الاباء والانبياء

46/75

الفصل الرابع والأربعون—عبور الأردن

لقد ناح الإسرائليون نوحا عظيما على قائدهم الراحل ، وخصصت ثلاثون يوما لإجراء خدمات خاصة إحياء لذكراه . إنهم لم يدركوا قيمة نصائحه وإرشاداته السديدة وحنانه الأبوي وإيمانه الوطيد حتى أخذ من بينهم ، وها هم الآن يذكرون بوعي جديد وتقدير أعمق الدروس الغالية التي لقنهم إياها حين كان لم يزل معهم . AA 427.1

ولئن كان موسى قد مات فإن تأثيره لم يمت معه ، بل كان لا بد له أن يدوم ويزدهر وينمو قي قلوب شعبه . إن ذكرة تلك الحياة المقدسة غير المحبة لذاته كان لا بد من أن تبقى حية بقوة الإقناع الصامتة ، ومشكلة حياة الناس حتى أولئك الذين رفضوا تعاليمه وهو حي بينهم . فكما أن نور الشمس يضيء قمم الجبال إبان غروبها حتى بعد اختفائها خلف التلال بوقت طويل ، كذلك أعمال الناس القديسيين الأطهار الصالحين تضيئ بنورها على العالم ، لمدة سنين طويلة بعد موتهم . إن أعمالهم وأقوالهم وأمثالهم ستظل باقية أبد الدهر . ( الصديق يكون لذكر أبدي ) (مزمور 112 : 6) . AA 427.2

ومع أن قلوب الشعب كانت مفعمة حزنا على فداحة خسارتهم ، فقد كانوا يعلمون أنهم لم يتركوا وحدهم ، لأن عمود السحاب ظل مستقرا على خيمة الشهادة نهارا وعمود النار ليلا ، فكان ذلك تأكيدا بأن الله سيظل مرشدا لهم ومعينا إذا كانوا يسيرون في طريق وصاياه . AA 427.3

كان يشوع آنئذ هو قائد إسرائيل المعترف به ، ومشهورا كرجل حرب . وكانت مواهبه وفضائله ذات قيمة عظيمة ، وعلى الخصوص في هذا الدور من تاريخ شعب الله . كان رجلا شجاعا صادق العزيمة مثابر ، متأهبا لكل طارئ ونزيها ، وغير عابئ بمصالحه الشخصية حين يكون مهتما بمصالح من هم تحت رعايته ، وفوق الكل كان ملهما بالإيمان الحي بالله - هذه صفات الرجل الذي اختار الله ليقود جيوش إسرائيل في دخول أرض الموعد . وفي أثناء AA 427.4

تغربهم في البرية كان يشوع بمثابة رئيس الوزراء لموسى . وبولائه الهادئ غير المتصنع ، وبثباته حين كان غيره مترددين ، وبعزمه على حفظ الحق في وجه الخطر ، بكل هذه برهن على أهليته لأن يكون خلفا لموسى حتى قبلما دعاه الله ليشغل هذا المركز . AA 428

لقد نظر يشوع إلى الأمام ، إلى الحمل الموكول إليه بجزع وهو غير واثق بنفسه . إلا أن مخاوفه تلاشت حين أكد له الرب قائلا : ( كما كنت مع موسى أكون معك . لا أهملك ولا أتركك .. لأنك أنت تقسم لهذا الشعب الأرض التي حلفت لآبائهم أن أعطيهم ) ( كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته ، كما كلمت موسى ) (انظر يشوع 1 — 4) إن أملاكهم امتدت إلى مرتفعات لبنان بعيدا وإلى شواطئ البحر الكبير وإلى شطوط الفرات شرقا . AA 428.1

