الأنبياء والملوك
الفصل التاسع والخمسون — ”بيت إسرائيل“
فيما كنيسة الله على الأرض تنادي اليوم بالحقائق المتضمنة في البشارة الأبدية لكل أمة وقبيلة ولسان شعب، فهي تحقق النبوة القديمة القائلة: ”في المستقبل يتأصل يعقوب. يزهر ويفرع إسرائيل ويملأون وجه المسكونة أثماراً“ (إشعياء 27 : 6). إن أتباع المسيح الذين يتعاونون مع الخلائق السماوية سيملأون القفار بسرعة، وستُحصد كنتيجة لجهودهم، ثماراً وفيرة من النفوس الثمينة. واليوم كما لم يحدث من قبل، نجد أن نشر حقائق الكتاب عن طريق الكنيسة المكرّسة يجيء للناس بالفوائد المرموز إليها منذ قرون مضت في الوعد المقدّم لإبراهيم ولكل إسرائيل — أي كنيسة الله على الأرض في كل عصر، والقائل: ”أباركك .. وتكون بركة“ (تكوين 12 : 2). AM 563.1
كان ينبغي أن يتم وعد البركة هذا، على مدى واسع أثناء القرون التي تلت رجوع بني إسرائيل من السبي. كان قصد الله أن تتأهب الأرض كلها للمجيء الأول للمسيح، كما يعد الطريق اليوم للمجيء الثاني. ففي نهاية سنوات السبي المذلّ أعطى الله في رحمته لشعبه على لسان زكريا هذا الوعد اليقيني: ”قد رجعت إلى صهيون واسكن في وسط أورشليم فتدعى أورشليم مدينة الحق وجبل رب الجنود الجبل المقدّس“. ثم قال عن شعبه ”هأنذا .. أكون لهم إلهاً بالحق والبر“ (زكريا 8 : 3، 7، 8). AM 563.2
كانت هذه المواعيد موقوفة على الطاعة. والخطايا التي اتّصف بها بنو إسرائيل قبل السبي كان ينبغي ألا تتكرر. وقد أوصى الرب من كانوا دائبين على إعادة البناء قائلاً: ”اقضوا قضاء الحق واعملوا إحساناً ورحمة كل إنسان مع أخيه. ولا تظلموا الأرملة ولا اليتيم ولا الغريب ولا الفقير ولا يفكر أحد منكم شراّ على أخيه في قلبه .. ليكلّم كل إنسان قريبه بالحق. أقضوا بالحق وقضاء السلام في أبوابكم“ (زكريا 7 : 9، 10 ؛ 8 : 16). AM 564.1
كان الجزاء الذي وعد به من سيحيون بموجب مبادئ العدل تلك، غنيّاً جداً ويتضمن بركات روحية وزمنية. فقد أعلن الرب قائلاً: ”زرع السلام، الكرم يُعطي ثمرة والأرض تُعطي غلّتها والسموات تُعطي نداها. وأملّك بقية هذا الشعب هذه كلّها. ويكون كما أنكم كنتم لعنة بين الأمم يا بيت يهوذا ويا بيت إسرائيل كذلك أخلّصكم فتكونون بركة“ (زكريا 8 : 12، 13). AM 564.2
كان للسبي البابلي أثره الفعّال النافع في شفاء بني إسرائيل من عبادة الآلهة المنحوتة. فبعد رجوعهم انصرفوا بكلّ جوارحهم للإصغاء بانتباه تام إلى التعاليم الدينية ودراسة ما ورد في سفر الشريعة وكتب الأنبياء عن عبادة الإله الحقيقي. وأعانهم بناء الهيكل على ممارسة خدمات المقدس الطقسية كاملة. كما عاهدوا الله مراراً تحت قيادة زربابل وعزرا ونحميا بأن يحفظوا وصايا الرب كاملة وفرائضه غير منقوصة. وقد برهنت أوقات النجاح التي جاءت بعد ذلك بما لا يحتمل الشك على استعداد الله للقبول والمغفرة. ومع ذلك ففي قصر نظرهم المميت ارتدّوا وحادوا مراراً عن هدفهم المجيد واحتكروا لأنفسهم في أثرة ممقوتة، ما كان يمكن أن يجيء بالشفاء والحياة الروحية لجماهير من الناس لا حصر لها. AM 564.3
