الاباء والانبياء

47/75

الفصل الخامس والأربعون—سقوط أريحا

لقد دخل العبرانيون كنعان ولكنهم لم يخضعوها ، وكان يبدو للعين البشرية أن الصراع في سبيل امتلاك الأرض سيكون طويلا وشاقا ومريرا ، إذ كان يقطن البلاد أقوام أشداء ، وقد وقفوا على تمام الأهبة لصد أي عدوان يقوم به الغزاة على أراضيهم . وقفت تلك القبائل صفا واحدا إذ وحد بينها الخوف من وقوع خطر شامل ، وكانوا متفوقين على الغزاة بخيلهم ومركباتهم الحربية الحديدية ومعرفتهم للبلاد وتدريبهم الحربي . زد على ذلك أن في البلاد معاقل وحصونا ( ومدنا عظيمة ومحصنة إلى السماء ) (تثنية 9 : 1) ولكن الإسرائيليين لم يكونوا يؤملون في النصرة والنجاح في ذلك الصراع الموشك أن ينشب إلا لكونهم واثقين بقوة خارجة عنهم ستهب لنجدتهم . AA 433.1

ومن أمنع االمدن الحصينة في البلاد التي وقفت أمامهم تماما كانت مدينة أريحا العظيمة والغنية ، على مسافة قصيرة من محلتهم في الجلجال . فعلى أطراف سهل خصيب غني بمختلف ثمار المناطق الحارة ، حيث كانت القصور والهياكل التي كانت مباءة للترف والرذيلة وقف تلك المدينة المتشامخة خلف استحكاماتاها الهائلة تتحدى إله إسرائيل . كانت أريحا من المراكز الرئيسية لعبادة الأوثان وكانت مكرسة لعبادة عشتاروث إلهة القمر . وفي الهكيل تركزت كل القبائح ، وأشنع وأفسد وأحط ما كانت عليه عبادة الكنعانيين . إن بني إسرائيل الذين ما زالو يذكرون النتائج المخيفة الناجمة عن خطيتهم التي ارتكبوها عند بعل فغور كانوا ينظرون إلى هذه المدينة الوثنية باشمئزاز ورعب . AA 433.2

وقد رأى يشوع أن الانتصار على أريحا سيكون الخطوة الأولى في غزو كنعان . ولكنه طلب قبل كل شيء التأكد من إرشاد الله . فمنح له ما طلب ، فإذ خرج من المحلة لأجل التأمل والصلاة طالبا من إله إسرائيل أن يسير في طليعة شعبه رأى أمامه رجل حرب مسلحا طويل القامة وله هيئة مهيبة ( وسيفه مسلول بيده ) وجوابا على سؤال يشوع القائل : ( هل لنا أنت أو لأعدائنا ؟ ) جاوبه بقوله : ( كلا ، بل أنا رئيس جند الرب . الآن أتيت ) (يشوع 5 : 13 — 15 و الإصحاحان 6 ، 7) وقد صدر إليه الأمر الذي صدر إلى موسى في حوريب . ( اخلع نعلك من رجلك ، لأن المكان الذي أنت واقف عليه هو مقدس ) . وهكذا انكشفت ليشوع حقيقة ذلك الغريب المجهول . لقد كان المسيح الممجد هو الذي كان واقفا قبالة قائد إسرائيل ، فسقط يشوع على وجهه وهو مرتعب وسجد له . فسمعه يقول له مؤكدا : ( انظر ، قد دفعت بيدك أريحا وملكها ، جبابرة البأس ) . ثم أعطاه التعليمات اللازمة للاستيلاء على المدينة . AA 433.3

