الأنبياء والملوك

68/70

الفصل الثامن والخمسون — مجيء المنقذ

في أثناء القرون الطويلة أيام ”الشدة والظلمة“ و ”قتام الضيق“ (إشعياء 8 : 22) التي حددت تاريخ البشرية منذ اليوم الذي فيه أضاع أبوانا الأولان وطنهما في عدن إلى الزمن الذي ظهر ابن الله فيه كمخلّص الخطاة، تركّز رجاء الجنس الساقط في مجيء منقذ يحرر الرجال والنساء من نير عبودية الخطيئة والهاوية. AM 547.1

وقد أعطى الله أول نبأ عن مثل هذا الرجاء لآدم وحواء عندما نطق بحكمه على الحية في عدن، حين أعلن قائلاً للشيطان في مسامعها: ”وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسك، وأنت تسحقين عقبه“ (تكوين 3 : 15). AM 547.2

فعندما أصغى ذانك الزوجان المذنبان إلى هذه الأقوال ألهما بالرجاء، لأنهما في النبوة الخاصة بسحق سلطان الشيطان فطنا إلى الوعد بالتحرير والإنقاذ من الخراب والهلاك الناجم عن العصيان. ومع أنه كان لابد لهما من أن يتألما من قوة عدوهما لوقوعهما تحت سلطان قوته الخادعة واختيارهما عصيان أمر الرب الصريح، فلا حاجة بهما إلى الاستسلام لليأس التام. فقد عرض ابن الله أن يكفّر عن عصيانهما بدم نفسه. وكانت ستُعطى لهما فترة اختبار يمكنهما في خلالها أن يصيرا من جديد ابنين لله بالإيمان بقدرة المسيح على الخلاص. AM 547.3

أما الشيطان فإنه بوساطة نجاحه في إبعاد أبوينا عن طريق الطاعة صار: ”إله هذا العالم“ (2 كورنثوس 4 : 4). والسلطان الذي كان سابقاً من حق آدم انتقل إلى الغاصب. ولكن ابن الله قصد أن يأتي إلى هذه الأرض ليتحمل قصاص الخطيئة، وهكذا لا يفتدى الإنسان وحسب بل يعيد إليه السلطان الذي أضاعه. وقد تنبأ ميخا النبي عن هذا الاسترداد حين قال: ”وأنت يا برج القطيع، أكمة بنت صهيون إليك تأتي. ويجيء الحكم الأول“ (ميخا 4 : 8). كما أشار بولس الرسول إليه على أنه: ”فداء المُقتنى“ (أفسس 1 : 14). وكان ذلك الاسترداد النهائي ذاته، لميراث، الإنسان الأصلي في ذهن المرنم عندما أعلن قائلاً: ”الصدّيقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد“ (مزمور 37 : 29). AM 548.1

لم ينطفئ ذلك الرجاء في الفداء بواسطة مجيء ابن الله كمخلّص وملك قط من قلوب الناس. فمنذ البدء كان يوجد من تخطّى إيمانهم ظلال الحاضر إلى حقائق المستقبل. فعن طريق آدم وشيث وأخنوخ ومتوشالح ونوح وسام وابراهيم وإسحق ويعقوب وغيرهم من العظماء المستحقين، حفظ الرب إعلانات إرادته الثمينة. وهكذا كان الأمر أن الله منح شعبه المختار الذين عن طريقهم كان سيُعطى للعالم المسيا الموعود به، منهحم معرفة مطالب شريعته ومعرفة الخلاص الذي كان سيتم بواسطة ذبيحة ابنه الحبيب الكفّارية. AM 548.2

كان رجاء إسرائيل مجسماً في الوعد الذي قدّم عندما دعي ابراهيم، وتكرر بعد ذلك مراراً لنسله: ”تتبارك فيك جميع قبائل الأرض“ (تكوين 12 : 3). وإذ كُشف قصد الله لأجل فداء جنسنا، لإبراهيم، أشرق على قلبه شمس البر فتبدّدت ظلماته. وأخيراً عندما تحدّث المخلّص نفسه وسار بين بني الإنسان شهد لليهود عن رجاء الآباء المُشرق للخلاص بواسطة مجيء الفادي. فقد أعلن المسيح قائلاً: ”أبوكم إبراهيم تهلّل بأن يرى يومي فرأى وفرح“ (يوحنا 8 : 56). AM 548.3

