الأنبياء والملوك

7/70

الفصل الرابع— عواقب التعدي

كانت من أهم الأسباب التي ساقت سليمان إلى الإسراف والظلم إخفاقه في الحصول على روح التضحية وتعزيز تلك الروح في نفسه. AM 50.1

عندما أخبر موسى الشعب وهم عند سفح جبل سيناء بأمر الرب قائلاً: ”فيصنعون لي مقدّساً لأسكن في وسطهم“ كانت استجابتهم مصحوبة بتقدمات لائقة: ”جاء كل من أنهضه قلبه وكل من سمّحته روحه“ وأتوا بتقدماتهم. كان لا بد من استعدادات عظيمة واسعة النطاق لأجل بناء المقدِس وتطلّبت الحالة الحصول على كمية عظيمة من أثمن المواد وأغلاها ولكن الرب لم يقبل غير التقدمات الطوعية: ”من كل من يحثه قلبه تأخذون تقدمتي“ (خروج 8:25، 21:35، 2:25)، هذا هو الأمر الذي ردّده موسى في مسامع الشعب مراراً. فالتكريس لله وروح التضحية كانا من أوائل الأمور اللازمة في إعداد مسكن لله العلي. AM 50.2

وقد قدمت دعوة مماثلة للتضحية عندما أوكل إلى سليمان ابنه مسئولية بناء الهيكل. وقدم داود إلى ذلك الجمهور المحتشد السؤال التالي: ”فمن ينتدب اليوم لملء يده للرب (أي التكريس للرب)؟“ (1 أخبار الأيام 5:29). كان ينبغي أن يظل هذا النداء للتكريس والخدمة الطوعية ماثلاً أبداُ في أذهان من أُسند إليهم أمر بناء الهيكل. AM 50.3

وهب الله رجالاً منتخبين براعة وحكمة لأجل إقامة الخيمة في البرية: ”وقال موسى لبني إسرائيل انظروا قد دعا الرب بصلئيل بن أوري بن حور من سبط يهوذا باسمه وملأه من روح الله بالحكمة والفهم والمعرفة وكل صنعة .. وجعل في قلبه أن يعلّم هو واهولياب .. من سبط دان. قد ملأهما حكمة قلب ليصنعها كل عمل النقّاش والحائك الحاذق والطرّاز .. وكل عمل النسّاج صانعي كل صنعة .. فيعمل بصلئيل وكل إنسان حكيم القلب قد جعل الرب فيه حكمة وفهماً“ (خروج 30:35 — 35، 1:36). وقد تعاون الأجناد السماويون مع الصنّاع الذين اختارهم الله بنفسه. AM 51.1

وقد ورث نسل هؤلاء الصناع إلى حد كبير المواهب التي مُنحت لأجدادهم. وظلّ رجال يهوذا ودان متواضعين لبعض الوقت لكنهم وبدون أن يشعروا تخلوا تدريجياُ عن الله وما عادوا يرغبون من خدمته بتجرّد وإخلاص. وقد طالبوا بأجور أعلى لقاء خدماتهم بسبب مهارتهم الفائقة في الفنون الدقيقة. واستُجيبت طلباتهم أحياناً إلا أنهم كانوا يجدون لهم عملاُ في أحيان أخرى في بلدان الأمم المحيطة بهم. وعوضاُ عن روح التضحية النبيلة التي ملأت قلوب أجدادهم انغمسوا في روح الطمع واشتهاء ما للغير لزيادة أملاكهم أكثر فأكثر ولإشباع رغباتهم الأنانية، استخدموا المهارة الممنوحة لهم من الله في خدمة الملوك الوثنيين وسخّروا مواهبهم لإتقان أعمال الأمم على ما في ذلك من إهانة لصانعهم. AM 51.2

وقد بحث سليمان بين هؤلاء الصناع عن رجل يكون رئيساً لهم للأشراف على إقامة الهيكل على جبل المُريّا. وقد سلمت للملك مواصفات وشروط دقيقة عن كل قسم في ذلك البناء المقدس. AM 51.3

