الأنبياء والملوك
الفصل السادس والخمسون — فهم شريعة الله
(يعتمد هذا الفصل على ما ورد في نحميا 8 — 10).
الوقت الآن هو عيد الأبواق. وقد اجتمع جمع غفير في أورشليم. كان المشهد ينم عن مشاعر الاهتمام الحزين. فسور أورشليم كان قد أعيد بناؤه ونصبت أبوابه، ولكن قسماً كبيراً من المدينة كان ما يزال خراباً. AM 531.1
ووقف عزرا الذي صار الآن رجلاً طاعناً في السن على منصة مصنوعة من الخشب أقيمت في أكبر الشوارع، تحيط به من كل جانب الذكريات المحزنة لمجد يهوذا الآفل. وكان يقف عن يمينه ويساره أخوته اللاويون. فإذ نظروا من المنصة إلى أسفل وقعت أعينهم على بحر من الرؤوس المتطلعة إليهم. فقد اجتمع بنو العهد من كل البلاد المجاورة في ذلك المكان: ”وبارك عزرا الرب الإله العظيم. وأجاب جميع الشعب آمين آمين .. وخرّوا وسجدوا للرب على وجوههم إلى الأرض“ (نحميا 8 : 6). AM 531.2
ومع ذلك فحتى في هذا المكان كان يوجد برهان على خطيئة الشعب. فعن طريق مصاهرة الأمم الأخرى، فسدت اللغة العبرية بحيث لزم مراعاة الحرص الشديد من جانب الخطباء في شرح الشريعة بلغة الشعب كي يفهمها الجميع. واشترك بعض الكهنة واللاويين مع عزرا في شرح مبادئ الشريعة. ”قرأوا في السفر في شريعة الله ببيان وفسروا المعنى وافهموهم القراءة“ (نحميا 8 : 8). AM 531.3
”وكانت آذان كل الشعب نحو سفر الشريعة“ (نحميا 8 : 3). لقد اصغوا بانتباه ووقار إلى كلام العلي. فلما فسرت الشريعة اقتنعوا بذنبهم وبكوا وناحوا على تعدياتهم. ولكن هذا اليوم كان يوم عيد وفرح، يوم اعتكاف مقدّس، يوماً أمر الرب الشعب أن يحفظوه بفرح وبهجة. وبالنظر إلى هذا أمروا بأن يكفوا عن الحزن ويفرحوا بسبب رحمة الله العظيمة نحوهم. قال لهم نحميا: ”هذا اليوم مقدّس للرب إلهكم“ ”لا تنوحوا ولا تبكوا .. اذهبوا كلوا السمين واشربوا الحلو وابعثوا انصبة لمن لم يُعدّ له لأن اليوم إنما هو مقدّس لسيدنا ولا تحزنوا لأن فرح الرب هو قوّتكم“ (نحميا 8 : 9، 10). AM 532.1
وقد كرس الشطر الأول من النهار لممارسات دينية، وقضى الشعب سائر اليوم في تعداد بركات الله بالشكر وفي التمتع بالإحسانات التي اعدّها لهم. كما أرسلت انصبة للفقراء الذين لم يكن لهم ما يعدّونه. وكان الفرح عظيماً بسبب كلام الشريعة الذي سمعوه وفهموه. AM 532.2
وفي اليوم التالي واصلوا قراءة الشريعة وشرحها. وفي اليوم المحدد — اليوم العاشر من الشهر السابع — مورست خدمات يوم الكفارة المقدسة بموجب أمر الله. AM 532.3
ومن اليوم الخامس عشر إلى اليوم الثاني والعشرين من الشهر ذاته حفظ الشعب ورؤساؤهم عيد المظال مرة أخرى — وقد أطلق النداء: ”في كل مدنهم وفي أورشليم قائلين اخرجوا إلى الجبل وآتوا بأغصان زيتون وأغصان زيتون بري وأغصان آس وأغصان أشجار غبياء لعمل مظال كما هو مكتوب. فخرج الشعب وجلبوا وعملوا لأنفسهم مظال كل واحد على سطحه وفي دورهم ودور بيت الله .. وكان فرح عظيم جداً. وكان (عزرا) يقرأ في سفر شريعة الله يوماً فيوماً من اليوم الأول إلى اليوم الأخير“ (نحميا 8 : 15 — 18). AM 532.4
وإذ كان الشعب يستمع إلى كلام الشريعة يوماً بعد يوم فقد تبكتوا على آثامهم وخطايا أمتهم في العصور السالفة. وقد رأوا أنه بسبب ابتعادهم عن الله تركتهم رعايته الحافظة فتشتت نسل إبراهيم في بلدان غريبة. فعقدوا العزم على طلب رحمته والتعهد بالسير في طريق وصاياه. وقبل الشروع في هذه الخدمة المقدسة التي عقدت في اليوم الثاني بعد انتهاء عيد المظال انفصلوا عن الوثنيين الذين في وسطهم. AM 533.1
فإذ خرّ الشعب أمام الرب معترفين بخطاياهم وطالبين الغفران شجعهم رؤساؤهم على الإيمان بأن الله قد سمع صلاتهم حسب وعده. لذلك ينبغي لهم ألا ينوحوا ويبكوا ويتوبوا وحسب بل عليهم أيضاُ أن يؤمنوا بأن الله قد غفر لهم، وأن يبرهنوا على إيمانهم بترداد مراحمه وشكره وصلاحه ووجوده. ثم قال لهم معلموهم: ”قوموا باركوا الرب إلهكم من الأزل إلى الأبد“. AM 533.2
