الاباء والانبياء

51/75

الفصل التاسع والأربعون—كلمات يشوع الأخيرة

ما إن انتهت حروف الغزو حتى أوى يشوع إلى بيته في تمنة سارح براحة الاطمئنان ، ( وكان غب اأام كثيرة ، بعدما أراح الرب إسرائيل من أعدائهم حواليهم ، أن يشوع ... دعا ... جميع إسرائيل وشيوخه ورؤساءه وقضاته وعرفاءه ) (انظر يشوع 23 ، 24) . AA 464.1

مضت بضع سنين منذ استراح الشعب كل في ملكه ، وكانت تلك الشروور التي سبق أن جلبت على إسرائيل الويلات الكثيرة ، قد بدأت تستشري وتؤتي ثمارها . فإذ أحس يشوع بضعفات الشيخوخة تدب في أوصاله ، وتحقق من أن عمله موشك على الانتهاء امتلأ قلبه جزعا على مستقبل شعبه ، ولما اجتمعوا مرة أخرى حول قائدهم الشيخ جعل يخاطبهم باهتمام يفوق اهتمام الأب بأولاده ، فقال : ( وأنتم قد رأيتم كل ما عمل الرب إلهكم بجميع أولئك الشعوب من أجلكم ، لأن الرب إلهكم هو المحارب عنكم ) ومع أن الكنعانيين كانوا قد أخضعوا ، فقد كانوا يمكلون قسما كبيرا من الأرض الموعود بها لإسرائيل ، فناشد يشوع شعبه ألا يركنوا إلى الراحة وينسوا أمر الرب لهم بتجريد تلك الأمم الوثنية نهائيا من البلاد . AA 464.2

وكان الشعب بوجه عام متباطئين في إتمام عملية طرد الوثنيين . فالأسباط تفرقت كل إلى أرضه ، والجيش سرح ، ومسألة استئناف الحرب في نظرهم كانت عملا شاقا ومشكوكا فيه . ولكن يشوع أعلن قائلا لهم : ( الرب إلهكم هو ينفيهم من أمامكم ويطردهم من قدامكم ، فتملكون أرضهم كما كلمكم الرب إلهكم . فتشددوا جدا لتحفظوا وتعلموا كل المكتوب في سفر شريعة موسى حتى لا تحيدوا عنها يمينا أو شمالا ) . AA 464.3

واستشهد يشوع بالشعب أنفسهم كشهود على أنهم ما داموا يتممون الشروط فالله من جانبه أنجز وعوده لهم فقال : ( وتعلمون بكل قلوبكم وكل أنفسكم أنه لم تسقط كلمة واحدة من جميع الكلام الصالح الذي تكلم به الرب عنكم . الكل صار لكم ، لم تسقط منه كلمة واحدة ) ثم أعلن لهم أنه كما أنجز الرب مواعيده فسينفذ تهديداته ووعيده ، قال : ( ويكون كما أنه أتى علكيم كل الكلام الصالح الذي تكلم به الرب إلهكم عنكم ، كذلك يجلب عليكم الرب كل الكلام الرديء ... حينما تتعدون عهد الرب إلهكم ... يحمى غضب الرب عليكم فتبيدون سريعا عن الأرض الصالحة التي أعطاكم ) . AA 464.4

والشيطان يخدع الناس بتلك الأكذوبة القائلة إن محبة الله لشعبه عظيمة جدا بحيث أنه سيغضي عن الخطية في حياتهم ، وهو يقول إنه في حين أن تهديددات الله تخدم غرضا خاصا في حكمه الأدبي لن تنفذ حرفيا . ولكن الله في كل معاملاته مع خلائقه قد أيد مبادئ البر بإظهار الخطية على حقيقتها — وبإعلان حقيقة كون عقبتها المحتومة هي الشقاء والموت . إن غفران الخطايا غير المشروط لم يكن له وجود ولن يكون ، فمثل هذا الغفران يعلن التخلي عن مبادئ البر وطرحها جانبا مع أنها هي أساس حكم الله ، ومثل هذا الغفران يملأ قلوب كل سكان المسكونة الأبرار ذعرا ورعبا . إن الله قد كف عن عواقب الخطية بكل أمانة . فإذا لم تكن الإنذارات حقيقية فكيف نتأكد من إتمام المواعيد . إن ذلك الإحسان الذي يدعى محبة والذي يلقي بالعدل جانبا ليس هو إحسانا بل ضعفا . AA 465.1