وهذا الرجاء المبارك نفسه رُمز إليه في البركة التي بارك بها يعقوب الشيخ المحتضر ابنه يهوذا إذ قال: ”يهوذا، إياك يحمد إخوتك، يدك على قفا أعدائك، يسجد لك بنو أبيك .. لا يزول قضيب من يهوذا ومُشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب“ (تكوين 49 : 8 — 10). AM 549.1

ومرة أخرى عند تخوم أرض الموعد أنبئ بمجيء فادي العالم في النبوة التي نطق بها بلعام حين قال: ”أراه ولكن ليس الآن. أبصره ولكن ليس قريباً. يبرز كوكب من يعقوب، ويقوم قضيب من إسرائيل، فيحطّم طرفي موآب، ويهلك كل بني الوغى“ (عدد 24 : 17). AM 549.2

وبواسطة موسى ظلّ قصد الله في إرسال ابنه فادياً للبشرية الساقطة ماثلاً أمام شعبه. ففي مرة وقبيل موته بوقت قصير أعلن موسى قائلاً: ”يُقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي. له تسمعون“. وقد أخبر موسى بكل وضوح لأجل إسرائيل عن عمل مسيا الآتي هذا“ ”أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلّمهم بكل ما أوصيه به“ (تثنية 18 : 15، 18) — هذا كان قول الله لموسى. AM 549.3

وفي أيام الآباء كانت الذبائح الكفارية المقترنة بعبادة الله تشكّل مذكراً دائماً بالمخلّص الآتي. وهكذا كانت الحال مع كل طقوس المقدس وخدماته في كل تاريخ شعب الله. ففي خدمة الخيمة والهيكل الذي احتل مكانها فيما بعد كان الشعب يتعلّم كل يوم بواسطة الرموز والظلال الحقائق العظيمة المتّصلة بمجيء المسيا بوصفه الفادي والكاهن والملك. ومرة في كل سنة اتّجهت عقولهم إلى الأمام إلى الحوادث الختامية في الصراع الهائل بين المسيح والشيطان، والتطهير النهائي للمسكونة من الخطيئة والخطاة. فكانت الذبائح والقرابين في الطقوس الموسوّية تشير دائماً إلى خدمة أفضل أي سماوية. فكان المسكن الأرضي: ”رمزاً للوقت الحاضر“ الذي كانت تقدّم فيه العطايا والذبائح، وكان قسماه المقدّسان: ”أمثلة الأشياء التي في السموات“. لأن المسيح رئيس كهنتنا هو اليوم: ”خادماً للأقداس والمسكن الحقيقي الذي نصبه الرب لا إنسان“ (عبرانيين 9 : 9، 23 ؛ 8 : 2). AM 549.4

ومنذ اليوم الذي أعلن فيه الرب قائلاً للحية في عدن: ”وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها“ (تكوين 3 : 15) عرف الشيطان أنه لن يستطيع أن يسيطر على سكّان هذه الأرض سيطرة مطلقة. وعندما بدأ آدم وبنوه يقدّمون الذبائح الطقسية التي رسمها الله كرمز للفادي الآتي أدرك الشيطان ورأى في هذه الذبائح رمزاً للشركة والاتصال بين الأرض والسماء. ومدى القرون الطويلة التي جاءت بعد ذلك جعل الشيطان همه الوحيد المستمر إيقاف هذه الشركة وقطع هذا الاتصال. وبجهد لا يكلّ حاول أن يصوّر الله أسوأ تصوير ويشوّه الطقوس التي تشير إلى المخلّص. وقد أفلحت مكايده في تضليل الغالبية العظمى من أعضاء الأسرة البشرية. AM 550.1

وفي حين كان الله يريد أن يعلّم الناس أن العطية التي ستصالحهم معه منبثقة من فيض محبّته، حاول عدو البشرية أن يصور الله على أنه الشخص الذي يسر بهلاكهم وهكذا فالذبائح والفرائض التي قصدت السماء بواسطتها إعلان محبة الله، انحرفت عن مقصدها وغدت بنظر الخطاة وسائل كانوا يرجون بها وبعطاياها وأعمالهم الصالحة استرضاء الله وصرف غضبه عنهم. وفي نفس الوقت حاول الشيطان أن يثير أهواء الناس الشريرة كي تتباعد جماهير غفيرة من الناس عن الله عن طريق التعديات المتكررة وليظلّوا مُكبلين بقيود الخطيئة بلا رجاء. AM 550.2

