الأنبياء والملوك

32/70

الفصل السابع والعشرون —آحاز

أوقف اعتلاء آحاز العرش إشعياء ورفاقه وجهاً لوجه أمام ظروف أشد رعباً وفزعاً من كل الظروف التي مرت على مملكة يهوذا إلى ذلك الحين. وكثيرون ممن كانوا قد صمدوا من قبل أمام قوة الأعمال الوثنية الخادعة أخذوا الآن يرضخون للاقتناع بالاشتراك في السجون للأوثان. كما برهن رؤساء الشعب على خيانتهم للثقة الموكلة إليهم. وقد قام أنبياء وقدّموا رسائل لتضليل الشعب بل حتى بعض الكهنة كانوا يعلّمون نظير حصولهم على الربح المادي. ومع ذلك فإن دعاة الإرتداد ظلّوا مواظبين على ممارسة طقوس عبادة الله وكانوا يدّعون أنّهم محسوبون مع شعب الله. AM 262.1

لقد أعلن النبي ميخا الذي حمل رسالته في تلك الأيام المضطربة أن الخطأة في أورشليم فيما كانوا يدّعون أنهم ”يتوكلون على الرب“ ويتجديف يفاخرون قائلين: ”أليس الرب في وسطنا؟ لا يأتي علينا شر، ”فقد ظلموا“ ”يبنون صهيون بالدماء وأورشليم بالظلم“ (ميخا 3 : 11، 10). وقد رفع إشعياء النبي صوته عالياً موبخاً هذه الشرور توبيخاً صارماً فقال: ”اسمعوا كلام الرب يا قضاة سدوم اصغوا إلى شريعة إلهنا يا شعب عمورة لماذا لي كثرة ذبائحهم يقول الرب .. حينما تأتون لتظهروا أمامي، من طلب هذا من أيديكم أن تدوسوا دوري“ (إشعياء 1 : 10 — 12). AM 262.2

ويعلن الوحي الإلهي قائلاً: ”ذبيحة الشرير مكرهه فكم بالحري حين يقدّمها بغش“ (أمثال 21 : 277). إن عيني الله إله السماء ”أطهر من أن تنظر الشر ولا تستطيع النظر إلى الجور“ (حبقوق 1 : 13). إنه يحوّل وجهه عن الإنسان العاصي لا لأنه لا يريد أن يغفر بل لأن الخاطئ يرفض الاستفادة من الخطيئة: ”إن يد الرب لم تقصر عن أن تخلص ولم تثقل أذنه عن أن تسمع. بل آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع“ (إشعياء 59 : 1، 2). AM 263.1

لقد كتب سليمان يقول: ”ويل لك أيتها الأرض إذا كان ملكك ولداً“ (جامعة 10 : 16). وكذلك كانت الحال مع أرض يهوذا. فبسبب الإمعان في العصيان صار رؤساؤها وملوكها كالأولاد. وقد استرعى إشعياء انتباه الشعب إلى ضعف مركزهم بين أمم الأرض. وقد أراهم أن هذا كان نتيجة الشر الذي ارتكبوه على التلال والمرتفعات. فقال: ”فإنه هوذا السيد رب الجنود ينزع من أورشليم ومن يهوذا السند والركن كل سند خبز وكل سند ماء. الجبّار ورجل الحرب القاضي النبي والعراف والشيخ ورئيس الخمسين والمعتبر والمشير والماهر بين الصناع والحاذق بالرقية واجعل صبياناً رؤساء لهم وأطفالاً تتسلط عليهم“. ”لأن أورشليم عثرت ويهوذا سقطت لأن لسانهما وأفعالهما ضد الرب“ (إشعياء 3 : 1، 4، 8). AM 263.2

وقد استطرد النبي فقال: ”مرشدوك مصلون ويبلغون طريق مسالكك“ (إشعياء 3 : 12). وكان هذا الكلام صادقاً بحذافيره في إبّان حكم آحاز لأن الكتاب يقول عنه: ”سار في طريق ملوك إسرائيل وعمل أيضاُ تماثيل مسبوكة للبعليم. وهو أوقد في وادي ابن هنوم“ (2 أخبار الأيام 287 : 2، 3). AM 263.3

حقاً كان هذا الوقت وقت خطر عظيم على الأمة المختارة. فبعد سنوات قصيرة كان أسباط مملكة إسرائيل العشرة مزمعين أن يتشتّتوا بين أمم العالم الوثني. وكذلك بالنسبة إلى مملكة يهوذا كان المستقبل مظلماً. وكانت قوّات الخير تتناقض بسرعة بينما قوات الشر كانت تتكاثر وتتضاعف. وإذ شاهد النبي ميخا هذا الموقف أجبر على أن يهتف قائلاً: ”قد باد التقى من الأرض وليس مستقيم بين الناس“، ”احسنهم مثل العوسج وأعدلهم من سياج الشوك“ (ميخا 7 : 2، 4). وقد أعلن إشعياء قائلاً: ”لولا أن رب الجنود أبقى لنا بقية صغيرة لصرنا مثل سدوم و ... عمورة“ (إشعياء 1 : 9). AM 264.1

