الأنبياء والملوك
الفصل الثالث والأربعون — الرقيب غير المنظور
(يعتمد هذا الفصل على ما ورد في الإصحاح الخامس من سفر دانيال) AM 416.1
قبيل انتهاء حياة دانيال بدأت تطورات عظيمة تحدث في المملكة التي أخذ إليها أسيراً هو وأصحابه العبرانيون منذ أكثر من ستين سنة خلت. فنبوخذنصر ”مرعب الأمم“ (حزقيال 28 : 7) كان قد مات. وبابل ”فخر كل الأرض“ رُزقت بحكّام غير حكماء، وخلفه ملوك طائشون. وبدأ ينتج عن ذلك انحلال تدريجي أكيد. AM 416.2
كانت بابل المتكبّرة موشكة على الانهيار بسبب غباوة وضعف بيلشاصر حفيد نبوخذنصر فإذ كان قد سُمح في صدر شبابه أن ينال نصيباُ من سلطة الملك فقد تباهى بهذا السلطان وارتفع قلبه ضد إله السماء. وقد أتيحت له فرص كثيرة لمعرفة إرادة الله وإدراك مسؤوليته في إطاعة تلك الإرادة. وعرف عن نفي جدّه وطرده من بين الناس بقضاء الله، كما كان ملماً باهتدائه وإرجاعه إلى وعيه وعرشه بكيفية معجزية. ولكن بيلشاصر سمح لمحبة الملذّات وتمجيد الذات بمحو الدروس التي كان ينبغي له ألا ينساها أبداً. لقد أضاع الفرص الممنوحة له تكرماً وأهمل استخدام الوسائل التي بين يديه ليغدوا أكثر دراية وعلماً بالحق. فما حصل عليه نبوخذنصر أخيراً بالمعاناة وشقاء النفس وبآلام وإذلال لا يمكن تقديرها، مر به بيلشاصر دون اكتراث. AM 416.3
ولم يطل له الزمن قبلما تراكمت عليه المعاكسات. فقد حوصرت مدينة بابل بجيش كان على رأسه كورش ابن أخت داريوس المادي الذي كان القائد الأعلى لجيوش مادي وفارس المتحدة. ولكن في داخل تلك القلعة التي كان يبدو أنها منيعة بأسوارها الهائلة وأبوابها التي من نحاس التي كان يحميها نهر الفرات، وحيث اختزنت فيها مؤونة وافرة، أحس ذلك الملك الخليع أنه في أمان، فقضى وقته في المرح والمجون والعربدة. AM 417.1
فقد أولم بيلشاصر في كبريائه وغطرسته وطيشه وإحساسه بالأمان: ”وليمة عظيمة لعظمائه الألف وشرب خمراً قدام الألف“ (عدد 1). وكل ملذات الحياة التي كان يمكن أن يوفرها الغنى والسلطان زادت ذلك المشهد بهاء. وكان بين الضيوف الذين حضروا إلى وليمة الملك بعض النسوة الجميلات الفاتنات. كما كان هناك رجال عباقرة مشهورون بذكائهم ونبوغهم. والأمراء والساسة الذين يجرعون الخمر كالماء حيث وقعوا تحت تأثيرها الذي يصيب شاربها بالضياع .. AM 417.2
فإذ خلع الملك عقله عن عرشه بإدمانه المخزي للخمر، وإذ سيطرت عليه نوازع وأهواء منحطّة صار هو نفسه في طليعة السكيرين المشاغبين. وفيما كانوا يأكلون ويسكرون ويعربدون: ”أمر بإحضار آنية الذهب والفضة التي أخرجها نبوخذنصر أبوه من الهيكل الذي في أورشليم ليشرب بها الملك وعظماؤه وزوجاته وسراريه“ (عدد 2). أراد الملك أن يبرهن أنه لا يوجد شيء أقدس من أن يستعمله: ”حينئذ أحضروا آنية الذهب .. وشرب بها الملك وعظماؤه وزوجاته وسراريه. كانوا يشربون الخمر ويسبّحون آلهة الذهب والفضة والنحاس والحديد والخشب والحجر“ (عدد 3، 4). AM 417.3