وامتثالا للأمر الإلهي صف يشوع جيوش إسرائيل الذين لم يكن عليهم أن يقوموا بأي هجوم ، بل كل ما طلب منهم هو أن يدوروا دائرة في المدينة حاملين تابوت الله ونافخين في الأبواق . سار المحاربون في المقدمة وكانوا جماعة منتخبة ، لا ليغزوا المدينة الآن بمهارتهم أو شجاعتهم بل ليطيعوا الأوامر الصادرة إليهم من الله ، ويتبع هؤلاء سبعة كهنة يحملون أبواق الهتاف ، وبعد ذلك أتى تابوت الله تحيط به هالة من المجد الإلهي وهو محمول على أكتاف الكهنة اللابسين اللباس الرسمي الذي يدل على وظيفتهم المقدسة . وتبع هؤلاء جيش إسرائيل ، وكل سبط يسير تحت رايته . هذا هو الموكب الذي دار حول المدينة المحكوم عليها بالهلاك . ولم يكن يسمع سوي وقع أقدام الجبابرة وأصوات الأبواق التي كان يرن صداها في جوانب التلال وفي شوراع أريحا . فلما أتموا الدورة عاد رجال الجيش إلى خيامهم صامتين ووضع التابوت في مكانه في خيمة الاجتماع . AA 434.1

كان حراس المدينة يراقبون كل حركة بدهشة وهلع وأخبروا السلطات الحاكمة بكل شيء . ولم يكونوا يدرون شيئا عن معنى كل هذا العرض ، ولكنهم عندما شاهدوا الجيش العظيم يدور حول المدينة مرة كل يوم ومعهم التابوت والكهنة الملازمون له ملأ سر المشهد قلوب كهنة المدينة وشعبها رعبا . ومرة أخرى فصحوا مراكز دفاعهم واثقين بأنها ستصمد أمام أعنف الهجمات . وقد سخر كثيرون منهم من الظن بأن أي ضرر يمكن أن يلحق بهم من هذه المظاهرات الشاذة ، بينما خاف آخرون وهم يرون الموكب يدور دائرة المدينة مرة كل يوم . لقد ذكروا أن البحر الأحمر قد انشق يوما أمام هذا الشعب ، وأن مياه نهر الأردن قد انفلقت فانفتح لهم فيه طريق وعبروا على اليابسة . ولم يكونوا يعلمون أية عجائب أخرى يمكن أن يصنعها الله لهم . AA 434.2

وطوال ستة أيام ظل الشعب يدورون حول المدينة مرة كل يوم . فلما بزغ فجر اليوم السابع صف يشوع جيوش الرب . وفي هذا اليوم قيل لهم أن يدوروا دائرة أريحا سبع مرات ، وعندما يسمعون أصوات الأبواق العظيمة ، عليهم أن يهتفوا بصوت عظيم لأن الرب قد أعطاهم المدينة . AA 435.1

دار ذلك الجيش العظيم بوقار حول الأسوار المرصدة ، وكان الجميع صامتين ، فلم يكن يسمع غير وقع أقدامهم المنتظم وصوت البوق ، في أحيان ، مزعجا سكون ساعات الصباح الباكر . وقد بدا كأن أسوار الميدنة المبنية من الأحجار المتينة تتحدى أولئك المحاصرين . وكان حراس الأسوار يراقبون ، وقد وقفوا على أطراف أصابعهم ليروا الشعب بعد ما داروا حول المدينة الجولة الأولى وإذ بهم يدورون حولها مرة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة وسادسة . ترى ما الغرض من هذه الحركات الغامضة ؟ وأية حادثة عظيمة تتهددهم ؟ لم يكن لهم أن ينتظروا وقتا أطول ففي نهاية الجولة السابعة توقف الموكب . وإذا بالأبواق التي صمتت أصواتها بعض الوقت تنطلق أصواتها عالية مدوية فتزلزل الأرض ، وإذا بالأسوار المبنية بالأحجار المتينة وما فيها من حصون هائلة واستحكامات تهتز وتسقط من أساسها وبصوت تحطيم هائل تصير حطاما ، فشل الرعب تفكير سكان أريحا وقواهم ، وتقدمت جيوش إسرائيل وامتلكت المدينة . AA 435.2