إن إخفاقهم هذا في إتمام مقاصد الله كان ظاهراً بوضوح في أيام ملاخي. ولقد تعامل رسول الرب بصرامة كاملة مع الشرور التي سلبت النجاح المادي والقوة الروحية من شعب الله. ولم يستثن النبي في توبيخه للعصاة أحداً من الكهنة أو الشعب. إن ”وحي كلمة الرب لإسرائيل عن يد ملاخي“ كان لكي لا تنسى دروس الماضي، ولكي يُحفظ العهد الذي قطعه الرب مع شعبه بأمانة وولاء. إنما بالتوبة القلبية وحدها كان يمكن أن تتحقق لهم بركة الله. وقد توسّل النبي قائلاً: ”والآن ترضوا وجه الله فيتراءف علينا“ (ملاخي 1 : 1، 9). AM 565.1
ومع ذلك فإن إخفاق شعب الله الوقتي لم يبطل تدبير الدهر لفداء الإنسان. قد لا يكترث من كان النبي يكلمهم بالرسالة المقدمة لهم، ولكن مقاصد الرب كانت برغم ذلك ستتقدّم إلى الأمام بثبات نحو الإنجاز التام. فقد أعلن الرب عن يد رسوله قائلاً: ”من مشرق الشمس إلى مغربها اسمي العظيم بين الأمم وفي كل مكان يقرّب لإسمي بخور وتقدمة طاهرة لأن اسمي عظيم بين الأمم“ (ملاخي 1 : 11). AM 565.2
لقد أبرم الله عهد ”الحياة والسلام“ مع بني لاوي — العهد الذي لو حفظوه لجلب لهم بركة لا يُعبّر عنها — وقد عرض الرب أن يجدد هذا العهد لمن كانوا سابقاُ رؤساء روحيين ولكنّهم بسبب عصيانهم صاروا ”محتقرين ودنيئين عند كل الشعب“ (ملاخي 2 : 5، 9). AM 565.3
وقد أنذر فاعلو الشر بحزم من يوم الدينونة الآتي، ومن اعتزام الرب بأن يفتقد كل عصيان بهلاك مباغت سريع. ومع ذلك فلم يترك أحد بلا رجاء. فإن نبوات ملاخي عن الدينونة كانت ترافقها دعوات للتائبين للتصالح مع الله. فقد ألحّ عليهم الرب قائلاً: ”ارجعوا إلي أرجع إليكم“ (ملاخي 3 : 7). AM 565.4
يبدو كأن كل قلب لابد سيستجيب لمثل هذه الدعوة. فإله السماء يتوسّل إلى أولاده المخطئين ليرجعوا إليه ويتعاونوا معه للتقدّم بعمله في الأرض. فهو يمد يده ليمسك بيد شعبه ليساعدهم في عبور الطريق الضيّق، طريق إنكار الذات والتضحية ليقاسموه الميراث كأولاد له. فهل يمكن إقناعهم؟ وهل يرون رجاءهم الوحيد؟ AM 566.1
يا له من أمر محزن أن يتردد شعبه في عهد ملاخي في إخضاع قلوبهم المتكبّرة للطاعة الناجزة بمحبّة قلبية وتعاون تامّين. كان تبرير الذات ظاهراً في جوابهم حين قالوا: ”بماذا نرجع؟“. AM 566.2
فقد أعلن الرب لشعبه خطيئة من خطاياهم الخاصة إذ سألهم قائلاً: ”أيسلب الإنسان الله؟ فإنكم سلبتموني“. وعاد أولئك العصاة يسألون ”بما سلبناك؟“ إذ لم يقتنعوا بعد بخطيئتهم. AM 566.3
وكان جواب الرب محدداً حين قال: ”في العشور والتقدمة. قد لعنتم لعناً وإياي أنتم سالبون هذه الأمة كلها. هاتوا جميع العشور إلى الخزنة ليكون في بيتي طعام وجرّبوني بهذا قال رب الجنود إن كنت لا أفتح لكم كوى السموات وأفيض عليكم بركة حتى لا توسع. وأنتهر من أجلكم الآكل فلا يفسد لكم ثمر الأرض ولا يعقر لكم الكرم في الحقل قال رب الجنود ويطوبكم كل الأمم، لأنكم تكونون أرض مسرة، قال رب الجنود“ (ملاخي 3 : 7 — 12). AM 566.4