كان يمكنه أن يلتفت إلى الله بايمان في انتظار مساعدين مكرّسين يمنحهم الله مهارة خاصة لينجزوا بدقة العمل المطلوب. ولكن سليمان غابت عن نظره هذه الفرصة لتقوية إيمانه بالله. فأرسل إلى ملك صور يطلب ”رجلاً حكيماً في صناعة الذهب والفضة والنحاس والحديد والأرجوان والقرمز والاسمانجوني ماهراُ في النقش مع الحكماء الذين (عنده) في يهوذا وفي أورشليم“ (2 أخبار الأيام 7:2). AM 52.1

وقد أجاب ملك فينيقية هذه الدعوة بإرسال حورام ”ابن امرأة من بنات دان وأبوه رجل صوري“ (2 أخبار الأيام 14:2). كان حورام هذا من نسل أهولياب عن طريق الأم الذي منذ مئات السنين كان الله قد وهبه حكمة خاصّة لإقامة الخيمة. AM 52.2

وبذلك ترأس جماعة صنّاع سليمان رجل لم تكن حوافزه بمنأى عن الرغائب الشخصية في تقديم خدمة لله. لقد خدم صنم المال، إله هذا العالم وتغلغلت في أنسجة كيانه ذاتها مبادئ الأنانية. AM 52.3

طلب حورام أجوراً ضخمة استغلالاً لمهارته التي لم تكن عادية. وسرت عدوى أطماعه تدريجياً إلى رفاقه في العمل فتقبّلوها. وإذ كانوا يشاركونه العمل يوماً بعد يوم بدأوا بالمقارنة بين أجورهم المتدنية وأجره المرتفع دون أن يفطنوا أنهم إنما يقومون بعمل مقدّس. فقد فارقتهم روح إنكار الذات وحل مكانها روح الطمع. وكانت نتيجة ذلك أنهم طالبوا بأجور أعلى فمنحت لهم. AM 52.4

تغلغلت التأثيرات الوبيلة التي بدأت تعمل إلى كل فروع خدمة الرب وامتدت إلى كل أنحاء المملكة. فالأجور المرتفعة التي طالب بها كثيرون وحصلوا عليها، أتاحت لهم الفرصة للانغماس في الترف والإسراف. وقد ظلم الأغنياء الفقراء ومرّروا حياتهم وكادت روح التضحية تنعدم. وكان يمكن إدراك المؤثّرات البعيدة المدى لهذا الاتجاه الذي هو أحد أهم أسباب ارتداد ذاك الذي كان مسحوباً قبل إذ أحكم بني الإنسان. AM 52.5

توجد أمامنا اليوم عبرة ذات دلالة عميقة في الفرق الشاسع بين روح الشعب وبواعثه الذين كانوا يبنون الخيمة في البرية وبين الذين اشتغلوا في إقامة هيكل سليمان فطلب ما للنفس وهو ما اتّصف به الصنّاع الذين كانوا يعملون في الهيكل له شبيه يماثله اليوم في الأنانية السائدة في العالم. فروح الشجع والتطلّع إلى أسمى المراكز وأغلى الأجور متفشية اليوم وقلّما نجد روح الخدمة الطوعية الفرحة روح إنكار الذات التي اتّصف بها الصنّاع الذين كانوا يعملون في إقامة الخيمة. هذه هي الروح النبيلة التي يجب أن تحرك أتباع يسوع وتحفزهم للعمل. لقد قدّم معلمنا الإلهي مثالاً عن الكيفية التي يجب على تلاميذه أن يعملوا بها فالذين أمرهم قائلاً: ”هلم ورائي فأجعلكم صيادي الناس“ (متى 19:4) لم يحدد لهم مبلغاً معيناً من المال مكافأة لهم على خدمتهم. كان عليهم أن يقاسموه إنكار الذات والتضحية. AM 53.1

إننا لا نخدم لقاء أجر نحصل عليه ينبغي ألا يكون الدافع الذي يحفزنا لخدمة الله فيه شيء من خدمة الذات. فالتكريس غير الأناني وروح التضحية كانا ولا يزالان من أوائل مطالب الخدمة المقبولة. فربّنا وسيدنا لا يريد أن يتداخل في عمله ولو خيط صغير من خيوط الأنانية علينا أن ندخل في جهودنا الذوق والمهارة والإتقان والحكمة التي كان إله الكمال يطلبها ممن كانوا يقيمون الخيمة الأرضية. ومع ذلك ففي كل جهودنا علينا أن نذكر أن أعظم المواهب وأسمى الخدمات تُقبل فقط عندما توضع الذات على المذبح ذبيحة حية. AM 53.2

