الأنبياء والملوك
الفصل السادس والأربعون— ”أنبياء الله يساعدونهم“
كان يسكن بالقرب من بني إسرائيل الذين كانوا دائبين على إعادة بناء الهيكل، جماعة السامريين الذين كانوا قد جاءوا نتيجة مصاهرة المستعمرين الوثنيين الذين أتوا من أقاليم أشور واختلطوا بالأسباط العشرة الباقين الذين ظلّوا في السامرة والجليل. وفي سنوات متأخرة بعد ذلك إدّعى السامريون بأنهم يعبدون الإله الحقيقي ولكنهم في قلوبهم وتصرّفاتهم كانوا وثنيين. صحيح أنهم ادّعوا بأن تماثيلهم هي فقط لتذكريهم بالإله الحقيقي خالق الكون ومع ذلك كانت قلوبهم تميل إلى إكرام التماثيل المنحوتة. AM 452.1
وفي إبّان فترة الرجوع عرف هؤلاء السامرين أنهم ”أعداء يهوذا وبنيامين“. وإذ سمعوا كأن ”أن بني السبي يبنون هيكلاً للرب، إله إسرائيل“، ”تقدّموا إلى زربابل ورؤوس الآباء“ وأبدوا رغبتهم في الاشتراك معهم في إقامته، قائلين لهم: ”نبني معكم لأننا نظيركم نطلب إلهكم وله قد ذبحنا من أيام أسرحدون ملك أشور الذي أصعدنا إلى هنا“. ولكن هذا الامتياز الذي طلبوه رُفض. فقال لهم شيوخ إسرائيل: ”ليس لكم ولنا أن نبني بيتأ لإلهنا ولكننا نحن وحدنا نبني للرب إله إسرائيل كما أمرنا الملك كورش ملك فارس“ (عزرا 41 : 1 — 3). AM 452.2
الذين اختاروا الرجوع من بابل كانوا أقليّة، والآن إذ تبرّعوا في عمل يبدو أنه فوق طاقتهم فإن جيرانهم الأقربين أرداوا تقديم المعونة لهم. وقد أشار السامريون إلى أنهم كانوا يعبدون الإله الحقيقي ويعبّرون عن رغبتهم في مشاركتهم الإمتيازات والبركات الخاصّة بخدمة الهيكل. وأعلنوا قائلين: ”إننا نظيركم نطلب إلهكم“ فنحن ”نبني معكم“. ولكن لو أن رؤساء اليهود قبلوا هذا العرض للمساعدة لكانوا قد فتحوا الباب على مصراعيه لدخول الوثنية. لقد فطنوا إلى رياء السامريين. وتأكد لهم أن المعونة التي تأتيهم من تحالفهم مع هؤلاء القوم ما كانت لتعتبر شيئاً يُذكر في مقابل البركة التي كانوا ينتظرون الحصول عليها باتباعهم لأوامر الرب الصريحة. AM 452.3
وفيما يختص بعلاقة إسرائيل التي كان يجب أن تكون بينهم وبين الشعوب المحيطة بهم كان الرب قد سبق فأعلن على لسان موسى قائلاً: ”لا تقطع لهم عهداً ولا تشفق عليهم ولا تصاهرهم .. لأنه يرد ابنك من ورائي فيعبد آلهة أخرى فيحمى غضب الرب عليكم ويهلككم سريعاً“. ”لأنك شعب مقدّس للرب إلهك وقد اختارك الرب لكي تكون له شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض“ (تثنية 7 : 2 — 4 ؛ 14 : 2). AM 453.1
أما النتيجة التي كانت تستتبع الدخول في صلة عهد مع الأمم المحيطة فقد أنبئ عنها بوضوح وصراحة. فأعلن موسى قائلاً: ”ويبددك الرب في جميع الشعوب من أقصاء الأرض إلى أقصاها، وتعبد هناك آلهة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك، من خشب وحجر. وفي تلك الأمم لا تطمئن ولا يكون قرار لقدمك، بل يعطيك الرب هناك قلباً مرتجفاً وكلال العينين وذبول النفس. وتكون حياتك معلّقة قدّامك، وترتعب ليلاً ونهاراً ولا تأمن على حياتك. في الصباح تقول يا ليته المساء، وفي المساء تقول يا ليته الصباح، من ارتعاب قلبك الذي ترتعب، ومن منظر عينيك الذي تنظر“. ولكنه يقدّم وعداً فيقول: ”ثم إن طلبت من هناك الرب إلهك تجده إذا التمسته بكل قلبك وبكل نفسك“ (تثنية 28 : 64 — 67 ؛ 4 : 29). AM 453.2