إن الله يبارك عمل أيدي الناس لكي يردّوا له نصيبه. إنه يعطيهم الشمس المشرقة والمطر وهو الذي ينمّي النباتات ويجعلها تزدهر، ويمنح الصحة والقدرة ”لاصطناع الثروة“ (تثنية 8 : 18). إن كل البركات تفيض إلينا من يديه السخيتين وهو يريد أن يبرهن الرجال والنساء على شكرهم بتقديم جزء من تلك البركات إليه في العشور والتقدمة — وفي عطايا الشكر وعطايا الإنتداب وقرابين الإثم. عليهم أن يكرّسوا مواردهم لخدمته كيلا يظلّ كرمه مقفراً. وأن يفكروا فيما يمكن أن يعمله الرب لو كان في مكانهم. عليهم أن يبسطوا كل الأمور الصعبة أمامه في الصلاة وأن يظهروا اهتمامهم الخالص في إقامة وتعضيد عمله في كل أرجاء العالم. AM 566.5
لقد تعلّم أخيراً شعب الله الدرس بواسطة رسائل كهذه التي ألقاها ملاخي آخر أنبياء العهد القديم، وبواسطة الاضطهاد الواقع عليهم من أعدائهم الأمميين، وهو أن النجاح الحقيقي يتوقف على الطاعة لشريعة الله. ولكن الطاعة بالنسبة لكثيرين منهم لم تكن نابعة من الإيمان والمحبة. فقد كانت بواعثهم أنانية وكانوا يقومون بالخدمات الخارجية كوسيلة للبلوغ إلى العظمة القومية. فلم يصر الشعب المختار نوراً للعالم بل حبسوا أنفسهم بعيداً عن العالم ليقيهم ذلك ويحفظهم من غوايات العبادات الوثنية. ولقد انحرفت النواهي التي وضعها الله أمامهم لمنعهم عن مصاهرة الأمم، وعن الاشتراك معهم في الممارسات الوثنية، بحيث أقاموا سوراً عالياً فصل بينهم وبين باقي الشعوب، وبذلك حرموا تلك الأمم من البركات ذاتها التي أوكل الله إليهم أمر تقديمها لهم. AM 567.1
وفي ذات الوقت كان اليهود يفصلون أنفسهم عن الله بخطاياهم. لقد عجزوا عن إدراك المعنى الروحي العميق لخدماتهم الرمزية. ففي برّهم الذاتي اتّكلوا على أعمالهم، وعلى الذبائح والفرائض ذاتها بدلاً من الاتكال على استحقاقات الرب الذي كانت كل هذه الأمور تشير إليه. فإذ ”كانوا يطلبون أن يثبتوا بر أنفسهم“ (رومية 10 : 3). وطّدوا أنفسهم وثبّتوها على الرسميات والطقوس والاكتفاء الذاتي. وإذ كانوا مفتقرين إلى روح الله ونعمته حاولوا سدّ ذلك النقص بالتدقيق والصرامة في حفظ الشعائر والطقوس الدينية. وإذ لم يقنعوا بالفرائض التي أقرّها الله فقد عرقلوا أوامره بفروض لا حصر لها من ابتكارهم. وبقدر ما زاد ابتعادهم عن الله زادت صرامتهم في حفظ هذه الطقوس. AM 567.2
وبهذه الممارسات الدقيقة الثقيلة أمسى مستحيلاً على الشعب أن يحفظوا الناموس. فمبادئ البر العظيمة الموضّحة في الوصايا العشر والحقائق المجيدة المرموز إليها في الخدمة الرمزية أحيطت هي أيضاً بالغموض ودُفنت تحت ركام التقاليد والوصايا البشرية. والذين كانوا راغبين حقاً في خدمة الله، كانوا يئنون تحت عبء لا يُحتمل فيما هم يحاولون حفظ الناموس كما فرضه الكهنة والرؤساء. AM 568.1
