الأنبياء والملوك

54/70

الفصل الخامس والأربعون — رجوع المسبيين

كان مجيء جيش كورش ووقوفهم أمام أسوار بابل، علامة عرف منها اليهود أن نجاتهم من السبي قد اقتربت. وقبلما ولد كورش بأكثر من قرن من الزمان ذكره الوحي المقدس بالإسم، وسجّل العمل الفعلي الذي كان عليه أن يقوم به في أخذ مدينة بابل على غرّة وإعداد الطريق لإطلاق المسبيين. وقد جاءت كلمة الله على لسان إشعياء تقول: AM 440.1

” هكذا يقول الرب لمسيحه لكورش الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه أمماً .. لأفتح أمامه المصراعين، والأبواب لا تُغلق. أنا أسير قدّامك والهضاب أمهد. أكسر مصراعي النحاس ومغاليق الحديد أقصف وأعطيك ذخائر الظلمة وكنوز المخابئ لكي تعرف أني أنا الرب الذي يدعوك باسمك إله إسرائيل“ (إشعياء 45 : 1 — 3). AM 440.2

في دخول جيش فاتح الفارسي على غير انتظار إلى قلب عاصمة بابل عن طريق قناة النهر التي حوّلت مياهه في إتّجاه آخر، وعن طريق الأبواب الداخلية التي تركت مفتوحة، في طمأنينة كاذبة وعدم مبالاة معيبة وبلا حماية، كان لليهود برهان كاف على قرب إتمام نبوّة إشعياء حرفياً، بسقوط مضطهديهم المفاجئ. كان ينبغي أن يكون هذا لهم علامة لا تُخطئ على أن الله يوجّه شؤون الأمم لصالحهم. لأن الكلمات التالية كانت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنبوة المشتملة على طريقة احتلال بابل وسقوطها: ” كورش راعي فكل مسيرتي يتمم. ويقول عن أورشليم ستُبنى وعن الهيكل ستؤسس“. ” أنا قد أنهضته بالنصر وكل طرقه أسهل. وهو يبني مدينتي ويطلق سبيي لا بثمن ولا بهدية قال رب الجنود“ (إشعياء 44 : 28 ؛ 45 : 13). AM 440.3

لم تكن هذه هي كل النبوات التي بنى عليها المسبيون أملهم في الخلاص. كانت نبوات إرميا في متناول أيديهم، وفيها ورد بكل وضوح طول المدة التي كان ينبغي أن تنقضي قبل رجوع شعب الله من بابل. فسبق الرب وأنبأ على لسان رسوله يقول: ”ويكون عند تمام السبعين سنة إني أعاقب ملك بابل وتلك الأمة يقول الرب على إثمهم وأرض الكلدانيين وأجعلهم خرباً أبدية“ (إرميا 24 : 12). AM 441.1

وسيُظهر الرب رحمته لبقية يهوذا إجابة للصلاة الحارة: ” فأوجد لكم يقول الرب وأرد سبيكم وأجمعكم من كل الأمم ومن كل المواضع التي طردتكم إليها يقول الرب وأردكم إلى الموضع الذي سبيتكم منه“ (إرميا 29: 14). AM 441.2

كثيراُ ما كان دانيال ورفاقه يتداولون هذه النبوات وسواها التي تحدّد قصد الله نحو شعبه. والآن إذ تتوالى الحوادث بسرعة وتشير إلى أن يد الله القوية تعمل عملها بين الأمم، فقد جعل دانيال يفكر تفكيراً خاصاً في المواعيد المعطاة لشعبه. وقاده إيمانه بالكلمة النبوية للدخول في اختبارات أنبأ بها الكتاب القديسون. فقد سبق الرب وأعلن قائلاً: ”إني عند تمام سبعين سنة لبابل أتعهدكم وأقيم لكم كلامي الصالح بردكم إلى هذا الموضوع. لأني عرفت الأفكار التي أنا مفتكر بها عنكم يقول الرب أفكار سلام لا شر لأعطيكم أخرى ورجاء، فتدعونني وتذهبون وتصلون إلي فأسمع لكم. وتطلبونني بكل قلبكم“ (إرميا 29 : 10 — 13). AM 441.3