ففي كل عصر، ولأجل من قد لبثوا أمناء كما لأجل محبّته اللامحدودة للضالّين احتمل الله تمرّدهم في صبر عظيم وألّح عليهم في التنكب عن طريق الشر والرجوع إليه: ”أمر على أمر .. فرض على فرض. هنا قليل هناك قليل“ (إشعياء 28 : 10). وقد علّم العصاة طريق البر بواسطة رجال اختاروهم. AM 264.2

وهكذا كانت الحال في أثناء حكم آحاز. فقد قُدّمت إلى الضالين من الشعب دعوة بعد أخرى ليعودوا إلى ولائهم للرب. وقد كانت توسلات الأنبياء إليهم رقيقة، وإذ وقفوا أمام الشعب متوسّلين إليهم ليقوموا ويصلحوا طرقهم أثمرت أقوالهم لمجد الله. AM 264.3

وقد جاءت على لسان ميخا هذه الاستغاثة العجيبة: ”اسمعوا ما قاله الرب. قم خاصم لدى الجبال ولتسمع التلال صوتك. اسمعي خصومة الرب أيتها الجبال ويا أسس الأرض الدائمة. فأن للرب خصومة مع شعبه وهو يحاكمهم. AM 264.4

”يا شعبي ماذا صنعت بك؟ وبماذا اضجرتك؟ اشهد عليّ. إني اصعدتك من أرض مصر وفككتك من بيت العبودية وأرسلت أمامك موسى وهارون ومريم. AM 265.1

”يا شعبي اذكر بماذا تآمر بالاق ملك موآب وبماذا أجابه بلعام بن بعور — من شطيم إلى الجلجال — لكي تعرف إجادة الرب“ (ميخا 6 : 1 — 5). AM 265.2

إن الإله الذي نعبده هو إله طويل الأناة: ”مراحمه لا تزول“ (مراثى 3 : 22). ففي كل مدة الامتحان والإمهال هذه، يتوسّل روحه إلى الناس ليقبلوا هبة الحياة: ”حي أنا يقول السيد الرب إني لا أسر بموت الشرير بل بأن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا. ارجعوا ارجعوا عن طرقهم الرديئة فلماذا تموتون يا بيت إسرائيل“ (حزقيال 33 : 11). إن حيلة الشيطان الخاصة هي أن يدفع الإنسان في الخطيئة ومن ثم يتركه هناك عاجزاً يائساً خائفاُ من طلب الغفران ولكن الله يدعو قائلاً: ”يتمسّك بحصني فيصنع صلحاً معي. صلحاً يصنع معي“ (إشعياء 27 : 5). ففي المسيح يوجد تلبية لكل حاجة وهو يقدّم كل تشجيع. AM 265.3

في أيام الارتداد الذي وقع في يهوذا وإسرائيل سأل كثيرون هذا السؤال: ”بك أتقدّم إلى الرب وأنحني للإله العلي؟ هل أتقدّم بمحرقات بعجول أبناء سنة؟ هل يسر الرب بألوف الكباش بربوات أنهار زيت؟“ فيجيء الجواب الواضح الصريح الإيجابي قائلاً: ”قد اخبرك أيها الإنسان ما هو صالح وماذا يطلبه منك الرب إلى أن تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعاً مع إلهك“ (ميخا 6 : 6 — 8). AM 265.4

وفي التشديد على قيمة القداسة العملية ظلّ النبي يردّد المشورة المقدّمة للشعب منذ قرون مضت. فإذ كانوا موشكين على دخول أرض الموعد جاءتهم كلمة الرب على لسان موسى تقول: ”فالآن يا (شعبي) ماذا يطلب منك الرب إلهك الا ان تتقي الرب إلهك من كل قلبك. ومن كل نفسك وتحفظ وصايا الرب وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم لخيرك“ (تثنية 10 : 12، 13). ومن جيل إلى جيل كان خدام الله يرددون هذه النصائح على مسامع من كانوا في خطر السقوط في عادات التمسّك بالرسميات ونسيان عمل الرحمة. إن المسيح نفسه عندما اقترب إليه رجل ناموسي في أثناء خدمته على الأرض وسأله هذا السؤال: ”يا معلم أية وصية هي العظمى في الناموس؟“ أجابه ”تحب الرب إلهك من كل قلبك. ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلّق الناموس كله والأنبياء“ (متى 22 : 36 — 40). AM 265.5