كانت قلوب شعب إسرائيل عامة بعيدة عن الله في حين كانوا يشتاقون إلى مجيء المسيا، ولم يكن لديهم إدراك صحيح لصفة الفادي الموعود به أو لرسالته. وبدلاً من أن يتوقوا إلى الفداء من الخطيئة وإلى مجد القداسة وسلامتها، فقد تركّزت أشواق قلوبهم في التحرّر من أعداء أمّتهم واسترداد سلطانهم الدنيوي. كانوا ينتظرون أن يأتي مسيا قائداً فاتحاً ظافراً ويطّم كل نير ويرفع شعب الله إلى ذروة السيادة بين كل الأمم. وبذلك أفلح الشيطان في إعداد قلوب الشعب لرفض المخلّص حينما يظهر. كانت كبرياء قلوبهم وتصوّراتهم الكاذبة عن صفاته ورسالته كفيلة بالحيلولة دونهم ودون وزنهم للبراهين بأمانة على كونه المسيا. AM 568.2
لقد ظلّ الشعب اليهودي ينتظر مجيء المخلّص الموعود به مدة تربو على ألف عام. وكانت آمالهم منحصرة في هذه الواقعة. ولمدى ألف عام كانت معززة بهالة من القداسة في تسبيحاتهم ونبواتهم وطقوس الهيكل والصلاة العائلية، ومع ذلك فعندما جاء لم يعرفوه بوصفه المسيا الذي ظلّوا ينتظرونه تلك الحقبة الطويلة من الزمن: ”إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله“ (يوحنا 1 : 11). وبالنسبة إلى قلوبهم المولعة بحبّ العالم كان حبيب السماء ”كعرق من أرض يابسة“. وكان في نظرهم: ”لا صورة له ولا جمال“. لم يروا فيه جمالاً فيشتهوه (إشعياء 53 : 2). AM 568.3
كانت حياة يسوع الناصري بجملتها بين الشعب اليهودي توبيخاً لأنانيتهم، كما ظهر ذلك في رفضهم الاعتراف بالمطالب العادلة التي كانت لصاحب الكرم — ذلك الكرم الذي كانوا هم فيه الكرامين. لقد أبغضوا مثاله الصادق على البر والتقوى، وعندما جاء الاختبار الأخير الذي كان معناه أما الطاعة للحياة الأبدية أو العصيان للموت الأبدي، رفضوا قدوس إسرائيل بإمعان حتى وقعوا تحت مسؤولية صلبه على صليب جلجاثة. AM 569.1
وفي مثل الكرم الذي قدّمه المسيح قرب انتهاء خدمته على الأرض استرعى انتباه معلمي اليهود إلى البركات الغنية المُعطاة لشعبه، وفيما أظهر حق الله في طاعتهم. ووضع أمامهم بوضوح مجد قصد الله الذي كان يمكنهم أن يحققوه بالطاعة. وإذ أزاح الستار عن المستقبل أراهم خسارة الأمة الجسيمة حقها في بركته وجلبهم الدمار على أنفسهم بسبب إخفاقهم عن إتمام قصد الله. AM 569.2
قال المسيح: ”كان إنسان رب بيت غرس كرماً وأحاطه بسياج وحفر فيه معصرة وبنى برجاً وسلّمه إلى كرّامين وسافر“ (متى 21 : 33). AM 569.3
وهكذا أشار المخلّص إلى ”كرم رب الجنود“ الذي كان إشعياء قد أعلن عنه قبل ذلك بعدّة قرون بأنه ”بيت إسرائيل“ (إشعياء 5 : 7). AM 569.4
وقد استطرد المسيح يقول: ”ولما قرب وقت الأثماء أرسل عبيد إلى الكرامين ليأخذ أثماره. فأخذ الكرامون عبيده وجلدوا بعضاً وقتلوا بعضاً ورجموا بعضاً. ثم أرسل أيضاً عبيداً آخرين أكثر من الأولين ففعلوا بهم كذلك. فأخيراً أرسل إليهم ابنه قائلاً يهابون ابني. وأما الكرامون فلما رأوا الابن قالوا فيما بينهم هذا هو الوارث هلمّوا نقتله ونأخذ ميراثه فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم وقتلوه“. AM 570.1
فإذ صوّر المسيح أمام الكهنة آخر أعمال شرّهم وقسوتهم قدّم لهم هذا السؤال: ”متى جاء صاحب الكرم ماذا يفعل بأولئك الكرامين؟“ كان الكهنة يتتبعون الحديث باهتمام عميق، وبدون أن يلاحظوا علاقة موضوع الكلام بهم اشتركوا مع الشعب في الإجابة قائلين: ”أولئك الأردياء يهلكهم هلاكاً ردياً ويُسلّم الكرم إلى كرامين آخرين يعطونه الأثمار في أوقاتها“. AM 570.2
