الاباء والانبياء

49/75

الفصل السابع والأربعون—التحالف مع الجبعونيين

عاد الإسرائيليون من شكيم إلى محتلهم في الجلجال ، وبعد قليل أتاهم وفد من أناس غرباء ، قد رغبوا في أن يعقد معهم بنو إسرائيل معاهدة ، ثم أبان لهم أولئك السفراء أنهم قد جاءوا من بلاد بعيدة ، وقد بدا مظهرهم كدليل على صدق كلامهم ، فكانت ثيابهم رثة وبالية ، ونعالهم قديمة ومرقعة ، وخبزهم يابس ومتعفن ، وزقاق الخمر التي بأيديهم مشققة ومربوطة كما لو كانوا قد أصلحوها بعجلة في أثناء سفرهم. AA 447.1

قالوا إن مواطنيهم الساكنين في بلاد بعيدة جدا عبر حدود فلسطين . حسب ادعائهم ، سمعوا عن العجائب التي أجراها الرب مع شعبه ، فأرسلوهم لكل يعقدوا معاهدة مع إسرائيل ، وكان العبرانيون قد نهوا نهيا صريحا عن الدخول في أي عهد مع سكان كنعان الوثنيين ، فساورت الشكوك عقول قواد إسرائيل في صدق كلام أولئك الغرباء . فقالو لهم : ( لعلك ساكن في وسطي ... فقالوا ليشوع : عبيدك نحن ) (انظر يشوع 9 ، 10) ولما جابههم يشوع بسؤاله القائل : ( من أنتم ؟ ومن أين جئتم ؟ ) أعاداو على سمعه حديثهم الأول ، ولكي يبرهنوا على إخلاصهم قالوا : ( هذا خبزنا سخنا تزودناه من بيوتنا يوم خروجنا لكي نسير إليكم ، وها هو الآن يابس قد صار فتاتا . وهذ زقاق الخمر التي ملأناها جديدة ، هوذا قد تشققت . وهذه ثيابنا ونعالنا قد بليت من طول الطريق جدا ) . AA 447.2

هذه التمويهات جازت عليهم لأن العبرانيين ( من فم الرب لم يسألوا . فعمل يشوع لهم صلحا وقطع لهم عهدا لاستحيائهم ، وحلف لهم رؤساء الجماعة ) وهكذا أبرمت المعاهدة . ولكن بعد ذلك بثلاثة أيام انكشفت لهم الحقيقة إذ ( سمعوا أنهم قريبون إليهم وأنهم ساكنون في وسطهم ) . إن الجبعونيين إذ عرفوا استحالة مقاومتهم للعبرانيين لجأوا إلى هذه الحيلة إبقاء على حياتهم . AA 447.3

وقد اشتعل غضب الإسرائيليين حين علموا بتلك الخدعة التي وقعوا فيها ، وزاد غضبهم اشتعالا حين وصلوا إلى مدن الجبعونيين بعد ثلاثة أيام وإذا هي بالقرب من أواسط البلاد ، ( فتذمر كل الجماعة على الرؤساء ( ولكن أولئك الرؤساء لم يرضوا أن ينقضوا تلك المعاهدة وإن تكن مبنية على الخداع لأنهم حلفوا ( لهم بالرب إله إسرائيل ) وبنو إسرائيل لم يقتلوهم . كان الجبعونيون قد تعهدوا بأن ينبذوا الوثنية ويعبدوا الرب ، إذا فالإبقاء على حياتهم لم يكن نقضا لأمر الرب لإسرائيل بأن يهلكوا شعوب كنعان الوثنيين . لهذا فالعبرانيون لم يتعهدوا بأن يرتكبوا خطية بذلك الحلف الذي أقسموا به . ومع أن الجبعونيين قد استطاعوا بخداعهم أن يقنعوا بني إسرائيل أن يحلفوا لهم باسم الرب فهو حلف لم يمكن إغفاله ، لأن العهد الذي يأخذه أي إنسان على نفسه - إذا كان لا يلزمه بارتكاب أي عمل خاطئ — فهو ملتزم بتقديسه . إن اعتبار الربح أو الانتقام أو المصلحة الشخصية لا يمكن أن يؤثر في حرمة القسم أو العهد بأي حال ، ( كراهة الرب شفتا كذب ) (أمثال 12 : 22) . إن ( من يصعد إلى جبل الرب ؟ ومن يقوم في موضع قدسه ( هو من ( يحلف للضرر ولا يغير ) (مزمور 24 : 3 ، 15 : 4) . AA 448.1

لقد أبقى على حياة الجبعونيين ، ولكنهم ألحقوا بخدمة المقدس كعبيد بكل الخدمات الحقيرة ، ( وجعلهم يشوع في ذلك اليوم محتطبي خطب ومستقي ماء للجماعة ولمذبح الرب ) ، فبكل شكر قبلوا هذه الشروط إذ كانوا يعرفون خطأهم ، وقد سرهم أن يشتروا الحياة بأية شروط ، فقالوا ليشوع : ( والآن فهوذا نحن بيدك ، فافعل بنا ما هو صالح وحق في عينيك أن تعمل ) . ولمدة قرون طويلة لازم أبناؤهم خدمة مسكن الرب . AA 448.2

