الأنبياء والملوك

48/70

التمثال الذي رأه نبوخذنصر في حلمه

إن التمثال الذي رآه نبوخذنصر ملك بابل ذلك العظيم الطموح، إنما هو نبوة عظيمة عن ممالك العالم، كان الملك يتوق لمعرفة ما سيتمخض عنه المستقبل وقد أعلمه الله بما سيحدث في حلم التمثال الذي لا يمكن لأي إنسان أن يعبّره. AM 394.1

لقد أعطى الله الحلم لنبوخذنصر الذي كان يعتقد أن بابل ستثبت إلى الأبد. وقدّم له تعبير الحلم بواسطة نبيّه ليعلمه أن بابل لن تثبت إلى الأبد، وليزيده علماً أن الحق أعظم من الطموحات الوطنية. وقد قدّم الله لنبوخذنصر الحلم وتعبيره لا ليكون حكراً عليه وحده بل لكل ملك آخر يأتي بعده لكي يعلم أن ممالك الأرض هي ممالك وقتية في أفضل حالاتها. ولابد من زوالها ذات يوم. وأن الملكوت الأبدي الوحيد الذي لم يزول أبداً هو ملكوت الحجر الحي. ملكوت المسيح يسوع. AM 394.2

إن التمثال بكامله الذي كان على شكل إنسان كان يرمز إلى مملكة الإنسان. أما أجزاء التمثال، أي الرموز المعدنية فكانت ترمز إلى الإمبراطوريات الأربع العظيمة التي ظهرت على مسرح التاريخ، والتي كان لا بد للعالم أن يعرفها قبل انتهاء حكم الإنسان على الأرض. هذه الممالك التي شكّلت العالم بكيفية فائقة تبدأ ببابل التي وصلت إلى أوج تفوّقها ومجدها تحت حكم نبوخذنصر ودمغت العالم بطابعها وشكّلته في قالبها. يقول سايس: ”لقد فاقت مملكة بابل في الجنوب مملكة أشور العريقة والكثيرة السكان. هنا كان المركز ونقطة انطلاق الحضارة التي ازدهرت بعد ذلك وانتشرت في كل آسيا الغربية“ (صفحة 93 من كتاب سايس الذي عنوانه، امبراطوريات الشرق القديمة). AM 394.3

وفي موسوعة تشف — هيرزوك نجد هذا القول: ”أقدم تقاليد مدينتنا الحاضرة الدينية والعلمية والفنية نبعت أصلاً من بابل“. (في مقال موضوعه ”بابل“). AM 394.4

ويقول روجرز: ”لا توجد عاصمة أخرى في العالم ظلّت مركزاً لمثل هذا السلطان العظيم والغني والثقافة مدى هذه الحقبة الطويلة“ (تاريخ بابل وأشور، الجزء الأول صفحة 397). AM 394.5

كان المناسب أن يُقدّم الإعلان والإنذار من الله إلى أول وأعظم امبارطورية سيطرت في تاريخ العالم. ولكن بابل العظيمة التي من ذهب زالت في إبان حكم الملكين الضعيفين نبونايدس وابنه بيلشاصر في عام 538 ق.م في نفس الجيل الذي أعطي فيه الإعلان. AM 395.1

وبعد بابل جاءت مملكة مادي وفارس تحت حكم كورش الأعظم الذي اجلس استياجس على العرش كملك محلي. واستياجس هذا معروف باللقب المشهور العام ”جاريوس“ الذي معناه حاكم أو وال، وهو لقب أطلق على كثيرين من ملوك فارس ولمدى 207 سنوات، ظلّت فارس التي يُرمز إليها بالفضة متربعة على عرش العالم. AM 395.2

وفي عام 331 ق.م حارب داريوس آخر (كودومانوس) الاسكندر الأكبر الذي بدأت قوته في الظهور والتقيا في معركة ”أربيل“ حيث صار الاسكندر ملك الاغريق، ملكاً على العالم. أما اليونان هذه فيُرمز إليها بالنحاس. وقد مات الاسكندر في عام 323 ق.م وبعد سنوات قليلة لم يكن بد من أن تنقسم مملكته. وقد سقطت فريسة للقوة الحربية التي بدأت تتحرك على ضفاف التيبر. AM 395.3