كان زربابل ورفاقه على علم بهذه الآيات وبكثير غيرها من أمثالها. وفي السبي المؤخر كانت لديهم براهين عديدة على إتمامها. والآن بعد ما تابوا عن الشرور التي جلبت عليهم وعلى آبائهم الأحكام التي قد أنبئ بها بصراحة على لسان موسى، وبعد أن عادوا بكل قلوبهم إلى الله وجددوا علاقة العهد معه، سُمح لهم بالرجوع إلى اليهودية لكي يجددوا ما آل إلى الخراب. فهل منذ بدء شروعهم في ذلك العمل يدخلون في عهد مع الوثنينن؟ AM 454.1
لقد قال الله ”لا تقطع معهم عهداً“. أما الذين مرّسوا أنفسهم منذ عهد قريب للرب من جديد عند المذبح المقام أمام خرائب هيكله فقد تحققوا من أن الخط الفاصل بين شعبه وبين العالم ينبغي أن يظل واضح المعالم بلا خطأ أو غموض. وقد رفضوا التحالف مع السامريين الذين مع علمهم بشروط شريعة الله. فقد رفضوا الخضوع لمطالبيها. AM 454.2
إن المبادئ المدوّنة الواردة في سفر التثنية لأجل تعليم إسرائيل ينبغي لشعب الله أن يتبعوها إلى انقضاء الدهر. فالنجاح الحقيقي موقوف على دوام عهد صلتنا بالله. علينا ألا نجازف بالمساومة على المبدأ بالتحالف مع الذين لا يتّقون الله. AM 454.3
هنالك خطر قائم من أن يفكر المعترفون بالمسيحية أنه لكي يكون لهم تأثير صالح على أهل العالم عليهم أن يتشبّهوا بهم إلى حد ما. ولكن بالرغم مما يبدو أن مثل هذا التصرف قد يقدّم ميزات كثيرة، إلا أنه ينتهي دائماً بالخسارة الروحية. على شعب الله أن يتحفظوا من كل تأثير خبيث يحاول التسلّل عن طريق الإغراءات الخادعة من أعداء الحق. إنهم غرباء ونزلاء في هذا العالم وهم يسيرون في طريق مكتنف بالمخاطر. فعليهم أن يحترسوا من الخدع الماكرة والإغراء الخادع الذي يحول بينهم وبين ولائهم لله. AM 454.4
الذي يُخشى خطره ليس هو العدو الذي يجاهر بعداوته لعمل الله، بل الذي يفعل ما فعله أعداء يهوذا وبنيامين، ويأتي بكلام التمليق الناعم والأقوال المعسولة ويتظاهر بالرغبة في التحالف الخالص مع أولاد الله. مثل هذا الإنسان لديه قوة فائقة على الخداع. على كل نفس أن تتحفظ عن أمثال هؤلاء لئلا تؤخذ رجلا الإنسان في الشرك المختفي المنصوب بمهارة دون أن يدري. وعلى الخصوص في هذه الأيام التي تقترب من نهاية التاريخ العالمي حيث يريد الرب أن يسهر أولاده سهراً متواصلاً لا تخاذل فيه ولا تراخي. ولكن مع أن هذا الصراع لا ينتهي، لا يترك أحد ليحارب وحده. فالملائكة يساعدون ويحرسون الذين يسلكون باتّضاع أما الله. إن ربنا لن يخيب ظنّ أحد يتّكل عليه. فإذ يقترب أولاده منه في طلب الحماية من الشرّ، فهو يرفع لهم راية تجاه العدو في رأفته ومحبّتة، ويقول: لا تمسهم لأنهم مسحائي. لقد نقشتهم على كفي. AM 455.1