وقدم الرب ليشوع تشجيعا آخر حين قال له : ( اإنما كن متشددا ، وتشجع جدا لكي تتحفظ للعمل حسب كل الشريعة التي أمرك بها موسى عبدي ) ثم أمره الرب قائلا : ( لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك ، بل تلهج فيه نهارا وليلا ) ( لا تمل عنها يمينا ولا شمالا ... لأنك حيئنذ تصلح طريقك وحيئنذ تفلح ) . AA 428.2

كان الإسرائليون لا يزالون حالين في الجانب الشرقي من الأردن ، وكانت هذه أول عقبة تحول بينهم وبين احتلال كنعان ، فكانت أول رسالة من الله إلى يشوع هي هذه : ( قم اعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيا لهم. لم تعط لهم أية تعليمات خاصة بالكيفية التي بها يعبرون الأردن . ومع ذلك فقد عرف يشوع أنه مهما يكن أمر الله فلا بد أن يفتح لشعبه طريقا للعبور . وبهذا الإيمان بدأ ذلك القائد الشجاع يعد العدة للتقدم إلى الأمام . AA 428.3

وعلى مسافة أميال قليلة من النهر ، مقابل المكان الذي كان الإسرائيليون حالين فيه كانت مدينة أريحا العظيمة والمنيعة . لقد كانت هذه المدينة في الواقع مفتاح البلاد كلها . وكان يمكن أن تكون عقبة كأداء في سبيل تقدم إسرائيل . لهذا أرسل يشوع شابين إلى هذه المدينة كجاسوسين ليعايناها ويعرفا شيئا عن سكانها ومنافذها وقوة استحكاماتها . وإذ كان سكان المدينة مرتعبين وخائفين كانوا يقظين وحذرين على الدوام ، فكان هذان الرسولان معرضين لخطر عظيم . ومع ذلك فقد خبأتهما راحاب التي كانت من مستوطني المدينة وتعرضت AA 428.4

للموت بسببهما . وفي مقابل هذه الشفقة وهذا الإحسان من جانب راحاب فقد وعدها ذانك الشابان بالحماية عند أخذ المدينة . AA 429

عاد الجاسوسان إلى المحلة بسلام يحملان هذا الخبر : ( إن الرب قد دفع بيدنا الأرض كلها ، وقد ذاب كل سكان الأرض بسببنا ) . لقد قيل لهما في أريحا : ( لأننا قد سمعنا كيف يبس الرب مياه بحر سوف قدامكم عند خرجوكم من مصر . وما عملتموه بملكي الأموريين اللذين في عبر اللأردن : سيحون وعوج ، اللذين حرمتموهما . سمعنا فذابت قلبونا ولم تبق بعد روح في إنسان بسسبكم ، لأن الرب إلهكم هو الله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت ) . AA 429.1

فصدرت الأوامر إلى الشعب بالتأهب للتقدم ، فكان على الشعب أن يعدوا زادا يكفيهم ثلاثة أيام ، وكان على الجيش أن يتأهب للقتال . وبكل فرح أذعن الشعب لكل أوامر قائدهم وأكدوا له ثقتهم ومعاضدتهم ، وقالو له : ( كل ما أمرتنا به نعمله ، وحيثما ترسلنا نذهب . حسب كل ما سمعنا لموسى نسمع لك . إنما الرب إلهك يكون معك كما كان مع موسى ) . AA 429.2

بعدما تركوا مكانهم في أحراش شطيم نزل الشعب إلى حافة الأردن . ومع ذلك فقد عرف الجميع أنه إذا لم يتقدم الرب لمعونتهم فلن يستيطعوا العبور ، وفي هذا الوقت من السنة ، في فصل الربيع ، كانت الثلوج التي على الجبال قد ذابت ففاضت مياه الأردن على شطوطه وغدا من المستحيل على الشعب العبور من المخاوض المعروفة ، غير أن الله قصد أن يكون العبور أمرا عجائبيا . فيشوع إذ كان قد تلقى تعليمات من الرب أمر الشعب أن يتقدموا ويطرحوا عنهم كل خطاياهم ويتخلصوا من كل قذارة خارجية . ( لأن الرب يعمل غدا في وسطكم عجائب ) . AA 429.3