فقد حكموا على أنفسهم بالدينونة دون أن يدروا. فنظر إليهم يسوع، وأمام نظرته الفاحصة عرفوا أنه اطلع على أسرار قلوبهم. فقد سطع نور لاهوته أمامهم بقوة واضحة جلية. ورأوا في الكرامين صورة لأنفسهم، وصاحوا رغماً عنهم قائلين: ”حاشا“. AM 570.3
وبكل وقار وتأسّف المسيح قائلاً: ”أما قرأتم قط في الكتب. الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية. من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا. لذلك أقول لكم إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأمة تعمل أثماره. ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه“ (متى 21 : 34 — 44). AM 570.4
كان المسيح سيبعد الدينونة عن الأمة اليهودية لو كانوا قبلوه. ولكن الحسد والغيرة جعلاهم عديمي الرحمة. فعقدوا العزم على رفض يسوع الناصري بوصفه المسيا. لقد رفضوا المسيح، نور العالم، ومنذ ذلك الحين اكتنفت حياتهم ظلمة داجية كظلام نصف الليل. وقد حاقت بهم الدينونة التي أنبئ بها. فأهواؤهم الجامحة وشهواتهم العنيفة أدّت إلى هلاكهم. وفي غضبهم الأعمى أهلكوا بعضهم بعضاً وكبرياؤهم المتمردة العنيدة جلبت عليهم غضب مستبعديهم الرومان. فدمّرت أورشليم وأمسى الهيكل خراباً وحرثت أرضه كحقل. وهلك بنو يهوذا وماتوا أرهب الميتات وبيع ملايين منهم ليكونوا عبيداً في بلدان الأمم. AM 571.1
وما قصد الله أن يقدّمه للعالم بواسطة شعبه المختار قديماً سيقدّمه أخيراً بواسطة كنيسته على الأرض اليوم: ”لقد سلّم كرمه إلى كرامين آخرين“ أي إلى شعبه الحافظ العهد الذين ”يعطونه الأثمار في أوقاتها“. إن الرب لم يكن قط بلا ممثلين أو نواب أمناء على هذه الأرض الذين جعلوا مصالحه من مصالحهم. فشهود الله أولئك يحسبون ضمن إسرائيل الروحي (كنيسته)، ولهم ستتم وعود العهد التي قدّمها الرب لشعبه قديماً. AM 571.2
ولكنيسة الله اليوم الحرية في التقدّم إلى إنجاز خطة الله لخلاص الجنس الساقط. لقد ظلّ شعب الله يعاني من تقييد حريته قروناً طويلة. فقد حُرموا من الكرازة بالإنجيل بنقاوته بحيث حلّت أقسى العقوبات على من تجرأوا وعصوا أوامر الناس. وكان من نتائج ذلك أن كرم الرب الأدبي العظيم كاد يكون مهجوراً. وحُرم الناس من نور كلمة الله، وهددت ظلمات الظلال والخرافات بمحو معرفة الدين الحقيقي. كانت كنيسة الله على الأرض أشبه ما تكون في سبي حقيقي خلال تلك الفترة الطويلة من الاضطهاد المرير، مثلما كان بنوا إسرائيل مسبيين في بابل. AM 571.3
ولكن شكراً لله، ما عادت كنيسته مستعبدة. فقد أعيدت لإسرائيل الروحي الامتيازات التي مُنحت لشعبه عند تحريرهم من السبي. وفي كل بقعة من بقاع الأرض يستجيب الرجال والنساء لرسالة السماء التي أنبأ يوحنا الرائي بأنه سيُنادى بها قبيل مجيء المسيح ثانية، وهي القائلة: ”خافوا الله وأعطوه مجداً لأنه قد جاءت ساعة دينونته“ (رؤيا 14 : 7). AM 572.1
