الأنبياء والملوك

64/70

الفصل الخامس والخمسون — مؤامرات الأمم

(يعتمد هذا الفصل على ما ورد في نحميا 6).

لم يجرؤ سنبلّط وحلفاؤه على محاربة اليهود علناً ولكنّهم ظلّوا يواصلون بذل جهودهم الخفية بمزيد من الخبث والدهاء لتثبيط هممهم وإرباكهم وإيذائهم. كان السور المحيط بأورشليم يُبنى بسرعة وقد أوشك أن يكتمل. فمتى اكتمل بناء السور ونصبت أبوابه فأن أولئك الأعداء لن يكونوا قادرين على الدخول إلى المدينة عنوة. لذلك زادت رغبتهم لوقف العمل دون إبطاء. وابتكروا أخيراً خطة كانوا يرجون بواسطتها استدراج نحميا بعيداً عن مركزه فإذا ما وقع في قبضة أيديهم قتلوه أو ألقوا به في السجن. AM 524.1

فإذ تظاهروا بالرغبة في عقد صلح بين الحزبين المتخاصمين طلبوا الاجتماع بنحميا ودعوه لمقابلتهم في قرية تقع في سهل أونو. ولكن نحميا إذ كشف له الروح القدس عن حقيقة نواياهم رفض قائلاً: ”أرسلت إليهما رسلاً قائلاً أني أنا عامل عملاً عظيماً فلا أقدر أن أنزل. لماذا يبطل العمل بينما اتركه وانزل إليكما؟“ (نحميا 6 : 3). ولكن ذينك الرجلين المُجربين كانا مصرين على طلبهما. فارسلا إليه الرسالة أربع مرات بذات المعنى وفي كل مرة كان نحميا يجيب الجواب ذاته. AM 524.2

فإذ وجدوا أن هذه المكيدة لم تنجح لجأوا إلى سياسة أشد جرأة. فأرسل سنبلط إلى نحميا رسالة منشورة مع رسول مكتوب فيها: ”قد سُمع بين الأمم وجشم يقول أنك أنت واليهود تفكرون أن تتمردوا لذلك أنت تبني السور لتكون لهم ملكاً .. وقد أقمت أيضاً أنبياء لينادوا بك في أورشليم قائلين في يهوذا ملك. والآن بهذا الكلام. فهلم الآن نتشاور معاً“ (نحميا 6 : 6، 7). AM 525.1

لو أن الأخبار المذكورة أذيعت فعلاً لكان هناك سبب للخوف لأنها كانت ستصل سريعاً إلى إسماع الملك الذي كان أقل شك كفيلاً بإثارة غضبه فيتخذ أقسى الإجراءات. ولكن نحميا كان مقتنعاً بأن الرسالة كلها كانت محض اختلاق وأكاذيب وقد كتبت لإثارته وإيقاعه في الشرك. والذي قوى هذا الاستنتاج هو أن الرسالة كانت منشورة عندما أرسلت وذلك لكي يقرأها الشعب فيستولي عليهم الرعب والذعر. AM 525.2

فأرسل إليه رداً سريعاً يقول: ”لا يكون مثل هذا الكلام الذي تقوله بل إنما أنت مختلقه من قلبك“ (نحميا 6 : 8). لم يكن نحميا يجهل مكايد الشيطان، بل كان يعرف أن هذه المحاولات قد بذلت بقصد إضعاف أيدي البنائين وبذلك تحبط جهودهم وتبطل. AM 525.3

لقد انهزم الشيطان مراراً وتكراراً، أما الآن فقد نصب لخادم الله شركاً أدهى بمكر ودهاء أعظم وأخطر. ذلك أن سنبلّط وزملاؤه استأجروا رجالاً كانوا يظهرون الصداقة لنحميا لكي يقدّموا له مشورة شريرة على أنها كلمة الرب. وكان أهم شخص قام بهذا العمل الآثم هو شمعيا الذي كان نحميا اعتبره سابقاً رجلاَ ذا سمعة طيبة الذي اعتكف في حجرة قريبة من المقدس، كما لو كان يخشى من خطر على حياته. كان الهيكل في ذلك الحين محاطاً بأسوار وأبواب، ولكن أبواب المدينة لم تكن قد نصبت بعد. فإذ تظاهر بحرصه العظيم على سلامة نحميا نصحه شمعيا بأن يحتمي في الهيكل. واقترح عليه قائلاً: ”لنجتمع إلى بيت الله إلى وسط الهيكل ونقفل أبواب الهيكل لأنهم يأتون ليقتلوك. في الليل يأتون ليقتلوك“ (نحميا 6 : 10). AM 525.4