فالسامريون إذ لم يكلّوا من مقاومتهم: ”كانوا يرخون أيدي شعوب يهوذا ويذعرونهم عن البناء، واستأجروا ضدّهم مشيرين ليبطلوا مشورتهم كل أيام كورش ملك فارس وحتى ملك داريوس“ (عزرا 4 : 4، 5). فقد أثاروا الشكوك في العقول التي ترتاب بسهولة بالأخبار الكاذبة والوشايات. ولكن قوات الشر ظلّت واقفة عند حدّها لسنوات عديدة، وكانت لشعب يهوذا الحرية لمواصلة عملهم. AM 455.2
وفيما كان الشيطان يحاول التأثير على السلطات العليا في مملكة مادي وفارس لإشعال نار سخطهم على شعب الله ومجافاتهم، كان الملائكة يعملمون في صالح المسبيين. كان صراعاً إهتمّ به كل سكّان السماء إذ آرانا النبي دانيال لمحة من هذا النضال الرهيب بين أجناد الخير وقوّات الشر. فقد ظلّ جبرائيل يصارعهم ضد قوات الظلام ثلاثة أسابيع كاملة محاولاً إعاقة القوات التي أثرّت على عقل كورش، وقبل نهاية الصراع خفى المسيح نفسه لنجده جبرائيل. وأعلن الملاك جبرائيل قائلاً: ”ورئيس مملكة فارس وقف مقابلي واحداً وعشرين يوماً وهوذا ميخائيل واحداً من الرؤساء الأولين جاء لإعانتي وأنا أبقيت هناك عند ملوك فارس“ (دانيال 10 : 13). وقد عُمل كل ما أمكن للسماء أن تفعله لأجل شعب الله، فتم النصر أخيراً. وأوقفت قوات العدو عند حدّها كل أيام كورش وكل أيام ابنه قمبيز الذي ملك حوالي سبع سنوات ونصف. AM 455.3
كانت هذه فرصة عجيبة لليهود. إذ أن قوات السماء العليا أثرت على قلوب الملوك. فكان على شعب الله أن يبذل أقصى جهوده لتنفيذ مرسوم كورش، ويعمل ما في وسعه لإعادة الهيكل وخدماته وليعودوا للاستيطان في بيوتهم في اليهودية. ولكن في يوم قوة الله برهن كثيرون على أنهم فقدوا حماستهم. كانت مقاومة أعدائهم قوية وعنيدة بحيث خارت قلوب البنائين تدريجياً. والبعض منهم لم يتمكنوا من نسيان المشهد الذي رأوه عند وضع حجر الأساس عندما عبر كثيرون عن عدم ثقتهم في المشروع. وإذ زادت جرأة السامريين بدأ كثيرون من اليهود يتساءلون فيما إذا كان الوقت قد جاء بعد للعودة للبناء. وعم هذا الشعور في كل مكان. وخاف كثير من الصناع وخارت قواهم بحيث عادوا إلى بيوتهم لممارسة أعمال حياتهم اليومية. AM 456.1
وفي إبان حكم قمبيز كان العمل في الهيكل يسير ببطء. وفي أثناء حكم سمرديس الكاذب الذي يُسمّى أرتحشستا (عزرا 4 : 7)، أوعز السامريون إلى ذلك المحتال المستهتر بأن يصدر منشوراُ ينهي به اليهود عن إعادة بناء هيكلهم ومدينتهم. AM 456.2
وظلّ الهيكل مهملاً مدة تزيد على العام وكاد يُهجر. وقد سكن الشعب في بيوتهم وسعوا في الحصول على النجاح الزمني. ولكن حالتهم كان يُرثى لها. فكانوا مهما كدّوا واشتغلوا لا يصيبون نجاحاً. وبدت كأن نفس عناصر الطبيعة تتآمر ضدهم لأنهم تركوا الهيكل خراباً بحيث أرسل الرب على ثروتهم جدباً وإضمحلالاً. لقد منحهم الله ثمار الحقل والبستان والحنطة والخمر والزيت علامة على رضاه. ولكن لكونهم استخدموا هذه العطايا السخيّة لإشباع أنانيتهم، فقد أخذت منهم. AM 457.1