إن الله هو مانح الحياة . ومن البدء وضعت شرائعه للحياة ، ولكن الخطية أقحمت نفسها على النظام الذي قد أقره الله ، وتبع ذلك التشويش . وما دامت الخطية باقية فلا بد من وجود الآلام والموت . والإنسان لا يمكنه أن يرجو النجاة من نتائج الخطية الوبيلة بنفسه إلا لأن الفادي قد حمل لعنة الخطية عن البشرية . AA 465.2

وقبل موت يشوع استدعي رؤساء الأسباط وممثلوه ، فاجتمعوا به مرة أخرى في شكيم إطاعة لدعوته . لم تكن هناك بقعة أخرى في كل البلاد مرتبطة بذكريات مقدسة كثيرة ، وعادت بأفكارهم إلى عهد الله مع إبراهيم ويعقوب ، وذكرتهم بعهودهم المقدسة عند دخولهم كنعان . هنا كان جبلا عيبال وجرزيم ، وكانا كلاهما شاهدين صامتين على عهودهم هذه التي كانوا قد اجتمعوا بقائدهم المزمع أن يموت لكي يجددوها أمامه . وفي كل مكان كانت أدلة هعلى ما قد فعله الله معهم ، وكيف أنه أعطاهم أرضا لم يتعبوا عليها ومدنا لم يبنوها وكروما وزيتونا لم يغرسوها . وقد ردد يشوع على مسامعهم ، مرة أخرى ، تاريخ إسرائيل ذاكرا عجايب الله لكي يشعر الجميع بمحبته ورحمته ويخدموه ( بكمال وأمانة ) . AA 465.3

وبناء على أمر يشوع أتى بالتابوت من شيلوه . وقد كانت تلك الفرصة فرصة وقار مقدسة عظيمة . وهذا الرمز إلى حضور الله سيعمق في نفوسهم التأثير الذي قصد يشوع أن يتأثر به الشعب . فبعدما استعرض أمامهم صلاح الله نحو إسرائيل طلب منهم باسم الرب أن يختاروا لأنفسهم من يعبدون . كانت عبادة الأوثان لا تزال تمارس بينهم إلى حد ما سرا . فأراد يشوع أن يجعلهم الآن يقررون قرارا ينفي هذه الخطية بعيدا عن إسرائيل ، فقاال لهم : ( وإن ساء في أعينكم أن تعبدوا الرب ، فاختاروا لأنفسكم اليوم من تعبدون ) . لقد قصد يشوع أن يقودهم إلى عباد ة الرب ليس بالاضطرار بل بالاختيار . إن محبة الله هي أساس الديانة عينا وعبادتنا لله طمعا في الجزاء الحسن أو خوفا من العقاب هي عبادة باطلة لا نفع فيها . والارتداد العلني لن يكون مكروها من الله أكثر من النفاق والعبادة الرسمية الطقسية . AA 466.1