فلّما كان بيلشاصر يظن أن هناك شاهداً سماوياً يرى ويسمع عربدته الماجنة. وأن ذلك الشاهد الإلهي غير المنظور يراقب ذلك المشهد الخليع ويسمع الألفاظ البذيئة. وذلك المرح الدنس، ويرى الوثنية في أبشع صورها. ولكن بعد قليل جعل ذلك الصيف الذي لم يدعه أحد، جعل الجميع يحسّون بوجوده مُكرهين. فعندما بلغت العربدة مداها جاءت يد شاحبة وكتبت على حائط القصر حروفاً لمعت كالنار. وإن كانت غير مقروءة لدى الجميع المحتشد إلا أنها كانت إنذاراً بالهلاك لملك بيلشاصر الذي بدأ ضميره وضمير ضيوفه يبكتهم. AM 418.1
ثم سكن ذلك المرح الصاخب في حين جعل الرجال والنساء الذين استبدّ بقلوبهم رعب لا يدركون كنهه، يراقبون تلك اليد وهي تكتب ببطء كتابة غامضة. لقد مرّت أعمال حياتهم الشريرة أمامهم كما على شاشة كبيرة واسعة الأطراف، وبدا كأنهم قد استُدعوا للمثول أمام عرش دينونة الله السرمدي الذين كانوا يتحدّون قدرته وسلطانه حينئذ. ففي المكان الذي كانت تسوده البهجة وتُسمع من جوانبه الفكاهات التجديفية منذ لحظات، كُنت ترى الوجوه الشاحبة وتسمع صرخات الرعب. فعندما يخيف الله الناس فإنهم لا يستطيعون إخفاء شدة رعبهم. AM 418.2
كان بيلشاصر أشد الجميع رعباً. فكان هو المسؤول الأول عن ذلك العصيان ضد الله الذي بلغ في تلك الليلة حدوده القصوى في مملكة بابل. فقد شلّ الخوف الملك في حضرة الرقيب غير المنظور الذي كان نائباً عن الله الذي كان الملك ومدعووه قد تحدّوه وجدفوا على اسمه. لقد أيقظ ضميره ”فانحلّت خرز حقويه واصطكّت ركبتاه“ (عدد 6). لقد ترفع بيلشاصر في كفره ضدّ إله السماء محارباً إياه، ووثق في قوته، ولم يكن يظنّ أن أحداً يجرؤ أن يقول له: ”ماذا تفعل؟. أما الآن فقد تحقق من أنه لابد أن يقدّم حساباً عن وكالته المُسلّمة إليه وأنه لا يستطيع أن يقدّم عذراً مقبولاً عن الفرص التي أضاعها وأساء استخدامها، وموقف التحدي الذي وقفه من الله. AM 418.3
وعبثاً حاول الملك أن يقرأ تلك الكتابة المكتوبة بحروف من نار. أنه سر لا يمكنه سبر غوره، وقوة لا يمكنه فهمها أو مناقضتها. ففي يأسه اتّجه إلى حكماء مملكته في طلب العون. لقد رنّت صرخته واهتياجه في أرجاء دار الوليمة فسمعها المدعوون لإدخال السحرة والكلدانيين والمنجمين ليقرأوا الكتابة ووعدهم قائلاً: ”أي رجل يقرأ هذه الكتابة ويبيّن لي تفسيرها فإنّه يلبس الأرجوان وقلادة من ذهب في عنقه ويتسلّط ثالثاُ في المملكة“ (عدد 7). ولكن عبثاُ التجأ الملك إلى مشيريه الذين كان يثق بهم وعبثاً عرض عليهم مكافآته الثمينة. فالحكمة السماوية لا تُشترى ولا تُباع. ”إن كل حكماء الملك لم يستطيعوا أن يقرأوا الكتابة ولا أن يُعرّفوا الملك بتفسيرها“ (عدد 8). كانوا عاجزين عن قراءة تلك الحروف الغامضة كما عجز الحكماء في العصور السالفة عن تفسير أحلام نبوخذنصر. AM 419.1
