبغي أن تتفق آراء رجلين أو أكثر حيث يتحمل جميعهم المسؤولية ، ( لكي تقوم كل كامة على فم شاهدين أو ثلاثة ) (متى 18 : 16) . AA 458.1

فإذا تبرهن أن المتهم بالقتل مذنب فلا يمكن لأية كفارة أو فدية أن تنقذه من الموت . ( سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه ) (تكوين 9 : 6) ( ولا تأخذوا فدية عن نفس القاتل المذنب للموت ، بل أنه يقتل ) (عدد 35 : 31 ، 33) ( فمن عند مذبحي تأخذه للموت ) (خروج 21 : 14) . ( وعن الأرض لا يكفر لأجل الدم الذي سفك فيها ، إلا بدم سافكه ) (عدد 35 : 33) إن سلامة وطهارة الأمة كانتا تتطلبان معاقبة خطية القتل بقساوة إذ أن الحياة البشرية التي لا يمنحها غير الله وحده ينبغي المحافظة عليها وتقديسها بكل حرص . AA 458.2

إن مدن الملجأ قد عينها الله لشعبه قديما كانت رمزا إلى الملجأ الذي قد أعد لنا في المسيح . إن نفس المخلص الرحيم الذي عين مدن الملجأ الوقتية تلك ، أعد ، بسفك دمه ، مكانا مأمونا يهرب إليه من يتعدون شريعة الله ليحتموا فيه من الموت الثاني ، ولا يمكن لأية قوة مهما عظمت أن تختطف من يده تلك النفوس التي تذهب إليه في طلب الغفران . ( إذا لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع) ، ( من هو الذي يدين ؟ المسيح هو الذي مات ، بل بالحري قام أيضا ، الذي هو أيضا عن يمين الله ، الذي أيضا يشفع فينا ) ، ( حتى ... تكون لنا تعزية قوية ، نحن الذين التجأنا لنمسك بالرجاء الموضوع أمامنا ) (رومية 8 : 1 ، 34 ، عبرانيين 6 : 18) . AA 459.1

إن من كان يهرب إلى مدينة الملجأ لم يكن ليتباطأ بل كان يترك خلفه عائلته وعمله . ولم يكن لديه وقت ليودع أحباءه . إن حياته كانت معرضة للخطر ، وكان يجب عليه أن يضحي بالمصالح الأخرى في سبيل هذا الغرض الواحد - وهو وصوله إلى موطن الأمان . كان ينسى التعب والإعياء ، وما كان يكترث للصعوبات . وما كان الهارب ليجرؤ على التهمل لحظة واحدة في ركضه حتى يجد نفسه داخل أسوار المدينة . AA 459.2

إن الخاطئ معرض للموت الأبدي حتى يجد ملجأ في المسيح . كما أن التلكؤ وعدم المبالاة كان بإمكانهما أن يسلبا من الهارب فرصته الوحيدة للظفر بالحياة فكذلك الإهمال وعدم الاكتراث يمكنهما أن يسوقا النفس إلى الهلاك ، فالشيطان الذي هو الخصم الأعظم ، يجد في أثر كل من يتعدون شريعة الله المقدسة . فالذي لا يحس بخطره ولا يسرع بكل غيرة ليحتمي في الملجأ الأبدي ، لا بد أن يقع فريسة بين يدي المهلك . AA 459.3

واللاجئ الذي كان يخرج في أي وقت خارج مدينة الملجأ يصبح تحت رحمة ولي الدم . وهكذا تعلم الشعب أن يتمسكوا بالوسائل التي قد عينتها حكمة الله غير المحدودة لضمان سلامتهم ، كما أنه يجب ألا يكتفي الخاطئ بالإيمان بالمسيح لأجل الغفران بل عليه بالإيمان والطاعة أن يثبت فيه ، ( فإنه إن أخطأنا باختيارنا بعدما أخذنا معرفة الحق ، لا تبقى بعد ذبيحة عن الخطايا ، بل قبول دينونة مخيف ، وغيرة نار عتيدة أن تأكل المضادين ) (عبرانيين 10 : 26 ، 27) . AA 459.4

