الأنبياء والملوك

52/70

الفصل الرابع والأربعون — في جب الأسود

(يعتمد هذا الفصل على ما جاء في الاصحاح السادس من سفر دانيال)

عندما جلس داريوس المادي على العرش الذي جلس عليه قبلاً ملوك بابل شرع في الحال في إعادة تنظيم الدولة ”حسن عنده أن يولي على المملكة مئة وعشرون مرزباناً .. وعلى هؤلاء ثلاثة وزراء أحدهم (أولهم) دانيال لتؤدي المرازبة إليه الحساب فلا تصيب الملك خسارة. ففاق دانيال على الوزراء والمرازبة لأن فيه روحاً فاضلة. وفكر الملك في أن يوليه على المملكة كلّها“ (عدد 1 — 3). AM 429.1

وقد أثارت تلك الكرامة التي مُنحت لدانيال حسد رؤساء المملكة وحفيظتهم فحاولوا أن يجدوا علّة للشكوى ضده. إلا إنهم لم يجدوا علّة واحدة: ”لأنه كان أمينا ولم يوجد فيه خطأ ولا ذنب“ (عدد 4). AM 429.2

وقد أثارت أخلاق دانيال وتصرفاته التي لا غبار عليها حسد أعدائه إلى أبعد الحدود. وقد اضطروا للاعتراف قائلين: ”لا نجد على دانيال هذا علّة إلا أن نجدها من جهة شريعة إلهه“ (عدد 5). AM 429.3

وعلى ذلك دبر الوزراء والمرازبة مكيدة كانوا يأملون أنها كفيلة بإهلاك النبي دانيال. فعقدوا العزم أن يسألوا الملك كي يوقع أمراُ ملكياً يعدّونه بأنفسهم فيه ينهي كل إنسان في المملكة عن أن يطلب طلبه من إله أو إنسان إلا من داريوس الملك لمدة ثلاثون يوماً. وأية مخالفة لهذا الأمر يُعاقب مرتكبها بالطرح في جب الأسود. AM 429.4

وتبعاُ لذلك أعدّ المرازبة والوزراء ذلك المنشور وقدموه إلى الملك داريوس لتوقيعه. فإذ لجأوا إلى غرور الملك. ألحوا عليه قائلين إن تنفيذ مثل هذا المرسوم سيزيد من كرامته وسلطانه. وبما أن الملك كان يجهل النية الخبيثة التي كان يضمرها أولئك الرؤساء لم يفطن إلى حقدهم وقد وقّع على المرسوم إستجابة لتمليقهم. AM 430.1

ثم خرج أعداء دانيال من حضرة الملك فرحين متهلّلين لأجل الفخ الذي أحكموا نصبه لخادم الرب. كان للشيطان اليد الطويلة في المؤامرة التي دُبّرت على هذا النحو. كان النبي يشغل مركزاُ مرموقاً في المملكة فبات الملائكة الأشرار يخشون لئلا يضعف نفوذه وتأثيره من سيطرتهم على أولئك الحكام. هذه القوات الشيطانية هي التي أثارت أولئك الرؤساء للغيرة من دانيال. وهم الذين ألهموهم تلك المؤامرة الشريرة لإهلاكه، وإذا ارتضى أولئك الحكام أن يكونوا آلات لعمل الشر، بدأوا بإخراج المؤامرة إلى حيّز التنفيذ. AM 430.2

وقد عوّل أعداء دانيال على تمسّكه الشديد بمبادئه لإنجاح مؤامرتهم. ولم يكونوا مخطئين في تقديرهم لمتانة خلقه. فسرعان ما فطن إلى نواياهم الخبيثة في صياغة المرسوم، ولكنه لم يغير مسلكه في أدق وأصغر أمور حياته. فلماذا يقلع عن الصلاة الآن وهو في أشدّ الحاجة إليها؟ كان يفضل بالأحرى أن يتخلى عن الحياة نفسها، على أن يتخلى عن رجائه في معونة الله. فأدّى واجباته بكل هدوء كرئيس للوزراء، وفي ساعة الصلاة ذهب إلى علّيته وكواه مفتوحة نحو أورشليم، فقد صلاوته وابتهالاته إلى إله السماء، كما كان معتاداً أن يفعل. لم يحاول الصلاة في الخفاء. ومع علمه بما سيجره عليه ولائه لله فلم تضطرب روحه ولم يتراجع. فعلى مرأى من كانوا يتآمرون على هلاكه لم يرد أن يبدو عليه كأن صلته بالسماء قد انقطعت. في كل الحالات عندما كان للملك الحق في إصدار أمر ما، كان دانيال يطيعه، ولكن لا الملك ولا مرسومه أمكن أن يزحزحه قيد أنملة عن ولائه لملك الملوك. AM 430.3