قبل سقوط بابل بوقت قصير إذ كان دانيال يتأمل في هذه النبوات ويطلب من الله أن يفهمه معرفة الأزمنة والأوقات أعطيت له سلسلة من الرؤى عن قيام الممالك وسقوطها. ففي أول رؤيا كما هو مدون في الاصحاح السابع من دانيال، قدم له التعبير، ومع ذلك فلم يتضح للنبي كل شيء. وقد كتب عن اختباره في ذلك الحين فقال: ”أفكاري أفزعتني كثيراً وتغيرت على هيئتي وحفظت الأمر في قلبي“ (دانيال 7 : 28). AM 442.1

وبواسطة رؤيا أخرى سلط نور أشد على حوادث المستقبل. وفي نهاية هذه الرؤيا سمع دانيال: ”قدوساً واحداً يتكلم، فقال قدوس واحد لفلان المتكلم إلى متى الرؤيا؟“ (دانيال 8 : 13) فجاء الجواب: ”إلى ألفين وثلاث مئة صباح ومساء فيتبرأ القدس“ (دانيال 8 : 14)، فملأه هذا بالحيرة والارتباك. وقد توسل بحرارة لمعرفة معنى الرؤيا. فلم يستطيع أن يدرك علاقة سنوات السبي السبعين كما أنبأ بها إرميا بالألفين والثلاث مئة سنة التي سمع الزائر السماوي يعلن في الرؤيا أنها ستمر قبل تطهير مقدس الله. وقدم له الملاك جبرائيل تفسيراً جزئياً، ومع ذلك فعندما سمع النبي هذه الكلمات ”إن الرؤيا .. إلى أيام كثيرة“، شحب لونه ثم سجل اختباره قائلاً: ”أنا دانيال ضعفت ونحلت أياماُ ثم قمت وباشرت أعمال الملك. وكنت متحيراً من الرؤيا ولا فاهم“ (جانيال 8 : 26، 27). AM 442.2

وإذ كان دانيال ما يزال مثقل القلب بالنسبة لإسرائيل، عاد ليدرس نبوات إرميا التي كانت من الوضوح بحيث أنه فهم من شهاداتها المدونة في كتب، ”عدد السنين التي كانت عنها كلمة الرب إلى إرميا النبي لكمالة سبعين سنة على خراب أورشليم“ (دانيال 9 : 2). AM 442.3

فبإيمان يعتمد على كلمة النبوة الثابتة جعل دانيال يتوسل إلى الله طالباً سرعة إتمام هذه المواعيد. فقد توسل لأجل حفظ كرامة الله. وفي صلاته جعل نفسه واحداً ضمن الذين قصروا في إتمام قصد الله، معترفاُ بخطاياهم كأنها خطاياه. AM 443.1

وأعلن قائلاً: ” فوجهت وجهي إلى الله السيد طالباً بالصلوات والتضرعات بالصوم والمسح والرماد. وصليت إلى الرب إلهي واعترفت“ (دانيال 9 : 3، 4). فمع أن دانيال ظل يخدم الله طويلاً، وشهدت عنه السماء بأنه ”محبوب“ فقد وقف الآن أمام الله كخاطئ، مقدماً له الحاجة العظمى للشعب الذي أحبه. وكانت صلاته فصيحة في بساطتها وحارة جداً. اسمعه يصلي قائلاً: AM 443.2

” أيها الرب الإله العظيم المهوب حافظ العهد والرحمة لمحبيه وحافظي وصاياه. أخطأنا وأثمنا وعملنا الشر وتمردنا وحدنا عن وصاياك وعن أحكامك. وما سمعنا من عبيدك الأنبياء الذين لاسمك كلموا ورؤساءنا وآباءنا وكل شعب الأرض. AM 443.3

” لك يا سيد البر، أما لنا فخزي الوجوه كما هو اليوم لرجال يهوذا ولسكان أورشليم ولكن إسرائيل القريبين والبعيدين في كل الأراضي التي طردتهم إليها من أجل خيانتهم التي خانوك إياها.. AM 443.4

” للرب إلهنا المراحم والمغفرة لأننا تمردنا عليه “. ” يا سيد حسب كل رحمتك اصرف سخطك وغضبك عن مدينتك أورشليم جبل قدسك، إذ لخطايانا ولآثام آبائنا صارت أورشليم وشعبك عاراً عند جميع الذين حولنا. AM 443.5

