الأنبياء والملوك
الفصل التاسع والأربعون— في عهد الملكة استير
كان قد انتفع ما يقرب من خمسين ألفاً من بني السبي بالمرسوم الذي فيه سُمح لهم بالعودة إلى أرضهم وذلك بفضل الرعاية والإحسان اللذين أظهرهما نحوهم الملك كورش. ومع ذلك فهؤلاء بالمقارنة مع مئات الألوف المُشتّتين في كل بلاد مادي وفارس لم يكونوا إلا أقليّة ضئيلة. أما الأكثرية العظمى من بني إسرائيل فقد اختاروا البقاء على أرض سبيهم مؤثرين ذلك على تحمل مشاق السفر في العودة وإعادة بناء المدن والبيوت الخربة. AM 479.1
وبعد مرور أكثر من عشرين سنة صدر مرسوم ثان مشجع كالمنشور الأول، أصدره داريوس هستاسبس الملك الحاكم في ذلك الحين. هكذا قدّم الله في رحمته فرصة ثانية لليهود القاطنين في مملكة مادي وفارس للرجوع إلى أرض آبائهم. لقد سبق الله فرأى الأوقات المزعجة التي كانت قادمة عليهم في إبان حكم أحشويروش — المذكور في سفر استير، وفضلاً عن كونه أحدث مشاعر رقيقة في قلوب من بيدهم السلطان، فإنهم أيضاً أوحى إلى زكريا أن يتوسّل إلى المسبيين كي يرجعوا إلى وطنهم. AM 479.2
وهذه الرسالة المعطاة لأسباط إسرائيل المشتتين الذين استوطنوا في بلدان كثيرة بعيدة عن وطنهم الأول: ”يا يا اهربوا من أرض الشمال يقول الرب. فإني قد فرقتكم كرياح السماء الأربع يقول الرب. تنجّي يا صهيون الساكنة في بنت بابل. لأنه هكذا قال رب الجنود بعد المجد أرسلني إلى الأمم الذين سلبوكم لأنه من يمسكم يمس حدقة عينه. لأني هأنذا أحرك يدي عليهم فيكونون سلباً لعبيدهم. فتعلمون أن رب الجنود قد أرسلني“ (زكريا 2 : 6 — 9). AM 479.3
كان قصد الرب حينئذ كما كان قصده منذ البدء أن يكون شعبه تسبيحة في الأرض لمجد اسمه. وفي أثناء سنوات سبيهم الطويلة قدّم الرب لهم كثيراً من الفرص للرجوع إلى ولائهم له. وقد اختار بعض منهم الاصغاء والتعلّم وآخرون وجدوا الخلاص في وسط الضيق. وكثيرون من هؤلاء كانوا سيعدون ضمن البقية التي كانت سترجع. وهذا ما شبهتهم به كلمة الوحي: ”فرع الأرز العالي“ الذي كان سيغرس ”على جبل عال وشامخ في جبل إسرائيل العالي“ (حزقيال 17 : 22، 23). AM 480.1
الذين رجعوا بناء على منشور كورش هم: ”كل من نبّه الله روحه“ (عزرا 1 : 5). ولكن الله لم يرفض التوسّل إلى الذين أثروا البقاء في أرض سبيهم بمحض اختيارهم. وعن طريق عوامل كثيرة سهل لهم أمر العودة، ومع ذلك فإن عدداً كبيراً من الذين لم يستجيبوا لمنشور كورش ظلّوا بمنأى عن المؤثرات التي داءتهم فيما بعد، وحتى بعدما أنذرهم زكريا بالهروب من بابل بلا إبطاء لم يعيروا تلك الدعوات أي إلتفات. AM 480.2
وفي أثناء ذلك تطورت الأحوال في مملكة مادي وفارس تطوراُ سريعاً. فإن داريوس هستاسبس الذي تمتّع اليهود في إبان حكمه برعاية وإحسانات كثيرة ملحوظة خلفه على العرش أحشويروش الأكبر. وفي أثناء حكم هذا الملك حدث أن اليهود الذين لم يكترثوا للرسالة التي كانت تدعوهم للهروب كان لابد لهم من مواجهة أزمة مخيفة. فحيث رفضوا الاستفادة من وسيلة الهرب التي أعدّها لهم الله صاروا الآن وجهاُ لوجه أمام الموت. AM 480.3