وعندما أعطيت كلمة الله المكتوبة للشعب بواسطة الأنبياء العبرانيين درس الشيطان بكل اجتهاد الفصول الخاصة بالمسيا وتتبع الكلام الذي حدد بحرص ودقة عمل المسيح بين الناس كذبيحة متألمة وكملك قاهر. ففي درج أسفار العهد القديم قرأ أن ذاك المزمع أن يظهر كان ”كشاة تساق إلى الذبح“. ”كان منظره كذا مفسداً أكثر من الرجل، وصورته أكثر من بني آدم“ (إشعياء 53 : 7 ؛ 52 : 14). ثم أن مخلّص بني الإنسان الموعود به قيل عنه: ”مُحتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع مختبر الحزن .. مضروباً من الله ومذلولاً“، ومع ذلك فقد كان مزمعاً أن يستخدم سلطانه لكي: ”يقضي لمساكين الشعب. يخلّص بني البائسين، ويسحق الظالم“ (إشعياء 53 : 3، 4 ؛ مزمور 72 : 4). هذه النبوات جعلت الشيطان يخاف ويرتعب، ومع ذلك فلم يتنح عن غرضه في تعطيل إمدادات الرب الرحيمة لأجل فداء جنسنا الساقط إن أمكن. وعوّل على أن يعمي عيون الشعب بقدر الساقط عن المعنى الحقيقي للنبوات الخاصة بالمسيا ليمهد الطريق لرفض المسيح عند مجيئه. AM 551.1

في خلال القرون التي سبقت الطوفان مباشرة كللت جهود الشيطان بالنجاح في تعميم التمرد العالمي ضد الله. وحتى الدروس الخاصة بالطوفان لم يذكرها الناس طويلاً. فبدسائسه الماكرة أوقع الشيطان مرة أخرى البشر خطوة فخطوة في التمرد والعصيان الجريء. فبدا وكأنه انتصر ثانية. ولكن مقاصد الله نحو الإنسان الساقط لم تكن لتلقى جانباً بسهولة. فعن طريق ذرية إبراهيم الأمين المنحدرة من نسل سام، كانت ستحفظ معرفة مقاصد الله الرحيمة لأجل خير الأجيال القادمة. ومن وقت لآخر كان سيقام رسل الحق المعينون من قبل الله ليوجّهوا انتباه الناس إلى معنى الطقوس الكفارية وعلى الخصوص إلى وعد الرب الخاص بمجيء المسيا الذي كانت تشير إليه كل فرائض النظام الكفّاري. وبذلك كان العالم سيُحفظ من الارتداد الشامل. AM 551.2

ولم ينفذ قصد الله إلا بعد مقاومات عنيدة جداً. فبكل وسيلة ممكنة عمل عدو الحق والبر لجعل نسل ابراهيم ينسون دعوتهم السامية المقدّسة وليجعلهم ينحرفون إلى عبادة الآلهة الكاذبة. كثيراً ما نجحت محاولاته. فلمدى قرون قبل المجيء الأول للمسيح غطت الظلمة الأرض والظلام الدامس للشعب. لقد كان الشيطان يلقي ظلّه الجهنمي على طريق الناس ليحول بينهم وبين معرفة الله والعالم الآتي. وكانت جماهير من الناس جالسين في وادي ظلّ الموت. وكان رجاؤهم الوحيد هو أن تتبدّد غياهب تلك الظلمة كي يعلن لهم الله عن نفسه. AM 552.1

فداود مسيح الله رأى في رؤيا نبوية أن مجيء المسيح ينبغي أن يكون: ”كنور الصباح إذا أشرقت الشمس .. في صباح صحو“ (2 صموئيل 23 : 4). وها هو هوشع يشهد قائلاً: ”خروجه يقين كالفجر“ (هوشع 6 : 3). أن نور النهار يشرق على الأرض بكل سكون ولطف مبدداً أشباح الظلام وموقظاً الأرض إلى الحياة. هكذا كان شمس البر سيشرق والشفاء في أجنحته (ملاخي 4 : 2). الشعب السالك: ”في أرض ظلال الموت“ كانوا مزعمين أن يبصروا: ”نوراً عظيماً“ (إشعياء 9 : 2). AM 552.2