ومن بين أسباب الانحراف والضلال عن المبادئ السوية القويمة التي أدّت في النهاية إلى سقوط الملك سليمان كان خضوعه لتجربة انتحال مجد الله لنفسه الذي هو من حق الله لا سواه. AM 54.1

فمنذ اليوم الذي أوكل فيه إلى سليمان عمل بناء الهيكل إلى يوم اكتماله كان غرضه الذي جاهر به هو هذا: ”أن يبني بيتاً لاسم الرب إله إسرائيل“ (2 أخبار الأيام 7:6). وقد اعترف اعترافاُ كاملاً بهذا الغرض أمام جماهير الشعب المجتمعين في وقت تدشين الهيكل. كما اعترف الملك في صلاته أن الرب قال: ”اسمي يكون فيه“ (1 ملوك 29:8). AM 54.2

ومن أقوى العبارات التي نطق بها سليمان تأثيراً في صلاة التدشين كان توسله إلى الله لأجل الغرباء الذين يأتون من بلدان بعيدة ليتعلّموا أكثر عن ذاك (الله) الذي قد ذاعت شهرته بين الأمم. فتوسّل الملك في صلاته قائلاً: ”لأنهم يسمعون باسمك العظيم وبيدك القوية وذراعك الممدودة“. كما صلّى سليمان لأجل كل واحد من العابدين الغرباء قائلاً: ”فاسمع .. وافعل حسب كل ما يدعوا به إليك الأجنبي لكي يعلم كل شعوب الأرض اسمك فيخافونك كشعبك ولكي يعلموا أنه قد دُعي اسمك على هذا البيت الذي بنيت“ (1 ملوك 42:8، 43). AM 54.3

وفي ختام الخدمة أوصى سليمان الشعب أن يكونوا أمناء ومخلصين للرب الإله، قائلاً: ”ليعلم كل شعوب الأرض أن الرب هو الله وليس آخر“ (1 ملوك 60:8). AM 54.4

إن شخصاً أعظم من سليمان هو الذي صمم الهيكل وقد أعلنت حكمة الله ومجده جليّين هناك. أما الذين لم يكن لهم علم بهذه الحقيقة فقد أعجبوا بسليمان وامتدحوه بوصفه المهندس والبنّاء إلا أنه رفض أن ينسب لنفسه شرف تصميم الهيكل وبنائه. AM 54.5

وهذا عين ما حدث عندما أتت ملكة سبأ لزيارته. فإذ سمعت عن حكمته وعظمة روعة الهيكل الذي بناه عقدت العزم على أن ”تمتحنه بمسائل“ لكي ترى بنفسها أعماله الشهيرة فإذ كان يصحبها موكب من العبيد والجمال حاملة ”أطياباً وذهباً كثيراً جداً وحجارة كريمة“ سافرت تلك السفرة الطويلة إلى أورشليم ”فاتت إلى سليمان وكلّمته بكل ما كان في قلبها“. تحدثت معه عن عجائب الطبيعة فأحاطها علماً عن إله الطبيعة الخالق العظيم الساكن في سماء السموات الذي يملك على الكل ”فأخبرها سليمان بكل كلامها. لم يكن أمراً مخفياً عن الملك لم يخبرها به“ (1 ملوك 1:1 — 3، 2 أخبار الأيام 1:9، 2). AM 55.1

فلما رأت ملكة سبأ كل حكمة سليمان والبيت الذي بناه .. لم يبق فيها روح بعد“ فاعترفت قائلة: ”صحيحاً كان الخبر الذي سمعته في أرضي عن أمورك وعن حكمتك. ولم أصدق الأخبار حتى جئت وأبصرت عيناي“. ”فهوذا النصف لم أخبر به. زدت حكمة وصلاحاً على الخبر الذي سمعته. طوبى لرجالك وطوبى لعبيدك هؤلاء الواقفين أمامك دائماً السامعين حكمتك“ (1 ملوك 4:10 — 8، 2 أخبار الأيام 3:9 — 6). AM 55.2

