الأنبياء والملوك

63/70

الفصل الرابع والخمسون— توبيخ ضدّ الابتزاز

(يعتمد هذا الفصل على ما جاء في نحميا 5).

لم يكن سور أورشليم قد اكتمل عندما اتجه انتباه نحميا إلى الحالة التعسة التي كانت تعاني منها الطبقات الفقيرة من الشعب. ففي تلك الحالة غير المستقرة التي كانت تمر فيها البلاد كانت شؤون الفلاحة قد أهملت إلى حد ما. وبالإضافة إلى ذلك فإن المسلك الدال على الاثرة الذي سلكه بعض الراجعين إلى اليهودية منع بركة الله عن أرضهم فصار وجود القمح شحيحاً. AM 518.1

فلكي يحصل الفقراء على طعام لعائلاتهم كانوا مضطرين لشراء حاجاتهم بالدين وبأثمان باهظة. كما كانوا مضطرين للحصول على المال عن طريق الاستدانة بالربا ليستطيعوا دفع الضرائب الفادحة التي فرضها عليهم ملوك فارس. ومما زاد من هول ضيق الفقراء هو اسغلال الأغنياء من اليهود لحالة العوز والحاجة التي كان الفقراء يعانون منها. وبذلك اغتنوا. AM 518.2

كان الرب قد أمر شعبه بفهم موسى أنه في كل سنة ثالثة يُجمع عشور لمنفعة الفقراء. وقد عملت لهم تدابير أخرى. فعند توقف الأعمال الزراعية من كل سنة سابعة عندما تكون الأرض متروكة، فإن المحاصيل التي تكبر وتنضج من تلقاء ذاتها تُترك للمحتاجين. فالأمانة في تكريس هذه العطايا لتخفيف ضائقة الفقراء وغير ذلك من وجوه الإحسان كانت كفيلة بتذكير الشعب بحقيقة كون الله هو مالك الكل وأن الفرصة مقدّمة لهم ليكونوا قنوات للبركة. كان الله يقصد أن يتدرب شعبه على ما يكفل استئصال الأنانية من قلوبهم، ويجعلها رحبة ليكون خلقهم كريماً نبيلاً. وقد علّمهم الله أيضاً على لسان موسى قائلاً: ”إن أقرضت فضّة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي. لا تضعوا عليه ربا“. ”لا تقرض أخاك بربا. ربا فضّة أو ربا طعام أو ربا شيء ما مما يقرض بربا“ (خروج 22 : 25 ؛ تثنية 23 : 19). كما قال أيضاُ: ”إن كان فيك فقير، أحد من إخوتك في أحد أبوابك في أرضك التي يعطيك الرب إلهك فلا تقس قلبك ولا تقبض يدك عن أخيك الفقير بل افتح يدك له وأقرضه مقدار ما يحتاج إليه“. ”لأنه لا تفقد الفقراء من الأرض. لذلك أنا أوصيك قائلاً: افتح يدك لأخيك المسكين والفقير في أرضك“ (تثنية 15 : 7، 8، 11). AM 518.3

خالف الأغنياء في بعض الأحيان بعد رجوع المسبيين من بابل هذه الأوامر مخالفة صريحة. فعندما اضطرّ الفقراء إلى الاستدانة لدفع الجزية للملك أقرضهم الأغنياء المال وفرضوا عليهم ربحاً فاحشاً. وإذ أخذوا رهوناً على أراضي الفقراء، فالبتدريج أوقعوا المدينين في هوة الفقر المدقع. وقد اضطر كثيرون لبيع بنيهم وبناتهم ليكونوا عبيداً أذلاء، ولم يكن يبدو وجود أي أمل في تحسين حالتهم ولا بارقة رجاء ولا وسيلة لافتداء أولادهم أو أرضهم، ولم تكن أمامهم أية إمكانيات أفضل، بل تفاقم الضيق والفاقة، والعوز والعبودية الدائمة. ومع ذلك فهم كانوا أفراداً في أمة واحدة وأبناء عهد واحد كباقي إخوتهم الأكثر حظاً. AM 519.1

أخيراً بسط الشعب حالتهم أمام نحميا قائلين: ”ها نحن نخضع بنينا وبناتنا عبيداً ويوجد من بناتنا مستعبدات وليس شيء في طاقة يدنا، وحقولنا وكرومنا للآخرين“ (نحميا 5 : 5). فلما سمع نحميا بهذا الظلم وهذه القسوة غضب جداً فقال: ”غضبت جداً حين سمعت صراخهم وهذا الكلام“ (نحميا 5 : 6). وقد رأى أنه إذا أفلح في تحطيم عادة الابتزاز التعسفي فينبغي له أن يقف موقفاً حاسماً إلى جانب العدالة. فبنشاط وتصميم فريدين تقدّم للعمل لنجدة أخوته. AM 519.2