إن الإسرائيليين لم يحرزوا الانتصار بقوتهم ولكن النصرة كانت بجملتها من الرب . وكباكورة الأرض كان ينبغي أن تكرس المدينة بكل ما فيها ذبيحة لله ، كما كان ينبغي أن ينطبع هذا الفكر على عقول بني إسرائيل وهو أنهم في غزوهم لكنعان لم يكونوا يحاربون لأجل أنفسهم ، ولكن على اعتبار أنهم مجرد آلات لتنفيذ إرادة الله ، لا سعيا وراء الغنى وتمجيد الذات ، بل ليطلبوا مجد الرب ملكهم . وقبل احتلال المدينة صدر أمر إلى الشعب يقول : ( فتكون المدينة وكل ما فيها محرما للرب ... فاحترزوا من الحرام لئلا تحرموا ... وتجلعوا محلة إسرائيل محرمة وتكدروها ) . AA 435.3

وقد حرم كل سكان المدينة مع كل الكائنات الحية فيها ( من رجل وامرأة ، من طفل وشيخ ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف ) ، ولم يبق غير راحاب الأمينة وبيتها إنجازا لوعد الجاسوسين لها . أما المدينة فقد أضرمت فيها النار فاحترقت فصورها وهياكلها ومساكنها الفخمة بكل ما تحتويه من نفائس وغنائم وبكل ما فيها من أنسجة غالية وحلل جميلة - هذه كلها ذهبت طعاما للنار وكل ما لا يمكن أن تحرقه النار . ( الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد تكون قدسا للرب وتدخل في خزانة الرب ) . حتى نفس موقع المدينة حلت عليه اللعنة . فلم يكن ليعاد بناء أريحا مرة أخرى كمعقل حصين ، وقد نطق بويلات وتهديدات رهيبة على أي إنسان يجرؤ على إعادة بناء أسوراها التي قد هدمت بقوة الله . ثم نطق يشوع بهذا الإعلان على مسامع كل إسرائيل : ( ملعون قدام الرب الرجل الذي يقوم ويبني هذه المدينة أريحا . ببكره يؤسسها وبصغيره ينصب أبوابها ( . AA 435.4

كان الهلاك الشامل الذي حل بشعب أريحا إنجازا لأوامر الرب التي كان قد أصدرها إلى الشعب عن يد موسى من قبل والخاصة بسكان كنعان حيث يقول : وضربتهم ، فإنك تحرمهم ) ( وأما مدن هؤلاء الشعوب ... فلا تستبق منها نسمة ما ) (تثنية 7 : 2 ، 20) إن كثيرين يعتبرون هذه الأوامر مناقضة لروح المحبة والرحمة التي يأمرنا الرب بها في مواضع أخرى في الكتاب . ولكنها كانت بالحق أوامر تنطوي على الحكمة والصلاح الغير المحدودين . لقد كان الله مزمعا أن يثبت قدم إسرائيل في كنعان ، وأن ينشئ بينهم أمة وحكومة لتكون مظهرا لملكوته على الأرض . لم يكن مطلوبا منهم أن يكونوا ورثة الدين الحقيقي وحسب ، بل كان عليهم أن ينشروا مبادئ ذلك الدين في كل العالم . كان الكنعانيون قد انغمسوا في أحط العبادات الوثنية وأنجسها فكان من اللازم أن تنقى البلاد من كل ما يعطل إتمام مقاصد الله الرحيمة . AA 436.1