وما عادت أجناد سلطان الشر تبقي الكنيسة في قبضتها لأنه: ”سقطت سقطت بابل المدينة العظيمة“ التي قد ”سقطت جميع الأمم من خمر غضب زناها“. وقد قدّمت لإسرائيل الروحي (الكنيسة) هذه الرسالة: ”اخرجوا منها يا شعبي لئلا تشتركوا في خطاياها ولئلا تأخذوا من ضرباتها“ (رؤيا 14 : 8 ؛ 18 : 4). فكما استجاب المسبيون للرسالة القائلة: ”اهربوا من وسط بابل“ (إرميا 51 : 6) ثم أعيدوا إلى أرض الموعد، كذلك من يخافون الله اليوم يستجيبون للرسالة بالانسحاب من بابل الروحية، وسرعان ما يقفون في الأرض الجديدة، كنعان السماوية كتذكارات لانتصار النعمة الإلهية. AM 572.2
السؤال الساخر الذي نطق به غير التائبين في أيام ملاخي حين قالوا: ”أين إله العدل؟“ وجد إجابة جليلة في القول: ”يأتي بغتة إلى هيكله السيد .. ملاك العهد .. ومن يحتمل يوم مجيئه؟ ومن يثبت عند ظهوره؟ لأنه مثل نار الممحّص، ومثل أشنان القصّار. فيجلس ممحّصاً ومنقّياً للفضة. فيُنقّي بني لاوي ويُصفّيهم كالذهب والفضّة، ليكونوا مقرّبين للرب، تقدمة بالبر. فتكون تقدمة يهوذا وأورشليم مرضية للرب كما في أيام القدم وكما في السنين القديمة“ (ملاخي 2 : 17 ؛ 3 : 1 — 4). AM 572.3
وعندما كان المسيا الموعود به على وشك الظهور كانت رسالة سابق المسيح هي هذه: توبوا أيها العشّارون والخطاة، توبوا أيها الفريسيون والصدوقيون: ”لأنه قد اقترب ملكوت السموات“ (متى 3 : 2). AM 573.1
ونسمع اليوم الرسل المعينين من الله الذين هم في روح إيليا ويوحنا المعمدان وقوتهما يسترعون انتباه العالم المحكوم عليه بالدينونة إلى الأحداث الخطيرة المزمعة أن تحدث سريعاً والمرتبطة بساعات الاختبار الأخيرة وظهور المسيح يسوع كملك الملوك ورب الأرباب. وسيُدان كل إنسان سريعاً بحسب ما صنع في الجيد. لقد جاءت ساعة دينونة الله، وتستقر المسؤولية المقدسة على أعضاء كنيسته الذين على الأرض، مسؤولية تقديم الإنذار للذين يبدو وكأنهم يقفون على حافة الهلاك الأبدي. ولابد أن تتوضح لكل كائن بشري في العالم الواسع ممن ينتبهون، المبادئ المعرّضة للخطر في الصراع الهائل المحتدم والمُعلّق عليها مصير الجنس البشري بأكمله. AM 573.2
في ساعات الأمهال الأخيرة تلك لبني البشر، عندما يتقرر قريباً المصير الأبدي لكل نفس، فإن رب السماء والأرض ينتظر من كنيسته أن تنهض للعمل بنشاط لم يسبق له مثيل. والذين تحرروا في المسيح بواسطة معرفة الحق الثمين يعتبرهم الرب يسوع مختاريه المحبوبين لديه أكثر من كل الناس الذين على وجه الأرض. وهو يعتمد عليهم في إذاعة تسابيح من دعاهم من الظلمة إلى نوره العجيب. حيث ينبغي لهم أن يقدّموا للآخرين البركات الممنوحة لهم بسخاء عظيم. ولابد من أن تصل بشارة الخلاص إلى كل أمة وقبيلة ولسان وشعب. AM 573.3
وفي رؤى الأنبياء قديماً صُوّر رب المجد على أنه يمنح كنيسته نوراً خاصاً في أيام الظلام وعدم الإيمان التي تسبق مجيئه الثاني. وسيشرق على كنيسته كشمس البر ”والشفاء في أجنحته“ (ملاخي 4 : 2). وسيشعّ من كل تلميذ أمين تأثير يبعث الحياة والشجاعة والعون والشفاء الحقيقي. AM 574.1