فإذ وقف ذلك الجمع الحاشد رافعين أيديهم نحو السماء تغنوا بهذه التسبحة قائلين: ”ليتبارك اسم جلالك المتعالي على كل بركة وتسبيح. أنت هو الرب وحدك. أنت صنعت السموات وسماء السموات وكل جندها والأرض وكل ما عليها والبحار وكل ما فيها وأنت تحييها كلّها وجند السماء لك يسجد“ (نحميا 9 : 5، 6). AM 533.3
فبعد الإنتهاء من تسبحة الحمد جعل رؤساء تلك الجماعة يتلون تاريخ إسرائيل مبينين مقدار عظمة جود الله نحوهم وهول جحودهم. حينئذ دخلت كل الجماعة في عهد بأن يحفظوا وصايا الله كاملة. لقد قاسوا الأهوال والعقاب بسبب خطاياهم، والآن فها هم يعترفون بعدالة الله في معاملته لهم وتعهدوا بإطاعة شريعته. فلكي يكون هذا ”ميثاقاً“ ويُحفظ بصورة دائمة كمذكّر لهم بالعهد الذي أخذوه على أنفسهم، فقد كُتب ثمّ ختمه الكهنة واللاويون والرؤساء. كان المقصود منه أن يكون مذكراً لهم بالواجب ورادعاً ضد التجربة. ودخل الشعب في قسم وحلف مقدّس بأن ”يسيروا في شريعة الله التي أعطيت من يد موسى عبد الله وأن يحفظوا ويعملوا جميع وصايا الرب سيدنا وأحكامه وفرائضه“ (نحميا 9 : 39 ؛ 10 : 29). وقد تضمن القسم الذي أخذوه في هذا الحين وعداً بألا يصاهروا شعب الأرض. AM 533.4
وقبل انقضاء يوم الصوم أظهر الشعب أيضاً عزمهم على الرجوع إلى الرب بالتعهد بالكف عن تدنيس يوم السبت. وفي هذا الوقت لم يستخدم نحميا سلطته في منع المتاجرين من الأمم عن المجيء إلى أورشليم كما فعل فيما بعد. ولكن في محاولته إنقاذ الشعب من الخضوع والاستسلام للتجربة جعلهم يرتبطون بعهد مقدس ألا يتعدوا شريعة السبت بالشراء من أولئك الباعة، على أمل أن ذلك يضعف من همم التجار ويضع حداً لتجارتهم. AM 534.1
كما أعدت العدة أيضاً لتعضيد العبادة العامة لله. وبالإضافة إلى العُشر تعهدت تلك الجماعة بالمساهمة بمبلغ سنوي محدد لأجل خدمة المقدس. وكتب نحميا يقول: ”وألقينا قرعاً .. لإدخال باكورات أرضنا وباكورات ثمر كل شجرة سنة فسنة إلى بيت الرب، وأبكار بنينا وبهائمنا كما هو مكتوب في الشريعة وأبكار بقرنا وغنمنا“ (نحميا 20 : 23، 35). AM 534.2
لقد رجع إسرائيل إلى الله في حزن عميق على ارتدادهم. وقد اعترفوا نائحين وباكين. لقد اعترفوا بعدالة الله في معاملته لهم وتعهدوا بأن يطيعوا شريعته. أما الآن فعليهم أن يُظهروا إيمانهم بمواعيده. لقد قبل الله توبتهم فكان عليهم حينئذ أن يفرحوا بيقين غفران خطاياهم ورجوع الرب للرضى عنهم. AM 535.1
وقد كلّلت جهود نحميا لإعادة عبادة الإله الحقيقي بالنجاح. فطالما ظلّ الشعب أميناً للقسم الذي أخدوه على أنفسهم، وكانوا مُطيعين لكلمة الله فالرب تبعاً لذلك سيتمم لهم وعده في سكب بركات غزيرة عليهم. AM 535.2
يوجد في هذه القصص دروس من الإيمان والتشجيع للمتبكتين على خطيئتهم ونفوسهم منحنية لشعورهم بعدم استحقاقهم. يورد الكتاب المقدس بأمانة نتيجة ارتداد الشعب، ولكنه يصور أيضاً التذلّل والتوبة العميقة والتكريس الجاد والتضحية السخية التي امتازت بها أوقات رجوعهم إلى الرب. AM 535.3
أن كل رجوع حقيقي إلى الرب لابد أن يكون من نتائجه الفرح الدائم في الحياة. فعندما يخضع أي خاطئ لتأثير الروح القدس فهو يرى إثمه ونجاسته على نقيض قداسة الرب فاحص القلوب العظيم. فهو يرى نفسه مديناً كمتعد. ولكن ينبغي له ألا يستسلم لليأس بسبب ذلك لأن غفران خطاياه صار مضموناً. ويمكنه أن يفرح بإحساسه بمحبة الآب السماوي الغفور، وبأن خطاياه قد غفرت. فالله يتمجد لاحتضانه الخلائق البشرية الخاطئة التائبة بين ذراعي محبّته وتضميد جراحهم وتطهيرهم من الخطيئة وتجميلهم بثياب الخلاص. AM 535.4
* * * * *