هكذا كانت الحالة الراهنة في أوائل سنوات حكم داريوس هستاسبس. كان بنو إسرائيل في حالة يُرثى لها روحياً وزمنياً. ولطالما تذمّروا وشكوا، واختاروا بأن يجعلوا مصالحهم الذاتية في المقام الأول بينما هم في فتورهم وعدم مبالاتهم يرون هيكل الرب الخرب باق على حاله، حتى غاب عن أذهانهم غرض الله من رد سبيهم وإرجاعهم إلى اليهودية. وهذا ما كانوا يقولونه: ”إن الوقت لم يبلغ وقت بناء بيت الرب“ (حجي 1 : 2). AM 457.2
ولكن حتى في هذه الساعة المظلمة لم يمكن أولئك الذين وضعوا ثقتهم في الله بلا رجاء. فلقد أقام الرب النبيين حجي وزكريا لمواجهة تلك الأزمة. فأعلنا للشعب بشهاداتهما المثيرة علّة متاعبهم واضطرابهم، وأن حرمانهم من النجاح المادي كان نتيجة إهمالهم في إعطاء مصالح الله ومطالبه المقام الأول. فلو أمر بنو إسرائيل الله، وأبدوا نحوه الاحترام والكرم اللائقين بجلاله بناء بيته عملهم الأول وشغلهم الشاغل، لكانوا حصلوا على حضوره وبركته. AM 457.3
وقد وجّه حجي إلى الجماعة الخائرة العزم والضعاف القلوب هذا السؤال الفاحص: ”هل الوقت لكم أنتم أن تسكنوا في بيوتكم المغشاة، وهذا البيت خراب؟ والآن فهكذا قال رب الجنود اجعلوا قلبكم على طرقكم“. لماذا لم تعملوا إلا القليل؟ لماذا تهتمون ببيوتكم وتهملون بيت الرب؟ أين غيرتكم الأولى التي أظهرتموها نحو إعادة بناء بيت الرب؟ وماذا جنيتم من جرّاء خدمة الذات؟ إن رغبتكم في النجاة من الفقر جعلتكم تهملون الهيكل ولكن هذا الإهمال جلب عليكم ما كنتم تخشونه: ”زرعتم كثيراً ودخّلتم قليلاً — تأكلون وليس إلى الشبع، تشربون ولا تروون، تكتسون ولا تدفأون. والآخذ أجرة يأخذ أجرة لكيس منقوب“ (حجي 1 : 4 — 6). AM 458.1
حينئذ كشف لهم الرب بكلام فهموه، عن السبب الذي لأجله حلّت بهم تلك الفاقة. فقال: ”انتظرتم كثيراً وإذ هو قليل. ولما أدخلتموه البيت نفخت عليه. لماذا؟ يقول رب الجنود، لأجل بيتي الذي هو خراب، وأنتم راكضون كل إنسان إلى بيته. لذلك منعت السماوات من فوقكم الندى، ومنعت الأرض غلّتها. ودعوت بالحر على الأرض وعلى الجبال وعلى الحنطة وعلى المسطار وعلى الزيت وعلى ما تنبته الأرض، وعلى الناس وعلى البهائم وعلى كل أتعاب اليدين“ (حجي 1 : 9 — 11). AM 458.2
وقد ألح عليهم الرب قائلاً: ”اجعلوا قلبكم على طرقكم. اصعدوا إلى الجبل وآتوا بخشب وابنوا البيت فأرضى عليه وأتمجّد“ (حجي 1 : 7، 8). AM 458.3
لقد أثرت رسالة المشورة هذه والتوبيخ التي جاءت على لسان حجي في قلوب رؤساء شعب إسرائيل. وأحسّوا بأن الله كان جاداً معهم. ولم يتجاسروا على إغفال الوصية التي سمعوها مراراً — والتي مفادها أن نجاحهم الزمني والروحي موقوف على أمانتهم في إطاعة أوامر الله. فإذ تنبه زربابل ويهوشع وأيقظتهما إنذارات النبي قام كلاهما ”وكل بقية الشعب وسمعوا صوت الرب إلههم وكلام حجي النبي“ (حجي 1 : 12). AM 458.4