وهكذا أعلن النبي بشجاعة وهدوء ووداعة أنه لا حق لأي سلطان أرضي أن يتدخل بين الإنسان والله. وإذ كان مُحاطاً بالناس الوثنيين كان هو شاهداً أميناً لهذا الحق. إن تمسكه بالحق الذي لا يعرف الخوف كان نوراً ساطعاً يبدّد الظلمة الأدبية في ذلك البلاد الوثني. وهو يقف أمام العالم اليوم كمثال يُحتذى للشجاعة والولاء الروحيين. AM 431.1

وظلّ أولئك الوزراء يراقبون دانيال يوماً كاملاً. فرأوه يدخل إلى علّيته ثلاث مرات وسمعوا صوته وهو يرتفع وهو يتشفّع ثلاث مرات. وفي اليوم التالي تقدّموا بشكواهم إلى الملك قائلين أن دانيال الذي كان أكثر الساسة كرامة لدى الملك وأشدّهم أمانة، يزدري المرسوم ويتحدّاه. وذكّروا الملك قائلين: ”ألم تمض أيها الملك نهياً بأن كل إنسان يطلب من إله أو إنسان حتى ثلاثين يوماً إلا منك أيها الملك يطرح في جب الأسود؟“. AM 431.2

”أجاب الملك وقال الأمر صحيح كشريعة مادي وفارس التي لا تنسخ“. AM 431.3

فبرح عظيم أخبروا داريوس بما فعله مشيره الأمين الموثوق به. وصاحوا يقولون: ”إن دانيال الذي من بني سبي يهوذا لم يجعل لك أيها الملك إعتباراً ولا للنهي الذي أمضيته بل ثلاث مرات في اليوم يطلب طلباته“ (عدد 12، 13). AM 431.4

فلما سمع الملك هذا الكلام رأى على الفور الفخ الذي نصب لخادمه الأمين. رأى أن السبب في تقديم الاقتراح بإصدار ذلك المرسوم لم يكن غيرتهم على مجد الملك وكرامته بل حسدهم من دانيال، حينئذ: ”اغتاظ الملك على نفسه جداً..“ لأنه كانت له يد في الشر الذي عمل. ”واجهد إلى غروب الشمس“ لينقذ صديقه. فإذ كان أولئك الرؤساء يتوقعون أن يقوم الملك بتلك المحاولة، قالوا له: ”أعلم أيها الملك أن شريعة مادي وفارس هي أن كل نهي أو أمر يضعه الملك لا يتغير“ (عدد 14، 15). فالمرسوم وإن كان صدر في غير رويّة، فلم يكن ممكناً تغييره بل كان لابد من تنفيذه. AM 432.1

”حينئذ أمر الملك فأحضروا دانيال وطرحوه في جب الأسود. أجاب الملك وقال لدانيال إن إلهك الذي تعبده دائماً هو ينجيك“ (عدد 16). وقد وضع حجر على فم الجب: ”وختمه الملك بخاتمه وخاتم عظمائه لئلا يتغير القصد في دانيال. حينئذ مضى الملك إلى قصره وبات صائماً ولم يؤت قدامه بسراريه وطار عنه نومه“ (عدد 17، 18). AM 432.2

إن الله لم يمنع أعداء دانيال من طرحه في جب الأسود، فلقد سمح للملائكة والناس الأشرار، لتتميم قصدهم إلى هذا الحد. ولكن الله قصد من ذلك أن يزيد من شهرة نجاة عبده ويجعل هزيمة أعداء الحق والبر أكمل وأشمل: ”غضب الإنسان يحمدك“ (مزمور 76 : 10). هكذا شهد المرنم. فعن طريق شجاعة هذا الرجل الواحد الذي فضّل اختيار الحق والصواب على السياسة، كان الشيطان سينهزم واسم الله كان سيتمجد ويكرّم. AM 432.3

وباكراً في صبيحة اليوم التالي أسرع الملك داريوس إلى الجب و ” نادى دانيال بصوت أسيف“. وقال له: ”يا دانيال عبد الله الحي، حي إلهك الذي تعبده دائماً قدر على أن ينجيك من الأسود“. AM 433.1

فردّ النبي يقول: ”أيها الملك عش إلى الأبد. إلهي أرسل ملاكه وسدّ أفواه الأسود فلم تضرّني لأني وجدت بريئاً قدّامه وقدّامك أيضاُ أيها الملك لم أفعل ذنباً. AM 433.2

” حينئذ فرح الملك به وأمر بأن يصعد دانيال من الجب. فأصعد دانيال من الجب ولم يوجد فيه ضرر لأنه آمن بإلهه. AM 433.3

