الأنبياء والملوك
الفصل التاسع عشر —نبي السلام
كان عمل أليشع بوصفه نبياً يختلف عن عمل إيليا في بعض النواحي. فلقد أعطيت إيليا رسائل للإدانة والقضا. وكان صوته يوبخ ولا يعرف الخوف وهو يدعو الملك والشعب ليرجعوا عن طرقهم الشريرة. أما رسالة النبي أليشع فكانت رسالة سلام، كانت مهمته تهدف إلى تقوية العمل الذي بدأه إيليا وإرساء دعائمه، وأن يعلّم الشعب طريق الرب. ويصوّره الوحي بأنه كان يتصل بالشعب اتصالاً شخصياً وهو محاط ببني الأنبياء. أما خدمته ومعجزاته فكانت تأتي بالشفاء والفرح. AM 192.1
كان أليشع رجلاً تنطوي جوانحه على روح هادئة لطيفة رقيقة. أما كونه استطاع أن يكون أيضاً صارماً فقد برهنت على ذلك تصرفاته عندما سخر منه بعض الصبيان الأشقياء، وهو في طريقه إلى بيت إيل، إذ كانوا خارجين من المدينة. وكان هؤلاء الشبان قد سمعوا عن صعود إيليا. AM 192.2
فاتّخذوا من هذه الحادثة المقدّسة موضوعاً لسخريتهم واستهزائهم قائلين لأليشع: ”اصعد يا أقرع، اصعد يا أقرع“. فإذ سمع النبي منهم هذه السخرية التفت إليهم، وبإلهام من الله القدير سكب عليهم لعنته. كان الحكم الرهيب الذي تبع ذلك هو من الله: ”فخرجت دبّتان من الوعر وافترسا منهم اثنين وأربعين ولداً“ (2 ملوك 2 : 23، 24). AM 192.3
فلو سمح أليشع للسخرية بأن تمر دون اكتراث لكان الرعاع مضوا في الاستهزاء به ووجهوا إليه الشتائم، وكانت رسالته في التعليم والتخليص، في وقت كانت فيه الأمة في خطر جسيم تتعطّل وتفشل. فكان هذا الحادث الوحيد الذي يتسم بالصرامة كافياً ليلزم الناس بإكرامه مدى الحياة. ولمدى خمسين سنة كان يدخل ويخرج من باب بيت إيل وينتقل في كل أنحاء البلاد من مدينة إلى أخرى في وسط جموع الشباب العاطلين عن العمل والأجلاف والفاجرين ولكن ما من أحد تجرّأ للنيل منه أو الاستخفاف بمؤهلاته بوصفه نبياً لله العلي. AM 193.1
حتى الشفقة نفسها ينبغي ألا تتعدى حدودها. ينبغي للسلطة أن تستند إلى الشدة والحزم الثابت وإلا فكثيرون سيقابلونها بالسخرية والازدراء والاستهانة. إن كل ما يُسمّى بالرقة والتعلّق والملاطفة والتدليل التي يبديها الآباء وأولياء الأمور والمربّون نحو الأولاد هي من أردأ الشرور التي تصيبهم. ففي كل عائلة نجد أن الثبات والتصميم والأوامر الحازمة جوهرية جداً. AM 193.2
إن الوقار الذي كان يفتقر إليه أولئك الصبية الذين سخروا من أليشع هو نعمة ينبغي أن يسعى لامتلاكها الجميع ويحتفظون بها. فعلى كل ولد أن يتعلّم أن يُظهم توقيراً حقيقياً لله. وينبغي ألا يذكر اسمه باستخفاف أو طيش. فالملائكة إذ ينطقون به يغطون وجوههم. فبأي وقار ينبغي لنا نحن الخطاة الساقطين أن ننطق به على شفاهنا؟ AM 193.3
ينبغي إظهار الوقار لمن هم نواب الله. مثل الخدام والمعلمين والآباء الذين يدعون ليتكلّموا ويعملوا نيابة عنه. ففي توقيرهم إكرام الله. AM 193.4
ثم إن اللطف هو أيضاً من نعم الروح وثماره وينبغي أن يعزز في نفوس الجميع. فاللطف والكياسة والاحترام لها القوة على تلطيف الطباع التي من دونها تغدو فظة قاسية. فالذين يعترفون بأنهم أتباع المسيح وهم في الوقت ذاته يتصرفون في منتهى الفظاظة، غير مشفقين ولا لطفاء، لم يتعلّموا بعد من المسيح. قد لا يشك أحد في إخلاصهم أو يرتاب في استقامتهم. ولكن إخلاصهم واستقامتهم لا ينوبان عن افتقارهم إلى روح الرفق واللطف. AM 194.1