إن سبطين من أسباط إسرائيل وهما رأوبين وجاد ونصف سبط منسى كانوا قد أخذوا ميراثهم قبل عبور الأردن. إن رعاة الغنم والمواشي إذ رأوا السهول المرتفعة الفسيحة وغابات جلعاد وباشان الخصبة التي وفرت مراعي واسعة لغنمهم ومواشيهم اجتذبتهم تلك الأرض أكثر مما اجتذبتهم كنعان نفسها . وإذ كان رجال السبطين ونصف السبط يرغبون في الاستيطان في هذا المكان فقد ارتبطوا بعهد ، وهو أن يحشدوا نصيبهم من الرجال المحاربين ليعبروا الأردن متجهزين أمام إخوتهم ويشتركوا معهم في كل المعارك حتى يمتلكوا الأرض .وقد تمموا مطاليب ذلك العهد بكل أمانة . فإذ دخل الأسباط العشرة إلى أرض كنعان ، عبر أربعون ألفا من بني رأوبين وبني جلعاد ونصف سبط منسى ( متجردين للجند عبروا أمام الرب للحرب إلى عربات أريحا ) (يشوع 4 : 12 ، 13) . وقد ظلوا سنين كثيرة يحاربون بكل شجاعة إلى جانب إخوتهم . والآن حان الوقت الذي فيه يعودون إلى أرض ملكهم . وكما شاركوا إخوتهم في الحرب ، كذلك أخذوا نصيبهم من الغنائم . فرجعوا ، ( بمال كثير ... وبمواش كثيرة جدا ، بفضة وذهب ونحاس وحديد وملابس كثيرة جدا ) (انظر يشوع 22) . فكان عليهم أن يقسموا هذا كله مع أولئك الذين بقوا مع عائلاتهم ومواشيهم . AA 460.1

كان عليهم الآن أن يسكنوا بعيدا عن مقدس الرب ، لذلك تطلع إليهم يشوع وهم ينصرفون ، وقلبه واجف ، إذ كان يعرف عنف التجارب التي سيعترضون لها في حياتهم حياة العزلة والتجوال ، حيث كان يخشى أن يشاركوا القبائيل الوثنية الساكنة على حدودهم في عاداتهم النجسة . AA 460.2

وإذ كان عقل يشوع وعقول القادة الآخرين رازحة تحت أثقال تطيراتهم ومخاوفهم وصلتهم أخبار غريبة . فإلى جانب الأردن بقرب المكان الذي عبر فيه الشعب النهر بطريقة عجائبية أقام رجال السبطين ونصف السبط مذبحا عظيما شبيها بمذبح المحرقة الذي في شيلوه . لقد نهت شريعة الله تحت حكم الموت ، عن إقامة عبادة أخرى غير تلك التي في المقدس . فإذا كان هذا هو الغرض من إقامة هذا المذبح وسمح ببقائه فسيبعد الشعب عن الإيمان الحقيقي . AA 460.3

فاجتمع ممثلو الشعب في شيلوه ، وفي شدة اهتياجهم وغضبهم أرادو أن يثيروا حربا على أولئك المذنبين . ولكن بفضل مشورة بعض المعتدلين والمتعقلين بين الجماعة تقرر أن يرسلوا وفدا إلى السبطين ونصف السبط مستفسرين منهم عن علة هذا التصرف . فاختاروا عشرة رؤساء ، واحدا من كل سبط ، وعلى رأسهم فينحاس الذي اشتهر بغيرته للرب في أمر فغور . AA 460.4

ومما لا ريب فيه أن رجال السبطين ونصف السبط كانوا مخطئين في كونهم شرعوا في ذلك العمل المعرض للشك الخطير دون أن يقدموا تفسيرا له ، كما أن السفراء إذ كانوا يعتقدون أن إخوتهم مذنبون فقد وبخوهم توبيخا صارما ، ثم اتهموهم بالتمرد على الرب وذكروهم بالويلات التي حلت على إسرائيل جزاء تعلقهم ببعل فغور ، فقال فينحاس لي جاد ورأوبين ، نائبا عن إسرائيل ، إنهم إذا كانوا لا يرغبون في السكنى في تلك الأرض بدون مذبح للمحرقات فإنهم يرحبون بهم ليقاسموهم ميراثهم وامتيازاتهم في عبر الأردن . AA 461.1

غير أن أولئك المتهمين أوضحوا لهم أنهم لم يقيموا ذلك المذبح ليقدموا الذبائح ، بل ليكون فقط شاهدا على أنهم مع كونهم منفصلين عن إخوتهم بالنهر إلا أنهم يعنتقون نفس إيمان إخوتهم الساكنين في كنعان . وقالوا إنهم يخشون أنه في مستقبل الأيام سيبعد أولادهم عن خيمة الاجتماع كأن لا نصيب لهم في إسرائيل . وحينئذ فهذا المذبح المبني على هيئة مذبح الرب في شيلوه ، سيكون كأي شاهد على أن من قد بنوه هم أيضا عبيد الله الحي . AA 461.2

بكل سرور قبل السفراء هذا التفسير ، وبسرعة حملوا تلك الأخبار إلى من قد أرسلوهم وهكذا استبعدت فكرة الحرب واشترك الشعب في الفرح وفي تسبيح الله . AA 461.3