وسيتمّ مجيء المسيح في أشدّ الأوقات ظلمة من تاريخ هذه الأرض. فأيام نوح وأيام لوط تصور لنا حالة العالم قبيل مجيء ابن الإنسان. وإذ تشير كلمة الله إلى ذلك الوقت تعلن أن الشيطان سيعمل بكل قوة ”وبكل خديعة الإثم“ (2 تسالونيكي 2 : 9، 10). وعمله يظهر بوضوح بواسطة الظلام الذي يتزايد بسرعة والضلالات العديدة والهرطقات والخدع المتفشيّة في هذه الأيام الأخيرة. والشيطان لا يأسر العالم وحسب ولكن خدعه تخمّر الكنائس المعترفة بربنا يسوع المسيح وسيزداد الارتداد العظيم ويتفاقم حتى يصير ظلمة ثقيلة كظلام نصف الليل المدلهم، وبالنسبة إلى شعب الله سيكون ذلك ليل تجربة وبكاء واضطهاد لأجل الحق. ولكن سينبثق من قلب ذلك الليل المظلم نور الله. AM 574.2
إنه يقول: ”أن يشرق نور من ظلمة“ (2 كورنثوس 4 : 6). فعدما: ”كانت الأرض خربة وخياله وعلى وجه الغمر ظلمة“، ”كان روح الله يرف على وجه المياه. فقال الله ليكن نور فكان نور“ (تكوين 1 : 2، 3). وكذلك في ليل الظلام الروحي تخرج كلمة الله قائلة: ”ليكن نور“ وهو يقول لشعبه (كنيسته) ”قومي استنيري لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليك“ (إشعياء 60 : 1). AM 574.3
ويقول الكتاب: ”لأنه ها هي الظلمة تُغطي الأرض والظلام الدامس الأمم. أما عليك فيُشرق الرب ومجده عليك يُرى“ (إشعياء 60 : 2). إن المسيح الذي هو بهاء مجد الآب قد جاء نوراً للعالم. جاء ليمثل الله للناس، وقد كُتب عنه أنه مُسح ”بالروح القدس والقوة“، و ”جال يصنع خيراً“ (أعمال 10 : 38). وقال هو نفسه في المجمع في الناصرة: ”روح الرب عليّ لأنه مسحني أبشّر المساكين أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق، وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرز بسنة الرب المقبولة“ (لوقا 4 : 18، 19). كان هذا هو العمل الذي أرسل تلاميذه ليقوموا به. وهو الذي قال: ”أنتم نور العالم. فليُضئ نوركم هكذا قدّام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويُمجّدوا أباكم الذي في السموات“ (متى 5 : 14، 16). AM 574.4
هذا هو العمل الذي يصفه إشعياء النبي عندما يقول ”أليس أن تكسر للجائع خبزك وأن تُدخل المساكين التائهين إلى بيتك. إذا رأيت عُرياناً أن تكسوه وأن تتغاضى عن لحمك؟ حينئذ ينفجر مثل الصبح نورك وتنبت صحتك سريعاً ويسير برّك أمامك ومجد الرب يجمع ساقتك“ (إشعياء 58 : 7، 8). AM 575.1
وهكذا ففي ليل الظلمة الروحية يضيء مجد الرب بواسطة كنيسته في رفع المنحنين وتعزية المحزونين. AM 575.2
إننا نسمع من حولنا ولولة العالم وحزنه. ففي كل مكان يوجد فقراء ومتضايقون. وعلينا أن نقدّم العون ونخفف ونلطف من متاعب الحياة وشقائها. إن احتياجات النفس لا يمكن أن تشبعها غير محبة المسيح. فإذا كان المسيح ساكناً فينا فإن قلوبنا تمتلئ بالعطف الإلهي. وستُفتح الينابيع المختومة للمحبة المخلّصة الشبيهة بمحبة المسيح. AM 575.3
