الأنبياء والملوك

22/70

الفصل الثامن عشر —إبراء المياه

كانت دائرة الأردن في عصور الآباء: ”جميعها سقي .. كجنة الرب“. وفي هذا الوادي الجميل اختار لوط أن يرسي دعائم بيته، عندما ”نقل خيامه إلى سدوم“ (تكوين 13 : 10، 12). وفي الوقت الذي فيه دمّرت مدن السهل وهلكت، أمسى كلّ ذلك الإقليم في برية الفقراء. ومنذ ذلك الحين أصبحت جزءاً من برية اليهودية. AM 186.1

ولكن جزءاً من ذلك الوادي الجميل ظلّ يفرح قلب الإنسان بأنهاره وينابيعه المحيية. وفي هذا الوادي الذي كان غنيّاً بحقول الحنطة وغابات النخيل والأشجار المثمرة الأخرى، نصبت جموع إسرائيل خيامها بعد عبور الأردن. ولأول مرة أكلوا من ثمار أرض الموعد. وقد وقفت أمامهم أسوار أريحا التي كانت حصناً وثنياً ومركزاً لعبادة عشتروت، أحطّ أشكال الوثنية الكنعانية كلّها. ولكن سرعان ما سقطت أسوارها وقُتل سكانها. وفي وقت سقوطها أُذيع الإعلان الجليل في مسامع جميع الشعب القائل: ”ملعون قدّام الرب الرجل الذي يقوم ويبني هذه المدينة أريحا. ببكره يؤسسها وبصغيره ينصب أبوابها“ (يشوع 6 : 26). AM 186.2

وقد مرّت بعد ذلك خمسة قرون كانت تلك البقعة خربة وموحشة وواقعة تحت لعنة الله. وحتى ينابيع المياه التي جذبت الناس للسكن في هذا الجزء من الوادي قاست الويلات من آثار اللعنة التي حلّت عليها. ولكن في أيام ارتداد آخاب بنيت مدينة أريحا، عندما انتعشت عبادة عشتروت نظراً لنفوذ إيزابل وقوّة تأثيرها، وكانت مركز هذه العبادة منذ القدم، مع أن الذي أعاد بناءها دفع ثمناً باهظاً في سبيل ذلك. فإنّ حيئيل البيتئيلي: ”بأبيرام بكره وضع أساسها وبسجوب صغيرة نصب أبوابها حسب كلام الرب“ (1 ملوك 16 : 34). AM 186.3

وفي وسط الغابات المثمرة غير البعيدة عن أريحا كانت توجد إحدى مدارس الأنبياء، وقد ذهب أليشع إلى هناك بعد صعود إيليّا. وفي أثناء إقامته بينهم جاء رجال المدينة إلى النبي وقالوا له: ”هوذا موقع المدينة حسن كما يرى سيدي وأمّا المياه فرية والأرض مجدبة“. فذلك الينبوع الذي ظلّ نقياً عذباً في السنين الماضية ومحيياً للناس، الذي زود المدينة والإقليم المحيط بها بأكبر كمية من الماء، أمسى الآن غير صالح للشرب. AM 187.1

واستجابة لتوسلات رجال أريحا قال أليشع: ”أئتوني بصحن جديد وضعوا فيه ملحاً“ فلمّا أتوه بما طلب: ”خرج إلى نبع الماء وطرح فيه الملح وقال هكذا قال الرب قد ابرأت هذه المياه، لا يكون فيها أيضاً موت ولا جدب“ (2 ملوك 2 : 19 — 21). AM 187.2

إن إبراء مياه أريحا قد تمّ لا بأية حكمة بشرية بل بتدخّل الله المعجزي. فالذين أعادوا بناء المدينة كانوا غير مستحقّين لمراحم السماء، إلا أن الله الذي: ”يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين“ (متى 5 : 45) رأى أنه من المناسب في تلك الفرصة أن يعلن من خلال عمل الشفقة والرحمة هذا، عن رغبته في شفاء شعبه من أمراضهم الروحية. AM 187.3

كان إبراء الماء ذا فاعلية مستمرة: ”فبرئت المياه إلى هذا اليوم حسب قول أليشع الذي نطق به“ (2 ملوك 2 : 22). وقد ظلّت المياه تجري وتفيض من جيل إلى جيل جاعلة ذلك الجزء من الوادي واحدة في غاية الاخضرار والجمال. AM 187.4

إننا نستطيع أن نستنبط كثيراً من الدروس الروحية من قصة إبراء المياه. فالصحن الجديد والملح والنبع — كلها رموز سامية. AM 188.1

فإذ طرح أليشع الملح في نبع الماء المر علّم الدرس الروحي ذاته الذي علّمه المخلّص لتلاميذه بعد ذلك بعدة قرون عندما أعلن قائلاً: ”أنتم ملح الأرض“ (متى 5 : 13). فإذ امتزج الملح بالنبع الملوّث طهّر مياهه وجلب الحياة والبركة إلى المكان الذي حلّ فيه الجفاف والموت. وعندما يشبّه الله أولاده بالملح فهو يريد أن يعلّمهم أن هدفه من جعلهم رعايا نعمته هو ليكونوا عاملين على تخليص الآخرين. إن غرض الله من اختياره شعباً أمام كل العالم، لم يكن فقط لكي يجعلهم أبناء له وبنات، بل لكي يقبل العالم عن طريقهم النعمة التي تأتي بالخلاص. فعندما اختار الرب إبراهيم لم يكن الغرض من ذلك مجرد أن يصير خليل الله الخاص، بل ليصير واسطة للامتيازات الخاصة التي قصد الله أن يمنحها للأمم. AM 188.2