وقد استخدم الشيطان هامان الاجاجي الذي كان وضيع الأخلاق يحتلّ مركزاً عظيما مرموقاً وكانت له سلطة واسعة في مملكة مادي وفارس، لكي يعرقل مقاصد الله. كان هامان يضمر لمردخاي حقداُ مريراً. وكان مردخاي رجلاً يهودياً ولم يسء إلى هامان بشيء، إنما فقط رفض السجود له. وإذ ”ازدرى في عينيه أن يمد يده إلى مردخاي وحده .. طلب هامان أن يهلك جميع اليهود الذين في كل مملكة أحشويروش، شعب مردخاي“ (استير 6 : 3). AM 481.1
أما الملك أحشويروش فإذ غرر به هامان بأقواله وتصريحاته الكاذبة اقتنع بأن يصدر مرسوماً يقضي بقتل كل اليهود ”المشتتين والمتفرقين بين الشعوب في كل بلاد المملكة“ (مادي وفارس) — (استير 8 : 3). وقد حدد يوم كان لابد فيه أن يهلك اليهود وأن تُسلب غنيمتهم. ولم يكن الملك يدري العواقب البعيدة المدى التي تترتب على تنفيذ هذا المرسوم. وكان الشيطان المحرض على تلك المكيدة والمتخفي وراءها، يحاول أن يحرر الكرة الأرضية من أولئك الذين يحفظون معرفة الإله الحقيقي. AM 481.2
”وفي كل كورة وصل إليها المرسوم الملكي كانت مناحة عظيمة عند اليهود وصوم وبكاء ونحيب. وانفرش مسح ورماد الكثيرين“ (استير 3 : 4). إن شريعة مادي وفارس لا يمكن أن تتغيّر. وقد بدا أنه لا يوجد رجاء فقد حُكم على كل الإسرائيليين بالهلاك. AM 481.3
ولكن مؤامرات العدو أحبطت بالقوة التي تدير وتحكم في مصائر بني الإنسان. فقد دبّرت عناية الله أن تتوج استير ”التي كانت فتاة يهودية تقية“ ملكة في مملكة مادي وفارس. وكان مردخاي أحد أقربائها، ففي حاجتهم القصوى وكربهما الشديد عوّلا على الالتجاء إلى الملك أحشويروش لإنقاذ شعبهما وكان على استير أن تجازف بالمثول في حضرته لتتوسّل لأجل الشعب. قال لها مردخاي: ”ومن يعلم إن كنت لوقت مثل هذا وصلت إلى الملك؟“ (استير 4 : 14). AM 481.4
كانت الأزمة التي واجهتها استير تتطلب عملاً سريعاً جاداُ، وأدركت هي ومردخاي أنه ما لم يتدخل الله بقوة لصالحهما وصالح شعبهما فإن جهودهما لا يمكن أن تؤدي إلى نتيجة. ولذلك قضت استير وقتاً في الصلاة والشركة مع الله نبع قوّتها. فقالت لمردخاي ”اذهب اجمع كافة اليهود الموجودين في شوشن وصوموا من جهتي ولا تأكلوا ولا تشربوا ثلاثة أيام ليلاً ونهاراً. وأنا أيضاً وجواريّ نصوم كذلك وهكذا أدخل إلى الملك خلاف السنة فإذا هلكت هلكت“ (استير 4 : 16). AM 482.1
أما الحوادث التي جاءت بعد ذلك في تتابع سريع — كمثول استير في حضرة الملك، والرضى والقبول العظيم الذي نالته منه، والولائم التي أقيمت للملك والملكة حيث كان هامان ضيفهما الوحيد فيها، والأرق الذي حلّ بالملك والإكرام الذي أكرم به مردخاي على مرأى جميع الناس، وإذلال هامان وسقوطه على إثر اكتشاف مؤامرته الدنيئة — كل هذه أجزاء من القصة المألوفة لدينا. لقد عمل الله بكيفية معجزية لأجل شعبه التائب، وأصدر الملك منشوراً مناقضاُ للأول أباح فيه لليهود أن يحاربوا دفاعاُ عن أنفسهم. وقد وصل ذلك المرسوم بسرعة إلى كل أنحاء المملكة بواسطة السعاة ناقلي الرسائل: ”وأمر الملك يحثهم ويجعلهم“. ”وفي كل بلاد (مقاطعة) ومدينة وكل مكان وصل إليه كلام الملك وأمره كان فرح وبهجة عند اليهود وولائم ويوم طيب. وكثيرون من شعوب الأرض تهودوا لأن رعب اليهود وقع عليهم“ (استير 8 : 14، 17). AM 482.2