كان الإقيلم الذي يسكنه الجبعونيون يتكون من أربع مدن ، حيث لم يملك عليه ملك بل كان يحكم عليهم شيوخ أو أعيان . وكانت جبعون أعظم تلك المدن ) مدينة عظيمة كإحدى المدن الملكية ... وكل رجالها جبابرة ) ، ومن البراهين المدهشة على الرعب الذي أوقعه الإسرائيليون على سكان كنعان كون شعب مدينة عظيمة كتلك المدينة يلجأون إلى تلك الحيلة المذلة لتحفظ حياتهم . AA 448.3

ولكن لو أن الجبعونيين تصرفوا بالأمانة والصدق مع إسرائيل لنالوا حظا أفضل من هذا ، ففي حين أن خضوعهم للرب أبقى على حياتهم فإن خداعهم لم يجلب عليهم سوى العار والعبودية . لقد دبر الله أن كل من ينبذون الوثنية ويتحدون مع إسرائيل يقاسمونهم بركات العهد ، وكان الجبعونيون من ضمن الذين ينطبق عليهم الشرط القائل : ( الغريب السائر في وسطهم ) . وبقليل من الاستثناءات كان لأمثال هؤلاء الناس أن يتمتعوا بمثل ما يتمتع به إسرائيل من إنعامات وامتيازات . ولقد أمر الرب قائلا : AA 448.4

( وإذا نزل عندك غريب في أرضكم فلا تظلموه . كالوطني منكم يكون لكم الغريب النازل عندكم وتحبه كنفسك ) (لاويين 19 : 33 ، 34) . أما عن الفصح وتقديم الذبائح فقد أمر الرب قائلا : ( أيتها الجماعة ، لكم وللغريب النازل عندكم فريضة واحدة دهرية في أجيالكم . مثلكم يكون مثل الغريب أمام الرب ) (عدد 15 : 15) . AA 449.1

هذا هو المقام الذي على أساسه كان يمكن أن يقبل الجبعونيون لولا أنهم لجأو إلى الخداع . إنه لم يكن إذلالا طفيفا لمواطني تلك المدينة التي تعتبر من ( المدن الملكية ) ( وكل رجالها جبابرة ) ، أن يكونوا محتطبي حطب ومستقي ماء مدى أجيالهم . ولكن لأنهم لبسوا لباس الفقر بقصد الخداع فقد ثبت عليهم ذلك كشعار للعبودية الدائمة . وهكذا ففي أجيالهم كلها شهدت حالة العبودية الذليلة التي حكم بها عليهم على كراهة الله للكذب . AA 449.2

وقد ملأ خضوع جبعون للإسرائيليين قلوب ملوك كنعان فزعا ورعبا ، فاتخذوا الخطوات اللازمة حالا للانتقام ممن عقدوا صلحا مع الغزاة ، فتحالف خمسة من ملوك الكنعانيين تحت قيادة أدونى صادق ملك أورشليم ضد جبعون . كانت تحركاتهم سريعة ، ولذلك لم يكن الجبعونيون متأهبين للدفاع عن أنفسهم فبعثوا برسالة إلى يشوع في الجلجال يقولون : ( لا ترخ يديك عن عبيدك . اصعد إلينا عاجلا وخلصنا وأعنا ، لأنه قد اجتمع علينا جميع ملوك الأموريين الساكنين في الجبل ) (يشوع 10 : 6) إن الخطر لم يكن محدقا بالجبعونيين وحدهم بل باسرئيل أيضا ، فلقد كانت هذه المدينة (جبعون) تشرف على كل الممرات والمعبار المؤدية إلى أواسط فلسطين وجنوبها ، فينبغي الاستيلاء عليها إذا كان لا بد من الانتصار على البلاد . AA 449.3

فتأهب يشوع للذهاب حالا لنجدة جبعون ، وكان سكان تلك المدينة المحاصرة يخشون أن يرفض يشوع توسلاتهم بسبب خداعهم الذي لجأوا إليه ، ولكن حيث أنهم قد خضعوا لحكم إسرائيل وقبلوا عبادة الله قد وجد يشوع نفسه ملتزما بأن يدافع عنهم ويحميهم . وفي هذه المرة لم يتحرك بدون استشارة الله ، فشجعه الرب على القيام بهذا العمل ، إذ جاءته رسالة من الله تقول ( لا تخفهم، لأني بيدك قد أسلمتهم . لا يقف رجل منهم بوجهك ) ، ( فصعد يشوع من الجلجال هو وجميع رجال الحرب معه وكل جبابرة البأس ) . AA 449.4