وإذ نظر إشعياء النبي بفرح طاغ إلى هذه النجاة المجيدة هتف قائلاً: ”لأنه يولد لنا ولد ونعطي ابناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيباً، مشيراً، إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام لنمو رياسته، وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر، من الآن إلى الأبد. غيرة رب الجنود تصنع هذا“ (إشعياء 9 : 6، 7). AM 552.3

وفي القرون المتأخرة من تاريخ إسرائيل قبل المجيء الأول كان معروفاُ لدى الجميع أن مجيء المسيا قد أشير إليه في النبوة القائلة: ”قليل أن تكون لي عبداً لإقامة أسباط يعقوب، وردّ محفوظي إسرائيل. فقد جعلتك نوراً للأمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض“. وقد تنبأ النبي قائلاً: ”فيعلن مجد الرب ويراه كل بشرٍ جميعاً“ (إشعياء 49 : 6 ؛ 40 : 5). وقد شهد يوحنا المعمدان بعد ذلك عن هذا النور بكل شجاعة قائلاً: ”أنا صوت صارخ في البرية قوّموا طريق الرب، كما قال إشعياء النبي“ (يوحنا 1 : 23). AM 553.1

هذا وقد أعطى للمسيح الوعد النبوي القائل: ”هكذا قال الرب فادي إسرائيل، قدّوسه، للمهان النفس، لمكروه الأمة .. هكذا قال الرب .. أحفظك وأجعلك عهداً للشعب، لإقامة الأرض، لتمليك أملاك البراري، قائلاً للأسرى اخرجوا. للذين في الظلام اظهروا .. لا يجوعون ولا يعطشون، ولا يضربهم حر ولا شمس، لأن الذي يرحمهم يهديهم وإلى ينابيع المياه يوردهم“ (إشعياء 49 : 7 — 10). AM 553.2

إن جماعة الثابتين بين الأمة اليهودية الذين هم من نسل تلك السلالة المقدّسة الذين بواسطتهم حفظت معرفة الله، شددوا إيمانهم بالتأمل في هذه الفصول وأمثالها. وبفرح عظيم قرأوا كيف أن الرب سيسمح واحداً: ”ليبشّر المساكين“ ”لأعصب منكسري القلب“ و ”لأنادي للمسبيين بالعتق“ ”لأنادي بسنة مقبولة للرب“ (إشعياء 61 : 1، 2). ومع ذلك فإن قلوبهم كانت مفعمة بالحزن عندما فكروا في الآلام التي كان عليه أن يتحمّلها لكي يتمم القصد الإلهي. AM 553.3

فبانسحاق نفسي عميق جعلوا يتابعون الكلمات الواردة في سفر النبوة وهي تقول: ”من صدّق خبرنا، ولمن استُعلنت ذراع الرب؟ نبت قدّامه كفرح وكعرق من أرض يابسة، لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه. محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع ومختبر الخزن، وكمستر عنه وجوهنا، محتقر فلم نعتد به. لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحمّلها. ونحن حسبناه مُصاباً مضروباً من الله مذلولاً. وهو محروج لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه، وبحبره شُفينا. لنا كغنم ضللنا. ملنا كل واحد إلى طريقه، والرب وضع عليه إثم جميعنا. ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه. كشاة تُساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازّيها فلم يفتح فاه. من الضُغطة ومن الدينونة أخذ. وفي جيله من كان يظن أنه قطع من أرض الأحياء، أنه ضُرب من أجل ذنب شعبي. وجُعل مع الأشرار قبره، ومع غني عند موته. على أنه لم يعمل ظلماً، ولم يكن في فمه غش“ (إشعياء 53 : 1 -19). AM 554.1

أما عن آلام المخلّص فقد أعلن الرب نفسه بفم زكريا قائلاً: ”استيقظ يا سيف على راعيّ، وعلى جبل رفقتي“ (زكريا 13 : 7). لقد كان على المسيح كبديل عن الإنسان الخاطئ وضامنه أن يقاسي أهوال العدل الإلهي. وكان عليه أن يعرف ويدرك معنى العدل. وكان عليه أن يعرف معنى وقوف الخطاة أمام الله دون أن يكون هناك من يتوسط لأجلهم. AM 554.2