حينئذ ذكرت الملكة الأم دانيال الذي منذ أكثر من نصف قرن مضى كان قد عرّف نبوخذنصر بحلم التمثال العظيم وبتعبيره، فقالت: ”أيها الملك عش إلى الأبد لا تفزعك أفكارك ولا تتغير هيئتك. يوجد في مملكتك رجل فيه روح الآلهة القدوسين. وفي أيام أبيك وجدت فيه نيرة وفطنة وحكمة كحكمة الآلهة، والملك نبوخذنصر .. جعله كبير المجوس والسحرة والكلدانيين والمنجمين من حيث أن روحاً فاضلة ومعرفة وفطنة وتعبير الأحلام وتبيين ألغاز وحل عقد وجدت في دانيال هذا الذي سمّاه الملك بلطشاصر فليُدع الآن دانيال فيبيّن التفسير. AM 419.2
”حينئذ أدخل دانيال إلى قدام الملك“ (عدد 10 — 13). فإذ حاول بيلشاصر أن يستعيد رباطة جأشه قال للنبي: ”أأنت هو دانيال من بني سبي يهوذا الذي جلبه أبي الملك من يهوذا؟ قد سمعت عنك أن فيك روح الآلهة وأن فيك نيرة وفطنة وحكمة فاضلة. والآن أدخل قدامي الحكماء والسحرة ليقرأوا هذه الكتابة ويعرّفوني بتفسيرها فلم يستطيعوا أن يبينوا تفسير الكلام. وأنا قد سمعت عنك أنك تستطيع أن تُفسّر تفسيراً وتحلّ عقداً. فإن استطعت الآن أن تقرأ الكتابة وتعرفني بتفسيرها فتلبس الأرجوان وقلادة من ذهب في عنقك وتتسلط ثالثاُ في المملكة“ (عدد 13 — 16). AM 420.1
وقد وقف دانيال في كرامة وهدوء بوصفه خادماً للعلي أمام ذلك الحشد الذي صعقه الرعب، ولم يتأثر بوعود الملك، كما لم ينطق بكلام التملّق بل وقف ليفسر رسالة تحكم بالدينونة. فقال: ”لتكن عطاياك لنفسك وهب هباتك لغيري. لكني أقرأ الكتابة للملك وأعرّفه بالتفسير“ (عدد 17). AM 420.2
بدأ النبي كلامه بأن ذكّر بيلشاصر بالأمور التي كان عالماً بها ولكنّها لم تعلّمه درس الوداعة الذي كان يمكن أن ينقذه. وتحدّث عن خطيئة نبوخذنصر وسقوطه ومعاملات الرب معه — الملكوت والجلال الذين أعطيا له وقضاء الله على كبريائه واعترافه الذي قدّمه بعد ذلك عن سلطان الله ورحمته، ثم جعل يوبّخ بيلشاصر على شرّه العظيم بكلام جريء ومؤثر. لقد وضع خطيئة الملك أمامه مبيناً له الدروس التي كان يمكن أن يتعلّمها ولكنّه لم يفعل. لم يتفهّم بيلشاصر جيداً اختبار جدّه، ولا التفت إلى إنذار الأحداث التي كانت ضرورية جداً بالنسبة إليه. لقد قدّمت له الفرصة لمعرفة الإله الحقيقي وإطاعته ولكنّه لم يتذكّر ذلك ولا اتّعظ به وكان موشكاً أن يحصد ثمار تمردّه وعصيانه. AM 420.3
وأعلن النبي قائلاً: ”وأنت يا بيلشاصر .. لم تضع قلبك مع أنك عرفت كل هذا، بل تعظّمت على رب السماء فأحضروا قُدّامك آنية بيته وأنت وعظماؤك وزوجاتك وسراريك شربتم بها الخمر وسبّحت آلهة الذهب والفضّة والنحاس والحديد والخشب والحجر التي لا تبصر ولا تسمع ولا تعرف. أما الله الذي بيده نسمتك وله كل طرقك فلم تمجده. حينئذ أرسل من قبله طرف اليد فكتبت هذه الكتابة التي سُطّرت“ (عدد 22 — 25). AM 421.1