وإذ ساروا طول الليل أتى يشوع بقواته أمام جبعون في الصباح . فما كاد أولئك الملوك يحشدون جيشوهم حول جبعون حتى باغتهم يشوع بالهجوم . وقد كان من نتائج هجومه الانحدار التام للجيوش المغيرة . فهربت تلك الجيوش العظيمة أمام يشوع فوق الجبل في الطريق المؤدية إلى بيت حورون . فلما وصلوا إلى قمة الجبل اندفعوا من الجانب الآخر في طريق شديد الانحدار وهنا نزلت عليهم زخة برد شديدة ، ( رماهم الرب بحجارة عظيمة من السماء إلى عزيقة فماتوا . والذين ماتوا بحجارة البرد هم أكثر من الذين يقتلهم بنوا إسرائيل بالسيف ) . AA 450.1

وإذ كان الأموريون مسرعين في هروبهم بحثا عن ملجأ يعتصمون به في معاقل الجبال ، وإذ نظر يشوع من أعلى الجبل إلى أسفل رأى أن النهار سيكون أقصر من أن يتمم فيه عمله ، لأن أولئك الأعداء إن لم يستأصلوا تماما فسيلمون شعثهم ويستأنفون القتال ( حينئذ كلم يشوع الرب ... وقال أمام عيون إسرائيل : ) يا شمس دومي على جبعون ، ويا قمر على وادي أيلون ( . فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه ... فوقفت الشمس في كبد السماء ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل ) . AA 450.2

وقبل إقبال المساء كان الله قد تمم وعده ليشوع إذ قد أسلم بين يديه كل جيوش العدو . وظلت حواث ذلك اليوم عالقة بأذهان شعب إسرائيل أمدا طويلا ( ولم يكن مثل ذلك اليوم قبله ولا بعده سمع فيه الرب صوت إنسان ، لأن الرب حارب عن إسرائيل ) ( الشمس والقمر وقفا في بروجهما لنور سهامك الطائرة ، للمعان برق مجدك ، بغضب خطرت في الأرض ، بسخط دست الأمم ، خرجت لخلاص شعبك ) (حبقوق 3 : 11 — 13) . AA 450.3

إن روح الله هو الذي ألهم يشوع لينطق بهذه الصلاة حتى يعطي برهانا جديدا على قوة إله إسرائيل . ولهذا فإن ذلك الطلب لم يكن يدل على تصلف في نفس ذلك القائد العظيم . لقد أعطى الله ليشوع وعدا بأنه لا بد من أن يقهر أعداء إسرائيل هؤلاء ، ومع ذلك فقد بذل جهدا جبارا كأن النجاح متوقف على جيوش إسرائيل وحدها . لقد بذل من الجهد أقصى ما يمكن أن يبذل من الطاقة البشرية ، وبعد ذلك صرخ بإيمان في طلب معونة الله . إن سر النجاح هو في اتحاد قوة الله بالمجهود البشري . إن من يحصلون على أعظم النتائج هم أولئك الذين يتكلون على ذراع الرب القدير اتكالا راسخا كل الرسوخ . إن ذلك الرجل الذي أمر قائلا : )يا شمس دومي على جبعون ، ويا قمر على وادي أيلون ) هو نفس الرجل الذي ظل ساعات طويلة منطرحا على الأرض يصلي في المحلة في الجلجال . فرجال الصلاة هم الرجال المقتدرون حقا . AA 450.4

إن هذه العجيبة العظيمة تشهد بأن الخليقة هي تحت سلطان خالقها ، بينما الشيطان يحاول أن يخفي عن الناس عمل الله وقدرته في العالم الطبيعي - ليبعد عن الأنظار العمل الذي لا يكل الذي يقوم به ذاك الذي هو المسبب الأول العظيم . وفي هذه العجيبة نرى أن كل من يمجدون الطبيعة فوق إله الطبيعة يستحقون التوبيخ والانتهار. AA 451.1

إن الله بإرادته يدعو قوات الطبيعة لتهلك قوة أعدائه . ( النار والبرد ، الثلج والضباب ، الريح العاصفة الصانعة كلمته ) _مزمور 148 : 8) . فحين تصدى الأموريون الوثنيون لمقاومة مقاصد الله تدخل وأمطر ( حجارة عظيمة من السماء ( على أعداء إسرائيل . وقد أخبرنا عن معركة أعظم ستنشب في أواخر تاريخ الأرض حين ( فتح الرب خزانته ، وأخرج آلات رجزه ) (إرميا 50 : 25) وها هو يسأل قائلا : ( أدخلت إلى خزائن الثلج ، أم أبصرت مخازن البرد ، التي أبقيتها لوقت الضر ، ليوم القتال والحرب ) (أيوب 38 : 22 ، 23) . AA 451.2

إن الرائي يصف الخراب والهلاك الذي سيحدث حين يعلن ( صوت عظيم من هيكل السماء من العرش قائلا : ( قد تم ) ثم يقول : ( وبرد عظيم ، نحو ثقل وزنة ، نزل من السماء على الناس ) (رؤيا 16 : 17 ، 21) . AA 451.3

* * * * *