الأنبياء والملوك
الفصل التاسع والثلاثون — في بلاط بابل
(اعتمد هذا الفصل على ما ورد في الاصحاح الأول من سفر دانيال)
كان يوجد بين شعب الله الذين أخذوا أسرى إلى بابل في بدء سنوات السبي السبعين جماعة من المؤمنين المحبين لوطنهم، كانوا رجالاً ثابتين وصامدين على المبدأ، ولم يريدوا أن تفسد الأثرة أخلاقهم، بل أرادوا أن يُكرموا الله ولو خسروا كل شيء. كان سيُحقق هؤلاء الرجال غرض الله في أرض سبيهم بتقديمهم للأمم الوثنية البركات التي ترافق معرفتهم للرب. كان عليهم أن يكونوا نواباً عنه. وما كان لهم ان يساوموا أبداً على المبدأ مع عبدة الأوثان، بل أن يبرزوا إيمانهم واسمهم بوصفهم أتباع الإله الحقيقي كراية تُرفرف بشرف وسمو. هذا ما فعلوه بالتمام. ففي السراء والضرّاء أكرموا الله فأكرمهم. AM 378.1
لقد أورد المنتصرون حقيقة كون هؤلاء الرجال الذين يعبدون الرب قد ذهبوا إلى السبي في بابل، وكون أواني بيت الله قد وُضعت في هيكل آلهة بابل بمثابة برهان على سمو دينهم وعاداتهم فوق دين العبرانيين وعاداتهم. ومع ذلك فقد قدّم الله لبابل على سموه وسيادة مطالبه والنتائج الأكيدة للطاعة، عن طريق صنوف الاحتقار والإهانات التي أوقعها شعبه على أنفسهم بابتعادهم عن الله. وقد قُدّمت هذه الشهادة بواسطة من كانوا أمناء له إذ لم يكن يستطيع أن يقدّم هذه الشهادة أحد سواهم. AM 378.2
بين الذين ظلّوا مُحتفظين بولائهم لله كان دانيال ورفاقة الثلاثة الذين كانوا أمثلة فائقة للنتيجة التي يمكن أن يصل إليها من يتّحدون بإله الحكمة والقدرة. كان هؤلاء الشبان من سلالة الملوك وقد انتزعوا من حياتهم البسيطة في وطنهم وانتقلوا إلى أفخم المدن، إلى بلاط أعظم ملوك العالم، ”وأمر (نبوخذنصر) اشفنز رئيس خصيانه بأن يحضر من بني إسرائيل ومن نسل الملك ومن الشرفاء فتياناً لا عيب فيهم حسان المنظر حاذقين في كل حكمة وعارفين معرفة وذوي فهم بالعلم والذين فيهم قوة على الوقوف في قصر الملك.. AM 379.1
”وكان بينهم من بني يهوذا دانيال وحننيا وميشائيل وعزريا“ (عدد 3 — 6). فإذا رأى نبوخذنصر في هؤلاء الفتيات ما يبشّر بمقدرة عظيمة عقد العزم على تدريبهم كي يشغلوا وظائف هامة في مملكته. فلكي يكونوا مؤهلين تماماً لعمل حياتهم، رتّب الملك لتلقينهم لغة الكلدانيين. وأن تُعطى لهم لمدى ثلاث سنوات تهذيبية غير عادية، وهي التي تُمنح عادةً لرؤساء المملكة. AM 379.2
وقد أبدلت أسماء دانيال ورفاقه بأسماء تمثل آلهة الكلدانيين. كانت الأسماء التي أطلقها الآباء العبرانيون على أولادهم ذات أهمية ودلالة عظيمة. ففي الغالب كانت تدل أسماؤهم على ميزات خلقية كان الأب يتوق لأن يراها مترعرعة في حياة ابنه. ولكن ذلك الرئيس الذي كان منوطاً به أمر العناية بالفتية المسبيين: ”سمّى دانيال بلطشاصر وحننيا شدرخ وميشائيل مشيخ وعزريا عبدنغو“ (عدد 7). AM 379.3
