الأنبياء والملوك
الفصل الخامس والثلاثون —الهلاك القادم
كانت السنوات الأولى من ملك يهوياقيم مشحونة بنذر الهلاك القادم. وكانت كلمة الله التي تكلّم بها الأنبياء وشيكة الإتمام. فبعدما تمتّعت مملكة أشور في الشمال بالسيادة أمداً طويلاً لم تكن لتستمر بسيادتها على الأمم فيما بعد. ومصر في الجنوب التي عبثاً وضع ملك يهوذا ثقته فيها، كانت مزمعة أن تتلقّى صدمة حاسمة تعيدها من حيث جاءت. وعلى غير انتظار ظهرت مملكة جديدة عالمية، هي امبراطورية بابل التي بدأت تنهض في الشرق، وبسرعة طغت على كل الأمم الأخرى. AM 334.1
وفي خلال سنوات قصيرة سيكون ملك بابل أداة غضب في يد الله على شعب يهوذا غير التائب. كانت أورشليم ستُحاصر مراراً عديدة وتدخلها جيوش نبوخذنصّر لافتتاحها. وكانت ستؤخذ جماعة بعد أخرى أسرى إلى أرض شنعار — في بادئ الأمر تتكون من أفراد قليلي العدد. ولكن بعد ذلك سيبلغ عددهم آلافاً وربوات — حيث يبقون هناك في منفى اضطراري. فيهوياقيم ويهوياكين وصدقيا — كل هؤلاء الملوك اليهود، كان كل منهم في دوره سيصير عبداً تابعاُ لملك بابل، وكل منهم كان سيتمرد بدوره. وكانت ستحل بتلك الأمة المتمردة عقوبات قاسية تتبعها عقوبات أخرى أشد قسوة إلى أن تصير أرضهم في نهاية الأمر خراباً يباباً، وأورشليم كانت مزمعة أن تلاقي المصير ذاته وتلتهمها النيران، والهيكل الذي بناه سليمان كان سيخرب ومملكة يهوذا كانت ستسقط ولن تقوم ثانية لتتبوأ مركزها الأول بين أمم الأرض. AM 334.2
تلك هي أزمنة التغيير التي كانت مشحونة بالخطر على الأمة الإسرائيلية التي تواترت فيها رسائل السماء على لسان إرميا. وبذلك أعطى الرب بني يهوذا متّسعاً من الوقت للتحرّر من الوقوع في شرك التحالف مع مصر، وتجنّب المنازعات مع ملوك بابل. وعند اقتراب الخطر الذي كان يتهددهم علّم إرميا الشعب بواسطة سلسلة من الأمثال، على أمل إيقاظ الشعور بالتزامهم نحو الله بهذه الوسيلة وليشجعهم أيضاً على تكوين أواصر صداقة مع حكومة بابل. ولكي يضرب لهم مثلاً على أهمية تقديم طاعة كاملة ثابتة لمطالب الله جمع إرميا بعض الركابيين في أحد مخادع الهيكل ووضع أمامهم خمراً ودعاهم لأن يشربوا منها. وكما كان منتظراً قوبل طلبه بالاحتجاج والرفض القاطع فقد أعلن الركابيون قائلين بكل ثبات ”لا نشرب خمراً لأن بوناداب بن ركاب أبانا أوصانا قائلاً لا تشربوا خمراً أنتم ولا بنوكم إلى الأبد“. AM 335.1
”ثم صارت كلمة الرب إلى إرميا قائلة هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل اذهب وقل لرجال يهوذا وسكان أورشليم أما تقبلون تأديباً لتسمعوا كلامي يقول الرب؟ أن لا يشربوا خمراً فلم يشربوا إلى هذا اليوم لأنهم سمعوا وصية أبيهم“ (إرميا 35 : 6، 12 — 14). AM 335.2
وبهذه الوسيلة استطاع الله أن يبيّن في مفارقة شاسعة حادة طاعة الركابيين وعصيان شعبه وتمردهم. AM 335.3