جعل ذلك القائد الشيخ يستنهض همم الشعب ليفكروا في ما قد وضعه أمامهم في علاقته بهم من جميع نواحيه ، وليقرروا هل كانو حقا يرغبون في أن يعيشوا كما عاشت الأمم الوثنية المنحطة بهم . فإن ساء في أعينهم أن يعبدوا الرب مصدر القوة ونبع البركة فليختاروا لأنفسهم من يعبدون ( الآلهة الذين عبدهم آباؤكم ) الذين دعا الله إبراهيم ليخرج من بينهم أو ( آلهة الأموريين الذين أنتم ساكنون في أرضهم ) هذه الكلمات الأخيرة كانت توبيخا جارحا لإسرائيل . إن آلهة الأموريين لم تستطع حماية عابديها . فبسبب خطاياهم ورجاستهم وانحطاطهم هلكت تلك الأمة الشريرة . والأرض الجيدة التي كانت قبلا في حوزتهم أعطيت لشعب الله . فأية غباوة هذه أن يختار إسرائيل تلك الألهة التي سببت عبادتها هلاك الأموريين ؟ ثم قال يشوع : ( أما أنا وبيتي فنعبد الرب ) إن نفس تلك الغيرة المقدسة التي اضطرمت في قلب ذلك القائد ألهبت قلوب الشعب . وكلماته القوية جعلتهم يستجيبون لندائه في غير تردد إذ قالوا : ( حاشا لنا أن نترك الرب لنبعد آلهة أخرى ) . AA 466.2

فقال لهم يشوع ( لا تقدرون أن تعبدوا الرب لأنه إله قدوس وإله غيور ... لا يغفر ذنوبكم وخطاياكم ( فقبلما يكون هنالك إصلاح دائم ثابت ينبغي لهم أن يشعروا بعجزهم في ذواتهم عن تقديم الطاعة لله . لقد نقضوا شريعته ، فحكمت عليهم تلك الشريعة بأنهم متعدون وخطاة ولم تقدم لهم طريقا للنجاة . فحين اتكلوا على قوتهم وبرهم كان من المستحيل عليهم أن يحصلوا على غفران خطاياهم ولم يستطيعوا القيام بمطاليب شريعة الله الكاملة ولذلك فعبثا يتعهدون بأن يعبدوا الرب . إنما فقط بالإيمان بالمسيح كان يمكنهم أن ينالوا غفرانا لخطاياهم ويحصلوا على قوة لإطاعة شريعة الله . يجب أن يكفوا عن الاعتماد على مجهودهم الخاص للخلاص ويتكلوا اتكالا كاملا على استحقاقات المخلص الموعود به إذا أرادوا أن يقبلهم الله . AA 468.1

لقد حاول يشوع أن يقود سامعيه إلى أن يزنوا كلامه جيدا ويكفوا عن تقديم النذور والعهود التي هم غير مستعدين لإتمامها . فبغيرة عظيمة كرروا إعلانهم السابق قائلين : ( لا بل الرب نعبد ) ، وبكل وقار قبلوا أن يكونوا شهودا على أنفسهم بأنهم قد اختارو الرب . فرددوا عهد ولائهم مرة أخرى قائلين : ( الرب إلهنا نعبد ولصوته نسمع ) . AA 468.2

( وقطع يشوع عهدا للشعب في ذلك اليوم ، وجعل لهم فريضة وحكما في شكيم ) فبعد ما كتب تقريرا عن هذا العهد وضمه مع سفر الشريعة في جانب التابوت . وأقام تذكارا ثم قال ( إن هذا الحجر يكون شاهدا علينا ، لأنه قد سمع كل كلام الرب الذي كلمنا به ، فيكون شاهدا عليكم لئلا تجحدوا إلهكم . ثم صرف يشوع الشعب كل واحد إلى ملكه ). AA 468.3

أتم يشوع عمله لأجل إسرائيل ، إذ ( اتبع الرب تماما ) والكتاب المقدس يصفه بأنه ( عبد الرب ) . إن أنبل شهادة لأخلاقه كقائد عام هي في تاريخ الجيل الذي تمتع بثمار جهوده إذ يقول الكتاب : ( وعبد إسرائيل الرب كل أيام يشوع ، وكل أيام الشيوخ الذين طالت أيامهم بعد يشوع ) . AA 468.4

* * * * *