” فاسمع الآن يا إلهنا صلاة عبدك وتضرعاته وأضيء بوجهك على مقدسك الخرب من أجل السيد. أمل أذنك يا إلهي واسمع، افتح عينيك وانظر خربنا والمدينة التي دعي اسمك عليها لأنه لا لأجل برنا نطرح تضرعاتنا أمام وجهك بل لأجل مراحمك العظيمة“. AM 444.1

”يا سيد اسمع، يا سيد اغفر، يا سيد اصغ واصنع. لا تؤخر من أجل نفسك يا إلهي لأن اسمك دعي على مدينتك وعلى شعبك“ (دانيال 9 : 4 — 9 ؛ 16 — 19). AM 444.2

وقد انحنت السماء إلى أسفل لتصغي إلى تضرعات النبي الحارة. وحتى قبلما أنهى صلاته وتضرعاته في طلب الغفران ورد السبي ظهر له جبرائيل العظيم مرة أخرى ووجه انتباهه إلى الرؤيا التي كان قد رآها قبل سقوط بابل وموت بيلشاصر. وحينئذ حدد له الملاك بالتفصيل مدة السبعين أسبوعاً التي كانت ستبدأ ”من خروج الأمر بتجديد أورشليم وبنائها“ (دانيال 9 : 25). AM 444.3

قدم دانيال صلاته ”في السنة الأولى لداريوس“ (دانيال 9 : 1) ملك مادي وفارس الذي كان قائده العسكري كورش قد انتزع من بابل قضيب ملك العالم. وكان حكم داريوس مكرماً من الله. لقد أرسل إليه الملاك جبرائيل: ”ليشدده ويقويه“ (دانيال 11 : 1). فلما مات بعد سقوط بابل بحوالي سنتين اعتلى كورش العرش وكان بدء ملكه هو اكتمال السبعين سنة منذ حمل نبوخذ نصر أول جماعة من العبرانيين من وطنهم في اليهودية إلى بابل. AM 444.4

لقد استخدم الله نجاة دانيال من جب الأسود لطبع عقل كورش الأعظم بتأثير صالح. فالصفات النقية التي تحلى بها رجل الله بوصفه رجل سياسي موهوب بعيد النظر جعلت ملك فارس يبدي له احتراماً وإكراماً ملحوظاً ويكرم حكمه على الأمور. والآن ففي ذات الوقت الذي قال الله أنه سيأمر بإعادة بناء هيكله، حرك قلب كورش كممثله ليفهم النبوات الخاصة به التي كان دانيال عالماً بها، ويمنح شعب اليهود حريتهم. AM 444.5

فإذا رأى الملك الأقوال التي دونت قبل ميلاده بأكثر من مائة سنة، والمنبئة بالكيفية التي ستسقط بها بابل، وإذ قرأ الرسالة المرسلة إليه من ملك الكون والقائلة: ” نطقت وأنت لم تعرفني. لكي يعلموا من مشرق الشمس ومن مغربها أن ليس غيري“. وإذ رأى أمام عينيه إعلان الإله السرمدي القائل: ”لأجل عبدي يعقوب وإسرائيل مختاري دعوتك باسمك لقبتك وأنت لست تعرفني“. ” وإذ تتبع قول الوحي القائل: ”أنا قد أنهضته بالنصر وكل طرقه أسهل. هو يبني مدينتي ويطلق سبيي لا بثمن ولا بهدية قال رب الجنود“ (إشعياء 45 : 5، 6، 4، 13)، وتأثر قلبه تأثراً عظيماً وعول على إتمام المأمورية التي كلفه بها الله. فأراد إطلاق سراح اليهود المسبيين وتقديم العون لهم لإعادة بناء هيكل الرب. AM 445.1