يوجد كثيرون تركهم الرجاء. عليكم بإعادة إشراقة الشمس إلى قلوبهم. وكثيرون تركتهم شجاعتهم فعليكم أن تحدّثوهم بكلام البهجة والتشجيع وأن تصلّوا لأجلهم. يوجد من هم بحاجة إلى خبز الحياة. فاقرأوا لهم من كلمة الله. وكثيرون نفوسهم مريضة ولا يمكن أن يصل إليها أي شخص بلسان أرضي، ولا يستطيع أي طبيب أن يشفيهم. فصلّوا لأجل هذه النفوس وأتوا بها إلى المسيح. وقولوا لهم أنه يوجد بلسان في جلعاد وأنه يوجد طبيب هناك. AM 575.4
النور بركة عامة يسكب كنوزه الغالية على العالم غير الشاكر والنجس والفاسد الأخلاق. وهذا يصدق على نور شمس البر (يسوع). فالأرض كلّها مكتنفة من كل جانب بظلمة الخطيئة والحزن والألم، إلا أنها ستستنير بمعرفة محبة الله. ولا يحتجب هذا النور المنبعث من عرض السماء عن أية طائفة أو طبقة من الناس. AM 576.1
وستُحمل رسالة الرجاء والرحمة إلى أقصى الأرض. فكل من يريد يمكنه أن يمد يده ويتمسك بقدرة الله ويتصالح معه ويصنع معه صلحاً. ولن تبقى الأمم بعد هذا غارقة في الظلمات. فستنقشع الظلمة أمام أشعة شمس البر الباهرة. AM 576.2
لقد عمل المسيح كل الاحتياطات لتكون كنيسته جسداً متجدداً مستنيراً بنور العالم (يسوع). ولتمتلك مجد عمانوئيل. فهو يريد أن يكون كل مسيحي محاطاً بجو روحي من النور والسلام. وهو يرغب أن نعلن فرحه في حياتنا. AM 576.3
”قومي استنيري لأنه جاء نورك ومجد الرب أشرق عليك“ (إشعياء 60 : 1). إن المسيح آت بقوة ومجد عظيم. إنه آت بمجده ومجد الآب. وسيرافقه الملائكة القديسون في طريقه. ففي حين أن العالم كلّه تغمره الظلمة سيكون نور في كل مسكن من مساكن القديسين، وستقع عليهم أول أنوار مجيئه الثاني. والنور الطاهر سينبثق من بهائه ومجده وسيكون المسيح الفادي موضع إعجاب كل من خدموه وبينما يهرب الأشرار سيفرح كل أتباع المسيح في حضرته. AM 576.4
وسيحصل من افتدوا من بين الناس على ميراثهم الذي وعدوا به. وسيتم قصد الله نحو شعبه إتماماً حرفياً. فما يقصد الله أن يفعله يعجز الإنسان عن إلغائه. وحتى في وسط عمل الشر كانت مقاصد الله تسير بثبات نحو الأمام صوب إتمامها. هكذا كان الحال مع بيت إسرائيل مدى تاريخ المملكة المنقسمة. وهذا يصدق على إسرائيل الروحي اليوم (التي هي كنيسة المسيح). AM 577.1
إذ نظر الرائي الذي كان في بطمس عبر الأجيال إلى وقت إسترداد كنيسة الله على الأرض الجديدة شهد قائلاً: AM 577.2
” نظرت وإذا جمع كثير لم يستطع أحد أن يعدّه، من كل الأمم والقبائل والشعوب والألسنة، واقفون أمام العرش وأمام الخروف، متسربلين بثياب بيض وفي أيديهم سعف النخل. وهم يصرخون بصوت عظيم قائلين الخلاص لإلهنا الجالس على العرش وللخروف“. AM 577.3
” وجميع الملائكة كانوا واقفين حول العرش والشيوخ والحيوانات الأربعة وخرّوا أمام العرش على وجوههم وسجدوا لله قائلين آمين البركة والمجد والحكمة والشكر والكرامة والقدرة والقوة لإلهنا إلى أبد الآبدين“. AM 577.4
” وسمعت كصوت جمع كثير، وكصوت مياه كثيرة، وكصوت رعود شديدة قائلة هلّلويا فإنه قد ملك الرب الإله القادر على كل شيء. لنفرح ونتهلّل ونعطه المجد“. ” لأنه رب الأرباب وملك الملوك والذين معه مدعوون ومُختارون ومؤمنون“ (رؤيا 7: 9 — 12 ؛ 19: 6، 7 ؛ 17: 14). AM 577.5