الأنبياء والملوك
الفصل العشرون —نعمان
”وكان نعمان رئيس جيش ملك آرام رجلاً عظيماً عند سيده مرفوع الوجه لأنه عن يده اعطى الرب خلاصاً لآرام وكان الرجل جبار بأس ابرص“ (2 ملوك 5 : 1). AM 199.1
لقد هزم بنهدد ملك آرام جيوش إسرائيل في المعركة التي انتهت بموت آخاب. ومنذ ذلك الحين ظلّ الآراميون يحاربون إسرائيل على الحدود، في إحدى غاراتهم سبوا فتاة صغيرة، ففي أرض سبيها ”كانت بين يدي امرأة نعمان“ (2 ملوك 5 : 2). كانت هذه الفتاة الصغيرة جارية وبعيدة عن وطنها ومع ذلك كانت واحدة من شهود الله، وبلا وعي منها كانت تتمم الغرض الذي لأجله اختار الله شعباً خاصاً له. فإذ كانت تخدم في ذلك البيت الوثني ثار عطفها على سيدها، وإذ ذكرت معجزات الشفاء التي حدثت بواسطة أليشع قالت لمولاتها: ”يا ليت سيدي أمام النبي الذي في السامرة فإنه كان يشفيه من بصه“ (2 ملوك 5 : 3). لقد علمت أن قوة السماء مع أليشع وكانت تؤمن أن هذه القوة كفيلة بأن تشفي نعمان. إن تصرّف تلك الفتاة الأسيرة والنهج الذي سارت عليه في ذلك البيت الوثني هما شهادة قوية على قوة التربية البيتية في بكور حياة الأطفال. لا توجد وديعة أسمى من تلك المسلّمة لأيدي الآباء والأمهات في رعاية أولادهم وتربيتهم. إن للآباء دوراً فعالاً في أسس العادات والأخلاق. فبمثالهم وتعليمهم يتقرر مستقبل أولادهم إلى حد كبير. AM 199.2
سعداء هم الآباء الذين حياتهم في انعكاس لحياة الله بحيث أن مواعيد الله وأوامره توقظ في نفس الطفل روح الشكر والوقار. فالآباء الذين تُترجم رقّتهم وعدالتهم واحتمالهم للطفل محبة لله وعدالته واحتماله، والذين بتعليمهم للطفل أن يحبّهم ويثق بهم و يطيعهم، يعلمونه في ذات الوقت أن يحب أباه السماوي ويثق به ويطيعه. والآباء الذين يقدمون للطفل عطية كهذه إنما يمنحونه كنزاً أثمن من ثروات كل الأجيال — كنزاً يبقى مدى الأبدية. AM 200.1
إننا لا نعلم في أية ناحية من نواحي العمل يمكن لأولادنا أن يُدعوا ليخدموا. فقد يقضون حياتهم داخل محيط البيت وقد يشتغلون في مهن الحياة العادية المألوفة أو يذهبون إلى البلاد الوثنية ليعلّموا الإنجيل، ولكن الجميع يُدعون على السواء لأن يكونوا رسل الله وخدّام الرحمة للعالم. وعليهم أن يتلقّوا تعليماً يعينهم على الوقوف إلى جانب المسيح في خدمة لا أنانية فيها. AM 200.2
عمل والدا تلك الفتاة العبرانية على تعليمها عن الله ولم يكونا يعلمان ماذا سيكون مصيرها. ولكنهما كانا أمينين على ما أؤتُمنا عليه، وفي بيت رئيس جيش آرام شهدت ابنتهما هذه للإله الذي تعلّمت أن تُكرمه. AM 200.3
وقد سمع نعمان الكلام الذي قالته تلك الفتاة لمولاتها وبعدما أذن له الملك ذهب يطلب الشفاء آخداً معه ”عشر وزنات من الفضّة وستة آلاف شاقل من الذهب وعشر حلّل من الثياب“ (2 ملوك 5 : 5). وقد حمل معه أيضاً كتاباً من ملك آرام إلى ملك إسرائيل مكتوباً فيه هذه الرسالة: ”.. فالآن عند وصول هذا الكتاب إليك هوذا قد ارسلت إليك نعمان عبدي فاشفه من برصه“. فلما قرأ ملك إسرائيل الكتاب ”مزّق ثيابه وقال هل أنا الله لكي أميت وأحيي حتى أنّ هذا يرسل إليّ أن أشفي رجلاً من برصه؟ فاعلموا وانظروا أنه إنما يتعرّض لي“ (2 ملوك 5 : 6، 7). AM 200.4
وقد علم أليشع خبر ما حدث فأرسل إلى الملك يقول: ”لماذا مزّقت ثيابك؟ ليأتي إليّ فيعلم أنه يوجد نبيّ في إسرائيل“. AM 201.1
”فجاء نعمان بخيله ومركباته ووقف عند باب بيت أليشع“. فأرسل إليه أليشع رسولاُ يقول: ”اذهب واغتسل سبع مرات في الأردن فيرجع لحمك إليك وتطهر“ (2 ملوك 5 : 8 — 10). AM 201.2