فأعلن كورش في نداء مكتوب نشر ”في كل مملكته“ يعبر عن رغبته في تدبير أمر رجوع العبرانيين وإعادة بناء هيكلهم. واعترف الملك بشكر في هذا المنشور العام قائلاً: ”جميع ممالك الأرض دفعها لي الرب إله السماء وهو أوصاني أن أبني له بيتاً في أورشليم التي في يهوذا. من منكم من كل شعبه؟ ليكن إلهه معه ويصعد إلى أورشليم .. فيبني بيت الرب إله إسرائيل (هو الإله) الذي في أورشليم. وكل من بقي في أحد الأماكن حيث هو مغترب فلينجده أهل مكانه بفضة وبذهب وبأمتعة وببهائم مع التبرع“ (عزرا 1 : 1 — 4). AM 445.2

وبعد ذلك أصدر أمره الخاص ببناء الهيكل فقال: ”ليبن البيت، المكان الذي يذبحون فيه ذبائح ولتوضع أسسه، ارتفاعه ستون ذراعاً. بثلاثة صفوف من حجارة عظيمة وصف من خشب جديد ولتعط النفقة من بيت الملك. وأيضاً آنية بيت الله، التي من ذهب وفضة التي أخرجها نبوخذنصر من الهيكل الذي في أورشليم وأتى بها إلى بابل فلترد وترجع إلى الهيكل الذي في أورشليم“ (عزرا 6 : 3 — 5). AM 445.3

وقد وصلت أنباء هذا المرسوم إلى أقصى أقاليم مملكة الملك، وفي كل مكان حيث وجد بنو السبي كان فرح عظيم. لقد كان كثيرون، كدانيال، يدرسون النبوات وكانوا يطالبون الله بأن يتدخل لأجل صهيون حسب وعده. والآن فها هي صلواتهم تستجاب. وبفرح قلبي عميق اشتركوا في إنشاد هذه التسبيحة: AM 446.1

”عندما رد الرب سبي صهيون صرنا مثل الحالمين. حينئذ امتلأت أفواهنا ضحكاً وألسنتنا ترنماً. حينئذ قالوا بين الأمم إن الرب قد عظم العمل مع هؤلاء. عظم الرب العمل معنا وصرنا فرحين“ (مزمور 126 : 1 — 3). AM 446.2

”فقام رؤوس آباء يهوذا وبنيامين والكهنة واللاويون مع كل من نبه الله روحه“، كان هؤلاء هو البقية الأمينة وعددهم يبلغ خمسون ألفاً من الأشداء من بين اليهود الذي في أرض السبي الذين عقدوا العزم على الاستفادة من هذه الفرصة العجيبة المقدمة لهم: ”ليصعدوا ليبنوا بيت الرب في أورشليم“. ولم يسمح لهم أصدقاؤهم بالذهاب خاوي الوفاض، بل ”كل الذين حولهم أعانوهم بآنية فضة وبذهب، وبأمتعة وببهائم وبتحف“. كما أضيف إلى هذه وإلى كثير من التبرعات الأخرى: ”آنية بيت الرب أخرجها نبوخذنصر من أورشليم .. أخرجها كورش ملك فارس عن يد مثردات الخازن .. خمسة آلاف وأربع مئة“، هذا هو عدها. لأجل استخدامها في الهيكل الذي كان سيعاد بناؤه من جديد (عزرا 1 : 5 — 11). AM 446.3

أما زر بابل (ويعرف أيضاً باسم شيشبصر) والذي كان من نسل الملك داود فقد وضع عليه كورش مسؤولية القيام بوظيفة الوالي على الجماعة الراجعة إلى اليهودية. وكان يصحبه يهوشع الكاهن العظيم. وقد قاموا برحلتهم الطويلة عبر الصحراء والقفر المترامي الأطراف بسلام. وتلك الجماعة الفرحة السعيدة إذ كانوا يشكرون الله على مراحمه العديدة، شرعوا في إعادة بناء ما كان قد هدم وخرب. وكان ”رؤوس الآباء“ في مقدمة من أسدوا يد العون للمساعدة في دفع نفقات إعادة بناء الهيكل. وقد نسج الشعب على منوالهم فقدموا بسخاء مما كانوا ادخروه لإنجاز العمل. (أنظر ما ورد في عزرا 2 : 64 — 70). AM 447.1