ولم يرغم الملك الفتية العبرانيين على نبذ عقيدتهم واعتناق الوثنية، ولكنّه كان يؤميل أن يتمّ هذا تدريجياً. فهو كان يرجو أن يكونوا على اتصال بالعادات الوثنية بسبب أسمائهم التي لها دلالة وثنية. وإذ يتأثرون بطقوس العبادة الوثنية كان يرجو أن يكون ذلك كفيلاً بإقناعهم بنبذ دين أمّتهم والاشتراك في عبادة البابليين. AM 379.4
ومن بدء سيرهم في تلك الحياة الجديدة عرض لهم امتحان حاسم لأخلاقهم. كان مفروضاً عليهم أن يأكلوا من الطعام ويشربوا من الخمر التي كانت تأتيهم من على مائدة الملك. وقد ظنّ الملك أنه بهذا كان يعبّر عن رضاه عنهم وإهتمامه بخيرهم. ولكن إذ قدّم منه جزء للأوثان فإن الطعام الذي أتي به من على مائدة الملك كان مكرّساً للأوثان أيضاُ، فالذي يتناول من هذا الطعام كان يعتبر أنه يقدّم ولاءه لآلهة بابل. إلا أن ولاء دانيال ورفاقه للرب منعهم من الاشتراك في تقديم الولاء للأوثان. وحتى مجرد التظاهر بالأكل من أطايب الملك أو شرب خمره كان يعتبر انكاراً لإيمانهم. فكونهم يفعلون هذا معناه أنهم يتسربلون برداء الوثنية ويهينون مبادئ شريعة الله. AM 380.1
وهم لم يجرؤوا على القيام بتلك المخاطرة بجلب الآثار الموهنة لقوى الإنسان الناشئة بالترف والانغماس في الشهوات التي تسل قوى الجسم والعقل والروح وتعيقها عن النمو. كانوا على علم بتاريخ ناداب وأبيهو. من سجل الوحي وعن إدمانهما للخمر و ما نتج عن ذلك، فهو محفوظ في أسفار موسى الخمسة. كانوا يدركون أن قوى أجسامهم وعقولهم سيصيبها التلف إذا هم احتسوا الخمر. AM 380.2
كان دانيال ورفاقه قد تعلّموا من آياتهم وتدرّبوا على عادات التعفف وضبط النفس. وتعلّموا أن الله يعتبرهم مسؤولين عن إمكاناتهم وعليهم ألا يوهنوا قواهم بوسيلة ما. وكان هذا التهذيب بالنسبة إلى دانيال ورفاقه وسيلة حفظهم في وسط المؤثرات المفسدة في بلاط بابل. وما كان أقوى التجارب التي كانت محدقة بهم في ذلك البلاط المُترف الفاسد. ولكنّهم ظلّوا بعيدين عن النجاسة. فلم يكن ممكناُ لأية قوى أو تأثير. إبعادهم عن المبادئ التي كانوا قد تعلّموها في صباهم حين درسوا كلمة الله وأعماله. AM 380.3
ولو رغب دانيال لكان وجد في البيئة التي عاش فيها عذراُ مقبولاً للانحراف عن عادات التعفف التام. فكان يمكنه أن يبرر تصرفه قائلاً إنه لكونه معتمداً في حياته على رضى الملك وقد اصبح خاضعاُ لسلطانه، فلم يكن أمامه من طريق آخر يسلكه غير الأكل من طعام الملك والشرب من خمره، إذ لو تمسّك بتعاليم الله فسيغضب الملك وقد يخسر مركزه ويفقد حياته. أما إذا تغاضى عن وصية الرب فقد يظل متمتّعاُ برضى الملك ويحرز لنفسه الميزات العقلية والمطامح العالمية الخادعة. AM 381.1
لكن دانيال لم يتردد. فإن استحسان الله كان أغلى في نظره من رضى أقوى ملوك الأرض ومن الحياة نفسها. لقد عزم في قلبه أن يثبت على نزاهته واستقامته مهما كانت النتائج ”جعل في قلبه أنه لا يتنجس بأطايب الملك ولا بخمر مشروبه“ (عدد 8). AM 381.2