إن روح الرفق التي أعانت أليشع على إحداث تأثير قوي في حياة كثيرين تظهر في قصة علاقته الودية بعائلة كانت تقيم في شونم. كان يتجول هنا وهناك في أنحاء المملكة. ”وفي ذات يوم عبر أليشع إلى شونم. وكانت هناك امرأة عظيمة فأمسكته ليأكل خبزاً. كان كلّما عبر يميل إلى هناك ليأكل خبزاً“ لقد علمت ربة البيت أن أليشع ”رجل الله مقدّس“ فقالت لرجلها: ”فنعمل علية على الحائط صغيرة ونضع له هناك سريراً وخواناً وكرسياً ومنارة حتى إذا جاء إلينا يميل إليها“. وقد أتى أليشع إلى هذا المعتكف مراراً كثيرة وكان ممتناً لهذا الهدوء والسكون الذي وجده فيه وكذلك الله، لمس شفقة تلك المرأة وإحسانها. ولم يكن لها أولاد في بيتها وها هو الرب الآن يكافئ كرمها بأن أعطاها ابناً“ (2 ملوك 4 : 8 — 10). AM 194.2
ومرت السنون وكبر الطفل وخرج إلى الحقل مع الحصادين. وفي ذات يوم أصابته ضربة شمس: ”وقال لأبيه رأسي رأسي“ فأمر أبوه غلاماً بأن يحمل الصبي إلى أمه ”فحمله وأتى به إلى أمه فجلس على ركبتيها إلى الظهر ومات. فصعدت واضجعته على سرير رجل الله وأغلقت عليه وخرجت“. AM 194.3
وقد عوّلت تلك الشونمية على الذهاب إلى أليشع في كربتها في طلب العون منه. وكان النبي حينئذ عند جبل الكرمل، فشرعت المرأة في الذهاب إليه في الحال يصحبها غلامها: ”فلما رآها رجل الله من بعيد قال لجيحزي غلامه هوذا تلك الشونمية. اركض الآن للقائها وقل لها أسلام لك؟ أسلام لزوجك. أسلام للولد.“ ففعل الغلام كما أُمر .. ولكن تلك الأم الثكلى لم تفض بشكواها ولم تكشف مصدر حزنها إلى أن وصلت إلى أليشع. فإذ سمع أليشع بخسارتها أمر جيحزي قائلاً: ”اشدد حقويك وخذ عكازي بيدك وانطلق وإذا صادفت أحداً فلا تباركه وإن باركك أحد فلا تجبه وضع عكازي على وجه الصبي“ (2 ملوك 4 : 29). AM 195.1
ولكن الأم لم تكتف بغير ذهاب أليشع معها. فأعلنت تقول: ”حي هو الرب وحية هي نفسك أنني لا أتركك. فقام وتبعها وجاز جيحزي قدامها ووضع العكاز على وجه الصبي فلم يكن صوت ولا مصغ. فرجع للقائه وأخبره قائلاً لم ينتبه الصبي: (2 ملوك 4 : 30، 31). ولما وصلوا إلى البيت دخل أليشع إلى الغرفة التي كان الصبي الميّت مضجعاً فيها: ”وأغلق الباب على نفسيهما كليهما وصلى إلى الرب. ثم صعد واضطجع فوق الصبي ووضع فمه على فمه وعينيه على عينيه ويديه على يديه وتمدّد عليه فسخن جسد الولد. ثم عاد وتمشى في البيت تارة إلى هنا وتارة إلى هناك وصعد وتمدّد عليه فعطس الصبي سبع مرات ثم فتح الصبي عينيه“ (2 ملوك 4 : 33 — 35). وإذ دعا أليشع جيحزي أمره بأن يرسل إليه الأم: ”ولما دخلت إليه قال احملي ابنك فأتت وسقطت على رجليه وسجدت إلى الأرض ثم حملت ابنها وخرجت“ (2 ملوك 4 : 36، 37). AM 195.2
وهكذا كوفئ إيمان هذه المرأة. إن المسيح معطي الحياة العظيم أعاد إليها ابنها. وهكذا سيكافئ عبيده الأمناء، عندما تُكسر شوكة الموت في مجيئه ويُسلب من القبر انتصاره الذي ادّعاه لنفسه. حينئذ سيردّ إلى عبيده أولادهم الذين أُخذوا منهم بالموت: ”هكذا قال الرب. صوت سُمع في الرامة نوح بكاء مر. راحيل تبكي على أولادها وتأبى أن تتعزّى عن أولادها لأنهم ليسوا بموجودين. هكذا قال الرب. امنعي صوتك عن البكاء وعينيك عن الدموع لأنه يوجد جزاء لعملك .. فيرجعون من أرض العدو. ويوجد رجاء لآخرتك يقول الرب فيرجع الابناء إلى تخمهم“ (ارما 31 : 15 — 17). AM 195.3
إن يسوع يعزّينا عن أحزاننا لأجل موتانا برسالة رجاء غير محدودة فيقول: ”من يد الهاوية أفديهم من الموت أخلّصهم. أين أوباؤك يا موت أين شوكتك يا هاوية“ (هوشع 13 : 14). ”أنا هو .. الحي. وكنت ميتاً وها أنا حي إلى أبد الآبدين .. ولي مفاتيح الهاوية والموت“ (رؤيا 1 : 17، 18). ”الرب نفسه بهتاف بصوت رئيس الملائكة وبوق الله سوف ينزل من السماء والأموات في المسيح سيقومون أولاً. ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعاً معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء وهكذا نكون كل حين مع الرب“ (1 تسالونيكي 4 : 16، 17). AM 196.1
