الأنبياء والملوك
الفصل الرابع والثلاثون —إرميا
كان إرميا واحداً من الذين كانوا يرجون حدوث انتعاش روحي دائم نتيجة للإصلاح الذي قام به يوشيّا، وقد دعاه الله ليشغل الوظيفة النبوية ولم يزل في طور الحداثة في السنة الثالثة عشرة من ملك يوشيّا. فإذ كان إرميا واحداً من الكهنة اللاويين فقد تدرّب على الخدمة المقدّسة منذ طفولته. وفي تلك السنين السعيدة، سني الاستعداد، لم يكن يعلم أنه قد عُيّن منذ ولادته ليكون: ”نبياً للشعوب“، وعندما جاءته دعوة الله غمره إحساس بعدم الاستحقاق فصرخ قائلاً: ”آه يا سيد الرب إني لا أعرف أن أتكلّم لأني ولد“ (إرميا 1 : 5، 6). AM 325.1
لقد رأى الله في إرميا الشاب شخصاُ يمكن استئمانه على وديعته للوقوف إلى جانب الحق ضد المقاومة الشديدة. ففي صباه برهن على أمانته، والآن عليه احتمال المشقات كجندي صالح للصليب. وقد أمر الرب رسوله المختار قائلاً: ”لا تقل إني ولد لأنك إلى كل من أرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما آمرك به. لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأنقذك“ ”أما أنت فنطق حقويك، وقم وكلّمهم بكل ما آمرك به. لا ترتع من وجوههم لئلا أريعك أمامهم. هأنذا قد جعلتك اليوم مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض. لملوك يهوذا ولرؤسائها ولكهنتها ولشعب الأرض فيحاربونك ولا يقدرون عليك لأني أنا معك يقول الرب لأنقذك“ (إرميا 1 : 7، 8، 17 — 19). AM 325.2
ولمدى أربعين سنة كان على إرميا أن يقف أمام الأمة شاهداً للحق والبر. وفي وقت ارتداد لا مثيل له. كان عليه أن يمثّل في حياته وصفاته عبادة الإله الحقيقي الوحيد. وفي غضون فترات الحصار الرهيبة التي وقعت على أورشليم تعيّن عليه أن يكون كليماً للرب، ويتنبأ بسقوط بيت داود وخراب الهيكل الجميل الذي بناه سليمان. وعندما زج به في السجن بسبب أقواله الجريئة كان عليه أن يتكلّم بصراحة ضد الخطيئة في المرتفعات، وإذ كان محتقراً ومنبوذاً من الناس توجّب عليه أخيراً أن يشهد الإتمام الحرفي لنبواته عن الدينونة المحدقة بالعصاة ويشاطر أمّته في تحمّل الحزن والشقاء اللذين سيأتيان نتيجة للخراب المحكوم به على المدينة المنكودة. AM 323.1
ومع ذلك ففي وسط الخراب العام الذي كانت الأمة ستجتازه سُمح لإرميا أن يتأمّل ملياً عبر المشاهد المحزنة الراهنة إلى آمال المستقبل المجيدة عندما يُفتدى شعب الله من أرض العدوّ ويُغرس في صهيون مرة أخرى. وقد سبق فرأى الزمان الذي فيه سيجدّد الرب صلة عهده معهم: ”وتكون نفسهم كجنّة ريّا ولا يعودون يذنبون بعد“ (إرميا 31 : 12). AM 323.2
وقد كتب إرميا نفسه عن مأموريته النبوية فقال: ”ومد الرب يده ولمس فمي وقال الرب لي ها قد جعلت كلامي في فمك. انظر قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس“ (إرميا 1 : 9، 10). AM 323.3