وقد سانده رفاقه الثلاثة في هذا العزم وإذ وصل الفتية العبرانيون إلى ذلك القرار لم يتصرّفوا بطيش أو غطرسة، ولكنّهم اعتمدوا على الله فهم لم يختاروا أن يكونوا في موقف شاذ. ولكنّهم فضّلوا هذا على إهانة الله. فلو أنهم تسامحوا مع الخطأ في هذا الأمر بالخضوع لضغط الظروف فإن انحرافهم عن المبدأ سيضعف إحساسهم بالحق وكراهيتهم للضلال. وأول خطوة خاطئة ستقود إلى خطوات أخرى إلى أن تنفصم صلتهم بالسماء فتجرفهم التجربة بعيداً. AM 381.3
”وأعطى الله دانيال نعمة ورحمة عند رئيس الخيصان“ (عدد 9) وأخذ طلبه ألا يتنجّس في الاعتبار والتقدير، ومع ذلك فقد تردّد رئيس الخصيان في إجابته إلى طلبه. فقد أوضح لدانيال قائلاً: ”إني أخاف سيدي الملك الذين عيّن طعامكم وشرابكم فلماذا يرى وجهكم أهزل من الفتيان الذين من جيلكم فتدينون رأسي للملك؟“ (عدد 10). AM 381.4
حينئذ تقدّم دانيال إلى ملزار الضابط الخاص المنوط به أمر رعاية الفتية العبرانيين طالباً منه إعفاءهم من أكل طعام الملك وشرب بخمره. وسأله أن يقوموا بتجربة وهي أن يتناولوا لمدّة عشرة أيام طعاماً بسيطاً. في حين يأكل زملاؤهم من أطايب الملك. AM 382.1
كان ملزار يخشى إجابتهم إلى طلبهم خوفاً من سخط الملك، ومع ذلك فقد رضخ لطلبهم، وعلم دانيال أنه كسب القضيّة ففي نهاية عشرة أيام التجربة كانت النتيجة على عكس ما يخشاه رئيس السقاه: ”ظهرت مناظرهم أحسن وأسمن لحما من كل الفتيان الآكلين من أطايب الملك“ (عدد 15). لقد برهن منظر الفتية العبرانيين على تفوّقهم على أقرانهم. وكان من نتائج ذلك أن سُمح لدانيال ورفاقه يتناول طعامهم البسيط طوال مدة تعليمهم. AM 382.2
ولمدى ثلاث سنوات درس الفتية العبرانيون ليعرفوا: ”كتابة الكلدانيين ولسانهم“ (عدد 4). وفي خلال هذه المدة ظلوا ثابتين على ولائهم لله واعتمدوا على قدرته على الدوام. وقد جمعوا بين عادات إنكار الذات والجدّ في السعي نحو الهدف والاجتهاد والثبات. لم تكن كبريائهم ولا طموحهم هو الذي أتى بهم إلى قصر الملك ومزاملة الذين لم يكونوا يعرفون الله أو يتّقونه. كانوا مسبيين في بلاد غريبة، وقد أوجدتهم هناك حكمة الله الأزلية غير المحدودة. وإذ كانوا بعيدين عن الوطن بمؤثراته والعشراء المقدّسين والبيئة النقية حاولوا أن يتصرفوا تصرفاُ حميداُ لأجل كرامة شعبهم المدوس بالأقدام ولأجل مجد الرب الذي كانوا يعبدونه. AM 382.3
وقد نظر الرب بعين الاستحسان والرضى إلى إنكار الذات الذي أبداه الفتية العبرانيون وإلى سلامة نزعاتهم بحيث لازمتهم بركته: ”فأعطاهم الله معرفة وعقلاً في كل كتابة وحكمة. وكان دانيال فهيماً بكل الرؤى والأحلام“ (عدد 17). وقد تم الوعد القائل: ”إني أكرم الذين يكرمونني“ (1 صموئيل 3 : 2). فإذ تمسّك دانيال بالله بثقة لا تتزعزع فإن روح القوة النبوية استقرّت عليه. ففي حين كان يتلقى التعليمات من الناس في واجبات الحياة في البلاط كان الله يعلّمه معرفة أسرار المستقبل، ليسجّل للأجيال القادمة، بواسطة التشبيهات والرموز، الحوادث التي تشمل تاريخ هذا العالم إلى انقضاء الدهر. AM 383.1