كان نعمان ينتظر أن يرى مظهراً عجيباً لقوة من السماء. فقال: ”هوذا قلت أنه يخرج إلي ويقف ويدعو باسم الرب إلهه ويردد يده فوق الموضع فيشفي الأبرص“. وعندما أمر بأن يغتسل في الأردن جرحت كبرياؤه، وفي غم وكمد وخيبة صاح يقول: ”أليس أبانة وفرفر نهرا دمشق أحسن من جميع مياه إسرائيل؟ أما كنت أغتسل بهما فأطهر؟ ورجع ومضى بغيظ“ (2 ملوك 5 : 11، 12). AM 201.3
إن روح نعمان المتكبرة قد تمردّت على اتّباع الطريق الذي قد رسمه أليشع. لقد جُمّلت ضفاف النهرين العظيمين اللذين ذكرهما رئيس جيش آرام بالغياض والبساتين، وتقاطر كثيرون إليها لعبادة أوثانهم. ولم ولن يكلّف نعمان النزول للغطس في أحد النهرين إذلالاً كثيراَ. ولكنّه لم يكن يستطيع أن يحصل على الشفاء إلا باتّباع تعليمات النبي المحددة. فالطاعة بمحض الاختيار هي وحدها التي تحقق النتيجة المرجوة. AM 201.4
وقد توسّل عبيد نعمان إليه أن ينفذ تعليمات أليشع فألحّوا عليه قائلين: ”لو قال لك النبي أمراً عظيماً أما كنت تعمله؟ فكم بالحري إذا قال لك اغتسل واطهر“ (2 ملوك 5 : 13). لقد جاز إيمان نعمان في الامتحان، في حين أن كبرياءه كافحت لأجل السيادة. ولكن الإيمان انتصر فأخضع ذلك الآرامي المتعجرف كبرياء قلبه وانحنى خضوعاً لإرادة الرب المُعلنة. فغطس في الأردن سبع مرات ”حسب قول رجل الله“. وقد أُكرم إيمانه: ”فرجع لحمه كلحم صبي صغير وطهر“ (2 ملوك 5 : 14). AM 202.1
فبشكر عظيم: ”رجع إلى رجل الله هو وكل جيشه“ معترفاً وقائلاً: ”هوذا قد عرفت أنه ليس إله في كل الأرض إلا في إسرائيل“ (2 ملوك 5 : 15). AM 202.2
وحسب عادة ذلك العصر طلب نعمان من أليشع أن يقبل هدية ثمينة. ولكن النبي أبى. فلم يكن له أن يأخذ أجراً عن بركة منحها الله للرجل في رحمته. فقال: ”حي هو الرب الذي أنا واقف أمامه إني لا آخذ“ ”فألح عليه أن يأخذ فأبى“ (2 ملوك 5 : 16). AM 202.3
”فقال نعمان أما يعطي لعبدك حمل بغلين من التراب لأنه لا يُقرّب بعد عبدك محرقة ولا ذبيحة لآلهة أخرى بل للرب. عن هذا الأمر يصفح الرب لعبدك عند دخول سيدي إلى بيت رمون ليسجد هناك ويستند على يدي فأسجد في بيت رمون فعند سجودي في بيت رمون يصفح الرب لعبدك عن هذا الأمر“. AM 202.4
”فقال له امض بسلام .. و .. مضى من عنده مسافة من الأرض ..“ (2 ملوك 5 : 17 — 19). AM 202.5
لقد كانت لدى حيجزي غلام أليشع فرصة مدى السنين لأن يعزز في نفسه روح إنكار الذات التي اتّصفت بها أعمال سيده مدى حياته. كان امتيازاً له أن يصبح حاملاً لواءً نبيلاً في جيش الرب. وكانت أفضل هبات السماء في متناول يده أمداً طويلاً، ولكن إذ تحوّل عنها اشتهى بدلاً منها ثروة العالم الخسيسة. والآن تقوده رغباته الخفية الجامحة التي اتّصفت بها روحه الجشعة إلى الخضوع لتجربة تحكّمت فيه. فتساءل قائلاً: ”وذا سيدي قد امتنع عن ان يأخذ من يد نعمان الآرامي هذا ما أحضره .. إني أجري وراءه وآخذ منه شيئاً“ (2 ملوك 5 : 20). وهكذا حدث سراً أن: ”سار حيجزي وراء نعمان“ (2 ملوك 5 : 21). AM 203.1
”ولما رآه نعمان راكضاً وراءه نزل عن المركبة للقائه وقال أسلام. فقال سلام“. وحينئذ نطق حيجزي بكذبة متعمدة فقال: ”إن سيدي قد أرسلني قائلاً هوذا في هذا الوقت قد جاء إليّ غلامان من جبل أفرايم من بني الأنبياء فأعطهما وزنه فضّة وحلتي ثياب“. فبكل سرور أجابه نعمان إلى طلبه وألح على جيحزي وصر وزنتي فضّة في كيسين بدلاً من وزنة واحدة ”وحلتي الثياب“ وأرسل اثنين من غلمانه ليعودا معه بذلك الكنز (2 ملوك 5 : 21 — 23). AM 203.2