وفي اليوم المحدد لإهلاكهم: ”اجتمع اليهود في مدنهم في كلّ بلاد الملك أحشويروش ليمدوا أيديهم إلى طالبي أذيتهم فلم يقف أحد قدّامهم لأن رعبهم سقط على جميع الشعوب“. لقد أرسل الله الملائكة المقتدرين قوة لحماية شعبه عندما ”وقفوا لأجل أنفسهم“ (استير 9 : 2، 16). AM 483.1
وقد أعطي لمردخاي مركز الكرامة الذي كان هامان يشغله من قبل. فقد ”كان ثاني الملك أحشويروش وعظيماً بين اليهود ومقبولاً عند كثرة أخوته“ (استير 10 : 3). وقد طلب الخير لشعبه وما يؤول لإسعاده. وهكذا جعل الله شعبه المختار يفوز مرة أخرى برضى بلاط مملكة مادي وفارس، وجعل من تنفيذ مقاصده في رجوعهم إلى أرضهم أمراُ ميسوراً. ولكن لم يرجع عدد كبير منهم إلى أورشليم تحت قيادة عزرا إلا في وقت متأخر بعد مرور سنوات عديدة. في السنة السابعة من ملك ارتحشستا الأول الذي اعتلى العرش بعد احشويروش الأكبر. AM 483.2
أما الاختبارات الشاقة التي مرت على شعب الله في أيام استير فلم تقتصر على ذلك العصر. فإذ نظر الرائي عبر الأجيال إلى انقضاء الدهر أعلن قائلاً: ”فغضب التنين على المرأة وذهب ليصنع حرباً مع باقي نسلها الذين يحفظون وصايا الله وعندهم شهادة يسوع المسيح“ (رؤيا 12 : 17). إن بعض من يعيشون في هذه الأيام على الأرض سيشهدون إتمام هذه الأقوال. ونفس الروح التي أوعزت إلى الناس في العصور القديمة باضطهاد الكنيسة الحقيقية ستقود الناس في المستقبل إلى متابعة السير في الطريق ذاته في محاربة من يحتفظون بولائهم لله. ومنذ الآن فقد بوشرت الاستعدادات لخوض غمار تلك الحرب الأخيرة العظيمة. AM 483.3
وسيكون المنشور الذي سيصدر أخيراُ ضد بقية شعب الله قريب الشبه بالذي أصدره احشويروش ضد اليهود. فأعداء الكنيسة الحقيقية اليوم يرون في الجماعة القليلة التي تحفظ وصيّة السبت، ”مردخاياُ“ آخر واقفاُ على الباب. لأن إكرام شعب الله لشريعته هو توبيخ مستمر للذين طرحوا مخافة الرب جانباً وهم يدوسون سبته باستمرار. AM 484.1
وسيزيد الشيطان السخط ضد الأقلية الذين يرفضون قبول العادات والتقاليد العامة الشائعة. وسينضم إلى جماعة المتمردين رجال من ذوي الشهرة والمراكز الرفيعة ليتآمروا على شعب الله. وستضافر الثروة والذكاء والعلم لتجلّلهم بالعار والاحتقار. وسيتآمر ضدّهم الحكّام المضطهدون والخدّام وأعضاء الكنائس. ويحاولون هدم إيمانهم عن طريق الخطابة والصحف والتفاخر والتهديد والسخرية. كما سيثيرون غضب الجماهير بواسطة التحريف الكاذب والمرافعات الغاضبة. وحيث أنه ليست حجة كتابية يوردونها ضدّ المدافعين عن السبت الكتابي فسيلجأون إلى التشريعات الظالمة لسدّ النقص الذي لديهم. ولكي يحظى المشترعون بالشهرة والمناصرة فسيذعنون إلى سن قوانين تُلزم الناس بحفظ يوم الأحد. ولكن الذين يخشون الله لا يمكنهم قبول أي تشريع ينقض إحدى الوصايا العشر. وفي ميدان النزال هذا ستُشن الحرب الأخيرة العظيمة في الصراع بين الحق والضلال. إلا أننا لم نترك للشك بالنسبة لهذا الأمر. فاليوم كما في أيام استير ومردخاي، سيزكي الرب حقه وشعبه ويقف في صفهم. AM 484.2