إن حقيقة كون الظالمين هم رجال أثرياء تمس الحاجة إلى تعضيدهم في عمل إعادة المدينة، لم يكن له أقل تأثير على عقل نحميا. فلقد بكّت العظماء والولاة بكل شدّة، وعندما جمع حشداُ كبيراً من الشعب أخبرهم بمطالب الله بخصوص هذه المسألة. AM 520.1

وقد وجّه انتباههم إلى حوادث وقعت في عهد الملك آحاز. ثم تلا عليهم الرسالة التي أرسلها الله إلى الشعب في ذلك الحين، موبخاَ بها قسوتهم وظلمهم. لقد أسلم بني يهوذا بسبب تعلّقهم بعبادة الأوثان إلى أيدي أخوتهم الأكثر منهم تعلقاً بالوثنية أي شعب إسرائيل، الذين أمعنوا في عداواتهم بقتلهم لعدّة آلاف من رجال يهوذا وامسكوا كل النساء والأطفال وكانوا ينوون الاحتفاظ بهم عبيداً أو بيعهم للأمم. AM 520.2

وبسبب خطايا يهوذا لم يتدخل الرب لمنع الحرب ولكنه وبّخ على لسان عوديد النبي، الخطط القاسية التي قصد الجيش المنتصر تنفيذها فقال لهم: ”والآن أنتم عازمون إلى إخضاع بني يهوذا وأورشليم عبيداً وأمناء لكم. أما عندكم أنتم آثام للرب إلهكم؟“ (2 أخبار 28 : 10 ). وقد أنذر عوديد شعب إسرائيل بأن غضب الله قد حمي عليهم وأن تصرفهم الذي تجلى في ظلمهم وتعسفهم سيستمطر عليهم أحكامه. فلما سمع الرجال المسلحون هذا الكلام تركوا أسرارهم وغنيمتهم أمام الرؤساء وكل الجماعة. حينئذ تقدّم رجال من رؤوس سبط أفرايم: ”وأخذوا المسبيين وألبسوا كل عراتهم من الغنيمة وكسوهم وحذروهم واطعموهم واسقوهم ودهنوهم وحملوا على حمير جميع المعيين منهم واتوا بهم إلى أريحا مدينة النخل إلى أخوتهم“ (2 أخبار 28 : 15). AM 520.3

كان نحميا وآخرون قد دفعوا فدية بعضاً من اليهود الذين بيعوا للأمم واستعادوهم. وها هو الآن يقارن أمامهم بين هذا التصرف وبين تصرف الذين كانوا يستبعدون أخوتهم طمعاً في الربح الدنيوي. فقال لهم: ”ليس حسناً الأمر الذي تعملونه — أما تسيرون بخوف إلهنا بسبب تعيير الأمم أعدائنا؟“ (نحميا 5 : 9). AM 521.1

وقد أراهم نحميا أنه هو نفسه وهو مزود بسلطان من قبل ملك فارس كان يمكنه أن يطالب بتبرعات كثيرة لفائدته الشخصية. ولكنه بدلاً من ذلك لم يأخذ ما يستحقه عدلاً بل قدّم من أمواله بسخاء لإسعاف الفقراء في ضيقتهم. وقد ألح على حكام اليهود الذين كانت لهم يد في ذلك الابتزاز حتى يكفوا عن هذا العمل الآثم ويردوا إلى الفقراء حقولهم والمال الكثير الذي قد فرضوه عليهم وأن يقرضوهم بدون ضمان أو ربا. AM 521.2

وقد نطق بهذا الكلام في محضر كل الجماعة. فلو أراد الحكّام أن يبرروا أنفسهم لكانت لهم الفرصة لأن يفعلوا ذلك. ولكنّهم لم يقدّموا أي عذر. وإنما أعلنوا قائلين: ”نرد ولا نطلب منهم. هكذا نفعل كما تقول“. وعند هذا: ”استحلفهم (نحميا) أن يعملوا حسب هذا الكلام“. ”فقال كل الجماعة آمين وسبّحوا الرب وعمل الشعب حسب هذا الكلام“ (نحميا 5 : 12، 13). AM 521.3