وإذ التفت النبي إلى الرسالة المرسلة من السماء جعل يقرأها وإذ هي تقول ”منا منا تقيل وفرسين“. لم يعد أحد يرى اليد التي قد سطّرت هذه الكلمات الأربع التي ظلّت تلمع بوضوح رهيب. وها هم الناس يستمعون إلى كلام النبي الشيخ وهم يحبسون أنفاسهم وهو يقول: AM 421.2
”وهذا تفسير الكلام: منا، أحصى الله ملكوتك وأنهاه. تقيل، وزنت بالموازين فوجدت ناقصاً. فرس، قُسمت مملكتك وأعطيت لمادي وفارس“ (دانيال 5 : 25 — 28). AM 421.3
وفي ليلة الطيش والجنون الأخيرة تلك كان بيلشاصر وعظماؤه قد ملأوا مكيال إثمهم وإثم مملكة الكلدانيين، ولم يعد يمكن ليد الله الرادعة أن تبعد عنهم الشر المحدق بهم. لقد حاول الله عن طريق حوادث العناية الكثيرة أن يعلّم أولئك الناس أن يكرموا شريعته. وأعلن الله عن الذين وصل قضاؤهم إلى السماء قائلاً: ”داوينا بابل فلم تشف“ (إرميا 51 : 9). فبسبب إنحراف القلب البشري الغريب رأى الله أخيراً أنه لابد من أن يقضي قضاءه الذي لا يُرد. فكان لابد من سقوط بيلشاصر وأن تتسلّم ملكه أيد أخرى. AM 421.4
عندما كفّ النبي عن الكلام أمر الملك بمكافأته بالكرامات التي قد وعد بها، وطبقاً لهذا: ”ألبسوا دانيال الأرجوان وقلادة من ذهب في عنقه ونادوا عليه أن يكون متسلطاً ثالثاً في المملكة“ (عدد 29). AM 422.1
قبل ذلك التاريخ بأكثر من قرن من الزمان سبق الوحي فأنبأ بأن ”ليل .. سرور“ الذي فيه سيتنافس الملك ومشيروه معاً في التجديف على الله سينقلب فيه التجديف على المجدف فجأة، ويتحول إلى زمن خوف وهلاك. والآن تحدث في تتابع سريع أحداث جسام الواحدة تلو الأخرى تماماً كما تحدّثت الكتب النبوية قبلما ولد أولئك الرؤساء وفي هذه الرواية بسنوات عدة. AM 422.2
وإذ كان الملك جالساً في دار الوليمة محاطاً بمن قد خُتم على هلاكهم، يأتيه رسول ينبئه ”بأن مدينته قد أخذت“ من قبل الأعداء الذي ظنّ أنه بمأمن ضدّ حيلهم، ”وأن المعابر قد أمسكت .. ورجال الحرب اضطربت“ (إرميا 51 :31، 32). فحينما كان هو وشرفاؤه يشربون بآنية الرب المقدّسة ويسبّحون آلهة الفضّة والذهب. حول جيش مادي وفارس نهر الفرات عن مجراه وتقدّموا إلى قلب المدينة المفتوحة. فالآن يقف جيش كورش تحت جدران القصر وقد امتلأت المدينة بجنود العدو: ”كالغوغاء“ (إرميا 51 : 14). وكانت هتافات الانتصار المنطلقة من حناجرهم أعلى من صرخات اليأس التي كانت تصدر عن هؤلاء الناس المعربدين والمذهولين في آن. AM 422.3
”في تلك الليلة قُتل بيلشاصر ملك الكلدانيين“ وجلس على العرش ملك غريب. (عدد 30). AM 422.4
لقد تكلّم الأنبياء العبرانيون بوضوح عن كيفية سقوط بابل. وأعلن لهم الله كما في رؤيا أحداث المستقبل فصاحوا يقولون: ”كيف أخذت شيشك وأمسكت فخر كل الأرض، كيف صارت بابل دهشاً في الشعوب“، ”كيف قطعت وتحطمت مطرقة كل الأرض كيف صارت بابل خربة بين الشعوب“، ”من القول أخذت بابل رجفت الأرض وسُمع صراخ في الشعوب“. AM 423.1
