الأنبياء والملوك

34/70

الفصل التاسع والعشرون —سفراء من بابل

أصيب الملك حزقيا فجأة في منتصف سنّي ملكه الناجح بمرض مميت، وكانت حالته فوق تعزيات البشر ومعونتهم. وقد بدا كأنه قد انقطع عنه آخر رجاء عندما أتاه النبي إشعياء وقدّم له هذه الرسالة: ”هكذا يقول الرب أوص بيتك لأنك تموت ولا تعيش“ (إشعياء 38 : 1). AM 276.1

كان المستقبل مظلماً تماماً، ومع ذلك فقد أمكن للملك أن يصلّي إلى الله الذي سبق أن كان له ”ملجأ وقوة، عوناً في الضيقات“ (مزمور 46 : 1). وهكذا ”وجّه وجهه إلى الحائط وصلّى إلى الرب قائلاً آه يا رب اذكر كيف سرت أمامك بالأمانة وبقلب سليم وفعلت الحسن في عينيك. وبكى حزقيا بكاء عظيماً“ (2 ملوك 20 : 2، 3). AM 276.2

منذ أيام داود لم يقم ملك عمل بقوة عظيمة لأجل إقامة ملكوت الله في أيام الارتداد والمخاوف كما قد فعل حزقيا. لقد خدم ذلك الملك المحتضر إلهه بكلّ أمانة وشدّد ثقة شعبه في الرب بوصفه ملكهم الأعلى. وكداود أمكنه أن يتوسل قائلاً: AM 276.3

”لتأت قدامك صلاتي. أما اذنك إلى صراخي لأنه قد شبعت من المصائب نفسي وحياتي إلى الهاوية دنت“ (مزمور 88 : 2، 3). AM 276.4

”لأنك أنت رجائي يا سيدي الرب، متكلي منذ صباي. عليك استندت“. ”لا تتركني عند فناء قوتي“. ”يا الله لا تبعد عني. يا إلهي إلى معونتي أسرع“. ”يا الله لا تتركني حتى أخبر بذراعك الجيل المقبل وبقوتك كل آت“ (مزمور 71 : 5، 9، 12، 18). AM 277.1

فذاك الذي ”مراحمه لا تزول“ (مراثي 3 : 22). سمع صلاة عبده: ”ولم يخرج إلى المدينة الوسطى“ { ”وقبل أن يبلغ إشعياء فناء القصر الأوسط“ } (الترجمة التفسيرية). حتى كان كلام الرب إليه قائلاً: ارجع وقل لحزقيا رئيس شعبي. هكذا قال الرب إله داود أبيك. قد سمعت صلاتك قد رأيت دموعك. ها أنا أشفيك في اليوم الثالث تصعد إلى بيت الرب. وأزيد على أيامك خمس عشرة سنة وأنقذك من يد ملك أشور مع هذه المدينة وأحامي عن هذه المدينة من أجل نفسي ومن أجل داود عبدي“ (2 ملوك 20 : 4 — 6). AM 277.2

وقد عاد النبي فرحاً وهو يحمل كلام اليقين والرجاء. فإذ أشار إشعياء بأن يضعوا قرص تين على مكان الألم من جسم الملك، قدّم له رسالة رحمة الله ورعايته الحافظة. AM 277.3

وكما حدث مع موسى وهو في أرض مديان. ومع جدعون وهو ماثل في حضرة رسول السماء، ومع أليشع قبيل صعود سيده. كذلك توسّل حزقيا في طلب علامة تؤكد له أن تلك الرسالة هي من السماء. فسأل النبي قائلاً: ”ما العلامة أن الرب يشفيني فأصعد في اليوم الثالث إلى بيت الرب؟“. AM 277.4

فأجابه النبي قائلاً: ”هذه لك علامة من قبل الرب على أن الرب يفعل الأمر الذي تكلّم به. هل يسير الظل عشر درجات أو يرجع عشر درجات؟“ فأجاب حزقيا يقول: ”إنه يسير على الظل أن يمتد عشر درجات، لا بل يرجع الظل إلى الوراء عشر درجات“. AM 277.5

ما كان يمكن للظل الذي على المزولة (ساعة شمسية) أن يرجع عشر درجات إلى الوراء لو لم يتدخل الله تدخلاً مباشراً. وكانت هذه علامة لحزقيا أن الله قد سمع صلاته. وتبعاُ لذلك: ”دعا إشعياء النبي الرب فأرجع الظل بالدرجات التي بها بدرجات آحاز عشر درجات إلى الوراء“ (2 ملوك 20 : 8 — 11). (ونشجع القارئ الكريم على مراجعة هذه الآيات في الترجمة التفسيرية أيضاً — المحرر). AM 278.1

فإذ رجعت إلى ملك يهوذا صحّته العادية وقوّته اعترف بمراحم الرب في ترنيمة جميلة، ونذر أن يقضي باقي أيام عمره في خدمة طوعية لملك الملوك. إنّ اعترافه الشكور بمعاملة الله الرحيمة معه هو بمثابة الهام لكل من يتوقون لأن يقضوا سنيهم فيما يؤول لمجد صانعهم. قال حزقيا: AM 278.2