وقد نقش بنور رأوبين وجاد كتابة على هذا المبذح تشير إلى الغاية من إقامته قائلين ( أنه شاهد بيننا أن الرب هو الله ) وبذلك حاولوا تلافي أي خطأ مستقبل وإزالة كل ما يمكن أن يسبب التجربة . AA 461.4

كم من المرات تنشأ مشاكل خطيرة عن سوء فهم بسيط ، حتى بين من هم مدفوعون بأنبل البواعث ، ولكن فبدون المجاملة والاحتمال ، ما أخطر ، لا بل ما أشأم النتائج التي يمكن أن تحدث . إن رجال الأسباط العشرة ذكروا كيف أن الله قد وبخهم في أمر عخان على عدم تيقظهم لاكتشاف الخطايا المتفشية بينهم . أما الآن فقد عزموا على أن يعملوا عملهم بكل حزم وغيرة ، ولكنهم وهو يحاولون التخلص من غلطتهم الأولى تطرفوا اإلى أقصى حد . فبدلا من أن يسألوا إخوتهم برقة ولطف عن حقيقة المسألة واجهوهم باللوم والإدانة . ولو أن بني رأوبين وجاد جاوبوهم بنفس الروح وبنفس الحدة لثارت بينهم الحرب . فبينما نعلم أنه أمر هام جدا من الناحية الواحدة أن لا نتساهل في معاملة الخطية ، نرى من الناحية الأخرى أنه أمر مساو في الأهمية أن لا ندين الناس ونشك فيهم على غير أساس . AA 461.5

إن كثيرين من الناس ، بينما هم شديدوا الحساسية حين يوجه إليهم أقل لوم بسبب تصرفاتهم ، فإنهم يتجاوزون الحد في قساوتهم في معاملة من يظنون أنهم مخطئون . لم يرجع إنسان قط عن خطئه باللوم والتعنيف بل كثيرون يبعدون بذلك عن طريق الصواب ويدفعوا إلى تقسية قلوبهم ضد كل توبيخ . إن روح العطف والإشفاق والرقة يمكن أن تخلص المخطئين وتستر كثرة من الخطايا . AA 462.1

إن الحكمة التي أظهرها بنو رأوبين وشركاءهم تستحق أن تكون مثالا يحتذى . وحيث كانوا بكل أمانة يحاولون أن يوطدوا دعائم الدين الحقيقي ، فقد حوكموا محاكمة خاطئة ظالمة ووجهت إليهم أقسى عبارات اللوم والتعنيف ومع ذلك فلم يغضبوا أو يثوروا . إنهم بكل لطف ورقة وصبر أصغوا إلى الاتهامات التي وجهها إليهم إخواتهم قبما حاولوا الدفاع عن أنفسهم . وبعد ذلك أوضحوا لهم إيضاحا شاملا بواعثهم وبرهنوا على براءتهم . وهكذا حكم في تلك المشكلة التي كانت تهدد الشعب بنتائج خطيرة ، وحلت بطريقة سلمية . AA 462.2

إن من يقفون إلى جانب الصواب ، يمكنهم أن يكونوا هادئين وفي غاية الرصانة حتى ولو اتهموا ظلما وكذبا ، فالله خبير وعليم بكل ما يسيء الناس فهمه ويحرفون معناه ، ونحن يمكننا أن نضع قضيتنا بين يديه بلا خوف أو وجل . وهو بكل تأكيد سيزكي دعوى كل من يتكلون عليه كما قد اكتشف جريمة عخان . إن من يحركهم روح المسيح يملكون تلك المحبة التي تتأني وترفق . AA 462.3

يريد الله أن تملك الوحدة والمحبة الأخوية بين شعبه ، فالصلاة التي قدمها المسيح قبيل صلبه كانت لكي يكون تلاميذه واحدا كما أنه هو والآب واحد ليؤمن العالم أن الله قد أرسله . وهذه الصلاة المؤثرة جدا والعجيبة جدا تصل عبر الأجيال إلى أيامنا هذه ، لأنه صلى قائلا : ( ولست أسأل من أجل هؤلاء فقط ، بل أيضا من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم ) (يوحنا 17 : 20) . فبينما لا نضحي بمبدأ واحد من مبادئ الحق ينبغي لنا أن نستهدف دائما الوصول إلى هذه الوحدة فهذا هو برهان تلمذتنا ، كما قال المسيح ( بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي : إن كان لكم حب بعضا لبعض ) والرسول بطرس يعظ الكنيسة قائلا : ( كونوا جميعا متحدي الرأي بحس واحد ، ذوي محبة أخوية ، مشفقين ، لطفاء ، غير مجازين عن شر بشر أو عن شتيمة بشتيمة ، بل بالعكس مباركين ، عالمين أنكم لهذا دعيتم لكي ترثوا بركة ) (1 بطرس 3 : 8 ، 9) . AA 462.4

* * * * *