” فأمر الملك فأحضروا أولئك الرجال الذين اشتكوا على دانيال وطرحوهم في جب الأسود هم وأولادهم ونسائهم، ولم يصلوا إلى أسفل الجب حتى بطشت بهم الأسود وسحقت كل عظامهم“ (عدد 20 — 24). AM 433.4

ومرة أخرى أصدر ملك وثني إعلاناُ فيه عظّم إله دانيال بوصفه الإله الحقيقي: ” ثم كتب الملك داريوس إلى كل الشعوب والأمم والألسنة الساكنين في الأرض كلّها. ليكثر سلامك. من قبلي صدر أمر بأنه في كل سلطان مملكتي يرتعدون ويخافون قدّام إله دانيال لأنه هو الإله الحي القيوم إلى الأبد وملكوته لن يزول وسلطانه إلى المنتهى. هو ينجي وينقذ ويعمل الآيات والعجائب في السموات وفي الأرض هو الذي نجّى دانيال من يد الأسود“. AM 433.5

أما المقاومة الشريرة لخادم الله فقد تحطّمت الآن تماماً: ” فنجح دانيال هذا في ملك داريوس وفي ملك كورش الفارسي“ (عدد 25 — 28). وعن طريق معاشرته أجبر هؤلاء الملوك الوثنيون على الاعتراف بإلهه على أنه: الإله الحي القيوم إلى الأبد وملكوته لن يزول“. AM 433.6

ويمكننا نحن أن نتعلّم من قصة نجاة دانيال أن على أولاد الله أن يكونوا في أوقات التجربة والحزن كما كانوا عندما كانت آمالهم مشرقة بالرجاء. إن دانيال وهو في جب الأسود كان هو دانيال ذاته الذي وقف أمام الملك كرئيس وزراء الدولة وكنبي العلي. فالإنسان الذي قبله ثابت ومتّكل على الله سيظل كما هو عندما تحيق به أقسى التجارب، كما كان في أيام ازدهاره ونجاحه، عندما كان يشرق عليه نور رضى الله والإنسان. فالإيمان يصل إلى غير المنظور ويتمسك بالحقائق الأبدية. AM 434.1

إن السماء قريبة جداً من الذين يتألمون من أجل البر. فالمسيح يوحّد مصالحه بمصالح شعبه الأمناء ويتألم في شخص قيدسيه، ومن يمسّ قدّيسيه ومختاريه يمسه هو بالذات. إن القوة الحاضرة للإنقاذ من الأضرار الجسمانية والضيقات هي قريبة أيضاً لتخليص خادم الله من الشر الأعظم. ليظلّ محتفظاً باستقامته ونزاهته في كل الظروف لينتصر بنعمة الله. AM 434.2

إن اختبار دانيال كرجل سياسي في مملكة بابل ومادي وفارس يعلن حقيقة كون رجل الأعمال لا يكون بالضرورة مدبراً للخطط ورجل سياسة. ولكنّه يستطيع أيضاُ أن يتعلّم من الله في كل خطوة. فدانيال الذي كان رئيساً للوزراء في أعظم ممالك الأرض كان في ذات الوقت نبياً لله، يتلقى نور الوحي السماوي. ومع أنه كان إنساناً تحت الآلام مثلنا فإن قلم الوحي يصفه كمن هو بلا عيب. ومعاملاته التجارية عندما فحصها أعداؤه فحصاً دقيقاً لم يكن يوجد فيها أي عيب ولا هفوة واحدة. كان مثالاً لما يمكن أن يكون عليه كل رجل من رجال الأعمال عندما يكون قلبه متجدداً ومكرساً. وعندما تكون بواعثه مستقيمة أمام الله. AM 434.3

إن الإمتثال الدقيق لمطالب السماء يأتي بالبركات الزمنية كما بالبركات الروحية. فإذ كان دانيال ثابتاً على ولائه لله وغير متراخ في سيطرته على نفسه فإنه في عزة نفسه ونبله وأمانته الثابتة، وهو بعد شاب يافع نال ”نعمة ورحمة“ (دانيال 1 : 9). في عيني رئيس الخصيان الذي أوكل إليه أمر رعايته. وتلك الصفات ذاتها كانت هي الطابع المميز لحياته فيما بعد. لقد ارتقى بسرعة حتى وصل إلى مركز رئيس وزراء مملكة بابل. ومدى سني حكم الملوك الذين تولوا الحكم واحد بعد الآخر ولدى سقوط الأمة وقيام مملكة عالمية أخرى، فإن حكمته وحصافته في تدبير شؤون الدولة كانت عظيمة جداً. كما كانت لباقته كاملة، وكان لطيفاً ورقيقاً وطيب القلب وصالحاً بحق، وولاؤه لمبادئه كان عظيماً بحيث أجبر أعداؤه أنفسهم الاعتراف بأنهم ”لم يقدروا أن يجدوا علّة ولا ذنباً لأنه كان أميناً“ (دانيال 6 : 4). AM 435.1

