الأنبياء والملوك

50/70

الفصل الثاني والأربعون — العظمة الحقيقية

(يعتمد هذا الفصل على ما ورد في دانيال الإصحاح الرابع) AM 409.1

كان نبوخذنصر ينسب مجد ملكه وبهاء سلطانه أحياناً إلى فضل الرب وإحسانه رغم ذروة الكرامة العالمية التي بلغها واعترف الوحي به على أنه ملك الملوك. (حزقيال 26 : 7). وكذلك كانت الحال على أثر حلم التمثال الذي شاهده. كان تأثير تلك الرؤيا على عقله عظيماً جداُ. كما كان متأثراً بفكرة كون امبراطورية بابل مع عظمتها واتّساعها ستسقط في النهاية وتملك مكانها ممالك أخرى. وتخلف أخيراً كل الممالك الأرضية مملكة يقيمها إله السماء لن تنقرض أبداً. AM 409.2

لقد غاب عن ذهن نبوخذنصر في اختباره فيما بعد إدراكه النبيل لقصد الله نحو الأمم. ومع ذلك فعندما أذلّت روحه المتكبّرة أمام الجموع المحتشدة في بقعة دورا اعترف مرة أخرى بأن ملكوت الله ”ملكوت أبدي وسلطانه إلى دور فدور“ (عدد 3). فمع أنه وليداً وثنياً وتربّى وترعرع على عبادة الأوثان وكان على رأس شعب يدين بالوثنية، كان لديه إحساس فطري بالعدالة والحق. وكان الله يستطيع أن يستخدمه أداة لتأديب العصاة وإتمام مقاصده الإلهية. وإذ كان نبوخذنصر من ”عتاة الأمم“ أي مرعبها (حزقيال 28 : 7). فقد أعطي له بعد سنوات الصبر والتعب المُضني أن يقهر مدينة صور. كما سقطت مصر أيضاُ غنيمة بين أيدي جيوشه الظافرة، وإذ أضاف بعد أمة إلى مملكته البابلية، فقد ذاعت شهرته في كل الأرجاء على أنه أعظم ملك في جيله. AM 409.3

فلا غرابة إذا خضع هذا الملك الطموح الناجح والمتكبّر لتجربة الجنوح عن نهج الوداعة الذي هو لا سواه يفضي إلى العظمة الحقيقية. وفي الفترات التي تخلّلت حروبه وفتوحاته، ركز كثيراً على تحصين العاصمة بابل وتجميلها حتى صارت في النهاية فخر مملكته، ”المدينة الذهبية“ ”فخر كل الأرض“ فإن شغفه كبناء ونجاحه الفريد في جعل إحدى عجائب الدنيا، غذّى كبرياءه حتى بات في خطر كبير في أن يشوّه سجله التاريخي كملك عظيم يمكن لله أن يداوم على استخدامه وسيلة لتنفيذ مقاصده الإلهية. AM 410.1

وقد جعل الله الملك في رحمته يحلم حلماً آخر لإنذاره كيلا يدهمه الخطر ولكي يحذر الشرك المنصوب له لإهلاكه. فشاهد في رؤيا الليل شجرة عظيمة نامية في وسط الأرض يبلغ علوّها إلى السماء وامتدّت أغصانها إلى أقصى الأرض. وجاءت القطعان والمواشي من الجبال والتلال وتفيّأت تحت ظلّها الوارف. كما أقبلت أسراب الطيور لتبني أعشاشها بين أغصانها: ”أوراقها جميلة وثمرها كثير وفيها طعام للجميع .. وطعم منها كل البشر“ (عدد 12). AM 410.2

وفيما كان الملك نبوخذنصر يشخص إلى الشجرة نظر وإذا: ”ساهر وقدوس“ قد اقترب من الشجرة وصرخ بصوت عال يقول: ”اقطعوا الشجرة واقبضوا أغصانها وانثروا أوراقها وأبذروا ثمرها، ليهرب الحيوان من تحتها والطيور من أغصانها. ولكن أتركوا ساق أصلها في الأرض وبقيد من حديد ونحاس في عشب الحقل وليبتلّ بندى السماء وليكن نصيبه مع الحيوان في عشب الحقل. ليتغيّر قلبه عن الإنسانية وليعط قلب حيوان ولتمض عليه سبعة أزمنة. هذا الأمر بقضاء الساهرين والحكم بكلمة القدوسين لكي تعلم الأحياء أن العلي متسلط في مملكة الناس فيعطيها لمن يشاء وينصب عليها أدنى الناس“ (عدد 13 — 17). AM 410.3

فاضطرب الملك أشد اضطراب من الحلم الذي كانت نبوءاته واضحة وتنبئ بوقوع بلوى أو كارثة تحلّ عليه، فسرده على مسامع ” المجوس والسحرة والكلدانيين والمنجمين “. ولكن مع أن الحلم كان واضحاً كل الوضوح لم يستطيع أي من الحكماء أن يعبّره (عدد 7). AM 411.1