كانت الملكة في نهاية زيارتها قد تلقّت من سليمان علماً كاملاً عن مصدر حكمته ونجاحه إلى حد أنها اقتنعت بألا تمجد الإنسان بل أن تهتف قائلة: ”ليكن مباركاً الرب إلهك الذي سر بك وجعلك على كرسي شعبه. لأن الرب أحب شعبه إلى الأبد جعلك ملكاً لتجري حكماُ وبراً“ (1 ملوك 9:10). هذا هو الطابع الذي قصد الله أن يطبع به كل الشعوب. وعندما ”كان جميع ملوك الأرض يلتمسون وجه سليمان ليسمعوا حكمته التي جعلها الله في قلبه“ (2 أخبار الأيام 23:9). ظل سليمان بعض الوقت يكرم الله بكونه كان يوجه أنظارهم بكل وقار إلى خالق السماء والأرض حاكم المسكونة الكلي الحكمة. AM 55.3

لو ظل سليمان على تواضعه وحوّل انتباهه بعيداً عن نفسه إلى ذاك الذي منحه الحكمة والغنى والكرامة فما كان أعظم تاريخه حينئذ. ففي حين سجّل قلم الوحي فضائله فقد شهد أيضاً وبكل أمانة عن سقوطه فإذا ارتفع إلى أوج العظمة وكان محاطاً بهبات الغنى فقد توازنه وهوى. وإذ كان أهل العالم يمطرونه بسيل لا ينقطع من عبارات التمجيد والإطراء لم يستطع أخيراً أن يصمد أمامه. فالحكمة التي أودعها الله في قلبه لكي يمجّد بها معطيها ملأته غروراً وكبرياء وفي النهاية سمح للناس بالحديث عنه بوصفه الشخص الوحيد المستحق التمجيد والإكرام لأجل روعة وعظمة البناء الذي صمّم وأقيم لأجل إكرام ”إسم الرب“. AM 56.1

وهكذا حدث أن هيكل الرب صار يُعرف في كل الأمم على أنّه ”هيكل سليمان“. لقد أخذ الإنسان لنفسه المجد الذي هو من حق ذلك الذي هو ”فوق العالي عالياً“ (جامعة 8:5). فالهيكل الذي أعلن عنه سليمان قائلاً: ”اسمك قد دعي على هذا البيت الذي بنيت“ (2 أخبار الأيام 33:6). في أغلب الأحيان وحتى إلى اليوم لا يقال عنه إنه هيكل الرب بل ”هيكل سليمان“. AM 56.2

لا يمكن للإنسان أن يبدي ضعفاً أعظم من السماح للناس بأن ينسبوا إليه الإكرام على الهبات الممنوحة من السماء. المسيحي بالحق هو ذاك الذي يجعل الله الأول والآخر والأفضل في كل شيء. فحوافر الطموح لا تقلل من محبته لله، ولكنه بكل ثبات ومثابرة يجعل الكرامة تؤول إلى أبيه السماوي. فعندما نكون أمناء في تمجيد اسم الله تكون بواعثنا تحت هيمنة الله ونستطيع أن ننمّي قوانا الروحية والذهنية. AM 56.3

كان يسوع، المعلّم الإلهي، يمجد اسم أبيه السماوي على الدوام وهو علّم تلاميذه أن يصلوا قائلين: ”أبانا الذي في السموات ليتقدّس اسمك“ (متى 9:6). ولم يكونوا لينسوا أن يعترفوا قائلين: ”لأن لك .. المجد“ (متى 13:6). كان كذلك الشافي العظيم حريصاً على تحويل الانتباه عن نفسه إلى نبع قوّته حتى أن الجموع المندهشة عندما رأت ”الخرس يتكلمون والشل يصحون والعرج يمشون والعمى يبصرون“ لم يمجدوه بل ”مجدوا الله“ (متى 31:15). وفي الصلاة العجيبة التي قدّمها المسيح قبيل صلبه أعلن قائلاً: ”أنا مجّدتك على الأرض“. ثم صلّى قائلاً: ”مجّد ابنك ليمجدك ابنك أيضاً“، ”أيها الأب البار أن العالم لم يعرفك أما أنا فعرفتك وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني. وعرفتهم اسمك وسأعرفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم“ (يومحنا 1:17، 4، 25، 26). AM 57.1

هكذا قال الرب لا يفتخرن الحكيم بحكمته ولا يفتخر الجبار بجبروته ولا يفتخر الغني بغناه. بل بهذا ليفتخرن المفتخر بأنه يفهم ويعرفني أني أنا الرب الصانع رحمة وقضاء وعدلاً في الأرض لأني بهذه أُسر يقول الرب“ (إرميا 23:9، 24). AM 57.2