شكراً لله على هاتين الكلمتين ”تبني وتغرس“. فهاتان الكلمتان تؤكدان لإرميا غرض الرب في الاسترداد والشفاء. كانت الرسائل التي عليه أن يحملها في السنين التالية صارمة. كما تعيّن عليه أن ينطق بالنبوات بلا خوف، تلك التي تتكلّم عن الأحكام القادمة سريعاً. وقد أعلن الرب قائلاً أنه من سهول شنعار: ”من الشمال ينفتح الشر على كل سكان الأرض“، ”وأقيم دعواي على كل شرهم لأنهم تركوني“ (إرميا 1 : 14، 16). ومع ذلك فكان على النبي أن يرفق هذه الأقوال بيقين الغفران لكل من يرجعون عن شرورهم. AM 323.4
وكبناء حكيم حاول إرميا في بدء عمل حياته تشجيع شعب يهوذا لوضع أسس حياتهم الروحية بحيث تكون واسعة وعميقة وذلك بتوبتهم توبة صادقة. وقد ظلّوا أمداً طويلاً يبنون بمواد شبّهها بولس الرسول بالخشب والعشب والقش، وشبّهها إرميا نفسه بالزغل. وأعلن عن الأمة غير التائبة قائلاً: ”فضّة مرفوضة يدعون لأن الرب قد رفضهم“ (إرميا 6 : 30). والآن ها هو يلح عليهم كي يبدأوا في البناء بحكمة لأجل الأبدية، طارحين جانباً نفاية الارتداد وعدم الإيمان وجاعلين الأساس من الذهب النقي والفضّة المصفاة والحجارة الكريمة — الإيمان والطاعة والأعمال الصالحة — التي هي بالذات دون سواها مقبولة أمام الإله القدوس. AM 324.1
وكانت كلمة الرب إلى شعبه على لسان إرميا تقول: ”ارجعي أيتها العاصية إسرائيل .. لا أوقع غضبي بكم لأني رؤوف، يقول الرب. لا أحقد إلى الأبد. اعرفي فقط إثمك أنك إلى الرب إلهك أذنبت .. ارجعوا أيها البنون العصاة يقول الرب لأني سدت عليكم“. ”تدعينني يا أبي ومن ورائي لا ترجعين“. ”ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم“ (إرميا 3 : 12 — 14، 19، 22). AM 324.2
وبالإضافة إلى هذه التوسلات العجيبة قدّم الرب لشعبه الضال الكلام ذاته الذي به يمكنهم أن يرجعوا إليه. فكان عليهم أن يقولوا: ”ها قد أتينا إليك أنت الرب إلهنا. حقاً باطلة هي الاكام ثروة الجبال. حقاُ بالرب إلهنا خلاص إسرائيل .. نضطجع في خزينا ويغطينا خجلنا لأننا إلى الرب إلهنا أخطأنا نحن وأباؤنا منذ صبانا إلى هذا اليوم ولم نسمع لصوت الرب إلهنا“ (إرميا 3: 22 — 25). AM 324.3
إن الإصلاح الذي أجري على يدي يوشيّا طهّر البلاد من مذابح الأوثان، ولكن قلوب الشعب لم تكن قد تغيّرت. وبذار الحق الذي كان قد نما ويبشر بحصاد وفير، خنقه الشوك. فلو حدث عصيان آخر لكان فيه الهلاك، وقد حاول الرب أن يوقظ الأمة لتتنبه إلى الخطر المحدق بها. فلا رجاء لهم في رضى الله ولا في النجاح إلا إذا برهنوا على ولائهم للرب. AM 325.1