وقد تنبأ الفادي عن نفسه قائلاً على لسان المرنم: ”العار قد كسر قلبي فمرضت. انتظرت رقة فلم تكن، ومعزّين فلم أجد. ويجعلون في طعامي علقماً، وفي عطشي يسقونني خلا“ (مزمور 69 : 20، 21). AM 554.3

وقد تنبأ عن نوع المعاملة التي كان سيعامل بها فقال: ”لأنه قد أحاطت بي كلاب. جماعة من الأشرار اكتنفتني. ثقبوا يديّ ورجليّ. أحصي كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرّسون فيّ. يقسمون ثيابي بينهم، وعلى لباسي يقترعون“ (مزمور 22 : 16 — 18). AM 555.1

هذه الأوصاف عن الألم المرير والموت القاسي الذي سيكون من نصيب السيد الموعود به مع أنها موجبة للحزن الشديد فقد كانت غنية بالخير العميم والوعود الثمينة. فلقد قيل عنه: ”أما الرب فسُرّ بأن يسحقه الحزن“. حتى يمكن أن يصير ”ذبيحة إثم“. وقد أعلن الرب قائلاً: ”يرى نسلاً تطول أيامه ومسرة الرب بيده تنجح. من تعب نفسه يرى ويشبع“ ”وعبدي البار بمعرفته يُبرّر كثيرين وآثامها هو يحملها. لذلك أقسم له بين الأعزاء ومع العظماء يقسم غنيمة من أجل أنه سكب للموت نفسه وأحصي مع أثمه، وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المُذنبين“ (إشعياء 53 : 10 — 12). AM 555.2

إن محبة المسيح للخطاة هي التي أحثته لأن يدفع ثمن الفداء: ”فرأى أنه ليس إنسان وتحيّر مع أنه ليس شفيع“ ولم يكن سواه يستطيع أن يفدي الرجال والنساء من سلطان العدو: ”فخلصت ذراعه لنفسه وبره هو غضده“ (إشعياء 59 : 16). AM 555.3

هوذا عبدي الذي أعضده، مُختاري الذي سُرّت به نفسي. وضعت روحي عليه فيُخرج الحق للأمم“ (إشعياء 42 : 1). AM 555.4

ففي حياته لم تتلوث نفسه بأي اعتداد بالذات. فقد تجنب ابن الله الولاء الذي يمنحه العالم للمركز والثراء والمواهب. فالمسيا لم يستخدم وسيلة من الوسائل التي يستخدمها الناس للظفر بالولاء أو الثناء والتكريم. وقد رُمز إلى إنكاره الكامل لنفسه في هذه الأقوال: ”لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته. قصبه مرضوضة لا يقصف، وفتيلة خامدة لا يُطفئ“ (إشعياء 42 : 2، 3). AM 555.5

لقد كان المخلّص يتصرف بين الناس على نقيض معاصريه من المعلّمين. ولم يُرَ في حياته أي جدل صاخب ولا قدّم عبادته للتفاخر. ولا عمل عملاً ليظفر باستحسان الناس. كان على المسيا أن يكون مستتراً في الله وأن يعلن الله في صفات ابنه. لولا معرفة الله لهلكت البشرية هلاكاً أبدياً، ولولا معونة الله لكان الرجال والنساء ينحدرون إلى الدرجات السُفلى. فالحياة والقوة لا يعطيهما للإنسان سوى الله الذي خلق العالم. وما كان يمكن تدبير حاجات الإنسان بغير هذه الوسيلة. AM 556.1

وقد أنبأ عن المسيا بنبوات أخرى منها: ”لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض، وتنتظر الجزائر شريعته“. ثم أن ابن الله كان مزعماً أيضاً أن ”يُعظّم الشريعة ويكرمها“ (إشعياء 42 : 4، 21). فهو لم يكن ليقلل من أهميتها أو مطالبها المُلزمة، بل كان بالأحرى سيعظّمها ويمجّدها. وكان عليه في الوقت ذاته أن يحرر وصايا الله من تلك الأوامر والنواهي الثقيلة التي فرضها الناس، والتي بسببها أصيب الكثيرون بالفشل في جهودهم لتقديم خدمة مقبولة لدى الله. AM 556.2