وبأسرع ما يمكن أقيم مذبح على موقع المذبح القديم في دار الهيكل. ولأجل الممارسات المرتبطة بتدشين هذا المذبح: ”اجتمع الشعب كرجل واحد“، وهناك اتحدوا في إعادة إقامة الخدمات المقدسة التي كانت قد انقطعت في وقت خراب أورشليم على يد نبوخذنصر. وقبلما انصرفوا ليسكنوا في البيوت التي كانوا يحاولون إعادتها: ”حفظوا أيضاُ عيد المظال“ (عزرا 1 : 3 — 6). AM 447.2

وقد فرحت البقية الأمينة بإقامة مذبح المحرقات الدائمة. وبكل إخلاص شرعوا في الاستعدادات اللازمة لأجل إعادة بناء الهيكل، وقد استجمعوا شجاعتهم عندما كانت تلك الاستعدادات تتقدم شهراً فشهراً. لقد ظلّوا محرومين من علامات حضور الله المنظورة سنوات طويلة. أما الآن وهم محاطون بأشياء كثيرة تذكرهم بإرتداد آبائهم المحزن كانوا يتوقون إلى علامة ثابتة على غفران الله ورحمته. كانوا يقدرون رضى الله أكثر من إستعادة أملاكهم وامتيازاتهم القديمة. لقد عمل لأجلهم عجباً فأحسوا بيقين حضوره بينهم، ومع ذلك فكانوا يتوقون إلى بركات أعظم. فبأمل مفرح مشرق تطلعوا إلى الأمام إلى الوقت الذي ينبثق مجده من داخل الهيكل بعدما يبنى. AM 447.3

فإذ كان العمال دائبين على إعداد مواد البناء، وجدوا بين الأطلال بعض الأحجار الهائلة الحجم التي كانت قد أتى بها إلى موقع الهيكل في أيام سليمان. فأعدت هذه الأحجار لأجل استخدامها، ثم أعدت مواد كثيرة جديدة، وسرعان ما تقدم العمل إلى أن جاء الوقت الذي كان ينبغي أن يوضع فيه حجر الأساس. وقد تم هذا في محضر آلاف كثيرة ممن اجتمعوا لمشاهدة تقدم العمل وللتعبير عن فرحهم بالمساهمة فيه. وإذ كانوا يضعون حجر الأساس في مكانه فالشعب ومعهم أبراق الكهنة وصنوج بني آساف: ”غنوا بالتسبيح والحمد للرب لأنه صالح لأن إلى الأبد رحمته على إسرائيل“ (عزرا 3 : 11). AM 448.1

والبيت الذي كان مزمعاً أن يقام من جديد أشارت إليه من قبل نبوات كثيرة فيما تختص برضى الله الذي قصد أن يظهره لصهيون، وكل من كانوا حاضرين عند وضع حجر الزاوية، كان ينبغي لهم أن يشتركوا بإخلاص في تلك المناسبة الروحية. ومع ذلك فقد اختلطت بالموسيقى وهتافات الحمد التي سمعت في ذلك اليوم السعيد أصوات أخرى متنافرة: ”كثيرون من الكهنة واللاويين ورؤوس الآباء والشيوخ الذين رأوا البيت الأول بكوا بصوت عظيم، عند تأسيس هذا البيت أمام أعينهم“ (عزرا 3 : 12). AM 448.2

لقد كان من الطبيعي أن يملأ الحزن قلوب هؤلاء الرجال الطاعنين في السن، عندما فكروا في عواقب تحجز قلوبهم الذي طال أمده. فلو كانوا قد أطاعوا الله هو ونسلهم وتمموا مقاصده نحو إسرائيل لما أخرب الهيكل الذي بناه سليمان، ولما كان هنالك موجب للسبي. ولكن بسبب جحودهم تشتتوا بين الأمم. AM 448.3

أما الآن فقد تبدلت الأحوال وافتقد الرب شعبه برحمته وسمح لهم بالعودة إلى أرضهم. كان ينبغي أن يفسح حزنهم على أخطاء الماضي المجال لمشاعر الفرح العظيم. لقد حرك الله قلب كورش لكي يساعدهم في إعادة بناء الهيكل، وكان هذا مما يدعوا إلى التعبير عن شكرهم العظيم. ولكن البعض أخفقوا في فهم أعمال عناية الله التي فتحت الطريق أمامهم. فبدلاً من الفرح عززوا أفكار الاستياء والخيبة. كانوا قد رأوا مجد هيكل سليمان، فحزنوا عندما رأوا حقارة البناء الذي يبنى حينئذ. AM 449.1