وعندما جاء وقت الإختبار أولئك الشبان اختُبر العبرانيون مع غيرهم من المرشحين لخدمة المملكة. ولكن ”لو يوجد بينهم كلّهم مثل دانيال وحننيا وميشائيل وعزريا“. إن فهمهم الثاقب وعلمهم الواسع ولغتهم الممتازة المضبوطة شهدت لقوتهم التي لم تصب بعطب وكذلك لنشاط قواهم العقلية. ”وفي كل حكمة وفهم الذي سألهم عنه الملك وجدهم عشرة أضعاف فوق كل المجوس والسحرة الذين في كل مملكته“، ”فوقوا أمام الملك“ (عدد 19، 20). AM 383.2
وقد اجتمع في بلاط بابل ممثلون من كل البلاد رجال لهم أسمى المواهب رجال مُنحوا أغنى الهبات الطبيعية، ولهم ثقافة واسعة وأعظم تهذيب يمكن أن يمنحه العالم. ومع ذلك تبيّن لأولئك القوم أنه لم يكن للفتية العبرانيين ندّ أو نظير. ففي القوة الجسمانية والحسن واللياقة البدنية والنشاط الذهني وما بلغوه من ثقافة وعلم لم يكن من يضارعهم. كذلك في القامة المنتصبة والخُطى الثابتة المرنة والوجه الجميل والحواس الصافية والنفس النقي غير الملوث. كانت كل هذه شهادات عالية على العادات الحسنة وأوسمة شرف تُكرم بها الطبيعة من يطيعون قوانينها. AM 383.3
إذ أحرز دانيال ورفاقه الحكمة فقد أصابوا نصيباً من النجاح أعظم بكثير من كل ما حصل عليه زملاؤهم الطلبة ولكن علمهم الذي أحرزوه لم يأت بمحض الصدفة، بل لأنهم إستخدموا قواهم ومواهبهم بأمانة تحت إرشاد الروح القدس. لقد ارتبطوا بنبع كل حكمة إذ جعلوا معرفة الله أساس تهذيبهم. وصلّوا بإيمان في طلب الحكمة وعاشوا بموجب صلواتهم. لقد وضعوا أنفسهم في الوضع الذي يمكن لله أن يباركهم فيه. وقد تجنبوا كل ما من شأنه أن يُضعف قواهم، وأحسنوا استخدام كل فرصة لكي يكونوا أذكياء في كل فروع العلم واتّبعوا كافة قوانين الحياة التي لا ينضب معينها في إعطائهم القوة والذكاء. وطلبوا الحصول على المعرفة من أجل غرض واحد. ألا وهو إكرام الله. وقد تحققوا أنهم لكي يستطيعوا أن يقفوا كممثلين للدين الحقيقي وسط الديانات الكاذبة التي يعتنقها العالم الوثني. عليهم أن يحتفظوا بأذهان صافية وأن يكمّلوا صفات مسيحية. وكان الله نفسه معلّماً لهم. فقد ساروا مع الله كأخنوخ إذ كانوا يصلّون باستمرار ويدرسون بضمير صالح وعلى اتّصال دائم بالإله غير المنظور. AM 384.1
إن النجاح الحقيقي في أي نوع من أنواع العمل لا يأتي نتيجة للصدفة أو القضاء والقدر. إنما هو تفاعل حوادث عناية الله. ومكافأة الإيمان والفطنة والفضيلة والمثابرة. فالصفات العقلية الجميلة والأسلوب الأدبي السامي لا يأتي بمحض الصدفة. فالله يقدّم الفرص للناس ويتوقف النجاح عندئذ على كيفية استخدامها. AM 384.2