إن هذا التاريخ يعلّمنا درساً هاماً هو: ”أن محبة المال أصل لكل الشرور“ (1 تيموثاوس 6 : 10). وفي هذا الجيل نجد أن اشتهاء الربح هو العاطفة الغالبة. وكثيراً ما يجمع الإنسان الثورة عن طريق الاحتيال. يوجد أناس كثيرون يكافحون ضد الفقر وهم مضطرون للكد والتعب للحصول على أجور ضئيلة لا تكفي لتكفل لهم أقل ضروريات الحياة. فالكد والحرمان بدون أمل في تحسن الأحوال يثقل كواهلهم. فإذ يصيبهم الضنى بسبب المتاعب والهموم لا يعلمون إلى أين يتجهون في طلب النجدة والإسعاف. كل هذا ليشبع الأغنياء اسرافهم وشهوتهم لاكتناز المال. AM 521.4

إن محبة المال وحب التظاهر قد جعلا هذا العالم يبدو كمغارة للسراق واللصوص. وكلمة الله تصور لنا الجشع والظلم اللذين سيتفشيان في العالم قبيل مجيء المسيح ثانية. وكتب يعقوب الرسول يقول: ”هلم الآن أيها الأغنياء“ ”قد كنزتم في الأيام الأخيرة. هوذا أجرة الفعلة الذين حصدوا حقولكم المبخوسة منكم تصرخ وصياح الحصادين قد دخل إلى أذني رب الجنود. قد ترفّهتم على الأرض وتنعّمتم وربيتم قلوبكم كما في يوم الذبح. حكمتم على البار قتلتموه. لا يقاومكم“ (يعقوب 5 : 1 ؛ 3 — 6). AM 522.1

وحتى بين من يعترفون بأنهم يسيرون في خوف الرب يوجد من يمثّلون الدور ذاته الذي قام به رؤساء إسرائيل. فلأن ذلك في مقدورهم فهم يفرضون أكثر مما يقره العدل، وهكذا يصيرون ظالمين. ولكون الطمع والغدر يتجليان في حياة من يدعون الإيمان بالمسيح، ولكون الكنيسة تحتفظ في سجلاتها بأسماء من قد جمعوا أموالهم بالظلم صارت ديانة المسيح محتقرة وهزيلة. فالتبذير والاحتيال والابتزاز تفسد إيمان كثيرين وتدمر حياتهم الروحية. الكنيسة مسؤولة إلى حد كبير عن خطايا أعضائها. إنها ترضى عن الشر إذا ما عجزت عن رفع صوتها محتجة ضده. AM 522.2

عادات العالم ليست مقياساً للمسيحي. وليس له التشبه به في قوة أعماله واحتياله وابتزازه. فكل عمل من أعمال الظلم ضد أي واحد من بني جنسنا هو انتهاك للقانون الذهبي. وكل ظلم يقع على أولاد الله يقع على المسيح نفسه في شخص قديسيه. وكل محاولة للاستفادة من جهل إنسان أو من ضعفه أو من سوء طالعه، تسجل على أنها احتيال في سفر السماء. أما من يخاف الله حقاً فأنه يفضل أن يكد ويتعب نهاراً وليلاً ويأكل خبز المشقة على أن يشتهي الربح الذي يكون فيه ظلم للأرملة واليتيم أو يصد الغريب عن أخذ حقه. AM 523.1

أن أقل انحراف عن العدل يهدم السياجات ويهيء القلب لارتكاب ظلم أفدح. فبقدر ما يحصل الإنسان على الكسب والمنفعة لنفسه على حساب خسارة الناس، تصير نفسه بالقدر ذاته عديمة الإحساس لتأثير روح الله. فالربح الذي يجيء بهذه الكلفة الباهظة هو الخسران المبين. AM 523.2

لقد كنا جميعاُ مدينين لعدالة الله ولكننا لم نملك ما نوفي به ديوننا. حينئذ دفع ابن الله ثمن فدائنا إذ أشفق علينا. فمن أجلنا افتقر لكي نستغني نحن بفقره. فإذ نقدّم لإخواته الفقراء من أموالنا بسخاء فنحن بذلك نبرهن على إخلاصنا في شكرنا للرب على الرحمة المعطاة لنا. وها هو بولس الرسول يوصينا قائلاً: ”لنعمل الخير للجميع ولاسيما لأهل الإيمان“ (غلاطية 6 : 10). وكلامه هذا مطابق لما قاله المخلّص إذ أعلن قائلاً: ”الفقراء معكم في كل حين ومتى أردتم تقدرون أن تعملوا بهم خيراً“. ”كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم لأن هذا هو الناموس والأنبياء“ (مرقس 14 : 7 ؛ متى 7 : 12). AM 523.3

* * * * *