الأنبياء والملوك

33/70

الفصل الثامن والعشرون —حزقيا

كان الإصلاح الذي حدث في إبّان حكم حزقيا الناجح، على نقيض حكم آحاز أبيه الطائش. لقد اعتلى حزقيا العرش وهو عاقد العزم على بذل كل ما في طوقه لينقذ يهوذا من المصير الذي بدأ يهدد المملكة الشمالية. ولم تشجّع رسائل الأنبياء أحداً على اتخاذ إجراءات ناقصة. فلم يكن تفادي الأحكام التي تتهددهم ليحصل بغير إجراء إصلاح عظيم حاسم. AM 269.1

وقد برهن حزقيا في تلك الأزمة أنه رجل الساعة الذي يمكن الاعتماد عليه. فما إن اعتلى العرش حتى بدأ في رسم الخطط وتنفيذها. فاتّجه انتباهه أولاً إلى إعادة خدمة الهيكل التي أهملت زمناً طويلاً، وفي هذا العمل التمس بكل حرارة من الكهنة واللاويين الذين ظلّوا أمناء لدعوتهم المقدّسة أن يمدّوا أيديهم ويتعاونوا معه. فإذ كان واثقاً من تعضيدهم وإخلاصهم خاطبهم بصراحة عن رغبته في القيام بإصلاحات سريعة وبعيدة المدى. واعترف قائلاً: ”لأن آباءنا خانوا وعملوا الشر في عيني الرب إلهنا وتركوه وحولوا وجوههم عن مسكن الرب“. ”فالآن في قلبي أن أقطع عهداً مع الرب فيرد عنا حمو غضبه“ (2 أخبار الأيام 29 : 6، 10). AM 269.2

وقد استعرض الملك في كلمات قليلة منتقاة الموقف الذي كانوا يواجهونه — الهيكل المغلق الأبواب، وتوقف الخدمات التي في نطاقه، وعبادة الأوثان الفاضحة الشائنة التي كانت تمارس في شوارع المدينة وفي جميع أنحاء المملكة، وارتداد جموع كثيرة ممن كان يمكنهم أن يظلّوا أمناء للرب لو كان معلمو يهوذا قد وضعوا أمامهم مثالاً صالحاً، وانحطاط المملكة وضياع كرامتها في عيون الأمم المحيطة بها. كانت المملكة الشمالية تسير بسرعة في طريقهما إلى الدمار والتمزق، وكثيرون ماتوا بحد السيف، وجوه كثيرة كانت قد أخذت إلى السبي، وكانت مملكة إسرائيل ستسقط تماماً في أيدي الأشوريين وتصبح خراباً شاملاً، وهكذا كان لابد أن يكون مصير يهوذا أيضاً ما لم يعمل الله بقوة عن طريق أناس يتم اختيارهم نواباً عنه. AM 270.1

وتحدث حزقيا إلى الكهنة مباشرة كي يتحدوا معه في تحقيق الإصلاح اللازم. فأوصاهم قائلاً: ”يا بني لا تضلّوا الآن لأن الرب اختاركم لكي تقفوا أمامه وتخدموه وتكونوا خادمين وموقدين له“. ”تقدسوا الآن وقدسوا بيت الرب إله آبائكم“ (2 أخبار الأيام 29 : 11، 5). AM 270.2

كان ذلك الوقت وقت عمل سريع. فبدأ الكهنة في العمل فوراً وقد تعاون آخرون من الذين لم يكونوا حاضرين في هذا المؤتمر، فاشتغلوا بإخلاص في عملية تطهير الهيكل وتقديسه. ووجد الكهنة صعاباً كثيرة في العمل بسبب تدنيس الهيكل وإهماله تلك السنين الطوال. إلا أن الكهنة واللاويين اشتغلوا بلا كلل، وفي فترة قصيرة جداُ أمكنهم أن يقرروا انتهاءهم من العمل. كما أصلحت أبواب الهيكل وفتحت من جديد على مصاريعها، وجُمعت الأواني المقدسة ووضعت في أماكنها، وكان كل شيء معداً لإعادة إقامة خدمات المقدس. AM 270.3