”سقطت بابل بغتة وتحطّمت“. ”لأنه جاء عليها على بابل المخرب وأخذ جبابرتها وتحطمت قسيهم لأن الرب إله مجازاة يكافئ مكافأة. وأسكر رؤساءها وحكماءها وولاتها وحكامها وأبطالها فينامون نوماً أبدياً ولا يستيقظون يقول الملك، رب الجنود اسمه. AM 423.2
”قد نصبت لك شركاً فعلقت يا بابل وأنت لم تعرفي. قد وجدت وأمسكت لأنك قد خاصمت الرب. فتح الرب خزانته وأخرج آلات رجزه لأن للسيد الرب الجنود عملاً في أرض الكلدانيين. AM 423.3
”هكذا قال رب الجنود أن بني إسرائيل وبني يهوذا معاً مظلومون وكل الذين سبوهم أمسكوهم. أبوا أن يطلقوهم. وليهم قوي رب الجنود اسمه، يقيم دعواهم لكي يريح الأرض ويزعج سكان بابل“ (إرميا 51 : 42 ؛ 50 : 23، 46 ؛ 51 : 8، 56، 57 ؛ 50 : 24، 25، 32، 34). AM 423.4
وهكذا فإن: ”أسوار بابل العريضة تدمر تدميراً وأبوبها الشامخة تُحرق بالنار“. وهكذا أبطل ”(رب الجنود) تعظّم المستكبرين“، ووضع ”تجبر العتاة“. وقد حكم الرب على ”بابل بهاء الممالك وزينة فخر الكلدانيين أنها تصير كتقليب الله سدوم وعمرة. لا تعمر إلى الأبد ولا تسكن إلى دور فدور. ولا يخيّم هناك أعرابي ولا يربض هناك رعاة بل تربض هناك وحوش الفقر ويملأ اليوم بيوتهم. وتسكن هناك بنات النعام وترقص هناك معز الوحوش وتصيح بنات آوى في قصورهم“. ”واجعلها ميراثاً للقنقذ وآجام مياه وأكنسها بمكنسة الهلاك يقول رب الجنود“ (إرميا 51 : 58 ؛ إشعياء 13 : 11، 19، 22 ؛ 14 : 23). AM 423.5
كان الرقيب الإلهي قد أصدر حكمه على آخر ملوك بابل كمثال لأول ملوكها قائلاً: ”لك يقولون .. إن المُلك قد زال عنك“ AM 424.1
”انزلي واجلسي على التراب أيتها العذراء ابنة بابل. اجلسي على الأرض بلا كرسي .. أجلسي صامتة وادخلي في الظلام با ابنة الكلدانيين. لأنك لا تعودين تدعين سيّدة الممالك. AM 424.2
”غضبت على شعبي، دنست ميراثي ودفعتهم إلى يدك. لم تصنعي لهم رحمة .. وقلت إلى الأبد أكون سيدة حتى لم تضعي هذه في قلبك، لم تذكري آخرتها. AM 424.3
”فالآن اسمعي هذه أيتها المتنعّمة الجالسة بالطمأنينة القائلة في قلبها أنا وليس غيري. لا أقعد أرملة ولا أعرف الثكل. فيأتي عليك هذان الاثنان بغتة في يوم واحد الثكل والترمل. بالتمام قد أتيا عليك مع كثرة سحورك مع وفور رقاك جداً. وأنت اطمأننت في شرك، قلت ليس من يراني. AM 424.4
”حكمتك ومعرفتك هما افنتاك فقلت في قلبك أنا وليس غيري. فيأتي عليك شر لا تعرفين فجره وتقع عليك مصيبة لا تقدرين أن تصدّيها وتأتي عليك بغتة تهلكة لا تعرفين بها. AM 424.5
”قفي في رقاك وفي كثرة سحورك التي فيها تعبت منذ صباك. ربما يمكنك أن تنفعي. ربما ترعبين. قد ضعفت من كثرة مشوراتك. ليقف قاسمو السماء الراصدون النجوم المعرفون عند رؤوس الشهور ويخلصوك مما يأتي عليك. ها إنهم قد صاروا كالقش .. لا ينجون أنفسهم من يد اللهيب .. وليس من يخلصك“ (إشعياء 47 : 1 — 15). AM 424.6