إن أليشع في خدمته بين الناس ضم عمل الشفاء إلى التعليم كما فعل مخلّص بني الإنسان الذي كان أليشع رمزاً له. وقد حاول بكل أمانة وبلا كلل مدى خدمته الطويلة الفعالة أن يقوّي ويرقي عمل التهذيب العام الذي كانت تضطلع به مدارس الأنبياء. وبعناية الله تعزّزت تعاليمه لدى الجماعات الغيّورة جداً من الشباب المجتمعين، بتأثير الروح القدس العميق، وأحياناً بواسطة براهين لا تخطئ على سلطانه بوصفه خادماً للرب. AM 196.2
وفي إحدى زيارته للمدرسة الكائنة في الجلجال شفى السليقة (حساء من الخضر واللحم) المسمومة: ”وكان جوع في الأرض وكان بنو الأنبياء جلوساً أمامه. فقال لغلامه ضع القدر الكبيرة وأسلق سليقة لبني الأنبياء. وخرج واحد إلى الحقل ليلتقط بقولاً فوجد يقطيناً بريّاً فالتقط منه قثّاء برياً ملء ثوبه وأتى وقطّعه في قدر السليقة لأنهم لم يعرفوا. وصبوا للقوم ليأكلو. وفيما هم يأكلون من السليقة صرخوا وقالو في القدر موت يا رجل الله ولم يستطيعوا أن يأكلوا. فقال هاتو دقيقاً فألقاه في القدر وقال صبّ للقوم فيأكلوا. فكأنه لم يكن شيء رديء في القدر“ (2 ملوك 4 : 38 — 41). وفي الجلجال أيضاً عندما كان الجوع ما زال في الأرض أطعم أليشع مائة رجل من هدية جائته من ”رجل من بعل شلشية“. خبز باكورة عشرين رغيفاً من شعير وسويقاً في جرابه“. كان معه جماعة في أشدّ حالات الاحتياج إلى الطعام فلما أتى بالتقدمة قال لخادمه ”إعط الشعب ليأكلوا. فقال خادمه ماذا. هل أجعل هذا أمام مائة رجل؟ فقال إعط الشعب فيأكلوا وفضل عنهم حسب قول الرب“ (2 ملوك 4 : 42، 43). AM 196.3
ما كان أعظم تنازل المسيح بواسطة رسوله في إجراء هذه المعجزة لإشباع الجياع! ومراراً عديدة منذ ذلك الوقت وأن لم يكن دائماً بكيفية ملحوظة ومحسوسة أشبع الرب يسوع حاجة البشر، ولو كان عندنا تمييز روحي أكثر صفاء ورهافة لاعترفنا بأسرع مما نفعل الآن، بمعاملات الله الرحيمة لبني الإنسان. إن نعم الله التي تحلّ على النصيب القليل هي التي تجعله كافياً. ويمكن ليد الله أن تضاعفه مئة ضعف. فمن موارده التي لا تفرغ يستطيع أن يرتّب مائدة في البرية. وبلمسة يديه يمكن أن يزيد القليل بحيث يكفي الجميع. إن قوّته هي التي أكثرت الأرغفة والسويق في أيدي بني الأنبياء. AM 197.1
في أيام خدمة المسيح على الأرض، عندما أجرى معجزة مماثلة في إشباع الجماعير ظهر عدم الإيمان ذاته الذي أظهره من صاحبوا النبي قديماً. قال خادم أليشع: ”ماذا، هل أجعل هذا أمام مئة رجل“، وعندما أمر يسوع تلاميذه أن يعطوا الجموع ليأكلوا أجابوه قائلين: ”ليس عندنا أكثر من خمسة أرغفة وسمكتين ألا أن نذهب ونبتاع طعاماً لهذا الشعب كله“ (لوقا 9 : 13). ما هذا بين جمع عدده؟ هذا الدرس مقدّم لأولاد الله في كل عصر فعندما يُعطي الرب عملاً ليُعمل فلا ينبغي للناس أن يسألوا عن معقولية الأمر أو النتائج المحتملة لاجتهادهم في الطاعة. إن ما في أيديهم قد يبدو أنه لا يكفي لتلبية الحاجة، أمّا في يد الرب ففيه الكفاية وزيادة. ”جعل (الخادم) أمامهم فأكلوا وفضل عنهم حسب قول الرب“ (2 ملوك 4 : 43). AM 198.1
إن الإحساس الأكمل بعلاقة الله بمن افتداهم ببذله ابنه والإيمان الأعظم بنجاح عمله وتقدّمه في الأرض — هذه هي حاجة الكنيسة العظمى اليوم. فلا يضيّع أحد الوقت في التحسّر على قلّة موارده المنظورة فقد يكون المظهر الخارجي لا يُرجى منه خير ولكن النشاط والإتكال على الله يزيد تلك الموارد. فالتقدمة التي تقدّم به بشكر وصلاة في طلب بركاته سيضاعفها كما ضاعف الطعام المقدّم لبني الأنبياء والجموع المتعبين. AM 198.2