وفي أول خدمة أقيمت اشترك رؤساء المدينة مع الملك حزقيا والكهنة واللاويين في التماس الغفران عن خطايا الأمة. وقد وضعت ذبائح الخطيئة على المذبح: ”تكفيراً عن جميع الشعب“. ”وعند انتهاء المحرقة خر الملك وكل الموجودين معه وسجدوا“. ومرة أخرى رددت أروقة الهيكل صدى كلمات الحمد والتمجيد. وقد تغنّوا بمزامير داود وآساف بفرح عندما تحقق العابدون من أنهم قد تخلّصوا من عبودية الخطيئة والارتداد. ”وفرح حزقيا وكل الشعب من أجل أن الله أعدّ الشعب لأن الأمر كان بغتة“ (2 أخبار الأيام 29 : 24، 29، 36). AM 271.1

لقد أعدّ الله قلوب رؤساء يهوذا ليكونوا طليعة إصلاح حاسم من أجل إيقاف تيار الارتداد. كان الله قد أرسل أنبياءه إلى شعبه برسائل متتالية تنطق بكلام التوسل الحار — رسائل ازدرى لها ورفضها رجال الأسباط العشرة في مملكة إسرائيل الذي أسلموا الآن إلى أيدي الأعداء. أما في يهوذا فقد ظلّت بقية صالحة ممتازة، وظل الأنبياء يقدمون رسائلهم إليهم. اسمعوا إشعياء النبي وهو يلح عليهم قائلاً: ”ارجعوا إلى الذي ارتد بنو إسرائيل عنه متعمّقين“ { ”ارجعوا إلى من تمردهم عليه أشد التمرد“ — الترجمة التفسيرية } (إشعياء 31 : 6). ثم ميخا وهو يعلن بثقة قائلاً: ”أراقب الرب أصبر لإله خلاصي. يسمعني إلهي. لا تشمتي بي يا عدوتي. إذا سقطت أقوم. إذا جلست في الظلمة فالرب نور لي. احتمل غضب الرب لأني أخطأت إليه حتى يقيم دعواي ويجري حقي. سيخرجني إلى النور سأنظر بره“ (ميخا 7 : 7، 9). AM 271.2

هذه وأمثالها من الرسائل التي تُعلن عن استعداد الله لأن يغفر للذين رجعوا إليه بعزم صادق وكامل بقلبهم، أتت بالرجاء لنفوس كثيرة خائرة في سنوات الظلام عندما ظلّت أبواب الهيكل الموصدة. والآن بعدما شرع الرؤساء في القيام بإصلاح كان كثير من الشعب الذي تعب وسئم عبودية الخطيئة مستعداً للاستجابة للنداء. AM 271.3

لقد نال الذين دخلوا إلى أروقة الهيكل طلباً للغفران ولتجديد ولائهم للرب تشجيعاً قُدّم لهم من الأجزاء النبوية في الكتاب. إن الإنذارات المقدسة الخطيرة ضد الوثنية التي نطق بها موسى في مسامع جميع إسرائيل، كانت مصحوبة بنبوات عن استعداد الله لأن يسمع ويغفر للذين يطلبونه بكل القلب في عصور الارتداد. فقد قال موسى إذا كنت ”ترجع إلى الرب إلهك وتسمع لقوله لأن الرب إلهك إله رحيم لا يتركك ولا يهلكك ولا ينسى عهد آبائك الذي أقسم عليه“ (تثنية 4 : 30، 31). AM 272.1