أسبّح اسم الله .. وأعظّمه بحمد“. ”أنت مستحق أيها الآب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة“. ”أحمدك يا رب إلهي من كل قلبي وأمجّد اسمك إلى الدهر“. ”عظّموا الرب معي ولنعلي اسمه معاً“ (مزمور 30:69، رؤيا 11:4، مزمور 12:86، 3:34). AM 57.3

إن دخول المبادئ المضللة التي قادت الناس بعيداً عن روح التضحية نحو تمجيد الذات صحبها شر شنيع آخر هو إفساد تدبير الله لأجل شعبه. كان الله يقصد أن يكون شعبه نوراً للعالم لكي يشع منهم مجد شريعته إذ تظهر في عمل الحياة. فلكي ينفّذ هذه الغاية جعل الأمة المختارة تشغل مركزاً استراتيجياً بين أمم الأرض. AM 57.4

لقد امتدّت المملكة في عهد سليمان من مدينة حماة في الشمال إلى مصر في الجنوب، ومن البحر الأبيض المتوسط إلى نهر الفرات. واخترقت هذه البلاد طرقاً تجارية عالمية كثيرة. وكانت قوافل قادمة من بلدان بعيدة تمر باستمرار عبر البلاد من جهة إلى جهة. بذلك قدّمت لسليمان وشعبه فرصة فيها يعلنون لكل الأمم صفات ملك الملوك ويعلّمونهم أن يكرموه ويطيعوه. كان يجب نشر هذه المعرفة في كل العالم. كان يمكن أن يرفع المسيح أمام الأمم عن طريق تعليم نظام الذبائح والمحرقات حتى يحيا كل من يريد الحياة. AM 58.1

إذا كان سليمان على رأس أمة أقيمت بل أفرزت لتكون نوراً للأمم المحيطة بها كان ينبغي أن يستخدم الحكمة الممنوحة له من الله وقوة التأثير في تنظيم وتوجيه حركة عظيمة لإنارة من كانوا يجهلون الله وحقه. بهذه الكيفية كان يمكن ربح جماهير كثيرة للولاء للوصايا الإلهية. وأن يُحفظ شعب الله ويُصان من الشرور التي كان الوثنيون يمارسونها، وأن يُكرم رب المجد إكراماً عظيماً. ولكن غاب القصد العظيم عن عيني سليمان. وأخفق في استخدام الفرص العظيمة المقدّمة له أحسن استخدام في إنارة من كانوا يمرّون باستمرار عبر بلاده أو من كانوا يقيمون في المدن الرئيسية. AM 58.2

واقتُلعت الروح الكرازية التي غرسها الله في قلب سليمان وقلوب كل المؤمنين الحقيقيين في شعبه وغرست في مكانها روح حب المتاجرة. واستُخدمت الفرص السانحة باتّصاله بأمم كثيرة في تعظيم نفسه. لقد حاول سليمان أن يقوّي مركزه السياسي ببناء مدن محصّنة عند مداخل القرى التجارية. فأعاد بناء مدينة جازر القريبة من يافا الواقعة على الطريق بين مصر وسوريا. كما بنى بين حورن الواقعة غربي أورشليم التي تتحكم في العابر التي في الطريق العام الذي يربط ما بين قلب اليهودية وجازر وشاطئ البحر ومجدّو الواقعة على طريق القوافل من دمشق إلى مصر ومن أورشليم إلى الشمال ”وتدمر في البرية“ (2 أخبار الأيام 4:8)، في طريق القوافل القادمة من الشرق. كل هذه المدن حُصنّت تحصيناً قوياَ. وزادت الميزات التجارية بسبب وجود منفذ على رأس البحر الأحمر وتحسنت بعمل ”سفن في عصيون جابر .. على شاطىء بحر سوف في أرض أدوم“. وكان هناك بحارة من صور مدربين جيداً هؤلاء ”مع عبيد سليمان“ سيّروا هذه السفن في البحر التي ”حملت ذهباً من أوفير فأتت من أوفير بخشب الصندل وبحجارة كريمة“ (2 اخبار الأيام 18:8، 1 ملوك 26:9، 28، 11:10). AM 58.3