إن دانيال فضلاً عن كونه قد أكرم من قبل البشر بالاضطلاع بتبعات الدولة وأسرار الممالك التي كانت متسلّطة على العالم، قد أكرمه الله على أنه سفيره وأعطيت له إعلانات كثيرة لأسرار الدهور الآتية. إن النبوات العجيبة التي دوّنها في الاصحاحات الستة الأخيرة (7 — 12) من السفر الذي يحمل اسمه، لم تكن تفهم تماماً. وحتى النبي نفسه استغلق عليه فهمها، ولكن قبل انتهاء خدمة حياته أعطي له اليقين المبارك أنه: ”في نهاية الأيام“ — أي في الفترة الختامية من تاريخ العالم، سيُسمح له مرة أخرى بأن يقف في قرعته ومكانه. لم يُعط له أن يدرك كل ما أعلنه الله من مقاصده. أما بخصوص كتاباته النبوية فقد صدر إليه هذا الأمر: ” أخف الكلام واختم السفر“. كان ينبغي أن تُختم هذه ”إلى وقت النهاية“. ومرة أخرى أوصى الملاك رسول الرب الأمين قائلاً له: ”اذهب يا دانيال لأن الكلمات مخفية ومختومة إلى وقت النهاية .. أما أنت فاذهب إلى النهاية فتستريح وتقوم لقرعتك في نهاية الأيام“ (دانيال 12 : 4، 9، 13). AM 435.2

إننا إذ نقترب من نهاية تاريخ هذا العالم، فإن النبوات التي دوّنها دانيال تسترعى انتباهها الخاص، حيث أنها تشير إلى هذا الزمن الذي نعيش فيه. وينبغي أن نقرن هذه النبوات بالتعاليم المدونة في آخر سفر في العهد الجديد. لقد جعل الشيطان كثيرين من الناس يعتقدون بأن الأقسام النبوية المذكورة من سفر دانيال وسفر الرؤيا الذي دوّنه يوحنا الرائي. لا يمكن فهمها. ولكن هنالك وعد واضح وصريح بأن بركة خاصة تصحب دراسة هذه النبوات. وقد جاء هذا القول عن رؤى دانيال التي كانت ستُفك ختومها في الأيام الأخيرة: ”والفاهمون يفهمون“ (دانيال 12 : 10). أما الإعلان الذي أعطاه المسيح لعبده يوحنا لأجل هداية شعب الله مدى العصور فقد ورد عنه هذا الوعد، ”طوبى للذي يقرأ وللذين يسمعون أقوال النبوة ويحفظون ما هو مكتوب فيها“ (رؤيا 1 : 3). AM 436.1

إننا بحاجة إلى أن نتعلم من قيام وسقوط الأمم كما هو موضّح في سفري دانيال والرؤيا، مدى تفاهة المجد الدنيوي. فقد زالت بابل بكل سلطانها وعظمتها وجلالها الذي لم ير العالم له مثيلاً منذ ذلك الحين. ذلك السلطان وتلك العظمة والفخامة، التي كان يبدو لأهل ذلك العصر وكأنهما باقيان. ولكن ما أسرع ما زالت وتلاشت تماماً وهلكت ”كزهر العشب“ وأصابها الذبول (يعقوب 1 : 10). وكذلك هلكت مملكة مادي وفارس ومملكة اليونان وروما. وكذلك تهلك كل أمة لا تجعل الله أساساً لها. أما الذي يبقى ويدوم فهو ما يرتبط بمقاصد الله ويعبّر عن صفاته. إن مبادئ الله هو الأمور الراسخة دون سواها التي يجب أن يعرفها العالم. AM 436.2

الدراسة الواعية الوافية لإتمام مقاصد الله في تاريخ الأمم وفي إعلان الأمور الآتية، تعيننا على تقدير القيمة الحقيقية للأشياء المنظورة منها وغير المنظورة، كما تساعدنا على فهم هدف الحياة الحقيقي. وإذ نرى الأمور في نور الأبدية يمكننا أن نعيش كدانيال ورفاقه، لأجل الأهداف النبيلة الحقيقية الدائمة. وإذ نتعلّم في هذه الحياة مبادئ ملكوت ربنا ومخلّصنا، ذلك الملكوت الذي سيبقى إلى أبد الآبدين، يمكننا أن نكون مؤهلين عند مجيئه للدخول معه في ملكوته. AM 437.1