وقد لفت إرميا انتباههم مراراً إلى الوصايا الواردة في سفر التثنية. وشدّد أكثر من أي نبي آخر على تعاليم الشريعة المسلّمة إلى موسى، وأظهر كيف أن هذه التعاليم يمكن أن تأتي بأسمى البركات الروحية للأمة ولكل قلب. وتوسّل إليهم قائلاً: ”اسألوا عن السبل القديمة أين هو الطريق الصالح وسيروا فيه فتجدوا راحة لنفوسكم“ (إرميا 6 : 16). AM 325.2
وقد ذهب النبي بأمر الرب ذات يوم واتّخذ موقفه عند أحد أبواب المدينة الرئيسية وجعل يشدّد ويحث الشعب على ضرورة حفظ يوم السبت مقدساً. كان سكان أورشليم في خطر اغفال قدسية السبت، فلفت نظرهم بإنذار خطير بألا يزاولوا أعمالهم الدنيوية اليومية في السبت. وقدّم الوعد بالبركة شرط الطاعة، وأعلن الرب قائلاً: ”ويكون إذا سمعتم لي سمعاً“ و ”قدّستم يوم السبت ولم تعملوا فيه شغلاُ ما. أنه يدخل في أبواب هذه المدينة ملوك ورؤساء جالسون على كرسي داود راكبون في مركبات وعلى خيل هم ورؤساؤهم رجال يهوذا وسكّان أورشليم وتسكن هذه المدينة إلى الأبد“ (إرميا 17 : 24، 25). AM 325.3
هذا الوعد بالنجاح جزاء الولاء، كانت ترافقه نبوّة عن الأحكام الرهيبة التي كانت ستحل بالمدينة لو برهن سكّانها على خيانتهم لله ولشريعته، فإذا لم يكترثوا للإنذارات بالطاعة للرب إله آبائهم وبتقديس يوم سبته فستحترق المدينة وصورها بالنار وتُمسي خراباً يباباً. AM 326.1
وهكذا وقف النبي بثبات في جانب مبادئ الحياة السليمة المستقيمة المرسومة بكل جلاء في سفر الشريعة إلا أن الظروف التي سادت في أرض يهوذا لم تكن ملائمة بحيث كان يتعذّر إجراء تغيير للأفضل من دون إجراءات حاسمة. لذلك خدم إرميا بكلّ غيرة لأجل التائبين. وتوسّل إليهم قائلاً: ”احرثوا لأنفسكم حرثاً ولا تزرعوا في الأشواك“، ”اغسلي من الشر قلبك يا أورشليم لكي تخلصي“ (إرميا 4 : 3، 14). AM 326.2
ولكن لم تكترث الأكثرية العظمى من الشعب لهذه الدعوة إلى التوبة والإصلاح. فمنذ أن مات الملك يوشيّا الصالح برهن الملوك الذين حكموا الأمة بعده على خيانتهم للأمانة التي في حوزتهم وأضلّوا كثيرين. فيهواحاز الذي خُلع عن عرشه بتدخل ملك مصر خلفه يهوياقيم الإبن الأكبر ليوشيّا، ومنذ تولي يهوياقيم الملك كان إرميا ضعيف الأمل في إنقاذ بلاده المحبوبة من الهلاك ونجاة الشعب من السبي، ومع ذلك فلم يسمح لنفسه بالبقاء صامتاُ في حين كان الدمار الكامل يهدد المملكة. فينبغي تشجيع الذين ظلّوا على ولائهم لله لأجل المواظبة على عمل الحق. كما ينبغي إقناع الخطأة ما امكن بالرجوع عن الإثم. AM 326.3
كانت الأزمة تتطلّب بذل جهد جاد بعيد المدى. فأمر الرب إرميا بالوقوف في رواق الهيكل ليكلّم شعب يهوذا الداخلين والخارجين. ولم يكن مسموحاً له أن ينقص شيئاً من الرسائل المُعطاة له، لإعطاء الخطاة الذين في صهيون أكبر فرصة ممكنة ليسمعوا ويرجعوا عن طرقهم الشريرة. AM 326.4