وقد قهرت روما القسم السوري من الامبراطورية الإغريقية في عام 190 ق.م، كما غلبت القسم المكدوني من تلك الامبراطورية في عام 168 ق.م، وقد اعترفت مصر بسيادة مملكة روما الحديدية في نفس العام. وكانت روما متحدة في بادئ أمرها، مع أنها كانت جمهورية. وقد صارت بعد ذلك امبراطورية. ولكن الانقسام تغلغل في الامبراطورية الرومانية، ويُرمز إليه باختلاط الحديد بالخزف، عن طريق غارات البرابرة من شمال أوروبا وشرقها في القرن الرابع، وهكذا تحطّمت روما المملكة الحديدية إلى الأبد. وقد بُذلت جهود جبارة لتوحيد أمم أوروبا. وجعل أقسام امبراطورية روما وحدة متجانسة عن طريق المصاهرة. وهذا ما أشير إليه في النبوة القائلة: ”يختلطون بنسل الناس“ (جانيال 2 : 43). ولكنّهم أخفقوا. لقد حاول شارلمان ونابليون أن يُقيما مملكة متحدة بقوة السلاح ولكنهما فشلا. وقد أعلنت النبوة أن تلك الأقسام لا يمكن توحيدها أو جمع شملها كما لا يمكن أن يختلط الحديد بالخزف. ولا تزال تلك الدول في حالة حرب رهيبة حتى اليوم. إن القول: ”لا يتلاصق هذا بذاك“ (عدد 43)، هو أقوى من الدبلوماسية وقوة السلاح. AM 395.4

وفي أيام انقسامات روما الأخيرة سيُقيم إله السماء ملكوته الذي لن ينقرض ولا يُعطى لشعب آخر غير شعبه الذين سيرثونه إلى الأبد: ”الحلم حقّ وتعبيره يقين“ (عدد 45). الطين فإنهم يختلطون بنسل الناس ولكن لا يتلاصق هذا بذاك كما أن الحديد لا يختلط بالخزف. AM 395.5

”وفي أيام هؤلاء الملوك يُقيم إله السموات مملكة لن تنقرض أبداً وملكها لا يُترك لشعب آخر وتسحق وتُفنى كل هذه الممالك وهي تثبت إلى الأبد. لأنك رأيت أنه قد قطع حجر من جبل لا بيدين فسحق الحديد والنحاس والخزف والفضة والذهب. الله العظيم قد عرّف الملك ما سيأتي بعد هذا الحلم حق وتعبيره يقين“ (عدد 31 — 45). AM 396.1

وقد اقتنع الملك بصدق التعبير، وفي تذلّل ورهبة: ”وخرّ على وجهه وسجد“ قائلاً: ”حقاً إن إلهكم إله الآلهة ورب الملوك وكاشف الأسرار إذ استطعت على كشف هذا السر“ (عدد 46، 47). AM 396.2

وقد ألغى نبوخذنصر حكمة بإهلاك الحكماء فقد أبقى على حياتهم بسبب اتصال دانيال بالرب كاشف الأسرار. ”حينئذ عظم الملك دانيال وأعطاه عطايا كثيرة وسلّطه على كل ولاية بابل وجعله رئيس الشحن على جميع حكماء بابل. فطلب دانيال من الملك فولى شدرخ وميشخ وعبدنغو على أعمال ولاية بابل. أما دانيال فكان في باب الملك“ (عدد 48، 49). AM 396.3

في أخبار التاريخ البشري يبدو أن نمو الأمم واتّساع أرضها، وقيام الامبراطوريات وسقوطها موقوفة على إرادة الإنسان وبسالته. كما يبدو أن تشكيل الأحداث محكوماُ بقوة الإنسان وطموحه وهواه إلى حد كبير. ولكننا نرى في كلمة الله أن الستار يُزاح جانباً وأن وسائل الرب الكلّي الرحمة ومشورات إرادته تتم في صبر وهدوء رغم تلاعب المصالح البشرية. وقوى الناس وأهوائهم في كل الاتجاهات. AM 396.4

يضع الرسول بولس أمام حكماء أثينا، بكلام لا يُبارى في رونقه ورقته قصد الله في الخليقة وتوزيع الأجناس والأمم فأعلن قائلاً: ”الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه .. صنع من دم واحد كل أمة من الناس يسكنون على كل وجه الأرض، وحتم بالأوقات المعيّنة وبحدود مسكنهم، لكي يطلبوا الله لعلّهم يتلمسونه فيجدوه“ (أعمال 17 : 24 — 27). AM 397.1

لقد أوضح الله أن من يريد يمكنه الدخول: ”في رباط العهد“ (حزقيال 20 : 37). كان قصده في الخلق أن تسكن في الأرض خلائق يكون وجودهم بركة لأنفسهم ولبعضهم بعضاً وفخراً لخالقهم. وكل من يريد يمكنه أن يوحّد نفسه بهذا القصد ويندمج فيه. وقد قيل: ”هذا الشعب جبلته لنفسي. يُحدّث بتسبيحي“ (إشعياء 43 : 21). AM 397.2