وكان على “تابوت العهد( أن يتقدم أمام كل الجماعة . حين يرون علامة حضور الرب (التابوت) محمولا على أكتاف الكهنة ويتحرك من مكانه في وسط المحلة ويتقدم إلى النهر فعليهم هم أيضا أن يتحركوا من أماكنهم ”ويسيروا وراءه) ، وقد سبق يشوع فأنبأ بكل دقة عما سيحدث بشأن عبورهم فقال : ( بهذا تعلمون أن الله الحي في وسطكم ، وطردا يطرد من أماكم الكنعانيين ... هوذا تابوت عهد سيد كل الأرض عابر أمامكم في الأردن ) . AA 429.4

وفي الوقت المحدد بدأوا في التقدم إلى الأمام . ففي المقدمة كان التابوت محمولا على أكتاف الكهنة ، وكان على الشعب أن يتمهلوا في سيرهم بحيث تكون بينهم وبين التابوت مسافة تزيد عن نصف الميل . وقد راقب الجميع باهتمام وسكون الكهنة حاملي التابوت وهميتقدمون نازلين إلى ضفة الأردن . رأوهم وهم يتقدمون بخطوات ثابتة نحو النهر الغاضب الصاخب وعلى أكتافهم التابوت حتى انغمست أرجل الكهنة في المياه ، وفجأة تراجعت مياه النهر المنحدرة من أعلى ، بينما استمر جريان الماء في ناحيته السفلى ، وظهر قاعه . AA 430.1

وامتثالا لأمر الرب تقدم الكهنة إلى وسط النهر ووقفوا هناك بينما عبر الشعب النهر إلى الضفة الأخرى . وهكذا انطبعت على أذهان الشعب هذه الحقيقة وهي أن القوة التي أوقفت مياه نهر الأردن هي أن التي فتحت لآبائهم طريقا في وسط مياه بحر سوف منذ أربعين عاما مضت . فلما عبر كل الشعب عبر التابوت أيضا محمولا إلى الضفة الغربية . وما إن وصل التابوت إلى مكان أمين ( واجتذبت بطون أقدام الكهنة إلى اليابسة ) حتى أطلق سراح المياه المحتبسة ، وجرت كما من قبل نهرا عظيما لا يقاوم في مجراه الطبيعي . AA 430.2

ولم تكن الأجيال اللاحقة لتترك بلا شاهد يشهد لصدق هذه الأعجوبة العظيمة . وإذ كان الكهنة حاملو التابوت واقفين في وسط الأردن ، فإن اثني عشر رجلا سبق اختيارهم ، رجلا من كل سبط ، أخذ كل منهم حجرا من قاع النهر حيث كان الكهنة واقفين وحملوها إلى الضفة الغربية . هذه الأحجار كان كان يجب أن تنصب تذكارا عند أول مكان يحلون فيه عبر النهر . وقد أمر الشعب بأن يرددوا على مسامع أولادهم وأولاد أولادهم قصة النجاة التي صنعها الرب لأجلهم كما قال يشوع : ( لكي تعلم شعوب الأرض يد الرب أنها قوية ، لكي تخافوا الرب إلهكم كل الأيام ) . AA 430.3

كان تأثير هذه العجيبة عظيم الأهمية جدا على العبرانيين وعلى أعدائهم . فلقد كان تأكيدا لإسرائيل بدوام وجود الرب معهم وحراسته لهم ، وبرهانا على أنه سيعمل لأجلهم بواسطة يشوع كما قد عمل بواسطة موسى . وقد كانوا بحاجة إلى هذا التأكيد اليقين لتشدد قلوبهم وهم يتقدمون لغزو البلاد — تلك المأمورية الهائلة التي قد ضعف وترنح إيمان أسلافهم أمامهم قبل ذلك بأربعين عاما . وقبل عبور النهر أعلن الرب ليشوع قائلا : ( اليوم أبتدئ أعظمك في أعين جميع إسرائيل لكي يعلموا أني كما كنت مع موسى أكون معك ) . وقد تممت النتيجة الوعد . ( في ذلك اليوم عظم الرب يشوع في أعين جميع إسرائيل ، فهابوه كما هابوا موسى كل أيام حياته ) . AA 430.4