لقد أطاع الركابيون وصية أبيهم وقد رفضوا الآن الإغراء على العصيان. ولكن رجال يهوذا لم يصغوا إلى كلام الرب وكان من نتائج ذلك أنهم كانوا موشكين على الوقوع في أقسى معاناة أحكامه. AM 336.1
وأعلن الرب قائلاً: ”أنا قد كلمتكم مبكراُ مكلماً ولم تسمعوا لي. وقد أرسلت إليكم كل عبيدي الأنبياء مبكراً مرسلاً قائلاً ارجعوا كل واحد عن طريقه الرديئة واصلحوا أعمالكم ولا تذهبوا وراء آلهة أخرى لتعبدوها فتسكنوا في الأرض التي أعطيتكم وأباءكم فلم تميلوا آذانكم ولا سمعتم لي. لأن بني يوناداب بن ركاب قد أقاموا وصية أبيهم التي أوصاهم بها. أما هذا الشعب فلم يسمع لي. لأن هكذا قال الرب إله الجنود، إله إسرائيل هأنذا أجلب على يهوذا وعلى كل سكان أورشليم كل الشر الذي تكلّمت به عليهم لأني كلمتهم فلم يسمعوا ودعوتهم فلم يجيبوا“ (إرميا 35 : 14 — 17). AM 336.2
عندما تلين قلوب الناس وتخضع بقوة الروح القدس القاهرة فستتنبه إلى المشورة، ولكن عندما ترتد عن الإنذار وتتقسى، فالرب يسمح بأن ينقادوا وراء مؤثرات أخرى. إذ يرفضون الحقّ يقبلون الباطل الذي يمسي شركاً يؤدي بهم إلى الهلاك. AM 336.3
لقد توسّل الله إلى يهوذا كيلا يغيظوه أو يسخطوه ولكنّهم لم يسمعوا. أخيراً نطق عليهم بالحكم. كانوا سيسبون إلى بابل. وكان الله سيستخدم الكلدانيين بمثابة سوط لتأديب شعبه العاصي. وكانت آلام رجال يهوذا ستكون بنسبة النور المعطى لهم والإنذارات التي ازدروا بها ورفضوها. لقد أخرّ الله أحكامه طويلاً، أما الآن فسيفتقدهم بغضبه كآخر وسيلة لصدهم عن السير في طريقهم الشرير. AM 336.4
وقد نطق الله على بيت الركابيين ببركة دائمة. فقد أعلن النبي قائلاً: ”من أجل أنكم سمعتم لوصية يوناداب أبيكم وحفظتم كل وصاياه وعملتم حسب كل ما أوصاكم به. لذلك هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل لا ينقطع ليوناداب بن ركاب إنسان يقف أمامي كل الأيام“ (إرميا 35 : 18، 19). وهكذا علّم الله شعبه أن الأمانة والطاعة ستعودان على يهوذا بالبركة كما بورك الركابيون على طاعتهم لوصية أبيهم. AM 337.1
وهذا الدرس نافع لنا، فإذا كانت وصايا الآب الصالح الحكيم الذي اتّخذ أفضل وسيلة وأنبلها لصدّ نسله عن شرور إدمان الخمر كانت تستحق أن تُطاع طاعة كاملة، فبكل تأكيد ينبغي أن يُكرم سلطان الله إكراماً يتناسب مع عظم قداسته وسموه عن الإنسان. إن خالقنا وقائدنا الذي لا حد لسلطانه والذي هو رهيب في قضاءه يحاول بكل وسيلة أن يجعل الناس يرون خطاياهم ويتوبون عنها. وهو يتنبأ على أفواه خدامه بمخاطر العصيان، وينادي بالإنذار بكل أمانة موبّخاُ للخطيئة. إن شعبه يحالفهم النجاح برحمته وحدها من خلال الرعاية الساهرة لوسائطه المختارة. وهو لا يستطيع أن يعضد أو يحرس من يرفضون مشورته ويحتقرون توبيخه. وقد يمنع أحكامه الجزائية إلى حين لكنه لا يمكنه أن يمنع يده إلى الأبد. AM 337.2