وحالما عزم الشعب على الطاعة تبعت كلام التوبيخ رسالة تشجيع: ”فقال حجي .. لجميع الشعب .. أنا معكم يقول الرب. ونبّه الرب روح زربابل بن شألتيئيل .. وروح يهوشع .. وروح كل بقية الشعب فجاءوا وعملوا الشغل في بيت رب الجنود إلههم“ (حجي 1 : 13، 14). AM 459.1
وفي أقل من شهر بعد استئناف العمل في الهيكل جاءت رسالة عزاء أخرى إلى البنائين. فقد قال الرب نفسه على لسان نبيّه: ”تشدّد يا زربابل .. وتشدّد يا يهوشع .. وتشدّدوا يا جميع شعب الأرض يقول الرب واعملوا فإني معكم يقول رب الجنود“ (حجي 2 : 4). AM 459.2
لقد أعلن الله في مسامع بني إسرائيل الذين كانوا حالين في خيامهم أمام جبل سيناء قائلاً: ”أسكن في وسط بني إسرائيل وأكون لهم إلهاً. فيعلمون أني أنا الرب إلههم الذي أخرجهم من أرض مصر لأسكن في وسطهم. أنا الرب إلههم“ (خروج 29 : 45، 46). والآن فالبرغم من حقيقة كونهم مراراً كثيرة ”تمرّدوا وأحزنوا روح قدسه“ (إشعياء 63 : 10)، فقد مدّ الله يده مرة أخرى عن طريق رسائل نبيّه ليخلّص. وكإعتراف منهم بتعاونهم مع قصده كان يجدّد عهده لهم بأن روحه سيمكث بينهم. فأمرهم قائلاً: ”لا تخافوا“. AM 459.3
والرب يعلن لأولاده اليوم قائلاً: ”تشدّدوا .. واعملوا فإني معكم“. إن للمسيحي دائماً معين قوي في شخص الرب. قد لا نعرف وسيلة الرب للمعونة، ولكن هذا ما نعلمه: إنه لن يخيب رجاء من يتّكلون عليه. ولو تحقق المسيحيون كم مرة مهّد الرب طرقهم، وأن مقاصد العدوّ نحوهم لن تتم لما كانوا يتعثّرون أو يتذمرّون. وكان إيمانهم يرتكز على الله وما كانت أية تجربة تقوى على زحزحتهم. وكانوا يعترفون به بوصفه حكمتهم وكفايتهم وكان يتمم ما يقصد أن يفعله بواسطتهم. AM 459.4
هذا وأن التوسلات الحارة والتشجيع المقدّم للشعب على لسان حجي تمّ التأكيد عليه وأضيف إليه ما قاله زكريا الذي أقامه الله ليقف إلى جانبه ويسانده في الإلحاح على الشعب في تلبية الأمر فيقوموا ويبنوا. كانت أولى رسائل زكريا تأكيداً بأن كلمة الرب لن تخيب أبداً، ووعداً بالبركة للذين يصغون إلى كلمة النبوة الثابتة. AM 460.1
مع أن أرض الإسرائيليين كانت مقفرة والمؤونة المخزونة لديهم كادت تنفذ بسرعة بالإضافة إلى الشعوب المعادية المحيطة بهم، فأنهم مع ذلك تقدّموا إلى الأمام بإيمان إستجابة لنداء رسل الله وعملوا بكل جد على إعادة بناء الهيكل الخرب. وكان العمل يتطلّب إتّكالاً ثابتاً على الله. فإذ حاول الشعب القيام بنصيبهم من العمل طلبوا إلى الله أن يجدّد قلوبهم وحياتهم بنعمته. وقد قدّمت لهم رسالة تلو رسالة على لسان حجي وزكريا. وأكّد الرب لهم أن إيمانهم سيكون له جزاء عظيم، وأن كلمة الله عن مجد الهيكل العتيد الذي كانوا يقيمون جدرانه لن تخيب. ففي هذا الهيكل ذاته سيظهر في ملء الزمان مشتهى كل الأمم بوصفه معلّم بني الإنسان ومخلّصهم. AM 460.2
وهكذا لم يترك البناؤون ليناضلوا وحدهم بل ”كان معهم أنبياء الله يساعدونهم“ (عزرا 5 : 2). وأعلن رب الجنود نفسه قائلاً: ”تشدّدوا .. واعملوا فإني معكم“ (حجي 2 : 4). AM 460.3