وبينما كان الله يعمل في دانيال ورفاقه: ”أن يريدوا وأن يعملوا من أجل“ مسرته (فيلبي 2 : 13)، كانوا هم يتممون خلاصهم. وفي هذا أعلن عمل مبدأ التعاون الإلهي الذي بدونه لا يمكن إحراز أي نجاح حقيقي. فالمسعى البشري لا يُفيد شيئاً بدون قوة الله، وما لم يبذل الإنسان الجهد في سعيه فإن مجهود الله لا يُجدي فتيلاً بالنسبة لكثيرين. فلكي نمتلك نعمة الله علينا أن نبذل قصارانا في القيام بدورنا. فنعمته تُعطى لنا لتعمل فينا لكي نريد ونعمل، ولكنّها لا تعطى لنا لتكون بديلاً عن جهودنا. AM 385.1
وكما تعاون الرب مع دانيال ورفاقه فكذلك هو سيتعاون مع كل من يجتهدون في عمل إرادته. وإذ يمنحهم من روحه فهو يعضّد ويقوّي كل غاية حقيقية وكل عزم نبيل. والذين يسيرون في طريق الطاعة لابد أن واجههم معطّلات كثيرة قد تحاول المؤثرات القوية الخادعة الماكرة أن تربطهم بالعالم، ولكن الرب قادر أن يحبط كل وسيلة تعمل على هزيمة مختاريه. فبقوته يمكنهم أن ينتصروا على كل تجربة ويقهروا كل الصعاب. AM 385.2
لقد جعل الله دانيال ورفاقه على اتصال بعظماء بابل كي يمكنهم وهم في وسط أمة يعبد أهلها الأوثان، أن يمثّلوا صفاته للناس فكيف صاروا مؤهلين لذلك المركز الذي كان ينطوي على مسؤولية خطيرة وله كرامة فائقة؟ إن الأمانة في الأمور الصغيرة هي التي كانت طابع حياتهم كلها. فلقد أكرموا الله في أقل واجباتهم شأناً كما في المسؤوليات الأعظم خطراً. AM 385.3
وكما دعا الله دانيال ليشهد له في بابل كذلك هو يدعونا لنكون شهوده في العالم اليوم. ففي أصغر شؤون الحياة كما في أعظمها يريدنا أن نعلن للناس مبادئ ملكوته. إن كثيرين ينتظرونه ليُسند إليهم عمل عظيم بينما هم يُفتلون من أيديهم كل يوم فرصاُ لإظهار أمانتهم لله. وفي كل يوم هم يخفقون في القيام بواجبات الحياة الصغيرة بكل القلب. وفي حين أنهم ينتظرون أن يُسند إليهم عمل عظيم تتجلّى فيه مواهبهم العظيمة كما يزعمون لإشباع أشواقهم وطموحهم، تمر أيامهم سريعة بلا فائدة. AM 385.4
لا توجد في حياة المسيحي الحقيقي الأمين أمور غير جوهرية، ففي نظر الإله القدير يُعتبر كل واجب هاماً. إن الرب يقيس بكل دقة إمكانية كل إنسان للخدمة. والإمكانات المعطلة التي لا تُستعمل لابد أن يُحاسب أصحابها عليها كما يحاسبون على تلك التي يستعملونها. إننا سوف نُدان بموجب ما كان علينا أن نفعله ولكننا لم ننجزه لأننا لم نستخدم قوانا في تمجيد الله. AM 386.1
إن الخلق النبيل لا يأتي مصادفة، وهو لا يُعزّى إلى عطايا العناية أو هباتها. ولكنه يأتي نتيجة لتدريب النفس وترويضها وإخضاع طبائعنا الدنيا للطبيعة العليا، وتسليم الذات لخدمة الله والناس. AM 386.2
إن الله يخاطب شبّان اليوم عن طريق الولاء لمبادئ الاعتدال التعفف الذي أظهره أولئك الفتية العبرانيون. توجد حاجة ملحّة إلى رجال يعملون بجرأة على إتباع مبادئ الحق كدانيال. ثمّة حاجة إلى رجال ذوي قلوب نقيّة وأيد قوية وقلوب شجاعة لا تعرف الخوف، لأن الحرب بين الرذيلة والفضيلة تستلزم يقظة وسهراً دائمين. والشيطان يقدّم تجاربه لكل إنسان في أشكال كثيرة خدّاعة وجذّابة فيما يختص بالافراط في النهم. AM 386.3