كان بنو يهوذا محسوبين مع من سبق الله فأعلن عنهم قائلاً: ”أنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة“ (خروج 19 : 6). لم تغب عن نظر إرميا مدى سنّي خدمته، الأهمية الحيوية لقداسة القلب في كافة صلات الحياة المختلفة وعلى الخصوص في خدمة الله العلي. لقد سبق فرأى بوضوح المملكة وتشتت سكان يهوذا بين الأمم، إلا أنه رأى بعين الإيمان ما يكون بعد كل هذا، ونظر إلى أزمنة رد سبيهم وكان يرن في مسامعه الوعد الإلهي القائل: ”وأنا أجمع بقية غنمي من جميع الأراضي التي طردتها إليها. وأردّها إلى مرابضها .. ها أيام تأتي يقول الرب وأقيم لداود غصن بر فيملك ملك وينجح ويُجري حقاُ وعدلاً في الأرض. في أيامه يُخلّص يهوذا ويسكن إسرائيل آمناً وهذا هو اسمه الذي يدعونه به الرب برُّنا“ (إرميا 3 : 23 — 6). AM 337.3
وبذلك كانت النبوات عن الدينونة القادمة ممتزجة بوعود النجاة النهائية المجيدة فالذين يختارون المصالحة مع الله ويحيون حياة القداسة في وسط الارتداد الشامل سينالون قوة لمواجهة كل تجربة ويستطيعون أن يشهدوا له بقوة عظيمة وفي العصور التالية ستكون النجاة التي ستتم لأجلهم أشهر وأسمى من التي تمّت لبني إسرائيل في وقت الخروج (من عبودية مصر) وقد أعلن الرب على لسان نبيه قائلاً: ”إنه ستأتي أيام فيها لا يقولون بعد حيّ هو الرب الذي أصعد بني إسرائيل من أرض مصر بل حيّ هو الرب الذي أصعد وأتى بنسل بيت إسرائيل من أرض الشمال ومن جميع الأراضي التي طردتهم إليها فيسكنون في أرضهم“ (إرميا 23 : 7، 8). تلك كانت النبوّات العجيبة التي نطق بها إرميا في خلال السنوات الأخيرة من تاريخ مملكة يهوذا عندما بدأ البابليون يسيطرون سيطرة شاملة وبدأوا يحاصرون أسوار مدينة صهيون. AM 338.1
كان صدى هذه المواعيد عن النجاة كأجمل الأنغام الموسيقية المطربة وقعاً على آذان الذين ظلّوا ثابتين في عبادتهم للرب ففي بيوت الشرفاء والأدنياء حيث كان الناس يكرمون مشورات الله حافظ العهد والأمانة كانت أقوال النبي تتكرّر وتعاد مراراً وحتى الأولاد تأثّروا بها تأثراً عظيماً وقد انطبعت على عقولهم الغضة القابلة للتعلّم انطباعاُ دائماً. AM 338.2
إن حفظهم لأوامر الكتب المقدّسة ووصاياهم حسبما أوحت إليهم ضمائرهم الحية في عهد خدمة إرميا قدّمت لدانيال ورفاقه فرصاً لتمجيد الإله الحقيقي وتعظيمه أمام أمم الأرض فالتعاليم التي تلقّاها هؤلاء الفتية العبرانيون في بيوتهم عن آبائهم جعلتهم أقوياء في الإيمان وثابتين في عبادتهم وخدمتهم لله الحي خالق السموات والأرض فعندما حاصر نبوخذنصر مدينة أورشليم لأول مرة وافتتحها في أوائل سني حكم يهوياقيم وسبي دانيال ورفاقه وآخرين ممن أختيروا خصيصاً للخدمة في بلاط بابل فإن إيمان الأسرى العبرانيين جاز في أعظم تجربة وأقسى محنة ولكن الذين تعلّموا أن يضعوا ثقتهم في مواعيد الله وجدوها كافية تماماً في كل تجربة دعوا لإجتيازها مدى سني إقامتهم المؤقتة في أرض غريبة وقد برهنت الكتب المقدّسة أنها مرشدهم وسندهم. AM 339.1