إن سكان كنعان قد أعطيت لهم فرصة كافية للتوبة ، إذ قبل ذلك بأربعين سنة شهد انشقاق البحر الأحمر والضربات التي حلت بمصر على قدرة إله إسرائيل الفائقة . والآن فقد برهنت هزيمة ملوك مديان وجلعاد وباشان على أن الرب علي فوق كل الآلهة . ثم أن قداسة صفاته وكراهيته للنجاسة برهنت عليها العقوبات التي حلت بشعب إسرائيل جزاء اشتراكهم في الطقوس الرجسة الخاصة ببعل فغور . كل هذه الحوادث كانت معروفة لدى أهل أريحا . وقد كان هنالك كثيرون ممن شاركوا راحاب في اقتناعها مع أنهم رفضوا إطاعته وهو أن إله إسرائيل ( هو الله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت ) فكان أولئك الكنعانيون قريبي الشبه بالعالم الذي عاش قبل الطوفان في كونهم عاشوا فقط ليجدفوا على السماء وينجسوا الأرض . فالمحبة والعدل كلاهما كانا يتطلبان الهلاك السريع لأولئك القوم الذين كانوا متمردين على الله وأعداء لبني الإنسان . AA 436.2

ما أعظم السهولة التي بها أسقطت أجناد السماء أسوار أريحا ، تلك المدينة المتكبرة التي منذ أربعين سنة مضت ألقت متاريسها وحصونها الرعب في قلوب الجواسيس العديمي الإيمان ! قال قدوس إسرائيل القدير : ( قد دفعت بيدك اأريحا ) وأمام كلمة الله هذه وقفت القوة البشرية عاجزة . AA 437.1

( بالإيمان سقطت أسوار أريحا ) (عبرانيين 11 : 30) . إن رئيس جند الرب لم يكن يتصل بغير يشوع . لم يعلن نفسه للجماعة كلها ، وقد كان عليهم إما أن يصدقوا أقوال يشوع أو يشكوا فيها ، أن يطيعوا أوامره التي يصدرها إليهم باسم الرب أو أن ينكروا عليه سلطانه . إنهم لم يستطيعوا رؤية أجناد الملائكة الذين كانوا يلازمونهم تحت قيادة ابن الله ، فكان يمكنهم أن يتحاجوا قائلين : ( ما هذه التحركات التي لا معنى لها ، وكم هو أمر موجب للهزء أن ندور حول أسوار هذه المدينة كل يوم ضاربين بأبواق من قرون الكباش ؟ إن هذا لا يؤثر أبدا في هذه الاستحكامات الهائلة ) . ولكن هذا التدبير عينا القائم على مواصلة هذا الإجراء حول المدينة وقتا طويلا قبيل سقوط الأسوار نهائيا أعطى الإسرائيليين فرصة كافية فيها نما إيمانهم وتقوى . وكان الرب يريد أن يطبع في عقولهم أن قوتهم ليست في الحكمة أو القوة البشرية بل في إله خلاصهم ، فكان عليهم بهذه الكيفية أن يعتادوا الاعتماد الكلي على قائدهم الإلهي . AA 437.2

إن الله لا بد من أن يصنع عظائم لمن يثقوا به . إن السبب الذي لأجله نجد المدعوين شبعه لا يملكون قوة أعظم هو أنهم يركنون كثيرا إلى حكمتهم ولا يعطون للرب فرصة ليعلن قدرته لخيرهم . إذ لا بد من أن يساعد أولاده المؤمنين به في كل طارئ إذا كانوا يضعون ثقتهم الكاملة فيه ويطيعونه بأمانة . AA 437.3

على إثر سقوط أريحا عول يشوع على مهاجمة عاي ، وهي مدينة صغيرة تقع في واد ضيق بين الجبال على مسافة بضعة أميال غربي وادي الأردن . وقد عاد الجواسييس الذين أرسلو إليها يقولون إن سكان المدينة قليلون وإن الأمر لا يحتاج إلا إلى قوة صغيرة لتخريب المدينة . AA 437.4

إن الانتصار العظيم الذي أحرزه الله لهم جعل الإسرائيليين يثقون بأنفسهم ، ولكونه قد وعد أن يعطيهم أرض كنعان أحسوا بالطمأنينة ، غير أنهم أخفقوا في التأكد من أن معونة الله هي وحدها التي تعطيهم النجاح . وحتى يشوع نفسه رسم الخطة لغزو عادي دون استشارة الله . AA 437.5