وقد أطاع النبي ووقف في باب بيت الرب ورفع صوته محذّراً ومتوسّلاً. وبإلهام الله القدير أعلن قائلاً: ”اسمعوا كلمة الرب يا جميع يهوذا الداخلين في هذه الأبواب لتسجدوا للرب. هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل اصلحوا طرقكم وأعمالكم فأسكنكم في هذا الموضع. لا تتكلوا على كلام الكذب قائلين هيكل الرب هيكل الرب هيكل الرب هو. لأنكم إن أصلحتم إصلاحاً طرقكم وأعمالكم. إن أجريتم عدلاً بين الإنسان وصاحبه. إن لم تظلموا الغريب واليتيم والأرملة ولم تسفكوا دماَ زكياً في هذا الموضع ولم تسيروا وراء آلهة أخرى لأذائكم فإني أسكنكم في هذا الموضع في الأرض التي أعطيت لآبائكم من الأزل وإلى الأبد“ (إرميا 7 : 2 — 7). AM 327.1
إن نفور الرب من التأديب يُرى هنا بوضوح تام. فهو يوجّل أحكامه ويحجزها ليتوسّل إلى غير التائبين. فذاك الذي يصنع ”رحمة وقضاء وعدلاً في الأرض“ (إرميا 9 : 24) يحنّ شوقاً إلى أولاده الخطاة، ويحاول بكلّ وسيلة ممكنة أن يعلّمهم طريق الحياة الأبدية، لقد أخرج الإسرائليين من العبودية كي يعبدوه بوصفه الإله الحي الحقيقي الوحيد. وبالرغم من أنهم أوغلوا في الوثنية واستخفوا بإنذاراته، فهو مع ذلك يعلن الآن استعداده لأن يؤخّر التأديب ويمنحهم فرصة أخرى للتوبة. وهو يوضّح هذه الحقيقة لأنه بالإصلاح القلبي الكامل وحده يمكن تفادي الهلاك الذي يتهددهم، فعبثاً يتّكلون على الهيكل وخدماته. لأن الطقوس والفرائض لا تستطيع التكفير عن الخطيئة. وبالرغم من ادّعائهم أنهم شعب الله المختار فإنّ إصلاح القلب والحياة يستطيع دون سواه أن ينقذهم من العاقبة الحتمية لعصيانهم المستمر. AM 327.2
وهذا ما حدث فعلاً. ففي مدن يهوذا وفي شوارع أورشليم ”كانت رسالة إرميا إلى شعب يهوذا هي هذه: ”اسمعوا كلام هذا العهد“ — وصايا الرب الواضحة كما هي مسجّلة في الأسفار المقدّسة — ”واعملوا به“ (إرميا 11 : 6). وهذه هي الرسالة التي أعلنها وقف في أروقة الهيكل في بداءة حكم يهوياقيم. AM 328.1
وقد روجع اختبار الشعب منذ أيام الخروج باختصار. وكان عهد الله معهم هو هذا: ”اسمعوا صوتي فأكون لكم إلهاً وأنتم تكونون لي شعباً، وسيروا في كلّ الطريق الذي أوصيكم به ليُحسَن إليكم“ ولكنّهم نكثوا هذا العهد مراراً وتكراراً في غير استيحاء. فالشعب المختار سار ”في مشورات وعناد قلبهم الشرير واعطوا القفا لا الوجه“ (إرميا 7 : 23، 24). AM 328.2
وقد تساءل الرب قائلاً: ”لماذا ارتدّ هذا الشعب في أورشليم ارتداداً دائماً“ (إرميا 8 : 5). يقول النبي أنه لكونهم لم يطيعوا صوت الرب إلههم وأبوا قبول التأديب (انظر إرميا 5 : 3). لقد ”باد الحق“ هكذا قال النبي وسط الدموع، ”وقُطع عن أفواههم“. ” اللقلق في السموات يعرف ميعاده واليمامة والسنونة المزقزقة حفظتا وقت مجيئهما. أما شعبي فلم يعرف قضاء الرب“ ”أفما أعاقبهم على هذه يقول الرب أم لا تنتقم نفسي من أمة كهذه؟“ (إرميا 7 : 28 ؛ 8 : 7 ؛ 9 : 9). AM 328.3