وبالنسبة إلى رسالة المخلّص جاءت كلمة الرب تقول: ”أنا الرب قد دعوتك بالبر، فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهداً للشعب ونوراً للأمم. لتفتح عيون العُمي، لتُخرج من الحبس المأسورين، من بيت السجن الجالسين في الظلمة. أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخر ولا تسبيحي للمنحوتات. هُوَذا الأوليات قد أتت والحديثات أنا مُخبر بها. قبل أن تنبت أعلمكم بها“ (إشعياء 42 : 6 — 9). AM 556.3

فعن طريق النسل الموعود به كان إله إسرائيل مزعماً أن يأتي بالنجاة والخلاص لصهيون: ”ويخرج قضيب من جذع يسّى، وينبت غصن من أصوله“، ”ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل. زبداً وعسلاً يأكل متى عرف أن يرفض الشر ويختار الخير“ (إشعياء 11 : 1 ؛ 7 : 14، 15). AM 557.1

”ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب. ولذّته تكون في مخافة الرب فلا يقضي بحسب نظر عينيه ولا يحكم بحسب سمع أذنيه. بل يقضي بالعدل للمساكين ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض. ويضرب الأرض بقضيب فمه ويميت المنافق بنفخة شفتيه. ويكون البر منطقة متنية، والأمانة منطقة حقويه“ ”ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسّى القائم راية للشعوب إياه تطلب الأمم ويكون محله مجداً“ (إشعياء 11 : 2 — 5، 10). AM 557.2

”هوذا الرجل الغصن اسمه. فهو يبني هيكل الرب، وهو يحمل الجلال ويجلس ويتسلّط على كرسيه ويكون كاهنا على كرسيه“ (زكريا 6 : 12، 13). AM 557.3

ويكون ينبوع مفتوحاً ”للخطية وللنجاسة“ (زكريا 13 : 1). كان بنو الإنسان سيسمعون الدعوة المباركة القائلة: ”أيها العطاش جميعاً هلمّوا إلى المياه، والذي ليس له فضّة تعالوا اشتروا وكلوا. هلمّوا اشتروا بلا فضة وبلا ثمن خمراً ولبناً. لماذا تزنون فضّة لغير خبز وتعبكم لغير شبع. استمعوا لي استماعاً وكلوا الطيب ولتتلذذ بالدسم أنفسكم. أميلوا آذانكم وهلمّوا إلي. اسمعوا فتحيا أنفسكم. وأقطع لكم عهداً أبدياً، مراحم داود الصادقة“ (إشعياء 55 : 1 — 3). AM 557.4

وقد قدّم هذا الوعد لإسرائيل: ”هوذا قد جعلته شارعاُ للشعوب، رئيساً وموصياً للشعوب. ها أمة لا تعرفها تدعوها، وأمة لم تعرفك تركض إليك، من أجل الرب إلهك وقدّوس إسرائيل لأنه قد مجّدك“ (إشعياء 55 : 4، 5). AM 557.5

”قد قربت بري. لا يبعد وخلاصي لا يتأخر. وأجعل في صهيون خلاصاً. لإسرائيل جلالي“ (إشعياء 46 : 13). AM 558.1

في أثناء خدمة المسيح على الأرض كان مزمعاً أن يكشف للبشرية عن مجد الله الآب بالكلام والعمل. فكلّ عمل من أعمال حياته وكل كلمة نطق بها وكل معجزة أجراها كانت لتعريف البشر الساقطين محبة الله غير المحدودة. AM 558.2

”على جبل عال اصعدي با مبشّرة صهيون. ارفعي صوتك بقوة يا مبشّرة أورشليم.ارفعي لا تخافي. قولي لمدن يهوذا هوذا إلهك، هوذا السيد الرب بقوة يأتي وذراعه تحكم له. هوذا أجرته معه وعملته قدامه. كراع يرعى قطيعه. بذراعه يجمع الحملان وفي حضنه يحملها ويقود المرضعات“ (إشعياء 40 : 9 — 11). AM 558.3

”ويسمع في ذلك اليوم الصم أقوال السفر وتنظر من القتام والظلمة عيون العمي. ويزداد البائسون فرحاً بالرب ويهتف مساكين الناس بقدوس إسرائيل“، ”ويعرف الضّالّو الأرواح فهماً، ويتعلّم المتمرّدون تعليماً“ (إشعياء 29 : 18، 19، 24). AM 558.4