فلو عمل نحميا بهذا المشورة الغادرة لكان ضحّى بإيمانه بالله واعتبر في نظر الشعب جباناُ حقيراً. وكان سيسمي العمل الهام الذي اضطلع به والثقة التي اعترف بأنه وضعها في قدرة الله أمراً مناقضاً تماماُ للاختباء كمن هو خائف. وكان الإنذار بالخطر ينتشر بين الشعب وكان ينشد كل واحد سلامته وتترك المدينة مكشوفة لتسقط غنيمة باردة في إيدي أعدائها. فلو أقدم نحميا على ذلك الإجراء المتسرع لكان سلّم ببساطة لأعدائه كل ما كان كسبه حتى الآن. AM 526.1

ولم يطل الوقت على نحميا قبل أن اكتشف الصفة الحقيقية لصاحب تلك المشورة الكاذبة والهدف الذي كان يرمي إليه. فها هو يقول: ”فتحققت وهوذا لم يرسله الله لأنه تكلّم بالنبوة عليّ وطوبيا وسنبلط قد استأجراه. لأجل هذا قد استؤجر لكي أخاف وأفعل هكذا وأخطئ فيكون لهما خبر رديء لكي يعراني“ (عدد 12 — 14). AM 526.2

ثم أن تلك المشورة الشائنة التي قدّمها شمعيا اثنى عليها بالموافقة أكثر من رجل من ذوي الشهرة. فإذ كان كل منهم يبدي الصداقة لنحميا، كانوا في الخفاء متعاهدين مع أعدائه. ولكن عبثاً نصبوا أشراكهم. فقد كان جواب نحميا الدال على الشجاعة هو هذا: ”أرجل مثلي يهرب؟ ومن مثلي يدخل الهيكل فيحيا؟ لا أدخل“ (نحميا 6 : 11). AM 526.3

وبالرغم من كل مؤامرات الأعداء الظاهرة منها والخفية فإن عملية البناء ظلّت تتقدّم إلى الأمام بثبات، وفي أقل من شهرين منذ وصل نحميا إلى أورشليم أحيطت المدينة بحصونها وأمكن للبنائين أن يتمشوا فوق الأسوار وينظرون إلى أسفل أعدائهم المنهزمين وخصومهم الذاهلين. وكتب نحميا يقول: ”ولما سمع كل أعدائنا ورأى جميع الأمم الذين حوالينا سقطوا كثيراً في أعين أنفسهم وعلموا أنه من قبل إلهنا عُمل هذا العمل“ (عدد 16). AM 527.1

ومع ذلك فحتى هذا البرهان على يد الله المسيطرة لم يكن كافياً لقمع التذمر والتمرد والخيانة التي تفشت بين شعب الله: ”أكثر عظماء يهوذا توارد رسائلهم على طوبيا ومن عند طوبيا أتت الرسائل إليهم. أن كثيرين في يهوذا كانوا أصحاب حلف له لأنه شهر شكنيا“ (عدد 17، 18). هنا ترى العواقب الوخيمة لمصاهرة الوثنيين. فها هي أسرة من سبط يهوذا قد ارتبطت بأعداء الله وقد برهنت علاقة المصاهرة تلك على أنها شرك منصوب. وقد فعل عديدون الشيء ذاته. فهؤلاء كانوا كاللفيف الذي صعد مع بني إسرائيل من مصر، ظلّوا علة متاعب لا تنقطع. فهم لم يخدموا الله بقلب كامل، وعندما تطلّب عمل الله القيام بتضحية كانوا مستبعدين لأن يحنثوا بعهدهم عن التعاون والتعضيد. AM 527.2

إن بعضاً ممن كانوا في مقدمة المتآمرين بالشر على اليهود اعربوا الآن عن رغبتهم لتكون بينهم وبين إسرائيل علاقات صداقة. إن عظماء يهوذا الذين وقعوا في شرك التزوج بنساء وثنيات، والذين كانوا يتبادلون مع طوبيا رسائل الغدر والخيانة بدأوا يصورونه الآن على أنه رجل موهوب وبعيد النظر، وقالوا أن التحالف معه يكون فيه خير وامتياز عظيم لشعب الله. وفي الوقت ذاته أطلعوه على خطط نحميا وتحركاته. وهكذا تعرض عمل شعب الله لهجمات أعدائهم وسنحت الفرصة لإساءة تأويل أقوال نحميا وتحريفها وتشويه أعماله وتعطيلها. AM 527.3

عندما لجأ الفقراء والمظلومون إلى نحميا طالبين منه أنصافهم ودفع الظلم عنهم وقف مدافعاً عنهم بكل جرأة، وجعل الظالمين يزيلون العار الذي حلّ بهم. ولكن السلطة التي استخدمها لأجل خير أولئك المنسحقين المداسين بالأقدام من مواطنيه لم يستخدمها الآن لأجل نفسه. لقد قوبلت مساعيه وجهوده بالجحود والخيانة من بعض الناس ولكنّه لم يستخدم سلطانه في إيقاع القصاص بالخونة بل في هدوء وتجرد وإخلاص تقدّم في خدمته لأجل الشعب دون أن يتراخى في جهوده أو يقلل من اهتمامه. AM 528.1