وكمسر لمعنى الأحكام التي بدأت تقع على يهوذا وقف إرميا ليدافع بشجاعة عن عدالة الله ومقاصده الرحيمة حتى في أقسى العقوبات وأرهب المحن وقد خدم النبي بلا كلل فإذ كان يرغب في الوصول إلى جميع الطبقات وسّع دائرة تأثيره إلى خارج أورشليم في الأقاليم المحيطة بزيارات متعددة لأنحاء المملكة المختلفة. AM 339.2
كان إرميا في شهاداته للكنيسة يشير باستمرار إلى تعاليم سفر الشريعة الذي أكرم أعظم إكراماً إبان حكم يوشيّا وقد شدّد من جديد على أهمية إقامة صلة عهد مع ذلك الكائن الرحيم الرؤوف الذي نطق بالوصايا العشر من فوق جبل سيناء وقد وصلت إنذارات إرميا وتوسلاته إلى جميع أنحاء المملكة وكانت لدى الجميع فرصة فيها يعرفون إرادة الله نحو الأمة. AM 339.3
وقد أوضح النبي حقيقة كون أبينا السماوي يسمح بأن تقع أحكامه ليعلّم الأمم أنهم بشر (مزمور 20 : 9). كان الرب قد سبق شعبه قائلاً: ”وإن سلكتم معي بالخلاف ولم تشاءوا أن تسمعوا لي فأنا أذرّيكم بين الأمم وأجرد وراء كم السيف فتصير أرضكم موحشة ومدنكم تصير خربة“ (لاويين 21 : 26، 28، 33). AM 340.1
ولكن في نفس الوقت الذي كانت فيه رسائل الدينونة المحدقة والمتوعدة تتلى على الرؤساء على الشعب فإن ملكهم يهوياقيم كان يقضي وقته في لهو حسّي في الوقت الذي كان ينبغي أن يكون قائداً روحياً حكيماُ وفي طليعة من يعترفون بخطاياهم ويجرون إصلاحاً ويعملون أعمالاً صالحة وقد ارتأى قائلاً: ”أبني لنفسي بيتاً وسيعاُ وعلالي فسيحة وهذا البيت الذي كان مزمعاُ أن يسقف بأرز ويدهن بمغرة“ (إرميا 14 : 22) بنى وأكمل بأموال نالها بالغش والظلم. AM 340.2
وقد احتدم غضب النبي وأوحي إليه بأن ينطق بالدينونة على ذلك الملك الخائن فأعلن قائلاً: ”ويل لمن يبني بيته بغير عدل وعلاليه بغير حق الذي يستخدم صاحبه مجاناً ولا يعطيه أجرته .. هل تملك لأنك أنت تحاذي الأرز؟ أم أكل أبوك وشرب وأجرى حقاً وعدلاً. حينئذ كان خير. أليس ذلك معرفتي يقول الرب؟ لأن عينيك وقلبك ليست إلا على خطفك وعلى الدم الزكي لتسفكه وعلى الاغتصاب والظلم لتعملهما. AM 340.3
لذلك هكذا قال الرب عن يهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا لا يندبونه قائلين آه يا أخي أو آه يا أخت، لا يندبونه قائلين آه يا سيد، أو آه يا جلاله، يدفن دفن حمار مسحوباً ومطروحاً بعيداً عن أبواب أورشليم“ (إرميا 13 : 22 — 19). AM 340.4