بدا الإسرائيليون يمجدون قوتهم الذاتية ، ناظرين إلى أعدائهم بكل ازدراء . فكانوا ينتصرون انتصارا هينا ، ظانين أن قوة قومها ثلاثة آلاف رجل كافية لأخذ المدينة . وهؤلاء اندفعوا في هجومهم قبل التأكد من أن الله سيكون معهم ، وتقدموا إلى أن كادوا يصلون إلى باب المدينة ، وإذا بهم يواجهون بأعنف مقاومة عنيدة ، وإذ أصابهم الرعب لدى رؤيتهم كثرة عدد أعدائهم واستعدادهم العظيم فروا بغير انتظام في ذلك المنحدر السحيق الانحدار ، وقد جد الكنعانيون في تعقبهم . ( ولحقوهم من أمام الباب ... وضربوهم في المنحدر ) . ومع أن خسارتهم في الأرواح كانت طفيفة — إذ لم يقتل غير ستة وثلاثين رجلا - فإن الهزيمة أضعفت قلوب كل الجماعة ( ذاب قلب الشعب وصار مثل الماء ) . لقد كانت هذه أول مرة يواجعون فيها الكنعانيين في معركة حامية ، فإذا كانوا يهربون أمام حماة هذه المدينة الصغيرة فماذا تكون نتيجة المعارك العظمى التي تنتظرهم ؟ رأى يشوع في هزيمة أولئك الرجال دليلا على سخط الله ، ففي ضيقته وخوفه ( مزق ... ثيابه وسقط على وجهه إلى الأرض أمام تابوت الرب إلى السماء ، هو وشيوخ إسرائيل ، ووضعوا ترابا على رؤوسهم ) . AA 438.1

وصرخ يشوع قائلا : ( آه يا سيد الرب ! لماذا عبرت هذا الشعب الأردن تعبيرا لكي تدفعنا إلى يد الأموريين ليبيدونا ؟ ... أسألك يا سيد : ماذا أقول بعدما حول إسرائيل قفاه أمام أعدائه ؟ فيسمع الكنعانيون وجيمع سكان الأرض ويحيطون بنا ويقرضون اسمنا من الأرض . وماذا تصنع لاسمك العظيم ؟ ) . AA 438.2

فجاءه جواب الرب يقول : ( قم ! لماذا أنت ساقط على وجهك ؟ قد أخطأ إسرائيل ، بل تعدوا عهدي الذي أمرتهم به ) . لقد كان ذلك الوقت وقت عمل سريع حاسم ، لا وقت يأس أو رثاء . كانت خطية خفية في المحلة ، وكان لا بد من اكتشافها والتخلص منها قبلما يضمنون حضور الرب بينهم وحلول بركته عليهم ( ولا أعود أكون معكم إن لم تبيدوا الحرام من وسطكم ) . AA 438.3

إن واحدا ممن أسند إليهم أمر تنفيذ أحكام الله استخف بأمر الرب فوقعت الأمة كلها تحت مسؤولية جريمة ذلك المذنب . ( أخذوا من الحرام ، بل سرقوا ، بل أنكروا ) أعطى الرب تعليماته ليشوع بشأن اكتشاف ذلك المجرم وإدانته . وكان لا بد من أن تلقى القرعة لمعرفة المجرم . إن ذلك الخاطئ لم يكتشف في الحال ، إذ ترك الأمر موضع شك بعض الوقت لكي يحس الشعب بمسئوليتهم حيال الخطايا في وسطهم . وهذا يقودهم بالطبع إلى فحص قلوبهم والتذلل أمام الله . AA 438.4

فبكر يشوع في صبيحة اليوم التالي وقدم إسرائيل بأسباطه ، وبدأ ذلك الاجتماع المقدس المؤثر . سارت عملية الفحص خطوة فخطوة ، وظلت دائرة الفحص المخيف تضيق شيئا فشيئا ، فبدأت أولا بالسبط ثم بالعشيرة ثم بالبيت ، وأخيرا أخذ الرجل ، إذ أشار إصبع الله إلى عخان بن كرمي من سبط يهوذا على أنه هو مكدر إسرائيل . AA 439.1