إن كل أمة ظهرت على مسرح التاريخ سُمح لها بأن تشغل مكانها على الأرض ليتقرر ما إذا كانت ستتمم مقاصد الرقيب القدوس. لقد تتبعت النبوّات قيام امبراطوريات العالم العظيمة وازدهارها — بابل ومادي وفارس واليونان وروما. وقد أعاد التاريخ نفسه بالنسبة إلى تلك الإمبراطوريات كما بالنسبة إلى الأمم الأقل سطوة وبأساً. فكانت لكل منها فترة اختبار فأخفقت كل منهن، فذوى مجدها وفارقتها قوتها. AM 425.1
في حين رفضت الأمم مبادئ الله وجلبت بذلك على نفسها الدمار، فإن غرض الله المسيطر ظلّ ساري المفعول على مدى الأجيال. هذا ما رآه النبي حزقيال في الرمز المُعطى له وهو في سبيه في أرض الكلدانيين، عندما رأى بعينيه الذاهلتين صورة الرموز التي أعلنت عن القوة المسيطرة التي تتدخل في شؤون ملوك الأرض. AM 425.2
فعلى ضفاف نهر خابور رأى حزقيال ريحاً عاصفة كان يبدو وأنها آتية من الشمال: ”سحابة عظيمة ونار متواصلة وحولها لمعان ومن وسطها كمنظر النحاس اللامع“. ”وكان هنالك عدد من البكرات المتقاطعة والمتداخلة في بعضها بعضاً تحركها أربعة كائنات حيّة. وفوق هذه كلّها وفي مكان عال جداً: ”شبع عرش كمنظر حجر العقيق الأزرق. وعلى شبه العرش شبه كمنظر إنسان عليه من فوق“، ”فظهر في الكروبيم شبه يد إنسان من تحت أجنحتها“ (حزقيال 1 : 4، 26 ؛ 10 : 8). وكانت البكرات معقدة في نظامها حتى كان يبدو للناظر لأول وهلة أنها على حالة تشويش وإرتباك، ومع ذلك فقد كانت تسير في تناسق تام. ذلك أن بعض الكائنات السماوية التي كانت تسندها وتقودها اليد التي تحت أجنحة الكروبيم، كانت تحرك تلك البكرات وتسوقها، وفوقها على العرش الذي من ياقوت أزرق كان يوجد الإله السرمدي، وحول العرش كان يوجد قوس، هو رمز رحمة الله. AM 425.3
وكما كانت التعقيدات التي كانت تشبه البكرات تحت قيادة وإرشاد اليد التي تحت أجنحة الكروبيم، كذلك التعقيد الذي يُرى في الأحداث البشرية هو تحت سيطرة الله. ففي وسط المنازعات والصخب والضجيج الذي يحدثه في الأمم فالله الجالس فوق الكروبيم لا يزال في يده زمام شؤون هذه الأرض. AM 426.1
يتحدث إلينا تاريخ الأمم في هذه الأيام كيف أن الله عيّن لكل أمة ولكل فرد مكاناً في تدبيره العظيم. واليوم يُمتحن الناس والأمم بواسطة ثقل الفادن (ميزان الخيط) الذي في يد ذاك الذي لا يُخطئ أبداً. فالجميع يقررون مصيرهم بمحض اختيارهم. والله مسيطر على الجميع لأجل إتمام مقاصده. AM 426.2
إن النبوات التي أوردها الإله العظيم في كتابه والتي تربط حلقة بحلقة في سلسلة الأحداث من الأزل إلى الأبد. ترينا أين نحن اليوم من موكب الدهور وما يمكننا أن نتوقع حدوثه في الأيام القادمة. فكل ما أنبأت النبوات بأنه سيحدث في عصرنا الحاضر قد سُطّر على صفحات التاريخ. ولنا أن نتأكّد أن كل ما سيحدث في المستقبل سيتم في دوره ونظامه. AM 426.3