وفي الصلاة النبوية التي قدّمت عن تدشين الهيكل الذي كان حزقيا الآن وزملاؤه يقدمون فيه العبادة والخدمة، صلّى سليمان قائلاً: ”إذا انكسر شعبك أمام العدو لأنهم أخطأوا إليك ثم رجعوا إليك واعترفوا باسمك وصلّوا وتضرعوا إليك نحو هذا البيت. فاسمع أنت من السماء واغفر خطيّة شعبك“ (1 ملوك 8 : 33، 34 ).لقد خُتمت هذه الصلاة بختم استحسان الله وقبوله لأنه عند انتهائه من صلاته نزلت النار من السماء لتأكل المحرقة والذبائح وملأ مجد الرب الهيكل (انظر 2 أخبار الأيام 7 : 1). وفي الليل تراءى الرب لسليمان وقال له إن صلاته قد سمعت وأنه سيظهر رحمته لمن يسجدون هناك. كما أعطى له هذا التأكيد الرحيم: ”إذا تواضع شعبي الذين دعي اسمي عليهم وصلّوا وطلبوا وجهي ورجعوا عن طرقهم الرديّة فأنني اسمع من السماء واغفر خطيتهم وأبرئ أرضهم“ (2 أخبار الأيام 7 : 14). AM 272.2

وقد تمت هذه الوعود إتماماً كاملاً في أثناء الإصلاح الذي قام به حزقيا. AM 273.1

وتبعت البداية الحسنة التي تمّت عند تطهير الهيكل حركة أوسع في نطاقها ساهم فيها إسرائيل كما ساهم يهوذا سواء بسواء. لقد عوّل حزقيا في غيرته لأن يجعل خدمات الهيكل بركة حقيقية للشعب على إحياء العادة القديمة عادة جمع الإسرائيليين لإحياء عيد الفصح. AM 273.2

لم يُمارس عيد الفصح كعيد قومي منذ سنين طويلة. فانقسام المملكة في نهاية حكم سليمان جعل الأمر غير عملي. ولكن الأحكام الرهيبة التي حاقت بالأسباط العشرة أيقظت في قلوب البعض الرغبة في أمر أفضل، وكان لرسائل الأنبياء المثيرة أثرها الفعال، وقد أذاع رسل الملك الدعوة لحضور أفرايم ومنسي حتى زبولون“. وقد قوبل حاملو دعوة الرحمة بالصدّ والجفاء إذ استخف غير التائبين القساة القلوب. ومع ذلك فإن بعضاً إذ كانوا يتوقون إلى طلب الله للحصول على معرفة أكمل لمشيئته: ”تواضعوا وأتوا إلى أورشليم“ (2 أخبار الأيام 30 : 10، 11). AM 273.3

وفي أرض يهوذا استجاب جميع الناس للنداء لأن ”يد الله“ كانت عليهم ”فأعطاهم قلباً واحداً ليعملوا بأمر الله والرؤساء“ (2 أخبار الأيام 30 : 12) — وكان الأمر متوافقاً مع إرادة الله المُعلنة على أفواه أنبيائه. AM 273.4

وكانت تلك الفرصة فرصة ربح عظيم لجماهير المجتمعين. فشوارع المدينة التي نجستها مذابح الأوثان التي أقيمت هناك في أثناء مُلك آحاز أُزيلت منها تلك الأجراس. وفي اليوم المحدد مُورس الفصح، وقضى الشعب ذلك الأسبوع في تقديم ذبائح السلامة وفي تعلّم ما كان الله يريدهم أن يتعلّموه. وفي كل يوم كان ” اللاويون الفطنين فطنة صالحة للرب“ يعلّمون الشعب، والذين هيأوا قلوبهم لطلب الله وجدوا غفراناً. وقد ملأت الغبطة والبهجة العظيمة جوانح ذلك الجمع الساجد لله: ”وكان اللاويون والكهنة يسبّحون الرب يوماً فيوماً بآلات حمد الرب“ (2 أخبار الأيام 30 : 22، 21). وقد اشترك الجميع في الشوق لأن يسبّحوا ذلك الذي برهن على أنه صالح ورحيم إلى هذا الحد. AM 273.5