وفي خلال سنوات قليلة كانت هذه الدينونة الرهيبة مزمعة أن تحل على يهوياقيم ولكن الرب في رحمته أخبر أولاً تلك الأمة غير التائبة بقصده الثابت الذي سيتممه. ففي السنة الرابعة من ملك يهوياقيم تكلّم إرميا النبي على كل شعب يهوذا وعلى كل سكان أورشليم قائلاً إنه في مدة تربو على عشرين سنة من السنة الثالثة عشرة ليوشيا إلى هذا اليوم قد شهد عن استعداد الله لأن يخلّص ولكن رسائله احتقرت أما الآن فإن كلمة الرب إليهم كانت: AM 340.5
”هكذا قال رب الجنود من أجل أنكم لم تسمعوا لكلامي هأنذا أرسل فأخذ كل عشائر الشمال يقول الرب وإلى نبوخذنصر عبدي ملك بابل وآتي بهم على هذه الأرض وعلى كل سكانها وعلى كل هذه الشعوب حواليها فأحرمهم وأجعلهم دهشاً وصفيراً وخرباَ أبدية. وأبيد منهم صوت الطرب وصوت الفرح وصوت العريس وصوت العروس وصوت الأرحية ونور السراج وتصير كل هذه الأرض خراباً ودهشاُ وتخدم هذه الشعوب ملك بابل سبعين سنة“ (إرميا 8 : 25 — 11). AM 341.1
ومع أن حكم الدينونة نطق به بكل وضوح فإن السامعين لم يفهموا فحوى ذلك القول المخيف فلكي تكون لهم انطباعات أعمق أراد الرب أن يمثل للشعب معنى الكلام الذي قيل فأمر إرميا أن يشبّه مصير الأمة بإفراغ كأس ممتلئة بخمر غضب الله. ومن بين أول الدول التي كانت ستشرب من هذه الكأس، كأس الشقاء والويل ”أورشليم ومدن يهوذا وملوكها“. وكان آخرون سيشتركون في شرب هذه الكأس، منهم ”فرعون ملك مصر وعبيده ورؤساؤه وكل شعبه“ وكثير من أمم الأرض الأخرى حتى تتم مقاصد الله (انظر إرميا 25). AM 341.2
ولأجل المزيد من تمثيل طبيعة الأحكام القادمة سريعاُ أمر الله النبي أن ”يأخذ من شيوخ الشعب ومن شيوخ الكهنة“ (ثم قال له) ”وأخرج إلى وادي ابن هنوم“. وهناك بعدما استعرض إرتداد يهوذا كان عليه أن يكسر ”ابريق فخاري من خزف“ (كان قد أخذه معه بأمر الرب) ويعلن بالنيابة عن الرب الذي كان هو خادماُ له قائلاً: ”هكذا أكسر هذا الشعب وهذه المدينة كما يُكسر وعاء الفخاري بحيث لا يمكن جبره بعد“. AM 341.3
وقد فعل النبي كما أمر. فلما عاد إلى المدينة وقف في رواق الهيكل وأعلن في مسامع الشعب قائلاً: ”هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل هأنذا جالب على هذه المدينة وعلى قراها كل الشر الذي تكلمت به عليها لأنهم صلّبوا رقابهم فلم يسمعوا لكلامي“ (انظر إرميا 19). AM 342.1
ولكن أقوال النبي بدلاً من أن تقودهم إلى الاعتراف والتوبة أثارت غضب ذوي السلطة العليا وكان من نتائج ذلك أن جرّد إرميا من حريته. ومع أنه كان سجيناً ورجلاه في المقطرة فقد ظل النبي يتكلم برسالة السماء في مسامع الواقفين لديه فلم يمكن للاضطهاد أن يسكت صوته وقد أعلن عن كلام الحق قائلاً أنه: ”كان في قلبي كنار مُحرقة محصورة في عظامي، فمللت من الإمساك ولم أستطع“ (إرميا 20 : 9). AM 342.2
وحدث في نحو هذا الوقت أن الرب أمر إرميا بأن يشرع في كتابة الرسائل التي رغب في تبليغها إلى أولئك الذين كان قلبه العطوف يتوق إلى خلاصهم فأمر الرب خادمه قائلاً: ”خذ لنفسك درج سفر واكتب فيه كل الكلام الذي كلمتك به على إسرائيل وعلى يهوذا وعلى كل الشعوب من اليوم الذي كلمتك فيه من أيام يوشيا إلى هذا اليوم لعل بيت يهوذا يسمعون كل الشر الذي أنا مفكر أن أصنعه بهم ليرجعوا كل واحد عن طريقه الرديء فأغفر ذنبهم وخطيتهم“ (إرميا 36 : 2، 3). AM 342.3