وقد زاد دخل الملك وعدد كبير من رعاياه. ولكن ما أفدح الثمن الذي دفعوه. لقد أهمل عدد غفير جداً ممن كانوا يسافرون في الطرق العامة. وظلّوا على جهلهم بالرب بسبب جشع وقصر نظر من أودعت بين أيديهم أقوال الله. AM 59.1

ولكن الطريق الذي انتهجه المسيح عندما كان على الأرض كان على نقيض كبير لذاك الذي سار فيه سليمان. لم يستخدم المخلّص سلطانه في تعظيم ذاته مع أنه كان قد دُفع إليه كل سلطان ولم يكن يحلم قط بفتوحات دنيوية أو عظمة عاليمة. لا شيء من ذلك كلّه تمكّن من إفساد كمال خدمته لأجل بني الإنسان. فقد قال: ”للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه“ (متى 20:8). والذين دخلوا في خدمة المبدع السيّد استجابة لنداء الساعة يحسن بهم أن يدرسوا وسائله وطرقه. لقد أحسن يسوع استخدام الفرص التي توفّرت له في الطريق العام للسفر ومن كانوا يسافرون عليه. AM 59.2

لقد سكن يسوع أيام تنقلاته من مكان إلى آخر في كفرناحوم التي عرفت على أنّها ”مدينته“ (متى 1:9). فإذ كانت واقعة على الطريق العام الذي يربط بين دمشق وأورشليم ومصر والبحر الأبيض المتوسط كانت مدينة مناسبة كمركز عمل المخلّص. لقد مرّ أناس من بلدان كثيرة عبر المدينة أو مكثوا فيها لبعض الوقت للراحة. وهناك تقابل يسوع مع الناس من كل الأمم والطبقات، وحملت تعاليمه إلى بلدان أخرى ودخلت إلى عائلات كثيرة. بهذه الوسيلة استيقظ الإهتمام بالنبوّات التي تشير إلى المستقبل، إلى المسيّا، فاتّجه الإنتباه إلى المخلّص وقُدّمت رسالته للعالم. AM 60.1

ونجد في يومنا هذا أن الفرص للاحتكاك بالرجال والنساء من كل الطبقات والجنسيات كثيرة بل هي أكثر بكثير مما كانت في الأيام القديمة. فالطريق العامة للسفر زادت ألف ضعف. AM 60.2

وكما كان المسيح ينبغي لرسل العلي أن يتّخذوا مواقعهم في الطرق العمومية حيث يمكنهم أن يلتقوا بجماهير الناس العابرين من كل أرجاء العالم. وإذ يخفون الذات في الله كالمسيح عليهم أن يُلقوا بذار الإنجيل ويزرعوا الكلمة ويقدّموا للآخرين الحقائق الثمينة من الكتب المقدّسة التي تترسخ في العقل والقلب وتنمو للحياة الأبدية. AM 60.3

الدروس التي نتعلمها من إخفاق شعب الله في السنين التي فيها انحرف الملك والشعب عن غايتهم السامية التي دعوا لتحقيقها، هي دروس خطيرة. ففيما كانوا ضعفاء إلى حد الفشل، يتعيّن على شعب الله اليوم الذين هم نوّاب السماء والذين يكوّنون كنيسة المسيح الحقيقية أن يكونوا أقوياء، لأنه على عاتقهم يقع أمر تكملة العمل الذي أُسند إلى الإنسان وأن يعلنوا عن قدوم يوم الجزاء الأخير. ومع ذلك فإنّ التأثيرات ذاتها التي انتصرت على شعب الله إبّان حكم سليمان، ينبغي منازلتها اليوم. فقوّات عدو كل بر محصّنة تحصيناً قوياً ولا يمكننا الانتصار عليها إلا بقوة الله والصراع الذي أمامنا يستدعي تدريب روح إنكار الذات وعدم الثقة بالنفس بل الإعتماد على الله وحده واستخدام كل فرصة لربح النفوس وتخليصها استخداماً حكيماً. إن بركة الله ستحلّ على كنيسته عندما يتقدّم أفرادها متحدين ويكشفون لعالم قابع في ظلمة الضلال مجال القداسة كما يبدو جلياً في روح التضحية المسيحية، وفي تعظيم الأمور الإلهية أكثر من البشرية، وفي خدمة المحبّة التي لا تكل للذين هم في أشد الحاجة إلى بركات الإنجيل. AM 60.4