”أنا قلت .. في عز أيامي اذهب إلى أبواب الهاوية. قد أعدمت بقية سنّي. قلت لا أرى الرب، الرب في أرض الأحياء. لا أنظر إنساناً بعد من سكان الفانية. مسكني قد انقلع وانتقل عني كخيمة الراعي. لففت كالحائك حياتي. من النول يقطعني. النهار والليل تفنيني صرخت إلى الصباح. كالأسد هكذا يهشم جميع عظامي. النهار والليل تفنيني صرخت إلى الصباح. كسنونة مزقزقة هكذا أصيح. أهدر كحمامة. قد ضعفت عيناي ناظرة إلى العلاء. يا رب قد تضايقت. كن لي ضامناً. بماذا اتكلّم فإنه قال لي وهو قد فعل. أتمشّى متهملاً كل سّني من أجل مرارة نفسي. أيها السيد بهذه يحيون وبها كل حياة روحي فتشفيني وتحييني. هوذا للسلامة قد تحوّلت لي المرارة وأنت تعلقت بنفسي من وهدة الهلاك فإنك طرحت وراء ظهرك كل خطاياي. أن الهاوية لا تحمدك الموت لا يسبحك. لا يرجوا الهابطون إلى الجب أمانتك. الحي الحي هو يحمدك كما أنا اليوم. الأب يُعرّف البنين حقّك. فنعزف بأوتارنا كل أيام حياتنا في بيت الرب“ (إشعياء 38 : 10 — 20 انظر أيضاً الترجمة التفسيرية). AM 278.3

في وديان نهر دجلة والفرات الخصبة كانت تسكن أمة عريقة، وهي وإن كانت خاضعة لأشور حينئذ، إلا أنه كان من المقدّر لها أن تحكم العالم. وكان يوجد بين شعبها رجال حكماء اهتمّوا اهتماماً عظيماً بدراسة علم الفلك، وعندما لاحظوا أن الظلّ على المزولة (الساعة الشمسية) رجع عشر درجات أصابتهم الدهشة. فإذ سمع مرودخ بلدان ملكهم أن هذه المعجزة تمّت كعلامة لملك يهوذا على أن إله السماء قد مدّ في أجله، أرسل رسلاً إلى حزقيا لتهنئته بالشفاء، وليعرفوا، إذا أمكن شيئاً أكثر عن الإله الذي استطاع أن يجري مثل تلك الأعجوبة العظيمة. AM 279.1

وقد تمّت هذه الزيارة التي قام بها رسل موفدون من قبل ملك في أرض بعيدة، وقُدّمت لحزقيا فرصة فيها يعظّم ويمجّد الإله الحي. كم كان من السهل عليه أن يخبرهم عن الله حامل كل الخلائق الذي بواسطة رحمته ورضاه أبقى على حياته عندما انتفى عنه آخر رجاء! ما كان أخطر التغييرات التي كان يمكن أن تحدث لو تمّ إرشاد طالبي الحق القادمين من سهول الكلدانيين للاعتراف بالسيادة العليا للإله الحي! AM 279.2

ولكن الكبرياء والغرور تسلّطت على قلب حزقيا، وفي تعظيمه لنفسه فتح أمام تلك العيون الجشعة الطامعة الخزائن التي أغدقها الله على شعبه. فأراهم ”بيت ذخائره الفضّة والذهب والأطياب والزيت الطيب وكل بيت أسلحته وكل ما وجد في خزائنه. لم يكن شيء لم يرهم أياه حزقيا في بيته وفي كل ملكه“ (إشعياء 39 : 2). ولكنّه لم يفعل هذا تمجيداً لله بل ليمجّد نفسه في عيون أولئك الرؤساء الغباء. ولم ينتظر ليفكر في أن هؤلاء الرجال يمثلون أمة قوية ولا يوجد في قلوبهم أثر لخشية الله أو محبّته، وأن كونه يأتمنهم على أسراره أمر يجافي الفطنة إذ يطلعهم على مقدار ثراء الأمة الزمني. AM 279.3

إن زيارة أولئك المبعوثون لحزقيا كانت امتحاناً لشكرانه وتعبّده وتقواه. يقول السفر المقدّس: ”وهكذا في أمر تراجم رؤساء بابل الذين أرسلوا إليه ليسألوا عن الأعجوبة التي كانت في الأرض تركه الله ليجربه ليعلم ما في قلبه“ (2 أخبار الأيام 32 : 31). فلو كان حزقيا قد أحسن استخدام الفرصة المقدّمة ليشهد لقدرة الله وصلاحه ورأفته لكان تقرير السفراء قد أصبح نوراً يبدد غياهب الظلام. ولكنّه مجّد نفسه فوق رب الجنود. إنّه ”لم يُرد .. حسبما أنعم عليه { ”لم يتجاوب مع ما أبداه الله نحوه من نعم“ }. لأن قلبه ارتفع“ (2 أخبار الأيام 32 : 25). AM 280.1