فامتثالاً لهذا الأمر دعا إرميا لمساعدته صديقاُ أميناً هو باروخ الكاتب وملى عليه: ”كل كلام الرب الذي كلمه به“ (إرميا 4 : 36). وقد كتب هذا الكلام بكل حرص في درج من الجلد وفيه توبيخ مقدّس وخطير وإنذار بعواقب الارتداد المستمر الأكيدة ودعوة حارة ترك الشر. AM 342.4
وعندما أكملت الكتابة أرسل إرميا الذي كان سجيناً، باروخ ليقرأ الدرج في مسامع الجماهير الذين كانوا مجتمعين في الهيكل بمناسبة يوم صوم قومي: ”في السنة الخامسة ليهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا في الشهر التاسع“ وقد قال النبي ”لعل تضرعهم يقع أمام الرب فيرجعوا كل واحد عن طريقه الرديء لأنه عظيم الغضب والغيظ اللذان تكلّم بهما الرب على هذا الشعب“ (إرميا 7 : 9 : 36). AM 343.1
وقد أطاع باروخ وقرأ السفر أمام كل شعب يهوذا. وبعد ذلك دُعي الكاتب ليمثل أمام الرؤساء ليقرأ لهم الكلام. وقد أصغوا بإهتمام عظيم ووعدوا بأن يخبروا الملك بكل ما سمعوه، ولكنهم نصحوا الكاتب بأن يذهب ويختبئ إذ كانوا يخشون لئلا يرفض الملك الشهادة ويحاول قتل من أعد الرسالة ومن قرأها. AM 343.2
وعندما أخبر الرؤساء الملك يهوياقيم بما قرأه باروخ في مسامعهم أمر بإحضار السفر في الحال وبأن يُتلى على مسامعه. وقد ذهب ”يهودي“ وهو أحد عبيد الملك وأحضر السفر وابتدأ يتلو كلام التوبيخ والإنذار. كان ذلك في فصل الشتاء وكان الملك وزملاؤه من رجال الدولة ورؤساء يهوذا مجتمعين معاً حول نار موقده. فبعدما قرئ جزء صغير من الرسالة وإذ لم يكن الملك مرتعباً من الخطر المعلق فوق رأسه ورؤوس شعبه أمسك بالسفر وفي شدّة غضبه ”شقه بمبراة الكاتب وألقاء إلى النار التي في الكانون حتى فني كل الدرج“ (إرميا 36 : 23). AM 343.3
ولم يخف الملك ولا الرؤساء ”ولا شققوا ثيابهم“. ومع ذلك فإن بعضاُ من الرؤساء: ”ترجوا الملك أن لا يحرق الدرج فلم يسمع لهم“. فبعدما احترق السفر اشتعل غضب الملك الشرير على إرميا وباروخ وفي الحال أرسل الملك رجالاً ليقبضوا عليهما: ”ولكن الرب خبأهم“ (إرميا 26 : 24 : 26). AM 343.4
إذ لفت الله انتباه العابدين في اليهكل والرؤساء والملك إلى الإنذارات المكتوبة في الدرج الموحي به، كان في رحمته يحاول أن ينذر رجال يهوذا لخيرهم فقال: ”لعل بيت يهوذا يسمعون كل الشر الذي أنا مفكر أن أصنعه بهم فيرجعوا كل واحد عن طريقه الرديء فأغفر ذنبهم وخطيتهم“ (إرميا 3 : 36). إن الله يشفق على الناس الذين يكافحون في فسادهم الأعمى، ويحاول أن ينير الأذهان المظلمة بإرسال التوبيخ والتهديد ليجعل المرتفعين من الناس يحسون بجهلهم وينوحون على خطاياهم. وهو يحاول أن يساعد من هم راضون عن أنفسهم كيلا يرضوا بما هم عليه بل يسعون في طلب البركة الروحية عن طريق الاتصال الوثيق بالسماء. AM 344.1