وهكذا كلّم الله العالم بواسطة الآباء والأنبياء، كما بواسطة الصور والرموز، عن مجيء المنقذ من الخطيئة. لقد أشارت سلسلة طويلة من النبوات الموحى بها إلى مجيء ”مُشتهى كل الأمم“ (حجي 2 : 7). وبكل دقّة عُيّن حتى مكان ميلاده ووقت ظهوره. AM 558.5

ينبغي أن يولد ابن داود في مدينة داود. فقد قال النبي أن من بيت لحم ”يخرج .. الذي يكون متسلّطاً على إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل“ (ميخا 5 : 2). AM 558.6

”وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا لأن منك يخرج مُدبّر يرعى شعبي إسرائيل“ (متى 2 : 6). AM 559.1

لقد أفهم الملاك جبرائيل دانيال عن وقت المجيء الأول ووقت بعض الأحداث الهامة المرتبطة بعمل حياة المخلّص إذ قال الملاك ”سبعون أسبوعاً قضيت على شعبك وعلى مدينتك المقدسة لتكميل المعطية وتتميم الخطايا ولكفّارة الإثم، وليؤتي بالبر الأبدي ولختم الرؤيا والنبوة ولمسح قدّوس القدّوسين“ (دانيال 9 : 24). إن اليوم في النبوة يقابل سنة (أنظر ما ورد في سفر العدد 14 : 34، وحزقيال 4 : 6). والسبعون أسبوعاً أو الأربع مئة والتسعون يوماً ترمز إلى أربع مئة وتسعين سنة. AM 559.2

وقد أعطيت نقطة البدء لهذه الفترة في القول: ”فاعلم وافهم أنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعاً“ (دانيال 9 : 25). أي تسعة وستون أسبوعاً أو أربع مئة مئة وثلاث وثمانون سنة. إن الأمر بتجديد أورشليم وبنائها كما أكمله مرسوم أرتحشستا لونجيمانوس (أنظر عزرا 6 : 14 ؛ 7 : 1، 9). نُفذ في خريف عام 457 ق.م ومن ذلك الوقت تمتد الـ 483 سنة إلى خريف عام 27م، وطبقاً للنبوة تصل هذه المدّة إلى المسيا أي الممسوح. وفي سنة 27م، نال المسيح مسحة الروح القدس عند عماده، وبعد ذلك حالاً بدأ خدمته. عندئذ أذيعت هذه الرسالة: ”قد كمل الزمان“ (مرقس 1 : 15). AM 559.3

حينئذ قال الملاك: ”ويُثبت عهداً مع كثيرين في أسبوع واحد (سبع سنوات). فلمدى سبع سنوات بعدما بدأ المخلّص يباشر خدمته كان سيبشر بالإنجيل لليهود خاصّة، لمدى ثلاث سنين ونصف بواسطة المسيح نفسه وبعد ذلك بواسطة الرسل“ ”وفي وسط الأسبوع يُبطّل الذبيحة والتقدمة“ (دانيال 9 : 27). ففي ربيع عام 31م قدّم المسيح في الجلجثة بوصفه الذبيحة الحقيقية. حينئذ انشق حجاب الهيكل إلى اثنين، مبيناً ومثبتاً بذلك أن قدسية الخدمة الكفّارية ومعناها قد بُطلتا. فقد جاء الوقت الذي فيه تبطل الذبيحة والتقدمة الأرضية. AM 559.4

فالأسبوع — السنوات السبع — انتهت في عام 34م وحينئذ إذ رجم اليهود استفانوس ختموا على رفضهم للإنجيل، والتلاميذ الذين تشتتوا بسبب الاضطهاد: ”جالوا مُبشّرين بالكلمة“ (أعمال الرسل 8 : 4). وبعد ذلك بقليل اهتدى شاول المضطهد وصار اسمه بولس رسول الأمم. AM 560.1

إن النبوات الكثيرة الخاصّة بمجيء المخلّص جعلت اليهود يعيشون في حالة انتظار دائم. وكثيرون ماتوا في الإيمان ولم ينالوا المواعيد. ولكن إذ نظروا من بعيد صدّقوها وأقروا أنهم غرباء ونزلاء على الأرض. والوعود التي ردّدها الآباء والأنبياء منذ عهد أخنوخ حفظت رجاء ظهوره حيّاً. AM 560.2

لم يعلن الله منذ بداية الوقت المحدد للمجيء الأول، وحتى عندما أعلنت نبوّة دانيال هذا الوقت لم يحسم الجميع تفسير الرسالة وفهمها. AM 560.3