إن التذمر والشكوى والمقارنة غير الموافقة التي عملوها كان لها تأثير محزن على عقول كثيرين فارتخت أيدي البنائين. وقد بدأ الصناع يتساءلون فيما إذا كانوا يتقدمون في إقامة ذلك البناء الذي قوبل منذ البدء بانتقادات كثيرة، وكان مصدؤاً للأشجان والأحزان. AM 449.2

ومع ذلك فقد وجد بين تلك الجماعة كثيرون ممن لم يجعلهم إيمانهم العظيم ورؤياهم البعيدة المدى أن ينظروا إلى هذا المجد الأقل شأناً تلك النظرة المتبرمة: ”كثيرون كانوا يرفعون أصواتهم بالهتاف بفرح. ولم يكن الشعب يميز هتاف الفرح من صوت بكاء الشعب، لأن الشعب كان يهتف هتافاً عظيماً حتى أن الصوت سمع من بعد“ (عزرا 3 : 12، 13). AM 449.3

لو أن أولئك الذين لم يفرحوا عند وضع حجر أساس الهيكل، رأوا عواقب عدم إيمانهم في ذلك اليوم لفزعوا. إنهم لم يتحققوا من تأثير أقوال عدم الاستحسان والخيبة التي نطقوا بها، ولم يعرفوا كم سيؤخر تعبيرهم عن عدم رضاهم في إكمال بيت الرب. AM 449.4

إن فخامة الهيكل الأول والطقوس المهيبة في خدماته الدينية كانت موضوع فخر الشعب قبل السبي، إلا أن عبادتهم كان ينقصها في غالب الأحيان تلك الصفات التي يعتبرها الله جوهرية أكثر من غيرها. فمجد الهيكل الأول وجلال خدمته لم يجعلهم مقبولين لدى الله. لأنهم لم يقدموا له ذلك الشيء الوحيد الذي له قيمة عظيمة في عينيه. إنهم لم يقدموا له ذبيحة الروح المتواضعة المنسحقة. AM 450.1

عندما تغيب مبادئ ملكوت الله عن الأنظار يسرف الناس في الطقوس ويعتمدون عليها. عندما يهمل الناس في بناء الأخلاق وتنعدم من قلوبهم زينة الروح، وعندما يزدرون ببساطة التقوى والقداسة فإن الكبرياء وحب التظاهر والتفاخر يطلبان إقامة أبنية فخمة للكنائس وعمل زينات جميلة وإقامة طقوس مهيبة. ولكن الله لا يتمجد بهذا كله. فهو يقدر كنيسته لا على قدر إمتيازاتها الخارجية بل على قدر ما فيها من التقوى الخالصة التي تميزها عن العالم. وهو يقدرها بحسب نمو أعضائها في معرفة المسيح، وبحسب تقدمهم في الاختبار الروحي. إنه يبحث عن مبادئ المحبة والصلاح. إن جمال الفن لا يمكنه أن يضارع جمال الطبع والخلق الذي يجب أن يظهر في حياة من هم نواب المسيح. AM 450.2

يمكن أن تكون هنالك كنيسة هي أفقر الكنائس في البلاد، وقد لا تكون فيها أي جواذب أو مظاهر خارجية، ولكن إذا كان أعضائها متصفين بمبادئ المسيح وصفاته فإن الملائكة يشتركون معهم في عبادتهم. وسترتفع أصوات التسبيح والشكر في قلوبهم الفائضة بالحمد أمام الله قرباناً ورائحة طيبة. AM 450.3

”احمدوا الرب لأنه صالح لأن إلى الأبد رحمته. ليقل مفديو الرب الذين فداهم من يد العدو“. AM 451.1

”غنوا له أنشدوا بكل عجائبه افتخروا باسمه القدوس. لتفرح قلوب الذين يلتمسون الرب“. AM 451.2

”لأنه أشبع نفساً مشتهية وملأ نفساً جائعة خبزاً“ (مزمور 107 : 1، 2 ؛ 105 : 2، 3 ؛ 107 : 9). AM 451.3