وما كان أرهب الكوارث التي كانت ستحدث في إثر ذلك! فقد كُشف لإشعياء أن أولئك السفراء العائدين كانوا يحملون معهم تقريراً عن الثروة الهائلة التي رأوها. وأن ملك بابل ومشيريه سيدبّرون خطة لنقل ثروة أورشليم وكنوزها إلى بلادهم يغتنوا بها. لقد أخطأ حزقيا خطيئة شنيعة: ”فكان غضب عليه وعلى يهوذا وأورشليم“ (2 أخبار الأيام 22 : 25). AM 280.2

”فجاء إشعياء النبي إلى الملك حزقيا وقال له ماذا قال هؤلاء الرجال ومن أين جاءوا إليك؟ فقال حزقيا جاءوا إليّ من أرض بعيدة من بابل. فقال ماذا رأوا في بيتك؟ فقال حزقيا رأوا كل ما في بيتي ليس في خزائني شيء لم أرهم إياه. AM 280.3

”فقال إشعياء لحزقيا اسمع قول رب الجنود. هوذا تأتي أيام يُحمل فيها كل ما في بيتك وما خزنه آباؤك إلى هذا اليوم إلى بابل. لا يُترك شيء يقول الرب. ومن بنيك الذين يخرجون منك الذين تلدهم يأخذون فيكونون خصياناً في قصر ملك بابل. AM 281.1

”فقال حزقيا لإشعياء جيّد هو قول الرب الذي تكلّمت به“ (إشعياء 39 : 3 — 8). AM 281.2

فإذ امتلأ قلبه بالندامة: ”تواضع حزقيا بسبب ارتفاع قلبه هو وسكّان أورشليم فلم يأت عليهم غضب الرب في أيام حزقيا“ (2 أخبار الأيام 32 : 26). ولكن الزرع الشرير كان قد بُرز وكان مزمعاً أن يطلع ويثمر ثمار الخراب والشقاء بمرور الوقت. كان النجاح العظيم حليف ملك يهوذا في سنيه الأخيرة بسبب عزمه الثابت على افتداء الماضي وجلب الكرامة لاسم الرب الذي يعبده. مع ذلك فكان لا بد من أن يجوز إيمانه في امتحان عسير. كان عليه أن يتعلّم أنّه بواسطة وضع ثقته الكاملة في الرب، يرجوا الانتصار على قوات الظلمة التي كانت تتآمر عليه لإهلاكه وشعبه بالتمام. AM 281.3

إن قصة إخفاق حزقيا في إثباته أنه جدير بالثقة التي أسندت إليه عندما زاره أولئك السفراء، مليئة بالتعاليم العامة للجميع. إننا نحتاج إلى أن نتحدّث عن الحوادث الثمينة في اختباراتنا، أكثر مما نفعل الآن، وعن رحمة الله ورأفته والأعماق التي لا يسبر غورها لمحبة المخلّص. فعندما يمتلئ الذهب والقلب بمحبة الله فلن يكون من الصعب إشراك الآخرين في المسائل الروحية. فالأفكار العظيمة والمطامع النبيلة والأفكار الواضحة عن الحق، والمقاصد غير الأنانية والحنين إلى التقوى والقداسة ستجد لها تعبيراً في الأقوال التي تكشف عن طبيعة الكنز الذي في القلب. AM 281.4

إن من نعاشرهم يومياً هم بحاجة إلى معونتنا وإرشادنا. فقد يكونون في حالة نفسية خاصة بحيث أن كلمة تقال في وقتها تكون كمسمار يُدق في مكانه الخاص. فغداً قد ينتقل بعض هؤلاء إلى مكان بحيث لا يمكننا الوصول إليهم فيه مرة أخرى. فما هو تأثيرنا على زملائنا في دروب هذه الحياة؟ AM 282.1

كل يوم من أيامنا مزدحم بالتبعات التي علينا الاضطلاع بها. ففي كل يوم يكون لكلامنا وأعمالنا أثراً في من نعاشرهم. فما أحوجنا إلى أن نضع حارساً على شفاهنا وأن نحسب خطواتنا بدقة! فإن حركة واحدة طائشة وخطوة غير حكيمة كفيلة بأن تجعل أمواج التجارب الصاخبة تسوق النفس إلى هاوية سحيقة. ونحن لا نستطيع استرداد الأفكار التي غرسناها في العقول البشرية أو استئصالها. فإذا كانت الأفكار شريرة فقد تحرّك سلسلة من الظروف. وتياراً من الشر نعجز عن صدّه أو السيطرة عليه. AM 282.2

من الناحية الأخرى إذا كنا بمثالنا نساعد الآخرين على تنمية المبادئ الصالحة فإننا نزودهم بقوة لعمل الخير. وهو بدورهم يبذلون القوة الخيرة ذاتها للتأثير على الآخرين. وهكذا يتأثر المئات والآلاف ويحصلون على العون بفضل تأثيرنا الذي لا نشعر به. إن تابع المسيح الأمين يشدّد ويقوّي المقاصد الصالحة لكل من يتصل بهم. ويعلن أمام عالم عديم الإيمان. محب للخطيئة، قوة نعمة الله وكمال صفاته. AM 282.3