وجاء الوعد بالنجاح المادي مع التوبة القلبية والرغبة في التقدّم إلى الأمام بإيمان. فقد أعلن الرب قائلاً: ”فمن هذا اليوم أبارك“ (حجي 2 : 19). AM 461.1
أما زربابل قائدهم الذي مرّ بتجارب مرة لمدى سنوات منذ رجعوا من بابل، فقد قُدّمت له رسالة ثمينة جداً. فأعلن الرب قائلاً أنه سيأتي يوم فيه يسقط كل أعداء شعبه المختار: ”في ذلك اليوم يقول رب الجنود أخذك يا زربابل عبدي .. وأجعلك كخاتم لأني قد اخترتك“ (حجي 2 : 23). والآن أمكن لوالي إسرائيل أن يُدرك معنى تصرّفات العناية التي جعلته يجوز في وسط المخاوف والمثبطات والحيرة والارتباك. وأن يميّز قصد الله في ذلك كله. AM 461.2
وقد ظلّت هذه الرسالة الشخصية الموجّهة إلى زربابل باقية في الكتاب لأجل تشجيع شعب الله في كل عصر. إن لله قصداً في السماح للتجارب بأن تُصيب أولاده. فهو لا يقودهم في طريق آخر غير ما كانوا يختارون السير فيه لو أمكنهم أن يروا النهاية من البداية ويميزوا مجد الغرض الذي يتممونه. فكل ما يجلبه عليهم في الاختبار والتجربة يجلبه ليتقووا في العمل وفي احتمال الآلام لأجله. AM 461.3
لقد أيقظتهم الرسائل التي نطق بها حجي وزكريا في مسامع الشعب ليبذلوا أقصى جهدهم لأجل إعادة بناء الهيكل. ولكن فيما كانوا يشتغلون أزعجهم السامريون وغيرهم بوسائل مختلفة. ففي ذات مرة جاء بعض حكّام أقاليم مملكة مادي وفارس لزيارة أورشليم وسألوا عن اسم الشخص المفوّض إليه أمر إقامة البناء. فلو لم يكن اليهود في ذلك الحين متكلين على الرب لإرشادهم لكان هذا السؤال كفيلاً بأن يجلب عليهم النكبات: ”وكانت على شيوخ اليهود عيّن إلههم فلم يوقفوهم حتى وصل الأمر إلى داريوس“ (عزرا 5 : 5). فكان جوابهم على سؤال أولئك الحكّام حكيماً جداً حتى أنهم عزموا على كتابة رسالة إلى داريوس هستاسبس الذي كان ملكاً على مملكة مادي وفارس حينئذ، وجّهوا فيها انتباهه إلى المرسوم الأصلي الذي أصدره كورش وفيه أمر بإعادة بناء بيت الله في أورشليم وأن تُدفع نفقاته من خزانة الملك. AM 461.4
وقد بحث داريوس عن هذا المرسوم فوجده، لذلك أمر أولئك الحكّام الذين قدّموا الاستفسار بأن يتركوا أمر ذلك البناء سائراً نحو الإنجاز حتى يكمل. فقد أمر قائلاً: ”اتركوا عمل بيت الله هذا. أما والي اليهود وشيوخ اليهود فليبنوا بيت الله هذا في مكانه“. AM 462.1
ثم استطرد داريوس يقول: ”وقد صدر مني أمر بما تعلمون مع شيوخ اليهود هؤلاء في بناء بيت الله هذا. فمن مال الملك من جزية عبر النهر تعط النفقة عاجلاً لهؤلاء الرجال حتى لا يبطلوا. وما يحتاجون إليه من الثيران والكباش والخراف محرقة لإله السماء وحنطة وملح وخمر وزيت حسب قول الكهنة الذي في أورشليم لتُعط لهم يوماً فيوماً حتى لا يهدأوا عن تقريب روائح سرور لإله السماء والصلاة لأجل حياة الملك وبنيه“ (عزرا 6 : 7 — 10). AM 462.2