وتتابعت القرون وصمت أخيراً صوت الأنبياء. وقد ثقلت يد الظلم على شعب الله. فإذا ارتدوا عنه أظلمت عيون إيمانهم وكاد الرجاء يتوقف عن إنارة المستقبل. وغدت أقوال الأنبياء غير مفهومة لدى كثيرين، والذين كان ينبغي أن يظلّ إيمانهم قوياً كانوا موشكين أن يصرخوا قائلين: ”قد طالت الأيام وخابت كل رؤيا“ (حزقيال 12 : 22). ولكن في مجلس السماء كانت ساعة مجيء المسيح قد تحدّدت. ”لما جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه . ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبنّي“ (غلاطية 4 : 4، 5). AM 560.4

ينبغي أن تُعطى الدروس للبشرية في لغتها. وكان ينبغي أن يتكلّم ملاك العهد. وأن يُسمع صوته في هيكله. ومبدع الحق هو يفصل بين الحق وبين أقوال الإنسان الباطلة التي جعلت الحق عديم التأثير. ينبغي تحديد مبادئ حكم الله وتدبير الخلاص بوضوح. ويجب أن توضع دروس العهد القديم بكمالها أمام الإنسان. AM 561.1

وعندما ظهر المخلّص أخيراً ”في شبه الناس“ (فيلبي 2 : 7)، وبدأ في خدمة النعمة، لم يستطيع الشيطان إلا أن يسحق عقبه، بينما المسيح في كل عمل من أعمال الاتضاع أو الألم التي مر بها كان يسحق رأس عدوه. لقد سُكب الألم والعذاب الذي جلبته الخطيئة، في حضن البار، وبالرغم من ذلك فعندما كان المسيح يحتمل مقاومة الخطاة كان يوفي دين الإنسان الخاطئ ويحطّم قيود العبودية التي كُبّل بها الإنسان. فكلّ وخزة من وخزات الألم وكل إهانة وقعت عليه إنما كانت تعمل على تحرير جنسنا. AM 561.2

ولو أمكن للشيطان إغواء المسيح للخضوع لتجربة واحدة، ولو أمكنه تلويث نقاوته بعمل واحد أو فكر واحد لانتصر سلطان الظلمة على ضامن الإنسان (المسيح) وكان كسب كل الأسرة البشرية لنفسه. ولكن بينما يستطيع الشيطان أن يضايق فهو لا يستطيع تلويث النفس أو تدنيسها. يستطيع أن يسبب الحزن والعذاب ولكن لا يمكنه أن يسبب النجاسة. لقد جعل حياة المسيح مشهداً متصلاً للصراع والتجارب، ومع ذلك ففي كل هجوم كان يخسر سلطانه على الإنسان. AM 561.3

ففي برية التجربة وفي بستان جثسيماني وعلى الصليب صارع مخلّصنا أسلحة سلطان الظلمة ووضع حداُ لها. فصارت جروحه تذكارات انتصاره لأجلنا. وعندما كان المسيح معلّقاً على الصليب في عذاب رهيب، عندما كانت الأرواح الشريرة فرحة متهلّلة والناس الأشرار يشتمونه، حينئذ سحق الشيطان عقبه حقاً. ولكن نفس ذلك العمل كان فيه سحق لرأس الحية، فبالموت أباد: ”ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس“ (عبرانيين 2 : 14). لقد بت هذا العمل في مصير رئيس المتمردين العصاة ووطد تدبير الخلاص، ففي موته أحرز النصرة على سطوة الموت وقوته، وبقيامته فتح أبواب الهاوية ليخرج منها كل تابعيه. وفي تلك المعركة الأخيرة العظيمة نرى إتمام النبوة القائلة: ”هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه“ (تكوين 3 : 15). AM 562.1

”أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله ولم يُظهر بعد ماذا سنكون. ولكن تعلم أنه إذا أظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو“ (1 يوحنا 3 : 2). لق فتح فادينا الطريق ليتسنّى لأشر الناس وأفقرهم، للمظلومين والمنسحقين والمحتقرين إيجاد قبول لدى الآب. AM 562.2

”يا رب أنت إلهي أعظمك. أحمد اسمك لأنك صنعت عجباً مقاصدك منذ القديم أمانة وصدق“ (إشعياء 25 : 1). AM 562.3