وقد أوضح الله في شريعته المبادئ التي تكمن في أساس كل نجاح حقيقي — نجاح الأمم والأفراد. فقد أعلن موسى قائلاً لبني إسرائيل عن هذه الشريعة: ”لأن ذلك حكمتكم وفطنتكم“، ”لأنها ليست أمراً باطلاً عليكم بل هذه هي حياتكم“ (تثنية 4 : 6 ؛ 32 : 47). هذه البركات التي تأكّدت لشعب الله هي مضمونة ومؤكدة لكل أمة ولكل فرد تحت قبّة السماء بموجب الشروط ذاتها وبنفس الدرجة. AM 397.3

وقبلما ظهرت بعض الأمم على مسرح الأحداث بمئات السنين نظر الله العليم بكلّ شيء عبر الدهور، وأنبأ بسقوط ممالك المسكونة. وقد أعلن الله لنبوخذنصر أن مملكة بابل ينبغي أن تسقط، ثم تقوم بعدها مملكة ثانية تُعطى لها فرصة إختبار. فإذا فشلت في تعظيم الإله الحقيقي فسيذوى مجدها وتحلّ مكانها مملكة ثالثة. وهذه أيضاً تزول وتأتي بعدها مملكة رابعة، فإذ تكون قويّة وصلبة كالحديد فهي ستخضع أمم العالم. AM 397.4

لو كان ملوك بابل — التي كانت أغنى ممالك الأرض — وضعوا خوف الرب نصب عيونهم لكانت أعطيت لهم قوة وحكمة تربطهم به وتحفظهم أقوياء. لكنهم لم يجعلوا الله ملجأ لهم إلا عندما تضايقوا واحتاروا. ففي تلك الأحيان عندما أخفقوا في الحصول على العون من عظائمهم طلبوه من أناس عرفوا أنهم أكرموا الإله الحي فأكرمهم، مثل دانيال. فلجأوا إلى هؤلاء الرجال ليوضّحوا لهم ما استغلق عليهم من أسرار العناية لأنه مع كون ملوك بابل المتكبّرة، كانوا رجالاً ذوي عقول فطنة ذكية فقد أبعدوا أنفسهم عن الله بمعاصيهم بحيث لم يستطيعوا أن يدركوا الإعلانات والإنذارات المعطاة لهم عن المستقبل. AM 398.1

ففي تاريخ الأمم يمكن لمن تلمذ لكلمة الله أن يرى الإتمام الحرفي للنبوة الإلهية. إن بابل إذ تحطمت وتهشمت في النهاية زالت من الوجود لأن ملوكها في إبّان نجاحهم اعتبروا أنفسهم مستقلين عن الله ونسبوا مجد مملكتهم إلى إنجازات بشرية عظيمة. أما مملكة مادي وفارس فقد افتقدتها السماء بغضبها لأن شريعة الله قد ديست فيها بالأقدام. فمخافة الرب لم تجد لها مكاناً في قلوب السواد الأعظم من الشعب. وقد تفشى الشر والتجديف والفساد. وكانت المملكتان اللتان جاءتا بعدهما أعظم انحطاطاُ وفساداُ منهما، فانحدرتا أدبياً إلى أحطّ الدرجات. AM 398.2

إن السلطان الذي يستخدمه كل ملك على الأرض إنما هو ممنوح له من السماء ونجاحه يتوقف على كيفية استخدامه لهذا السلطان المُعطى له. وهذه هي رسالة الرب التي يوجهها الرقيب غير المنظور إلى كل من أولئك الملوك: ”نطقتك وأنت لم تعرفني“ (إشعياء 45 : 5). ولكل منهم توجه الكلمات الموجّهة إلى نبوخذنصر قديماً كدرس للحياة قائلة: ”فارق خطاياك بالبر وآثامك بالرحمة للمساكين لعلّه يطال اطمئنانك“ (دانيال 4 : 27). AM 398.3

إن فهمنا لهذه الأمور — وإدراكنا: ”يبأن البر يرفع شأن الأمة“ وأن: ”الكرسي يثبت بالبر“ و ”يُسند بالرحمة“ عندما نعترف بتفوق هذه المبادئ في إظهار قدرة ذاك الذي: ”يعزل ملوكاُ وينصب ملوكاً“ نكون قد بلغنا أوج الحكمة. عندئذ فقط نكون قد أردركنا فلسفة التاريخ (أمثال 14 : 34 ؛ 16 : 12 ؛ 20 : 28 ؛ دانيال 2 : 21). AM 399.1

ونجد هذا مفصلاً وموضّحاُ في كلمة الله وحدها. ففيها يتّضح أن قوة الأمم والأفراد لا توجد في الفرص أو التسهيلات التي يبدو أنها تكسبهم قوة ومناعة، ولا في عظمتهم التي يفاخرون بها. ولكنّها تُقاس بمقدار الولاء الذي به يتممون قصد الله. AM 399.2

* * * * *