ولكي تثبت إدانته فوق كل شك أو تساؤل ، وحتى لا يبقى هنالك مجال للطعن في الحكم بأنه حكم جائر استحلف يشوع عخان أن يعترف بالحق ، فذلك الرجل التعس اعترف كاملا بجريمته إذ قال : ( حقا إني قد أخطأت إلى الرب إله إسرائيل ... رأيت في الغنيمة رداءً شنعاريا نفيسا ، ومئتي شاقل فضة ، ولسان ذهب وزنه خمسون شاقلا ، فاشتهيتها وأخذتها . وها هي مطمورة في الأرض في وسط خيمتي ، والفضة تحتها ) فأرسل رسل في الحال إلى الخيمة وأزاحوا التراب عن المكان المعين ( وإذا هي مطمورة في خيمته والفضة تحتها . فأخذوها من وسط الخيمة وأتوا بها إلى يشوع ... وبسطوها أمام الرب ) . AA 439.2

فحكم عليه ونفذ الحكم في الحال . قال له يشوع : ( كيف كدرتنا ؟ يكدرك الرب في هذا اليوم ! ) وحيث أن جميع الشعب اعتبروا مسؤولين عن خطية عخان وتألمو من نتائجها فقد اشتركوا في إيقاع القصاص عليه عن طريق ممثليهم ، ( فرجمه جميع إسرائيل بالحجارة ) . AA 439.3

وبعد ذلك أقامو فوقه رجمة حجارة عظيمة شهادة على الخطية وعقابها ( لذلك دعي اسم ذلك المكان « وادي عخور» (وادي التكدير) . وفي سفر الأخبار الأول (2 : 7) يذكره الكتاب قائلا : ( عخار مكدر إسرائيل ) . AA 439.4

إن خطية عخان ارتكبت في تحد سافر لأخطر الإنذارات المباشرة البالغة الخطورة ولأعظم مظاهر قدرة الله . فالإنذار الذي وصل إلى مسامع كل إسرائيل هو هذا . ( احترزوا من الحرام لئلا تحرموا ( وقد أعطي لهم هذا الإنذار حالا عقب عبورهم الأردن بكيفية عجائبية ، وعقب الاعتراف بعهد الله في إجراء فرضية الختان لشعب كله ، وبعد ممارسة الفصح ، وبعد ظهور ملاك العهد أي رئيس جند الرب ، ثم تبع ذلك سقوط أريحا كبرهان على السقوط الذي سيحل بكل من يتعدون شريعة الله . وإن حقيقة كون قدرة الله هي وحدها التي أعطت النصرة لإسرائيل ، وأنهم لن يستولوا على أريحا بقوتهم أعطت قوة ووزنا للنهي الذي به نهاهم الرب عن أخذ شيء من الغنائم . وحيث أن الله بقوة كلمته هو الذي أسقط ذلك الحصن المنيع إذا فالغلبة له ، وله وحده تخصص المدينة وكل ما فيها . AA 439.5

ومن بين ملايين شعب إسرائيل لم يكن غير رجل واحد قد تعدى أمر الله في تلك الساعة المقدسة ، ساعة النصرة والدينونة ، إذ أثار جشع عخان منظر ذلك الرادء الشنعاري النفيس . وحتى حين واجه بسببه الموت ، دعاه ( رداءا شنعاريا نفيسا ) إن ساقته إلى أخرى فوضع يده على الذهب والفضة المكرسين لخزانة الرب ، فسلب حق الله في باكورات كنعان . AA 440.1

إن الخطية القاتلة التي أدت إلى هلاك عخان كان أصلها الطمع ، الذي هو من أكثر الخطايا تفشيا ، ومع ذلك فالناس يستخفون أكثر ما يستخفون به . وبينما الخطايا الأخرى تكتشف ويعقاب فاعلها ، فما أندر أن يوبخ من يتعدون الوصية العاشرة ! وهول هذه الخطية ونتائجها الفظيعة هي الدروس التي نتعلمها من تاريخ عخان . AA 440.2