والجسم هو أهم وسيلة ينمو ويتطوّر العقل والنفس عن طريقها لأجل بناء الأخلاق. ولهذا يصوّب خصم النفوس تجاربه إلى قوى الجسم لكي يوهنها ويحطّ من قدرها. فمتى نجح في ذلك فهذا ينتج عنه غالباً إخضاع الإنسان كلّه للشر إن ميول الطبيعة الجسدية إذا لم تُخضع لقوة أسمى لابد أن تنتهي إلى الدمار والموت. ينبغي أن يخضع الجسم لقوى الإنسان السامية وينبغي أن تتحكّم الإرادة في الأهواء، والإرادة نفسها يجب أن تخضعه لله. فقوة العقل السامية إذ تتقدّس بنعمة الله يجب أن تتسلّط على الحياة. إن قوى العقل والجسم وطول العمر تخضع لقوانين ثابتة. وبواسطة الطاعة لهذه النواميس يمكن للإنسان أن ينتصر على ذاته وعلى ميوله وعلى ”الرؤساء، مع السلاطين، من وُلاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات“ (أفسس 6 : 12). AM 386.4
في ذلك الطقس القديم الذي هو رمز للإنجيل لم يكن يُسمح بتقديم ذبيحة بها عيب على مذبح الله. فالذبيحة التي كانت ترمز إلى المسيح كان ينبغي أن تكون بلا دنس. وتشير كلمة الله إلى هذا كمثال لما يجب أن يكون عليه أولاده: - ”ذبيحة حية“، ”مقدسة وبلا عيب“ (رومية 12 : 1 ؛ أفسس 5 : 27). AM 387.1
إن الفتية العبرانيين كانوا تحت الآلام مثلنا، ومع ذلك فبالرغم من المؤثرات المغرية في بلاط بابل وقفوا راسخين لأنهم كانوا يستندون إلى قدرة الله اللامتناهية. فقد رأت تلك الأمة الوثنية فيهم مثالاً لصلاح الله وجوده ولمحبة المسيح. وإننا نجد في اختبارهم مثالاً لإنتصار المبادئ على التجربة. والنقاوة على الفساد والتكريس والولاء على الإلحاد والوثنية. AM 387.2
يمكن أن يحصل شباب اليوم على الروح الذي امتلك قلب دانيال، وأن يستقوا من نبع القوة ذاته ويمتلكوا قوة التعفف وضبط النفس ذاتها. وأن يُظهروا النعمة ذاتها في حياتهم، حتى في مثل تلك الظروف المعاكسة قد يكونون مُحاطين بتجارب للإنغماس في الملذات، خصوصاً في المدن الكبيرة حيث يمكن إشباع كل نهم شهواني بسهولة بسبب الغوايات، ومع ذلك فبنعمة الله يظلّ عزمهم على إكرام الله ثابتاً. وعن طريق العزيمة والقوة واليقظة والسهر يمكنهم الصمود أمام كل تجربة تهاجم النفس. ولكن النصرة لا يحرزها إلا ذاك الذي يفعل الحق لأنه الحق. AM 387.3
ما كان أنبل عمل الحياة ذاك الذي قام به أولئك العبرانيون الشرفاء، فإذ ودّعوا وطنهم الذي قضوا فيه سني طفولتهم، لم يكونوا يحلمون بالمصير السامي المجيد الذي كان من نصيبهم. وإذ كانوا أمناء وثابتين فقد خضعوا للإرشاد الإلهي حتى عن طريقهم تتم مقاصد الله. AM 388.1
إن الله يرغب أن يعلن بواسطة شباب وأطفال اليوم الحقائق القوية ذاتها التي أعلنت بواسطة هؤلاء الرجال. فحياة دانيال ورفاقه هي إعلان لما يُمكن أن يفعله الله لأجل أولئك الذي يسلّمون ذواتهم له وبكل قلوبهم يجتهدون في إتمام مقاصده. AM 388.2
* * * * *