وجهت هجمات الشيطان دائماً ضد الذين حاولوا إنجاح عمل ملكوت الله. ومع أن مساعيه خابت في غالب الأحيان فأنه في كل مرة كان يعاود هجماته بقوة جديدة مستخدماً وسائل لم يجرّبها من قبل. ولكن عمله المتخفي من خلال المدّعين الغيرة على عمل الله هو الذي نخشى خطره أكثر من غيره. وقد تكون المقاومة الظاهرة عنيفة وقاسية ولكن خطرها على عمل الله يكون أقل بكثير من العداوة الخفية التي يضمرها من يعترفون بأنهم يخدمون الله وهم في أعماقهم عبيد للشيطان في أيدي من يستخدمون معرفتهم في تعطيل عمل الله والأضرار بخدّامه. AM 528.2

كل حيلة يمكن أن يقترحها سلطان الظلمة أو يبتكرها ستُستخدم في إقناع عبيد الله للتحالف مع أعوان الشيطان. كما ستُستخدم إغراءات كثيرة تدعوهم للتوقف عن القيام بواجبهم. ولكن عليهم كنحميا أن يجيبوا قائلين بكل ثبات: ”إني أنا عامل عملاً عظيماً فلا أقدر أن أنزل“. ويمكن لخدّام الله أن يستمروا قائمين بعملهم باطمئنان تاركين جهودهم وخدماتهم تدحض الأكاذيب التي يبتكرها الخبث والحقد ضدّهم. وعليهم كالبنائين الذين كانوا على أسوار أورشليم أن يرفضوا التحول عن عملهم سواء بالتهديد أو السخرية أو بالأكاذيب. عليهم ألا يتراخوا عن السهر أو اليقظة لحظة واحدة، لأن الأعداء يتعقبونهم على الدوام. وعليهم أن يصلّوا إلى الهمم: ”ويقيموا حرّاساً ضدّهم نهاراً وليلاً“ (نحميا 4 : 9). AM 528.3

إذ يقترب وقت النهاية تشتد تجارب الشيطان بقوة عظيمة على خدّام الله. وسيستخدم عملاء البشر في السخرية وتوجيه الشتائم إلى ”من يبنون السور“ ولكن لو أن البنائين ينزلون لمواجهة هجمات أعدائهم فإن هذا يعطل العمل. أجل! عليهم أن يجابهوا نوايا أعدائهم وإحباطهم إنما يحسن بهم ألا يسمحوا لأي شيء أن يبعدهم عن عملهم. أن الحق أقوى من الضلال، والعدل لابد أن ينتصر على الظلم. AM 529.1

وكذلك ينبغي عدم السماح لأعدائهم بأن يظهروا بصداقتهم أو عطفهم لئلا ينجذبون بعيداً عن مركز واجبهم. فذاك الذي يعرّض عمل الله للعار بأي عمل طائش أو متسرّع أو يضعف أيدي زملائه في العمل يلوث خلقه بلطخة ليس من السهل إزالتها، ويضع عقبة خطيرة في طريق نفعه في المستقبل. AM 529.2

”تاركوا الشريعة يمدحون الأشرار“ (أمثال 28 : 4). عندما يتوسّل المرتبطون بالعالم ومع ذلك يدعون بأنهم أطهاراً جداً في طلب الإتحاد مع المحاربين لقضية الحق، علينا أن نخشاهم وننبذهم بكل حزم كما فعل نحميا. أن عدو كل صلاح هو الذي يحفز الناس على قبول هذه المشورة. وهذه هي لغة الانتهازيين التي يجب مقاومتها بعزم صادق الآن كما في تلك العصور الغابرة. فأي تأثير من شأنه زعزعة إيمان شعب الله في قوته المرشدة ينبغي مقاومته بكل ثبات. AM 529.3

إن السبب في إخفاق أعداء نحميا في اجتذابه ليكون تحت سلطانهم هو تكريسه الثابت على الله. فالنفس البليدة المتكاسلة تسقط فريسة سهلة المنال أمام التجربة، أما النفس التي أمامها غرض نبيل وقصد متفوق فقلما يجد الشر فيها وطأة قدم. أن إيمان الشخص المتقدم دائماُ إلى الأمام لا يضعف لأنه يلاحظ أن الله نبع قوته السرمدي، يحيط به من كل حانب، ومحبته المطلقة تجعل كل الأشياء تعمل معاً لإتمام قصده الصالح. وخدّام الله الأمناء يعملون بعزم لا يكلّ لأن عرش النعمة هو معتمدهم الدائم. AM 530.1

لقد أعد الله معونته الإلهية لكل الطوارئ التي لا تستطيع مواردنا البشرية تلبيتها أو مواجهتها. فهو يمنح الروح القدس ليُعين في كل مأزق وليقوي فينا الرجاء واليقين لإنارة أذهاننا وتطهير قلوبنا. وهو يهيء الفرص ويفتح السبل للعمل. فإذا كان شعبه يراقب دلالات عنايته وكان مستعداً للتعاون معه فسيرى نتائج عظيمة. AM 530.2

* * * * *