إن الطمع هو شر ينمو تدريجا . لقد ربى عخان في قلبه خطية الطمع في الكسب حتى غدت عادة قيدته بقيودها فصار من الصعب عليه تحطيمها . وإذ ظل مراعيا هذا الشر في قلبه ، كان ينبغي أن فكرة كونه يتسبب في جلب أية كارثة على إسرائيل تملأه رعبا . ولكن الخطية أماتت إحساسه ، فلما هاجمته التجربة سقط فريسة سهلة أمامها . AA 440.3

ألا ترتكب خطايا أخرى مشابهة لهذه مع وجود الإنذارات الخطيرة والقاطعة ؟ إن الرب ينهانا نهيا مباشراً عن الطمع كما قد نهى عخان عن أخذ أي شيء من غنائم أريحا . لقد أعلن الرب أن الطمع هو عبادة أوثان ، وهو يحذرنا بقوله : ( لا تقدرون أن تخدموا الله والمال ) (كولوسي 3 : 5 ، متى 6 : 24) . ثم نجد في (لوقا 12 : 15) قول السيد ( تحفظوا من الطمع ) . والرسول يقول عنه : ( لا يسم بينكم ) (إفسس 5 : 3) إن أمامنا الدينونة الرهيبة التي حلت بعخان ويهوذا وحنانيا وسفيرة . وقبل هذا كله نجد ما أصاب لوسيفر ( زهرة ، بنت الصبح ،) الذي لما اشتهى مركز أسمى أضاع إلى الأبد حقه في بهاء السماء وسعادتها . ومع كل هذه الإنذارات فإن الطمع لا يزال متفشيا . AA 440.4

في كل مكان ترى آثار الطمع الموحلة ، وهو الذي يخلق السخط والشقاق في العائلات ويثير الحسد والبغضة في قلوب الفقراء ضد الأغنياء ويدفع الأغنياء إلى أن يظلموا الفقراء ويسحقوهم . إن هذا الشر لم يقتصر على العالم الخارجي وحده ولكنه تغلغل في داخل الكنيسة . وكم هو أمر شائع حتى في الكنيسة أن نجد الأنانية والطمع والخداع وإهمال عمل الإحسان وسلب حقوق الله ( في العشور والتقدمة ) ! إننا نقول والحسرة تملأ قلوبنا بأن هناك بين أعضاء الكنائس بعض من يشغلون مراكز مرموقة وهم أمثال عخان . يحدث كثيرا أن يأتي رجال إلى الكنيسة بانتظام ويشترك في مائدة الرب بينما لديه أموال مخبوءة وهي غير محللة أو مشروعة ، أرباح لعنها الله . إن كثيرين في سبيل إحراز الرداء الشنعاري النفيس يضحون بسلام الضمير والرجاء في السماء . وكثيرون يبادلون عن استقامتهم ونزاهتهم ونفعهم بكيس به حفنة من شواقل الفضة . إن صرخات المساكين المتألمين قلما يتلفت إليها ، ونور الإنجيل يحجز ، وسخرية أهل العالم تشتعل في ممارسات تظهر كذب المجاهرة بالمسيحية . ومع ذلك فإن مدعي المسيحية الجشع يظل يكوم الأموال . يقول الرب : ( أيسلب الإنسان الله ؟ فإنكم سلبتموني ) (ملاخي 3 : 8) . AA 441.1

إن خطية عخان أوقعت كارثة على الأمة كلها . فبسبب خطية إنسان واحد يحل سخط الله على الكنيسة حتى تكشف الخطية وتنتزع . فالتأثير الذي يخشى على الكنيسة منه أكثر من غيره ليس هو تأثير من يجاهرون بعدوانهم لها ولا تأثير الملحدين أو المجدفين ، بل هو تأثير المتقلبين وغير الثابتين ممن يعترفون بالمسيح . هؤلاء هم الذين يعطلون انسكاب بركة الله على شعبه ويضعفون من قوتهم . AA 441.2