العالم بحاجة إلى أدلّة على المسيحية المخلّصة. فسم الخطيئة يعمل عمله في قلب المجتمع. لقد انحدر الناس في درك الخطيئة في كل مدينة وبلدة، وغاصوا إلى أعماق الفساد الأدبي. والعالم مليء بالمرض والألم والإثم. ففي الأماكن القريبة والبعيدة توجد نفوس تعاني آلام الفاقة والضيق وهي مثقّلة بالشعور بالذنب وتهلك لعدم وجود تأثيرات مخلصة. فإنجيل الحق موضوع أمامهم ومع ذلك فهم يهلكون لأن مثال الذين كان ينبغي أن يكونوا رائحة حياة لهم، هي رائحة الموت. فنفوسهم تتجرّع المرارة لأن الينابيع مسمومة، في حين كان ينبغي أن تكون ينبوع ماء تنبع إلى حياة أبدية. AM 188.3

ينبغي أن يمتزج الملح بالمادة التي يضاف إليها، ويخترقها ويتشرب فيها لكي تحفظ. وكذلك يمكن الوصول إلى الناس بقوة الإنجيل المخلّصة عن طريق الاتصال الشخصي والعشرة. إنّهم لا يخلصون كجماعات بل كأفراد. فالتأثير الشخصي قوّة، الذي ينبغي أن يعمل بتأثير المسيح ومثاله ويقدّم مبادئ صحيحة ويوقف انتشار الفساد في العالم. وهو ينشر تلك النعمة التي يستطيع المسيح وحده أن يمنحها. ويلطّف حياة الآخرين وصفاتهم بواسطة قوة مثاله الطاهر المتّحد بالإيمان الحار والمحبة. AM 189.1

وقد أعلن الرب عن ذلك النبع الذي كان ملوثاً من قبل في أريحا قائلاً: ”قد أبرأت هذه المياه لا يكون فيها أيضاً موت ولا جدب“. إن النبع الملوّث يرمز إلى النفس المنفصلة عن الله. فالخطيئة لا تبعد النفس عن الله وحسب ولكنّها تلاشي منها الرغبة في معرفته والقدرة عليها. وعن طريق الخطيئة يتعطّل الجهاز البشري كلّه ويُصاب بالشلل، فيفسد العقل ويتنجّس التصوّر وتنحط قوى النفس، وينعدم وجود الديانة الطاهرة وقداسة القلب. وقوة الله المجددة في تغيير الخلق لا تعد تعمل. وهكذا تضعف النفس، ولافتقارها للقوة الأدبية للانتصار تغدو ملوثة ومنحطة. AM 189.2

أما القلب الذي تطهر فيتبدل كل شيء بالنسبة إليه. فتغيير الخلق هو الشهادة الحية لدى العالم على سكنى المسيح في القلب. وروح الله يخلق حياة جديدة في النفس ويجعل الأفكار والرغبات مطيعة لإرادة المسيح، ويتجدّد الإنسان الباطن على صورة الله. والرجال والنساء الضعفاء المخطئون يظهرون للعالم أن قوة النعمة الفادية تستطيع أن تجعل الخلق المتهافت المليء بالعيوب سوياً متناسقاً، وبالتالي كالشجرة اليانعة ينتج ثماراً وفيرة. AM 189.3

إن القلب الذي يتقبل كلمة الله لا يشبه بركة يتبخر ماؤها، ولا يشبه بئراً مشققة تذهب مياهها هدراً بل يشبه نبعاً يتحدّر من جبل يستمد مياهه من ينابيع لا تنفذ وهي تتراقص من فوق الصخور وتقفز وتحيي بمياهها الباردة المنعشة الناس الخائرين المتعبين والعطاش والثقيلي الأحمال. وكنهر دائم الجريان، إذ يتقدّم يغدو أكثر عمقاً واتساعاً إلى أن تمتلئ الأرض كلها من مياهه المحيية. إن النبع الذي يسير فيه طريقه وهو يترنم بخريره يترك خلفه الخصب والخضرة والثمار اليانعة، أما العشب النامي على ضفّتيه فيبدو أخضراً ناضراً. والأشجار يكسوها الاخضرار والأزهار تكون وفيرة وعطرة. وعندما تبدو الأرض قاحلة وجرداء تحت أشعة شمس الصيف الحارقة فإن خط الخضرة الذي يبدو للعيان يدل على مجرى النهر الذي يخترق تلك الأرض. AM 190.1

كذلك هو الحال مع أولاد الله الحقيقيين، فديانة المسيح تعلن عن نفسها كمبدأ محيي منتشر، وقوة روحية حية عاملة. وعندما ينفتح القلب لتأثير الحق والمحبة الإلهية فستجري هذه المبادئ وتفيض ثانيةً كجداول في قفر بحيث تجعل الخصب يظهر حيث الآن الجدب والجوع. AM 190.2

فإذ يعمل الذين تطهروا وتقدّسوا بمعرفة الحق الكتابي، في عمل ربح النفوس يصيرون فعلاً رائحة حياة لحياة. وإذ يشربون ويرتوون كل يوم من نبع النعمة والمعرفة الذي لا ينضب يجدون أن قلوبهم ممتلئة وفائضة بروح سيدهم وأنه عن طريق خدمتهم الخالية من الأثرة انتفع كثيرون بفوائد جسمانية وفكرية وروحية. فالمتعبون ينتعشون والمرضى يستعيدون صحتهم، والمثقلون بالخطيّة يستريحون. وفي البلدان القاصية تُسمع عبارات الشكر من أفواه الذين رجعوا من دروب الخطيئة إلى البر. AM 190.3

”أعطوا تعطوا“ (لوقا : 38) لأن كلمة الله هي: ”ينبوع جنّات بئر مياه حية وسيول من لبنان“ (نشيد الأنشاد 4 : 15). AM 191.1