الأنبياء والملوك

57/70

الفصل الثامن والأربعون— ”لا بالقدرة ولا بالقوة“

بعدما رأى زكريا رؤيا يهوشع والملاك، حالاُ تلقى رسالة خاصة بعمل زربابل. فقد أعلن زكريا يقول: ”فرجع الملاك الذي كلمني وأيقظني كرجل أوقظ من نومه. وقال لي ماذا ترى؟ فقلت قد نظرت وإذا بمنارة كلّها ذهب وكوزها على رأسها وسبعة سرج عليها وسبع أنابيب للسرج التي على رأسها. وعندها زيتونتان أحداهما عن يمين الكوز والأخرى عن يساره. AM 474.1

”فأجبت وقلت للملاك المتكلّم معي ماهذا يا سيدي؟ .. فأجاب وكلّمني قائلاً هذه كلمة الرب إلى زربابل قائلاً لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود“. AM 474.2

”فأجبت ما هاتان الزيتونتان عن يمين المنارة وعن يسارها؟ ثم أجبت ثانية وقلت له ما سنبلتا الزيتون اللتان عند منقاري الذهب اللذين فيهما المساكب؟ فكلّمني قائلاً .. هاتان هما ابنا الزيت الواقفات لدى رب الأرض كلّها (الترجمة الكاثوليكية)“ (زكريا 4 : 1 — 6، 11 — 14). AM 474.3

نرى في هذه الرؤيا أن الزيتونتين اللتين أمام الله يمثلان بأنهما يفرغان الزيت الذهبي من أنفسهما بواسطة أنابيب من ذهب في كوز المنارة. ومن هذا تأخذ سرج القدس كفايتها لكي يشع منها نور لامع دائماً. وهكذا فمن الممسوحين الذين يقفون في حضرة الله ينبثق ملء النور والمحبّة والقوة الإلهية لشعب الله ليمكنهم من توزيع النور على الآخرين والفرح والانتعاش. فالذين اغتنوا هكذا عليهم أن يغنوا الآخرين من كنز محبة الله. AM 474.4

وعند إعادة بناء بيت الرب كان زربابل قد جاهد في وجه الصعوبات الكثيرة. فمنذ البداية كان الأعداء ”يرخون أيدي شعب يهوذا ويذعرونهم عن البناء“ ”وأوقفوهم بذراع وقوة“ (عزرا 4 : 4، 23). ولكن الرب تدخّل في صالح البنائين، وها هو الآن يتكلّم على لسان نبيّه قائلاً لزربابل: ”من أنت أيها الجبل العظيم؟ أمام زربابل تصير سهلاً. فيخرج حجر الزاوية بين الهاتفين كرامة كرامة له“ (زكريا 4 : 7). AM 475.1

في كل تاريخ شعب الله اعترضت طريقهم جبال من الصعوبات التي كان يبدو أنه يصعب تخطيها، فيما كانوا يحاولون تنفيذ مقاصد السماء. والرب يسمح بوجود مثل تلك العقبات لتكون محكاً للإيمان. فعندما نكون مُحاطين بالسياجات من كل جانب فهذا يكون أنسب وقت للثقة في الله وقوة روحه. إن تدريب الإيمان الحي معناه المزيد من القوة الروحية والنمو في الثقة التي لا تتزعزع وبهذه الكيفية تصير النفس قوة غالبة. فأمام مطالبة الإيمان تختفي العراقيل التي يضعها الشيطان في طريق المسيحي، لأن قوات السماء تخف لمعونته: ”لا يكون شيء غير ممكن لديكم“ (متى 17 : 20). AM 475.2

إن طريقة العالم هي أن يبدأ الإنسان بالأبهة والتفاخر. أما طريقة الله فهي أن نجعل يوم الأمور الصغيرة بدء نصرة الحق والبر المجيدة. أحياناُ يدرب الرب شعبه وخدامه بجلبه عليهم الخيبة والفشل الظاهر، وغرضه هو أن يعلّمهم كيف يتغلبون على الصعوبات. AM 475.3

يجرب الناس غالباً لأن يترددوا في وجه الاضطرابات والعراقيل التي تواجههم. ولكن إذا تمسكوا بثقتهم الثابتة إلى النهاية فالله سيجعل الطريق واضحاُ أمامهم. والنجاح سيكون حليفهم إذ يكافحون ضد الصعوبات. فأمام روح زربابل الباسلة وإيمانه الثابت تصير جبال الصعوبات العظيمة سهلاً. وذاك الذي ”يداه أسست البيت فيداه تتممانه“. ”فيخرج حجر الزاوية بين الهاتفين كرامة كرامة له“ (زكريا 4 : 9، 7). AM 476.1