ومرة أخرى كانت ستُقدّم شهادة في تلك البلاد الوثنية لحقيقة كون أولئك الذين يحبّون الله ويتّقونه هم وحدهم الذين يفهمون أسرار ملكوت السموات. فأرسل الملك في حيرته يستدعي عبده دانيال الذي كان رجلاً مكرماً لأجل نزاهته ووفائه وحكمته التي لا تبارى. AM 411.2

وعندما مثل في حضرة الملك إمتثالاً لأمره قال له نبوخذنصر: ”يا بلطشاصر كبير المجوس من حيث أني أعلم أن فيك روح الآلهة القدوسين ولا يعسر عليك سر فأخبرني برؤى حلمي الذي رأيته وبتعبيره“ (عدد 9). فبعدما سرد عليه نبوخذنصر الحلم قال: ”أما أنت يا بلطشاصر فبين تعبيره لأن كل حكماء مملكتي لا يستطيعون أن يعرفوني بالتعبير، أما أنت فتستطيع لأن فيك روح الآلهة القدوسين“ (عدد 18). AM 411.3

كان معنى الحلم واضحاً لدى دانيال ولكن معناه أفزعه فقد: ”تحيّر ساعة واحدة وأفزعته أفكاره“ (عدد 19). فإذ رأى الملك تردّد دانيال وضيق نفسه. عبّر عن عطفه تجاه عبده إذ قال له: ”يا بلطشاصر لا يفزعك الحلك ولا تعبيره“ (عدد 19). AM 411.4

فأجابه دانيال قائلاً: ”يا سيدي الحلم لمبغضيك وتعبيره لأعاديك“ (عدد 19). وقد تأكد للنبي أن الله قد ألقى عليه واجباً مقدّساً خطيراً ألا وهو أن يُصارح نبوخذنصر الحكم الذي كان مزعماً أن يقع عليه بسبب كبريائه وغطرسته. فعلى دانيال أن يعبّر الحلم بأسلوب يستطيع الملك استيعابه، ومع أن معناه المرعب جعله يتردد في حيرة خرساء فإن عليه مع ذلك أن يقرر الحق مهما أصابه من جراء ذلك. AM 412.1

حينئذ أخبر دانيال الملك بحكم العلي قائلاً: ”الشجرة التي رأيتها التي كبرت وقويت وبلغ علوها إلى السماء ومنظرها إلى كل الأرض وأوراقها جميلة وثمرها كثير وفيها طعام للجميع وتحتها سكن حيوان البر وفي أغصانها سكنت طيور السماء إنما هي أنت أيها الملك الذي كبرت وتقوّيت وعظمتك قد زادت وبلغت إلى السماء وسلطانك إلى أقصى الأرض. AM 412.2

”وحيث رأى الملك ساهراً وقدوساً نزل من السماء وقال اقطعوا الشجرة وأهلكوها ولكن اتركوا ساق أصلها في الأرض وبقيد من حديد ونحاس في عشب لحقل وليبتل بندى السماء، وليكن نصيبه مع حيوان البر حتى تمضي عليه سبعة أزمنة. فهذا هو التعبير أيها الملك وهذا هو قضاء العلي الذي يأتي على سيدي الملك. يطردونك من بين الناس. وتكون سكناك مع حيوان البر، ويطعمونك العشب كالثيران. ويبلونك بندى السماء. فتمضي عليك سبعة أزمنة حتى تعلم أن العليّ متسلّط في مملكة الناس ويعطيها من يشاء. وحيث أمروا بترك ساق أصول الشجرة فإن مملكتك تثبت لك عندما تعلم أن السماء سلطان“ (عدد 20 — 26). AM 412.3

فبعدما فسّر دانيال الحلم بكل أمانة ألحّ على الملك المتكبّر أن يتوب ويرجع إلى الله كي يمكنه بواسطة عمل الحق والصواب أن يبعد نفسه عن تلك الكارثة التي تهدده. فتوسل النبي إلى الملك قائلاً: ”لذلك أيها الملك فلتكن مشورتي مقبولة لديك وفارق خطاياك بالبر وآثامك بالرحمة للمساكين لعله يُطال اطمئنانك“ (عدد 27). AM 412.4

وقد ظلّ وقع إنذار النبي ومشورته قوياً في نفس نبوخذنصر إلى حين، ولكن القلب الذي لا تغيّره نعمة الله سرعان ما تضيع منه تأثيرات الروح القدس. فالانغماس في الملذّات والطموح الدنيوي لم يكونا استؤصلا بعد من قلب الملك، فعادت تلك الخصال إلى الظهور. لقد سمح نبوخذنصر لنفسه مرة أخرى أن تتحكم فيه روح الحسد من الممالك التي ستأتي بعده، بالرغم من كل الإرشادات والنصائح التي قُدّمت إليه بكل كرم ولطف، مع إنذارات اختباراته الماضية، وحكمه الذي اتّصف حتى ذلك الحين بالعدالة والرحمة إلى حدّ كبير، أصبح الآن يتّصف بالظلم والاستبداد. وإذ قسّى قلبه استخدم الهبات الممنوحة له من الله في تمجيد نفسه وتعظيمها فوق الإله الذي منحه الحياة والسلطان. AM 413.1