لقد حان وقت الفحص العميق للقلوب. عندما كان يوشيّا ملكاً عليهم كان يوجد لدى الشعب أساس للرجاء. ولكنّه ما عاد قادراً على التوسّل لأجلهم لأنه سقط في الحرب. كانت خطايا الأمة عظيمة بحيث أن وقت الشفاعة قد انقضى. وقد أعلن الرب قائلاً: ”وان وقف موسى وصموئيل أمامي لا تكون نفسي نحو هذا الشعب. اطرحهم من أمامي فيخرجوا. ويكون إذا قالوا لك إلى أين نخرج إنك تقول لهم، هكذا قال الرب الذين للموت فإلى الموت والذين للسيف فإلى السيف والذين للجوع فإلى الجوع والذين للسبي فإلى السبي“ (إرميا 15 : 1، 2). AM 328.4
إن رفض الانتباه إلى دعوة الرحمة التي كان الله يقدّمها الآن سيجلب على الأمة غير التائبة الأحكام التي حلّت على مملكة إسرائيل الشمالية منذ قرن مضى ويزيد. كانت الرسالة الموجّهة إليهم الآن هي هذه: ”إن لم تسمعوا لي لتسلكوا في شريعتي التي جعلتها أمامكم لكلام عبيدي الأنبياء الذين أرسلتهم أنا إليكم مبكراً ومرسلاً إياهم فلم تسمعوا. إجعل هذا البيت كشيلوه وهذه المدينة اجعلها لعنة لكل شعور الأرض“ (إرميا 26 : 4 — 6). AM 329.1
لقد فهم جيداً، الذين كانوا واقفين في رواق الهيكل وهم يصغون إلى حديث إرميا، هذه الإشارة إلى شيلوه وإلى الوقت الذي كان فيه عهد عالي عندما هزم الفلسطينيون إسرائيل واستولوا على تابوت العهد وأخذوه. AM 329.2
كانت خطيئة عالي تنطوي على إغضائه عن إثم بنيه الذين أسندت إليهم وظيفة مقدسة وعن الشرور التي كانت متفشية في كل البلاد. فإهماله في إصلاح هذه الشرور جلب على الشعب كارثة مخيفة. فقد سقط أباؤه في الحرب، كما مات عالي نفسه، وأخذ تابوت الله من أرض إسرائيل، وقتل من الشعب ثلاثون ألفاً — وكل ذلك سببه السماح للخطيئة أن تنمو وتستشري دون توبيخ أو مقاومة. ظنّ الشعب أنه برغم أعمالهم الشريرة فإن وجود التابوت كفيل أن يحقق انتصارهم على الفلسطينيين. وكذلك في أيام إرميا كان سكّان يهوذا عرضة للاعتقاد أن تدقيقهم في حفظ الخدمات المعنية من الله في الهيكل سيحفظهم من القصاص العادل على مسلكهم الشرير. AM 329.3
ما أعظمه من درس لمن يحتلون مراكز ذات مسؤولية في كنيسة الله اليوم، ويا له من إنذار خطير يقودنا للتعامل بكل أمانة لصدّ تيار الشرور التي تجلب العار على قضيّة الحقّ، فلا يخدعنّ أحد نفسه ممن يدّعون إنهم أؤتمنوا على شريعة الله، بأن تظاهرهم بحفظ وصايا الله وتقديرها سيحفظهم من إجراء العدالة الإلهية. وينبغي ألّا يرفض أحد قبول التوبيخ على الشرّ أو يتّهم خدّام الله بالحماسة المفرطة في محاولتهم تطهير المحلّة من عمل الشر. فالله الذي يكره الخطيئة يدعو الذين يتظاهرون بحفظ شريعته