الأنبياء والملوك

47/70

الفصل الأربعون — حلم نبوخذنصر

(يعتمد هذا الفصل على ما جاء في الاصحاح الثاني من سفر دانيال)

حالما انتظم دانيال ورفاقه في خدمة ملك بابل وقعت أحداث أعلنت لتلك الأمة الوثنية قدرة الله وأمانته. ذلك أن نبوخذنصر كان قد حلم حلماً عظيماً: ”فانزعجت روحه وطار عنه النوم“ (عدد 1). ولكن مع أن عقل الملك قد تأثر بعمق فقد وجد بعدما استيقظ أنه يستحيل عليه أن يتذكّر تفاصيل الحلم. AM 389.1

ففي حيرته وارتباكه جمع حكماءه: ”المجوس والسحرة والعرّافين“ (عدد 2). والتمس منهم العون قائلاً: ”قد حلمت حلماً وانزعجت روحي لمعرفة الحلم“ (عدد 3). فإذ أنبأهم بحيرته وارتباكه طلب إليهم أن يكشفوا له ما يجلب إلى عقله الراحة. AM 389.2

فأجابه الحكماء قائلين: ”أيها الملك عش إلى الأبد أخبر عبيدك بالحلم فنبين تعبيره“ (عدد 4). AM 389.3

فإذ لم يقنع الملك بهذا الجواب الدال على المراوغة، ساورته الشكوك. فبرغم إدعاءاتهم بأنهم يستطيعون الكشف عن أسرار الناس فقد بدا مع ذلك كذبهم وأنهم لا يرغبون في تقديم العون له. لذا أمر الملك حكماءه، بعدما قدّم لهم وعداً بالغنى والكرامة من جهة، والتهديد بالموت من جهة أخرى، أن يخبروه لا بتعبير الحلم فقط بل بالحلم نفسه فقال لهم الملك: ”قد خرج مني القول إن لم تنبئوني بالحلم وبتعبيره تصيرون إرباً إرباً، وتُجعل بيوتكم مزبلة. وإن بيّنتم الحلم وتعبيره تنالون من قبلي هدايا وحلاوين وإكراماً عظيما“ (عدد 5، 6). AM 389.4

ومرة أخرى أجاب الحكماء الملك قائلين: ” ليخبر الملك عبيده بالحلم فنبيّن تعبيره“ (عدد 7). AM 390.1

وهنا اهتاج الملك نبوخذنصر واحتدم غضبه بسبب الخيانة السافرة التي أبداها أولئك السحرة الذين وثق بهم وقال ” إني أعلم يقيناً أنكم تكتسبون وقتاً إذ رأيتم أن القول قد خرج بأنه إن لم تنبئوني بالحلم فقضاؤكم واحد لأنكم قد إتّفقتم على كلام كذب وفاسد لتتكلموا به قدامي إلى أن يتحوّل الوقت فأخبروني بالحلم فأعلم أنكم تبنيون لي تعبيره“ (عدد 8، 9). AM 390.2

فإذا امتلأت قلوب أولئك السحرة خوفاً وهلعاً بسبب عواقب إخفاقهم حاولوا أن يبرهنوا للملك أن كلامه غير معقول، واختباره الذي قدّمه لم يسبق أن قدّمه إنسان. لذلك احتجّوا قائلين: ”ليس على الأرض إنسان يستطيع أن يُبيّن أمر الملك. لذلك ليس ملك عظيم ذو سلطان سأل أمراً مثل هذا من مجوسي أو ساحر كلداني. والأمر الذي يطلبه الملك عسر وليس آخر يبيّنه قدّام الملك غير الآلهة الذين ليست سكناهم مع البشر“ (عدد 10، 11). AM 390.3

حينئذ غضب الملك واغتاظ جداً وأمر بإبادة كل حكماء بابل (عدد 12). AM 390.4

كان بين الذين طلبهم الضباط المتأهبين لتنفيذ أمر الملك، دانيال وأصحابه. وعندما قيل لهم أنهم لابد أن يموتوا أيضاً بموجب الأمر الملكي، عندئذ سأل دانيال أريوخ رئيس شرطة الملك، بحكمة وعقل قائلاً: ”لماذا اشتدّ الأمر من قبل الملك؟“ (عدد 13، 15). حينئذ أخبره أريوخ قصة حيرة الملك عن حلمه الشهير وعن إخفاقه في الحصول على معونة من السحرة الذين وضع ثقته الكاملة فيهم حتى الآن. ولما سمع دانيال هذا الكلام، وضع حياته بين يديه وتجاسر على المثول في حضرة الملك. وأخذ يتوسّل لإعطائه فرصة إمهال حتى يطلب من إلهه أن يكشف له عن الحلم وتعبيره. AM 390.5

فأجابه الملك إلى طلبه. ”حينئذاُ مضى دانيال إلى بيته وأعلم حننيا وميشائيل وعزريا أصحابه بالأمر“ (عدد 17). فطلبوا جميعهم الحكمة من نبع النور والمعرفة وكان إيمانهم قوياً لإحساسهم بأن الله وضعهم في ذلك الموضع وبأنهم كانوا يعملون عمله ويتممون واجبهم. وفي أوقات الحيرة والخطر كانوا يلجأون إليه دائماً في طلب الإرشاد والحماية، وقد برهن أنه المعين الحاضر الذي يقدّم العون في حينه. فبانسحاق قلب، سلّموا ذواتهم من جديد لديان كل الأرض متوسّلين إليه كي يمنحهم النجاة في ذلك الوقت، وقت الحاجة الملحّة، ولم تكن أصواتهم عبثاً فالإله الذي أكرموه يكرمهم الآن، وقد حلّ عليهم روح الرب. حينئذ كُشف لدانيال السر: ”في رؤيا الليل“ (عدد 19)، كُشف له حلم الملك ومعناه.. AM 391.1