وقد تأجّل قضاء الله بضعة أشهر ولكن بدلاً من أن يقوده لطف الله وصبره إلى التوبة انغمس في الكبرياء إلى حدّ أنه ما عاد يثق في تعبير دانيال للحلم وصار يسخر من مخاوفه الماضية. AM 413.2

فبعد مرور عام منذ أبلغ الملك نبوخذنصر بالإنذار، إذ كان يمشي في قصره وهو يفكر بكبرياء في سلطانه كملك ونجاحه كبنّاء هتف يقول: ” أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها لبيت الملك بقوة اقتداري ولجلال مجدي؟“ (عدد 30). AM 413.3

وإذ كانت كلمات التفاخر لا زالت على شفتي الملك قد وقع صوت من السماء يعلن أن الوقت المعين من الله لتنفيذ قضائه قد حان. وقد سمعت أذناه حكم الرب قائلاً: ”لك يقولون يا نبوخذنضر الملك. إن المُلك قد زال عنك، ويطردونك من بين الناس، وتكون سُكناك مع حيوان البر، ويطعمونك العشب كالثيران. فتمضي عليك سبعة أزمنة حتى تعلم أن العلي متسلّط في مملكة الناس فيعطيها من يشاء“ (عدد 31، 32). AM 413.4

ففي لحظة انتُزع من الملك عقله الذي قد وهبه الله إياه. فقد أخذ منه الفكر الذي ظنه الملك صائباً وحكمته التي طالما افتخر بها. وبعد أن كان ملكاً عظيماً أمسى إنساناً معتوهاً ولم تعد يده قادرة بعد ذلك للقبض على الصولجان. لم يكترث للإنذارات، والآن بعدما جرّد من السلطان الذي منحه إياه الخالق، وبعدما طُرد من بين الناس: ”أكل العشب كالثيران وابتل جسمه بندى السماء حتى طال شعره مثل النسور وأظافره مثل الطيور“ (عدد 33). AM 414.1

وظلّ نبوخذنصر مدى سبع سنوات موضع ذهول رعاياه وتمّ إذلاله أمام كل العالم. حينئذ عاد إليه عقله ونظر بوداعة إلى الله إله السماء واعترف بأن يده قد تدخّلت في تأديبه. واعترف بذنبه بإعلان نطق به على ملأ من الناس، وبرحمة الله العظيمة في إرجاعه. فقال: ”وعند انتهاء الأيام، أنا نبوخذنصر وقعت عينيّ إلى السماء فرجع إليّ عقلي وباركت العليّ وسبّحت وحمدت الحيّ إلى الأبد الذي سلطانه سلطان أبدي وملكوته إلى دور فدور، وحسبت جميع سكان الأرض كل شيء. وهو يفعل كما يشاء في جند السماء وسكان الأرض. ولا يوجد من يمنع يده أو يقول له ماذا تفعل؟ AM 414.2

”في ذلك الوقت رجع إليّ عقلي وعاد إليّ جلال مملكتي ومجدي وبهائي وطلبني مشيري وعظمائي وتثبّت عليّ مملكتي وازدادت لي عظمة كثيرة“ (عدد 34 — 36). AM 414.3

وذاك الذي كان سابقاً ملكاً متكبراً أمسى الآن ابناً لله متواضعاً. والملك الطاغية المعتز بنفسه صار ملكاً حكيماً ورحيماً. وذاك الذي كان يتحدى إله السماء ويجدف عليه، اعترف الآن بسلطان العلي وسعى بكل غيرة في نشر مخافة الرب وعمل على إسعاد رعاياه. لقد تعلّم أخيراً تحت توبيخ الرب الذي هو ملك الملوك وربّ الأرباب الدرس الذي على كل ملك أن يتعلّمه — هو أن العظمة الحقيقية هي في الصلاح الحقيقي وقد اعترف بأن الرب هو الإله الحي إذ قال: ”أنا نبوخذنصر أسبّح وأعظّم وأحمد ملك السماء الذي كل أعماله حق وطرقه عدل ومن يسلك بالكبرياء فهو قادر على أن يذله“ (عدد 37). AM 415.1

بذلك تمّ قصد الله في أن تعمل أعظم مملكة في العالم على إذاعة حمده. والبلاغ العالم الذي أذيع وبلغ كل الأسماع الذي فيه اعترف نبوخذنصر برحمة الله وصلاحه وسلطانه كان هو آخر عمل عمله في حياته وسجّله التاريخ المقدّس. AM 415.2

* * * * *