وفوق ذلك أمر الملك بفرض عقوبات صارمة رادعة على من يبدّلون هذا الأمر بأية كيفية، وختم أمره بهذا التصريح العظيم إذ قال: ”والله الذي أسكن اسمه هناك يهلك كلّ ملك وشعب يمدّ يده لتغيير أو لهدم بيت الله هذا الذي في أورشليم. أنا داريوس قد أمرت فليفعل عاجلاً“ (عزرا 6 : 12). وهكذا مهّد الرب الطريق لإكمال الهيكل. AM 462.3
قبل صدور هذا المرسوم بشهور ظلّ بنو إسرائيل يشتغلون بإيمان، وكان أنبياء الله دائبين على مساعدتهم بتقديم الرسائل في حينها، والتي بواسطتها ظلّ غرض الله نحو شعبه ماثلاً أمام أولئك العاملين. وبعد شهرين من تقديم آخر رسائل حجي المدونة في السفر رأى زكريا سلسلة من الرؤى عن عمل الله في الأرض. فجائت هذه الرسائل المقدّمة في صيغة أمثال ورموز في وقت حيرة وجزع عظيمين وكان لها معنى خاص للرجال الذين كانوا يتقدّمون باسم الرب. وقد تراءى للرؤساء كما لو أن الإذن المُعطى لليهود بإعادة البناء مزمع أن يُسحب، وقد بدا المستقبل مظلماً أمامهم جداً. فرأى الله أن شعبه بحاجة إلى إسناد وإنعاش قلوبهم بإعلان رأفته ومحبّته اللامحدودتين: AM 462.4
فرأى زكريا في رؤية وإذ ملاك الرب يسأل: ”يا رب الجنود إلى متى أنت لا ترحم أورشليم ومدن يهوذا التي غضبت عليها هذه السبعين سنة؟“ ثم أعلن زكريا قائلاً: ”فأجاب الرب الملاك الذي كلّمني بكلام طيب وكلام تعزية“. AM 463.1
”فقال لي الملاك الذي كلّمني ناد قائلاً هكذا قال رب الجنود غرت على أورشليم وعلى صهيون غيرة عظيمة. وأنا مغضب بغضب عظيم على الأمم المطمئنين لأني غضبت قليلاً وهم أعانوا الشر. لذلك هكذا قال الرب قد رجعت إلى أورشليم بالمراحم فبيتي يبنى فيها يقول رب الجنود ويمدّ المطمار على أورشليم“ (زكريا 1 : 12 — 6). AM 463.2
وقد أمر النبي الآن بأن يتنبأ قائلاً: ”هكذا قال رب الجنود أن مدني تفيض بعد خيراً والرب يعزي صهيون بعد ويختار بعد أورشليم“ (زكريا 1 : 17). AM 463.3
حينئذ رأى زكريا القوّات التي ”بدّدت يهوذا وإسرائيل وأورشليم“ مرموزاً إليها بأربعة قرون. وبعد ذلك حالاً رأى أربعة صنّاع يرمزون إلى القوات التي استخدمها الرب في إرجاع شعبه وبيت صلاته. (أنظر زكريا 1 : 18 — 12). AM 463.4
ثم قال زكريا ”فرفعت عيني ونظرت وإذ رجل وبيده حبل قياس. فقلت إلى أين أنت ذاهب؟ فقال لي لأقيس أورشليم لأرى كم عرضها وكم طولها. وإذ بالملاك الذي كلّمني قد خرج وخرج ملاك آخر للقائه. فقال له أجر وكلّم هذا الغلام قائلاً كالأعراء تسكن أورشليم من مثيرة الناس والبهائم فيها. وأنا يقول الرب أكون لها سور نار من حولها وأكون مجداً في وسطها“ (زكريا 2 : 1 — 5). AM 464.1
لقد أمر الله بأن تُبنى أورشليم من جديد. إن رؤيا قياس المدينة كانت تأكيداً بأنه سيعطي لشعبه المتألمين المجربين عزاء وقوة وأنه سيتم لهم وعود عهده الأبدي. وقد أعلن أن رعايته الحارسة ستكون: ”سور نار من حولها وبواستطهم كان مجد الله سيُعلن لكل بني الإنسان. وما كان يفعله لأجل شعبه كان سيُعرف في كل الأرض: ”صوتي واهتفي يا ساكنة صهيون لأن قدوس إسرائيل عظيم في وسطك“ (إشعياء 12 : 6). AM 464.2