وقد مرت الأيام السبعة المخصصة لعيد الفصح بسرعة عظيمة، فعزم العابدون قضاء سبعة أيام أخرى في الحصول على معرفة كاملة لطريق الرب. وقد واصل الكهنة المعلّمون عمل التعليم من سفر الشريعة، فكان الشعب يجتمع في الهيكل كل يوم ليقدّم فريضة الحمد والشكر، وعندما قارب ذلك الاجتماع العظيم على الإنفضاض كان واضحاُ أن الله عمل عجباً في هداية شعب يهوذا المرتد، وفي صد تيار الوثنية الذي كان يهدد باكتساح الجميع أمامه. لم تكن إنذارات الأنبياء المقدّمة، عبثاً: ”وكان فرح عظيم في أورشليم لأنه من أيام سليمان بن داود لم يكن كهذا في أورشليم“ (2 أخبار الأيام 30 : 26). AM 274.1

وقد جاء الوقت الذي فيه يعود العابدون إلى بيوتهم: ”وقام الكهنة اللاويون وباركوا الشعب فسُمع صوتهم ودخلت صلاتهم إلى مسكن قدسه إلى السماء“ (2 أخبار الأيام 30 : 27). لقد قبل الله أولئك الذين اعترفوا بخطاياهم بقلوب منسحقة، وبعزم صادق اتّجهوا إليه في طلب الغفران والعون. AM 274.2

وقد بقي الآن عمل هام كان يجب على من كانوا عائدين إلى بيوتهم أن يساهموا فيه بنصيب وافر، وكان إتمام هذا العمل يحمل في ذاته برهاناً على أن الإصلاح الذي تم كان حقيقياً، فالكتاب يقول: ”خرج كل الحاضرين إلى مدن يهوذا وكسّروا الانصاب وقطعوا السواري وهدموا المرتفعات والمذابح من كل يهوذا وبنيامين ومن أفرايم ومنسى حتى أفنوها. ثم رجع كل الشعب كل واحد إلى ملكه إلى مدنهم“ (2 أخبار الأيام 31 : 1). AM 274.3

وقد قام حزقيا ورفاقه بإصلاحات لإقامة مصالح المملكة الروحية والزمنية وتدعيمها: ”هكذا عمل حزقيا في كل يهوذا وعمل ما هو صالح ومستقيم وحق أمام الرب إلهه. وفي كل عمل ابتدأ به .. إنما عمله بكل قلبه وأفلح“. ”على الرب اتّكل .. ولم يحد عنه بل حفظ وصاياه التي أمر بها الرب موسى. ومكان الرب معه .. وكان ينجح“ (2 أخبار الأيام 31 : 20، 21، 2 ملوك 18 : 5 — 7). AM 275.1

وقد امتاز حكم حزقيا بسلسلة من حوادث العناية العظيمة التي أعلنت للأمم المحيطة أن الله كان مع شعبه. لقد جعل نجاح الأشوريين في احتلال السامرة وفي تشتيت البقية المحطمة من الأسباط العشرة بين كل الأمم في أوائل سنّي ملكه. كثيرين يشكّون في قدرة الله. لقد تجرّأ أهل نينوى بنجاحهم المتوالي، على إلقاء الرسالة التي قدّمها لهم يونان منذ زمن طويل، جانباً وتحدي مقاصد السماء ومقاومتها. وبعد سقوط السامرة بسنوات قليلة عادت تلك الجيوش الظافرة لتظهر مرة أخرى في فلسطين، وفي هذه المرة وجّهوا جيوشهم ضد مدن يهوذا الحصينة، وقد أحرزوا بعض النجاح، إلا أنهم انسحبوا لبعض الوقت بسبب صعوبات ومناوشات قامت في أجزاء أخرى في مملكتهم. ولكن بعد مرور بضع سنوات قرب انتهاء سنّي ملك حزقيا كان سيُعلن أمام شعوب العالم ما إذا كانت آلهة الأمم ستحرز انتصاراً حاسماً أم لا. AM 275.2