إن إظهار قدرة الله هذه في جانب إسرائيل كان القصد منه أيضا أن يزيد الخوف الذي كانت الأمم المحيطة بهم تنظر به إليهم ، وبذلك يعد الطريق لانتصارهم الأسهل الكامل فعندما وصلت إلى مسامع ملوك الأموريين والكنعانيين أخبار شق مياه الأردن أمام بني إسرائيل ذابت قلوبهم خوفاً و هلعاً . لقد قتل العبرانيون خمسة ملوك مديان و سيحون ملك الأموريين القوي و عوج ملك باشان ، و الآن فإن عبورهم في وسط نهر الأردن بمياهه الفائضة وتياره العنيف ملأ قلوب كل الأمم المحيطة بهم رعبا . فمن وجهة نظر الكنعانيين والإسرائيليين ويشوع نفسه قدم برهان لا يمكن تكذيبه ، على أن الله الحي ملك السماء والأرض كان في وسط شعبه فلن يهملهم ولن يتركهم . AA 431.1

وبعدما تجاوز الشعب الأردن بمسافة قصيرة أقاموا محلتهم في كنعان لأول مرة . وفي هذا المكان ( ختن (يشوع) بني إسرائيل) ( فحل بنو إسرائيل في الجلجال ، وعملوا الفصح ) (يشوع 5 : 3 ، 10 ، 9) . إن إرجاء ممارسة طقس الختان منذ عصى الشهب الله في قادش كان شهادة دائمة لإسرائيل على أن عهدهم مع الله الذي كان الختان رمزا له قد نقض ، وانقطاعهم عن ممارسة الفصح الذي كان تذكارا لنجاتهم من مصر كان برهانا على سخط الرب عليهم لاشتيقاهم للعودة إلى أرض العبودية . أما الآن فها قد انقضت سنو الرفض ، ومرة أخرى اعترف الرب بأن إسرائيل هم شعبه فأعيدت علامة العهد ، وأجريت فريضة الختان لكل الشعب الذين ولدو في البرية . وأعلن الله ليشوع قائلا : ( اليوم قد دحرجت عنكم عار مصر ) وإشارة إلى هذا سمي المكان الذي حلو فيه ( الجلجال ) أي دحرجة . AA 431.2

لقد عيرت الأمم الوثنية الرب وشعبه لأن أولئك العبرانيين قد أخفقوا في امتلاك كنعان كما كانوا ينتظرون حال خروجهم من مصر . وقد انتصر أعدائهم وشمتوا بهم لأن بني إسرائيل تاهوا في البرية تلك السنين الطوال وسخروا منهم قائلين إن إله العبرانيين عاجز عن الإتيان بهم إلى أرض الموعد . أما الآن فقد أعلن الرب قدرته ورضاه إذ شق مياه الأردن أمام شعبه ولذلك لم يعد الأعداء يعيرونهم . AA 431.3

( في اليوم الرابع عشر من الشهر مساء ) عملوا الفصح في عربات أريحا ، ( وأكلوا من غلة الأرض في الغد بعد الفصح فطيرا وفريكاً في نفس ذلك اليوم . وانقطع المن في الغد عند أكلهم من غلة الأرض ، ولم يكن بعد لبني إسرائيل من . فأكلوا من محصول أرض كنعان ) (يشوع 5 : 9 — 12) لقد انقضت سنو اغترابهم الطويلة في الصحراء ، ووطئت أقدامهم أرض الموعد أخيرا . AA 432.1

* * * * *