أن يبتعدوا عن كل إثم. إن إهمال التوبة وتقديم الطاعة القلبية الخالصة يجلب على الرجال والنساء اليوم عواقب وخيمة كما حدث لإسرائيل قديماً. فهنالك حدّ لو تعدّاه الإنسان فإن أحكام الرب لا يمكن تأجيلها بعد ذلك. إنّ خراب أورشليم في عهد إرميا هو إنذار خطير لإسرائيل الروحي الآن، من أن المشورات والإنذارات المقدّمة لهم بوسائل مختارة لا يمكن الاستخفاف بها دون قصاص. AM 330.1
وقد أثارت رسالة إرميا إلى الكهنة والشعب العداء في قلوب كثيرين. فبتشهير صاخب صاحوا قائلين: ”لماذا تنبأت باسم الربّ قائلاً مثل شيلوة يكون هذا البيت وهذه المدينة تكون خربة بلا ساكن؟ واجتمع كلّ الشعب على إرميا في بيت الرب“ (إرميا 26 : 9). وقد انقلب الكهنة والأنبياء الكذبة والشعب في غضب شديد ضدّ إرميا الذي لم يرد أن يتكلّم بالناعمات أو يتنبأ بالكذب والدجل وهكذا احقرت رسالة الله وأمسى خدامه مهدداً بالموت. AM 330.2
وقد بلغت أنباء أقوال إرميا إلى رؤساء يهوذا فأسرعوا من قصر الملك إلى الهيكل ليعرفوا بأنفسهم الأمر على حقيقته: ”فتكلّم الكهنة والأنبياء مع الرؤساء وكل الشعب قائلين حقّ الموت على هذا الرجل لأنه تنبأ على هذه المدينة كما سمعتم بأذانكم“ (إرميا 26 : 11). ولكن إرميا وقف بكل شجاعة أمام الرؤساء والشعب وأعلن قائلاً: ”الرب أرسلني لأتنبأ على هذا البيت وعلى هذه المدينة بكلّ الكلام الذي سمعتموه. فالآن اصلحوا طرقكم وأعمالكم واسمعوا لصوت الرب إلهكم فيندم الرب عن الشر الذي تكلّم به عليكم. أما أنا فهأنذا بيدكم، اصنعوا بي كما هو حسن ومستقيم في أعينكم. لكن أعلموا علماً أنكم إن قتلتموني تجعلون دما ذكياً على أنفسكم وعلى هذه المدينة وعلى سكانها لأنه حقاً قد أرسلني الرب إليكم لأتكلّم في آذانكم بكلّ هذا الكلام“ (إرميا 26 : 12 — 15). AM 330.3
فلو كان النبي قد جبن أمام موقف التهديد ممن كانت لهم السلطة العليا لما كان لرسالته أي تأثير وكان قد خسر حياته. ولكن الشجاعة التي ألقى بها ذلك الإنذار الخطير، أرغمت الشعب على احترامه وجعلت رؤساء يهوذا يقفون في صفه. وقد تباحثوا مع الكهنة والأنبياء الكذبة مبينين لهم مقدار جهالة اتّخاذ إجراءات مفرطة في الصرامة كالتي دافعوا عنها. وكان لكلامهم ردّ فعل في أذهان الشعب. وهكذا أقام الله رجالاً دافعوا عن خادمه. AM 331.1
وانضمّ الشيوخ أيضاُ إلى الرؤساء في الاحتجاج ضدّ قرار الكهنة فيما يختصّ بمصير إرميا. واقتبسوا قضية ميخا الذي تنبّأ بأحكام ستقع على أورشليم قائلاً: ”إن صهيون تفلح كحقل وتصير أورشليم خرباً وجبل البيت شوامخ وعر“. ثم سألوا قائلين: ”هل قتلاً قتله حزقيا ملك يهوذا وكل يهوذا ألم يخف الرب وطلب وجه الرب فندم الرب عن الشر الذي تكلّم به عليهم فنحن عاملون شراً عظيماً ضد أنفسنا“ (إرميا 26 : 18، 19) AM 331.2