واليوم تعلن علامات الأزمة أننا واقفون على عتبة أحداث عظيمة خطيرة. إن كل شيء في عالمنا هو في حالة اهتياج. وأمام عيوننا تتم نبوة المخلّص عن الحوادث التي تسبق مجيئه: ”سوف تسمعون بحروب وأخبار حروب .. تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة، وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن“ (متى 24 : 6، 7). AM 426.4
إن الوقت الحاضر هو وقت اهتمام شامل لجميع الناس الأحياء. فالملوك والساسة والذين يشغلون مراكز ذات مسؤولية وسلطة، رجال ونساء الفكر من كل الطبقات، الجميع وجّهوا انتباههم إلى الأحداث الجارية حولنا إنّهم يراقبون العلاقات الكائنة بين الأمم، وشدّة وازدياد التحكّم في كلّ عنصر أرضي. وهم يسلّمون بأن شيئاً عظيماً وحاسماً سوف يحدث — وأن العالم واقف على شفا أزمة هائلة. AM 427.1
والكتاب المقدّس وحده يعطينا فكرة صحيحة عن هذه الأمور. ففيه تعلن المشاهد الختامية العظيمة لتاريخ عالمنا. أحداث قد ألقت ظلالها أمامها من قبل والتي تهز الأرض من صوت اقترابها وتجعلها ترتعد كما تجعل قلوب الناس تخذلهم من هول الخوف. AM 427.2
”هوذا الرب يخلي الأرض ويفرغها ويقلب وجهها ويبدد سكّانها .. لأنهم تعدّوا الشرائع، غيّروا الفريضة، نكثوا العهد الأبدي. لذلك لعنة أكلت الأرض وعوقب الساكنون فيها“ (إشعياء 24 : 1 — 6). AM 427.3
”آه على اليوم لأن يوم الرب قريب. يأتي كخراب من القادر على كل شيء .. عفنت الحبوب تحت مدرها خلت الأهراء. انهدمت المخازن لأنه قد يبس القمح. من تئن البهائم! هامت قطعان البقر لأن ليس لها مرعى. حتى قطعان الغنم تفنى“. ”الجفنة يبست والتينة ذبلت. الرمانة والنخلة والتفاحة، كل أشجار الحقل يبست. إنه قد يبست البهجة من بني البشر“ (يوئيل 1 : 15 — 18، 12). AM 427.4
”توجعني جدران قلبي .. لا أستطيع السكوت. لأنك قد سمعت يا نفسي صوت البوق وهتاف الحرب. بكسر على كسر نودي لأنه قد خرجت كل الأرض“ (إرميا 4 : 19، 20). AM 428.1
”آه! لأن ذلك اليوم عظيم وليس مثله. وهو وقت ضيق على يعقوب، ولكنه سيُخلّص منه“ (إرميا 30 : 7). AM 428.2
”لأنك قلت أنت يا رب ملجإي. جعلت العلي مسكنك لا يلاقيك شر ولا تدنو ضربة من خيمتك“ (مزمور 91 : 9، 10). AM 428.3
”يا بنت صهيون .. هناك يفديك الرب من يد أعدائك. والآن قد اجتمعت عليك أمم كثيرة الذين يقولون لتتدنس ولتتفرس عيوننا في صهيون. وهم لا يعلمون أفكار الرب ولا يفهمون قصده“ (ميخا 4 : 10 -12). لن يخذل الله كنيسته أو يتخلى عنها في ساعة الخطر القصوى. لقد وعد بالإنقاذ إذ قال: ”هأنذا أردّ سبي خيام يعقوب وأرحم مساكنه“ (إرميا 30 : 18). AM 428.4
حينئذ يتم قصد الله، وكل من تحت الشمس سيكرمون مبادئ ملكوته. AM 428.5
* * * * *