إن السلطان والقوة البشريين لم يقيما كنيسة الله ولا يستطيعان تخريبها. فالكنيسة لم تبن على صخرة القوة البشرية بل على يسوع صخر الدهور، ”وأبواب الجحيم لن تقوى عليها“ (متى 16 : 18). إن حضور الله يكسب عمله وملكوته ثباتاً واستقراراً. وتقول كلمة الله: ”لا تتكلوا على الرؤساء ولا على ابن آدم“ (مزمور 146 : 3)، ”بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم“ (إشعياء 30 : 15). إن عمل الله المجيد المؤسس على مبادئ الحق الأبدي لن يصير إلى لا شيء أو يصير عبثاُ أو باطلاً، بل سيذهب من قوة إلى قوة: ”لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود“ (زكريا 4 : 6). AM 476.2

إن الوعد القائل: ”إن يدي زربابل قد أسستا هذا البيت فيداه تتممانه“ (زكريا 4 : 9)، قد تم حرفياً. ”وكان شيوخ اليهود يبنون وينجحون حسب نبوة حجي النبي وزكريا بن عدو. فبنوا وأكملوا حسب أمر إله إسرائيل وأمر كورش وداريوس وارتحشستا ملك فارس وكمل هذا البيت في اليوم الثالث من شهر آذار (الشهر الثاني عشر) في السنة السادسة من ملك داريوس الملك“ (عزرا 6 : 14، 15). AM 476.3

وبعد ذلك بقليل دشن الهيكل الذي أعيد بناؤه: ”وبنوا إسرائيل الكهنة واللاويون وباقي بني السبي دشنوا بيت الله هذا بفرح“ ”وعمل بنو السبي الفصح في الرابع عشر من الشهر الأول“ (عزرا 6 : 16، 17، 19). AM 477.1

إن الهيكل الثاني لم يكن مماثلاً للأول في فخامته، ولا تقدّس بتلك الظواهر المنظورة لحضور الله التي اختصّ بها الهيكل الأول. ولم تكن هناك مظاهر فوق العادة يمتاز بها تدشينه. ولم تر سحابة المجد لتملأ المقدس المقام حديثاً. ولم تنزل نار من السماء لتأكل الذبيحة التي على المذبح. ولم يعد الشكينا يحل بيت الكروبيم في قدس الأقداس. ولم يوجد هناك التابوت ولا كرسي الرحمة ولا لوحا الشهادة. ولم تر أية آية من السماء يعرف بها الكاهن السائل إرادة الرب. AM 477.2

ومع ذلك فهذا هو البيت الذي أعلن الرب عنه على لسان حجي النبي قائلاً: ”مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول“. ”أزلزل كل الأمم ويأتي مُشتهى كل الأمم فأملأ هذا البيت مجداُ قال رب الجنود“ (حجي 2 : 9، 7). ولمدى قرون عديدة حاول العلماء أن يبينوا في أي شيء تم وعد الله المُعطى لحجي، ومع ذلك فمجيء يسوع الناصري مشتهى كل الأمم قدّس أفنية الهيكل بحضوره الشخصي بالرغم من أن كثيرين أصرّوا أن كل ذلك لا ينطوي على أهمية خاصّة. لقد أعمى الكبرياء وعدم الإيمان أذهانهم كيلا يفهموا المعنى الحقيقي لكلام النبي. AM 477.3

وقد أكرم وتمجد الهيكل الثاني لا بسحابة مجد الرب بل بحضور يسوع الذي فيه يحلّ ”كل ملء اللاهوت جسدياً“ — الله نفسه ”ظهر في الجسد“ (كولوسي 2 : 9 ؛ 1 تيموثاوس 3 : 16). وقد زاد الهيكل الثاني وفاق في مجده على الهيكل الأول بكونه أكرم وتمجد بحضور المسيح شخصياُ في أثناء خدمته الأرضية، وفي هذا وحده فاق على الهيكل الأول. لقد أتى ”مُشتهى كل الأمم“ حقاُ إلى هيكله عندما كان رجل الناصرة يعلّم ويشفي في أروقته المقدّسة. AM 477.4