وقد أبقي على حياة النبي بفضل توسّلات هؤلاء الرجال ذوي النفوذ، مع أن كثيرين من الكهنة والأنبياء الكذبة كان يسرّهم لو قُضي عليه بالموت بحجّة كونه أثار فتنة، لأنهم لم يكونوا يستطيعون احتمال الحقائق التي نطق بها وأدانتهم. AM 332.1
لقد وقف إرميا منذ دُعي للخدمة إلى نهاية خدمته أمام شعب يهوذا كـ ”برج وحصن“ ولم يستطع غضب الإنسان الانتصار عليه. وقد سبق الرب فأنذر عبده قائلاً: ”يحاربونك ولا يقدرون عليك لأني معك لأخلّصك وانقذك من يد الأشرار وافديك من كف العتاة“ (إرميا 6 : 27 ؛ 15 : 20، 21). AM 332.2
إذ كان إرميا بطبيعته خجولاً ومنكمشاُ كان يتوق إلى حياة الهدوء والسلام في خلوة أو معتكف حيث لم يكن ليشاهد صلابة قلوب أبناء أمته المحبوبة وعدم توبتهم المستمرة. لقد اعتصر الحزن والألم قلبه وهو يرى الدماء الذي أحدثته الخطيئة. فقد ناح قائلاً: ”يا ليت رأسي ماء وعيني ينبوع دموع فأبكي نهاراُ وليلاً قتلى بنت شعبي، يا ليت لي في البرية مبيت مسافرين فأترك شعبي وانطلق من عندهم“ (إرميا 9 : 1، 2). AM 332.3
وما كان أقسى ألفاظ السخرية التي دعي لاحتمالها. لقد اخترقت نفسه الحسّاسة، مراراً، سهام الاستهزاء التي أمطره بها أولئك الذين ازدروا برسائله واستخفوا بالعبء الذي كان يحمله لأجل هدايتهم. فقد أعلن قائلاً: ”صرت ضحكة لكل شعبي وأفنية لهم اليوم كله“. ”صرت للضحك كل النهار. كل واحد استهزأ بي. ”كل أصحابي يراقبون ظلعي (كبوتي) قائلين لعله يُطغى (يتعثر) فنقدر عليه وننتقم منه“ (مراثي 3 : 14، إرميا 20 : 7، 10). AM 332.4
ولكن النبي الأمين نال العون على الاحتمال في كل يوم. وقد أعلن في إيمان يقول: ”ولكن الرب معي كجبار قدير. من أجل ذلك يعثر مضطهدي ولا يقدرون. خزوا جداً لأنهم لم ينجحوا. خزياً أبدياً لا ينسى“. ”رنموا للرب سبحوا الرب لأنه قد انقذ نفس المسكين من يد الأشرار“ (إرميا 20 : 11، 13). AM 332.5
إن الإختبارات التي جاز فيها إرميا في أيام شبابه، وكذلك في أواخر سني خدمته علّمته هذا الدرس وهو: ”أنه ليس للانسان طريقه. ليس لإنسان يمشي أن يهدي خطواته“ وقد تعلّم أيضاً أن يصلّي قائلاً: ”أدبني يا رب ولكن بالحق لا بغضبك لئلا تفنيني“ (إرميا 10 : 23، 24). AM 333.1
وعندما دُعي ليشرب من كأس البليّة والضيق والحزن، وجُرّب أن يقول وهو في شقائه: ”بادت ثقتي ورجائي من الرب“، عاد فذكر أعمال عناية الله التي عملها لأجله فهتف هتاف الانتصار قائلاً: ”إنه من إحسانات الرب أننا لم نفن. لأن مراحمه لا تزول. هي جديدة في كل صباح. كثيرة أمانتك. نصيبي هو الرب قالت نفسي من أجل ذلك أرجوه. طيب هو الرب للذين يترجونه، للنفس التي تطلبه. جيد أن ينتظر الإنسان ويتوقع بسكوت خلاص الرب“ (مراثي 3 : 18، 22 — 26). AM 333.2