وحين تعترض الكنيسة مشكلة ، وحين يستولي على أعضائها الفتور والانحطاط الروحي ، الأمر الذي يعطي المجال لأعداء الله أن ينتصروا ، حينئذ بدلا من أن يقف الأعضاء مكتوفي الأيدي وينبدوا سواء حالهم فليسألوا عما إذا كان هنالك عخان بين جماعة الرب . ففي تذلل واختبار للنفس ليحاول كل عضو أن يكتشف خطاياه المحببة التي تمنع حضور الله . AA 441.3

لقد اعترف عخان ولكنه اعتراف جاء متأخرا جدا بحيث لم يجده نفعا . رأى جيوش إسرائيل ترتد على عاي منهزمة وخائفة وخائرة ومع ذلك لم يتقدم ليعترف بخطيته . رأى يشوع وشيوخ إسرائيل منحنين ومنسحقين من فرط الحزن الذي لا يعبر عنه ، فلو اعترف حيئنذ لكان قد برهنا على صدق توبته ، ولكنه ظل صامتا ، ثم أصغى إلى الإعلان القائل بأن جريمة هائلة قد ارتكبت وسمع الأوصاف التي تحدد تلك الجريمة ، ولكنه ظل سادرا في صمته وانكاره . وحينئذ جاء الفحص الرهيب ، ويا لهول الرعب الذي استولى على نفسه حين رأى سبطه يؤخذ ثم عشريته ثم بيته ! ومع ذلك فلم يعترف حتى أشارت إليه إصبع الله وحيئنذ لما لم يسعه إنكار خطيته أو سترها اعترف بالحق . فكم من مرة يقدم الناس اعترافات شبيهة بهذا الاعتراف ! هنالك فرق عظيم بين أن يعترف الإنسان بالحقائق بعدما قدم عنها البرهان الساطع ، وبين الاعتراف بها حين لا يعرفا أحد غيرنا نحن وغير الله . ولولا أن غخان كان يرجو أنه باعترافه سيتفادى عواقب جريمته لما كان اعترف إطلاقا . ولكن اعترافه دل فقط على أن قضاء الله كان عادلا . فلم تكن هنالك توبة صادقة عن الخطية ولا انسحاق ولا تغيير لمقاصده ولا كراهية الشر . AA 442.1

هكذا سيقدم الأشرار اعترافاتهم حين يقفون أمام عرش دينونة الله بعدما يتقرر مصير كل إنسان إن للحياة أو للموت . ومن نتائج ذلك للخاطئ أنه سيلتزم بأن يعترف بخطيته . وسيقسر الناس على ذلك الاعتراف إحساسها بهول الدينونة المخيفة وانتظارها . إلا أن مثل تلك الاعترافات لن تخلص الخاطئ . AA 442.2

إن كثيرين كعخان يظنون أنهم في أمان ما داموا قادرين على كتمان خطاياهم عن الناس ، وخداع نفوسهم بالقوة إن الله لن يدقق في مراقبة الإثم . وبعد فوات الأوان ستكتشفهم خطاياهم في ذلك اليوم الذي فيه لا يكفر عنها بذيحة أو تقدمة إلى الأبد . وحين تفتح الأسفار فالديان لن يعلن للإنسان جريمتته بالكلام ولكنه سيصوب إليه فقط نظرة فاحصة تثبت جريمته . وحيئنذ سينطبع على ذاكرة المجرم كل عمل وكل صفقة عقدها في الحياة . ولن يحتاج الأمر كما في أيام يشوع اإلى تعقب الخاطئ من سبط الى عشيرة . ولكن شفتيه ستعلنان عاره . والخطايا المستورة عن عيون الناس ستعلن على ملأ من كل العالم . AA 442.3

* * * * *