فكان أول ما عمله دانيال أنه شكر الله على الإعلام المُعطى له. فهتف يقول: ”ليكن اسم الله مباركاً من الأزل وإلى الأبد لأنه له الحكمة والجبروت. وهو يُغيّر الأوقات والأزمنة ويعزل ملوكاً وينصب ملوكاً. يُعطى الحكماء حكمة ويعلّم العارفين فهماً. وهو يكشف العمائق والأسرار، يعلم ما هو في الظلمة وعنده يسكن النور. إياك يا إله أبائي أحمد وأسبّح الذي أعطاني الحكمة والقوة وأعلمني الآن ما طلبناه منك لأنك أعلمتنا أمر الملك“ (عدد 20 — 23). AM 391.2

فإذ ذهب دانيال فوراُ إلى أريوخ الذي كان الملك قد أمره بإبادة الحكماء، قال له: ”لا تبد حكماء بابل أدخلني إلى قدّام الملك فأبيّن للملك التعبير“ (عدد 24). حينئذ دخل أريوخ قائد الشرطة بدانيال إلى قدّام الملك مسرعاً وقال له: ”قد وجدت رجلاً من بني سبي يهوذا الذي يُعرف الملك بالتعبير“ (عدد 25). AM 392.1

ها هو الأسير اليهودي يقف بهدوء وهو رابط الجأش وماثل أمام ملك أعظم وأقوى إمبراطوريات العالم. وعندما بدأ بالكلام أنكر على نفسه استحقاقه لأيه كرامة، ومجّد الله بوصفه نبع كل حكمة. وعندما سأله الملك في جزع قائلاً: ”ها تستطيع أنت أن تُعرفني بالحلم الذي رأيت وبتعبيره؟“ أجابه يقوله: ”السر الذي طلبه الملك لا تقد الحكماء ولا السحرة ولا المجوس ولا المنجمون على أن يبيّنوه للملك. لكن يوجد إله في السموات كاشف الأسرار وقد عرّف الملك نبوخذنصر ما يكون في الأيام الأخيرة“. AM 392.2

ثم أعلن دانيال يقول: ”حلمك ورؤيا رأسك على فراشك هو هذا. أنت يا أيها الملك أفكارك على فراشك صعدت إلى ما يكون من بعد هذا وكاشف الأسرار يعرّفك بما يكون. أما أنا فلم يُكشف لي هذا السر لحكمة في أكثر من كل الأحياء. ولكن لكي يعرف الملك بالتعبير ولكي تعلم أفكار قلبك. AM 392.3

”أنت أيها الملك كنت تنظر وإذا بتمثال عظيم. هذا التمثال العظيم البهي جداً وقف قبالتك ومنظره هائل. رأس هذا التمثال من ذهب جيد. صدره وذراعاه من فضة. بطنه وفخذاه من نحاس. قدماه بعضهما من حديد والبعض من خزف. AM 392.4

”كنت تنظر إلى أن قطع حجر بغير يدين فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما. فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معاً وصارت كعصافة البيدر في الصيف فحملتها الربح فلم يوجد له مكان أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلاً كبيراُ وملأ الأرض كلها“. AM 392.5

وأعلن دانيال بكل ثقة“ ”هذا هو الحلم“. كان الملك يصغي بكل أحاسيسه إلى كافة التفاصيل، وكان عالماً أن هذا هو الحلم ذاته الذي كان منزعجاً بسببه. لذلك كان عقله مستعداً لقبول التعبير بكل رضا. كان ملك الملوك مزمعاُ أن يطّلع ملك بابل على حق عظيم. ويعلن أنه له تعالى السلطان على ممالك العالم — له السلطان على تنصيب ملوك وعزل ملوك. كان عقل نبوخذنصر سيصحو ما أمكن إلى إحساسه بمسؤوليته تجاه إله السماء. وكانت ستُعلن له حوادث المستقبل التي كانت ستصل إلى انقضاء الدهر. AM 393.1

واستطرد دانيال يقول: ”أنت أيها الملك ملك الملوك لأن إله السموات أعطاك مملكة واقتدار وسلطاناً وفخراً. وحيثما يسكن بنو البشر ووحوش البر وطيور السماء دفعها ليدك وسلّطك عليها. فأنت هذا الرأس من ذهب. AM 393.2

”وبعدك تقوم مملكة أخرى أصغر منك. ومملكة ثالثة أخرى من نحاس فتتسلّط على كل الأرض. AM 393.3

”وتكون مملكة رابعة صلبة كالحديد لأن الحديد يدق ويسحق كل شيء وكالحديد الذي يكسّر تسحق وتكسر كل هؤلاء. AM 393.4

”وبما رأيت القدمين والأصابع بعضها من خزف الفخار والبعض من حديد فالمملكة تكون منقسمة ويكون فيها قوة الحديد من حيث أنك رأيت الحديد مختلطاً بخزف الطين. وأصابع القدمين بعضها من حديد والبعض من خزف فبعض المملكة يكون قوياً والبعض قصماً. وبما رأيت الحديد مختلطاً بخزف AM 393.5