إن خطة الله ليست هي إرسال رسل لكي يتملّقوا الخطاة وهو لا يرسل رسائل السلام ليهدد غير المكرسين في طمأنينتهم الجسدية. ولكنّه بدلاً من ذلك يضع أعباء ثقيلة على ضمير فاعل الشر ويطعن نفسه بسهام التبكيت الحادة. ثم أن الملائكة الخادمين يقدّمون له أحكام الله المخيفة ليعمقوا شعوره بالحاجة وليستخلصوا منه صرخة الحزن فيسأل بإهتمام قائلاً في الحال ”ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص؟“ (أعمال 16 : 30). ولكن اليد التي تضع في التراب وتوبخ الخطيئة وتجلّل الكبرياء والطموح بالعار هي اليد التي ترفع التائبين المنسحقين. فذاك الذي يسمح بوقوع التأديب يسأل ذلك الإنسان برقة عظيمة قائلاً: ”ماذا تريد أن أصنع بك؟“. AM 344.2
عندما يخطئ الإنسان ضد الإله القدوس الرحيم فليس أشرف له ولا أكرم من أن يسير في طريق التوبة الخالصة معترفاُ بخطاياه بدموع وهو مر النفس. وهذا ما يطلبه الله منه، فهو لا يقبل شيئاً أقل من القلب المنكسر والروح المنسحقة ولكن الملك يهوياقيم ورؤساؤه رفضوا دعوة الله في عجرفة وكبرياء فلم يلتفتوا إلى الإنذار ولم يتوبوا. أن فرصة الرحمة المقدّمة لهم عند إحراق الدرج المقدّس كانت آخر فرصة لهم وقد أعلن الله أنهم إن رفضوا سماع صوته في ذلك الحين فسيجلب عليهم عقاباً مخيفاً. وقد رفضوا السماع فنطق بآخر حكم على يهوذا مفتقداً بغضبه الخاص الذي تشامخ في كبريائه وترفع فوق الله القدير. AM 345.1
”هكذا قال الرب عن يهوياقيم ملك يهوذا لا يكون له جالس على كرسي داود. وتكون جثته مطروحة للحر نهاراً وللبرد ليلاً. وأعاقبه ونسله وعبيده على إثمهم. واجلب عليهم وعلى سكان أورشليم وعلى رجال يهوذا كل الشر الذي كلّمتهم عنه“ (إرميا 36 : 30، 36). AM 345.2
لم يكن إحراق الدرج هو فصل الخطاب في الأمر. إن التخلص من الكلام المكتوب كان أمراً سهلاً أما التوبيخ والإنذار المتضمن في ذلك الكلام، والقصاص السريع الذي قضى به الله على شعب إسرائيل العاصي فلم يكن ممكناً التخلّص منه بمثل تلك السهولة ولكن حتى الدرج الذي قضى به الله على شعب إسرائيل العاصي فلم يكن ممكناً التخلّص منه بمثل تلك السهولة. ولكن حتى الدرج الذي أحرق بالنار أعيد نسخه. فقد أمر الرب خادمه قائلاً: ”عد فخذ لنفسك درجاً آخر وأكتب فيه الكلام الأول الذي كان في الدرج الأول الذي أحرقه يهوياقيم ملك يهوذا“. إن ذلك السفر الذي كان يحتوي على النبوات عن يهوذا وأورشليم كان قد أحرق وصار رماداً، ولكن الكلام كان لا يزال حياً في قلب إرميا ”كنار محرقة“ وقد سُمح للنبي بأن يعيد نسخ ما أراد غضب الإنسان ملاشاته. AM 345.3