وعندما اقترب جيحزي من بيت أليشع صرف الغلامين وأخفى الفضّة وحلتي الثياب. فلمّا فقل هذا: ”دخل ووقف أمام سيده“، ولكي يحمي نفسه من اللوم نطق بكذبة ثانية وأجاب على سؤال النبي إذ سأله قائلاً: ”من أين يا جيحزي؟“ بقوله: ”لم يذهب عبدك إلى هنا أو هناك“ (2 ملوك 5 : 25). AM 203.3
حينئذ جاء الشجب الصارم مبيناً أن أليشع عرف كل شيء إذ قال له: ”ألم يذهب قلبي حين رجع الرجل من مركبته للقاءك؟ أهو وقت لأخذ الفضّة ولأخذ ثياب وزيتون وكروم وغنم وبقر وعبيد وجوار. فبرص نعمان يلصق بك وبنسلك إلى الأبد“. وسرعان ما حلّ العقاب بذلك الرجل الآثم. فخرج من أمام أليشع ”أبرص كالثلج“ (2 ملوك 5 : 26، 27). خطيرة هي الدروس التي نتعلّمها من اختبار ذلك الذي كانت قد اعطيت له امتيازات سامية ومقدسة. لقد كان تصرّف جيحزي عثرة في طريق نعمان الذي كان قد أشرق على ذهنه نور عجيب، فمال قلبه نحو عبادة الإله الحي. أمّا الخداع الذي ارتكبه جيحزي فلم يكن له ما يبرّره. وقد ظلّ أبرص إلى يوم موته، فكان ملعوناً من الله ومكروهاً من بني جنسه. AM 203.4
”شاهد الزور لا يتبرأ والمتكلم بالأكاذيب لا ينجو“ (أمثال 19 : 5). قد يفكّر الناس في إخفاء أعمالهم الشريرة عن العيون البشرية ولكنّهم لا يستطيعون أن يخدعوا الله: ”كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا“ (عبرانيين 4 : 13). لقد فكّر جيحزي في أن يخدع أليشع ولكن الله كشف لنبيّه الأقوال التي قالها جيحزي لنعمان وكل تفاصيل المشهد الذي حدث بين الرجلين. AM 204.1
الحق من الله، أما الخداع بكل اشكاله المتعدّدة فهو من الشيطان. وأي إنسان ينحرف عن طريق الحق المستقيم بأية كيفية كانت، إنما يسلّم نفسه لسلطان الشرير. والذين تعلّموا من المسيح لا يشتركون ”في أعمال الظلمة غير المثمرة“ (أفسس 5 : 11). ففي الكلام كما في الحياة يكونون بسطاء القلب ومستقيمين وأمناء لأنهم يتأهبّون ليكونوا في صحبة الذين في أفواهم لم يوجد غش (رؤيا 14 : 5). AM 204.2
وبعد عودة نعمان السرياني إلى وطنه بعدّة قرون وقد شُفي جسده واهتدت روحه: أشار المخلّص إلى إيمانه العجيب وامتدحه كدرس مرئي لكل من يدّعون بأنهم يعبدون الله فقال: ”وبرص كثيرون كانوا في إسرائيل في زمان أليشع النبي، ولم يطهر واحد منهم إلا نعمان السرياني“ (لوقا 4 : 27). لقد أمر الله ببرص كثيرين في شعبه لأن عدم إيمانهم أغلق على وجوههم باب الخير والإحسان. ولكن أحد أشراف الوثنيين الذي كان أميناً لاقتناعه بالحق وأحسّ بحاجته إلى المعونة كان في نظر الله أكثر استحقاقاً لبركته من المرضى والمتألمين في شعبه الذي استخفّوا وازدروا بالامتيازات الممنوحة لهم من الله. والله يعمل لخير من يقدّرون إحساناته ويستجيبون للنور المُعطى لهم من السماء. AM 204.3
يوجد اليوم في كل بلد قوم أمناء القلوب وعليهم يشرق نور السماء. فإذا ظلّوا أمناء في اتّباع ما يدركون أنّه الواجب. فسيُعطى لهم مزيد من النور إلى أن يقتنعوا ويعترفوا كنعمان قديماً أنه: ”ليس إله في كل الأرض“ إلا الإله الحي الخالق. AM 205.1
فكل نفس مخلصة وكل من ”يسلك في الظلمات ولا نور له“ تقدّم إليه الدعوة ”ليتّكل على اسم الرب ويستند إلى إلهه“. ”منذ الأزل لم يسمعوا ولم يصغوا. لم تر عين إلهاً غيرك يصنع لمن ينتظره. تلاقي الفرح الصانع البر. الذين يذكرونك في طرقك“ (إشعياء 50 : 10، 64 : 4، 5). AM 205.2