فإذا أخذ إرميا درجاً آخر أعطاه لباروخ الذي ”كتب فيه عن فم إرميا كل كلام السفر الذي أحرقه يهوياقيم ملك يهوذا بالنار وزيد عليه أيضاً كلام كثير مثله“ (إرميا 36 : 28، 32). لقد حاول غضب الإنسان أن يعطل ويمنع خدمات نبي الله ولكن نفس الوسائل التي حاول بها يهوياقيم أن يحد من تأثير خادم الرب قدّمت فرصة جديدة لتوضيح الأوامر الإلهية. AM 346.1
إن روح مقاومة التوبيخ التي أدّت إلى إضطهاد إرميا وسجنه لا تزال باقية إلى اليوم. إن كثيرين يرفضون أن يلقوا بالاً إلى الإنذارات المتكررة، ويؤثرون على ذلك، الإصغاء إلى المعلّمين الكذبة الذين يشجعون أباطيلهم ويغضون عن شرورهم. أمثال هؤلاء لن يجدوا ملجأ أميناً يلوذون به في يوم الضيق والبلية ولا يحصلون على معونة من السماء. فعلى خدّام الله المختارين أن يواجهوا التجارب والآلام التي تصيبهم من جراء الإهمال والتشهير وسوء الفهم بشجاعة وصبر. عليهم أن يواظبوا على أداء عملهم الذي قد أعطي لهم ليعملوه بأمانة متذكرين دائماً أن الأنبياء في القديم ومخلّص الجنس البشري ورسله أيضاً إحتملوا الإهانات والاضطهادات لأجل الكلمة. AM 346.2
لقد كان قصد الله أن ينتبه يهوياقيم إلى مشورات إرميا وهكذا ينال نعمة في عيني نبوخذنصر، ويوفر على نفسه كثيراً من الآلام والأحزان. لقد حلف الملك الشاب يمين الولاء بين يد ملك بابل، فلو ظل أميناً في وعده لكان قد ظفر باحترام الأمم وكان هذا ينتهي إلى الحصول على فرص ثمينة لهداية النفوس. AM 346.3
إذ ازدرى ملك يهوذا بالامتيازات الفريدة الممنوحة له أصر على إتباع الطريق الذي يختاره. فلقد حنث في وعد الشرف الذي قطعه مع ملك بابل وتمرد عليه. وهذا جعله وشعبه في مأزق حرج جداُ. فقد جرد عليه ”غزاة الكلدانيين وغزاة الآراميين وغزاة بني عمون“ (2 ملوك 2 : 24). فأمسى عاجزاً عن منع هؤلاء الغزاة من اقتحام بلاده وفي خلال سنين قليلة اختتم سني ملكه المشؤومة بالعار. فرفضته السماء وصار مكروهاً من أمته وشعبه واحتقره حكام بابل الذين خان ثقتهم فيه — وكل هذا نتج عن غلطته المميتة في انصرافه عن قصد الله الذي أعلنه له رسوله المختار. AM 347.1
أما يهوياكين بن يهوياقيم (ويعرف أيضاُ بيكنياً وكنياهو) فقد جلس على العرش ثلاثة أشهر وعشرة أيام فقط وبعد ذلك استسلم لجيوش الكلدانيين التي بسبب تمرد ملك يهوذا عادت فحاصرت المدينة المقضي عليها بالهلاك. وفي ذلك الحين سبي نبوخذنصر: ”يهوياكين إلى بابل وأم الملك ونساء الملك وخصيانه وأقوياء الأرض“، ويصل عددهم إلى عدة آلاف ”والصناع والاقيان ألف“. ومع هؤلاء أخذ ملك بابل ”جميع خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك“ (2 ملوك 24 : 15، 16، 13). AM 347.2
فإذ تحطمت قوة مملكة يهوذا وجُرّدت من قوّتها في الرجال وفي الأموال سُمح لها مع ذلك أن تبقى كحكومة منفصلة. وقد أقام نبوخذ نصر عليه متنيّاً ابن يوشيا الأصغر. وقد غير اسمه إلى صدقيا. AM 347.3