ينبغي أن تقبل هذه الأقوال الصريحة التي نطق بها الأنبياء على لسان الرب بوصفها صوت الله لكل نفس. وينبغي لنا أيضاً ألا نضيّع أية فرصة من فرص القيام بأعمال الرحمة والتبصر الرقيق واللطف المسيحي للمثقلين والمظلومين والمضطهدين. فإذا كنا لا نتمكن من أن نفعل أشياء أكثر فيمكننا أن ننطلق بكلام الشجاعة والرجاء في آذان من لم يتعرفوا على الله بعد والذين يمكن الاقتراب منهم عن طريق العطف والمحبّة. AM 266.1

المواعيد المقدسة للذين يترقبوا الفرص لكي يجيئوا بالفرح والبركة إلى حياة الآخرين هي مواعيد غنية وافرة: ”إن أنفقت نفسك للجائع وأشبعت النفس الذليلة يشرق في الظلمة نورك ويكون ظلامك الدامس مثل الظهر. ويقودك الرب على الدوام ويشبع في الجدوب نفسك وينشط عظامك فتصير كجنة ريا وكنبع مياه لا تنقطع مياهه“ (إشعياء 58 : 10، 11). AM 266.2

إن انصراف آحاز إلى عبادة الأوثان في وجه توسلات الأنبياء الحارة لم يكن له غير نتيجة واحدة: ”كان غضب الرب على يهوذا وأورشليم وأسلمهم للقلق والدهش والصفير“ (2 أخيار الأيام 29 : 8). وقد حل بالمملكة انحطاط سريع، وسرعان ما تعرض كيانها ذاته للخطر بسبب الجيوش المغيرة عليها: ”حينئذ صعد رصين ملك آرام وفقح بن رمليا ملك إسرائيل إلى أورشليم للمحاربة فحاصروا آحاز“ (2 ملوك 16 : 5). AM 267.1

فلو كان آحاز وكبار رجال مملكته أمناء للعلي لما خافوا ذلك التحالف غير العادي الذي أبرم ضدّهم. ولكن عصيانهم المتكرر جرّدهم من القوة. فإذ أصاب الملك رعب مجهول من الأحكام الجزائية من الإله الذي قد اسخطه: ”رجف قلبه وقلوب شعبه كرجفان شجر الوعر قدّام الريح“ (إشعياء 7 : 2). فجاءت كلمة الرب إلى إشعياء في هذه الأزمة يأمره بالذهاب إلى الملك المرتعب ليقول له: ”احترز واهدأ. لا تخف ولا يضعف قلبك .. لأن آرام تآمرت عليك بشرّ مع افرايم وابن رمليا قائله نصعد على يهوذا ونقوضها ونستفتحها لأنفسنا ونملّك في وسطها ملكاً .. هكذا يقول السيد الرب لا تقوم لا تكون“. وقد أعلن النبي أن مملكة إسرائيل وكذلك مملكة آرام ستتلاشيان سريعاً. وفي ختام كلامه قال: ”إن لم تؤمنوا فلا تأمنوا“ (إشعياء 7 : 4 — 7، 9 ). AM 267.2

فلو قبل آحاز هذه الرسالة كما هي من السماء لآل ذلك إلى مملكة يهوذا خيراً. ولكن إذ اختار الاستناد إلى الذراع البشرية طلب المعونة من الأمم. ففي يأسه أرسل إلى تغلث فلاسر ملك أشور يقول: ”أنا عبدك وابنك. اصعد وخلصني من يد ملك آرام ومن يد ملك إسرائيل القائمين عليّ“ (2 ملوك 16 : 7). وقد كان الطلب مصحوباً بهدية سخية من خزائن الملك ومن خزانة هيكل الرب. AM 267.3

وقد أرسلت المعونة المطلوبة وأعطيت للملك آحاز نجدة مؤقتة. ولكن ما أفدح الثمن الذي دفعته يهوذا! فتلك الجزية المقدّمة إلى أشور أثارت مطامعها وسرعان ما هددت تلك الأمة الغادرة بالإغارة على يهوذا ونهبها. فتضايق آحاز ورعاياه التعساء خوفاً من أن يسقطوا سقوطاً كاملاً في أيدي الأشوريين القساة: AM 268.1

”الرب ذلّل يهوذا“ بسبب العصيان المستمر. ففي وقت التأديب هذا بدلاً من أن يتوب آحاز فقد ”زاد خيانة بالرب .. لأنه ذبح لآلهة دمشق“ إذ قال: ”لأن آلهة ملوك آرام تساعدهم أنا أذبح لهم فيساعدونني“ (2 أخبار الأيام 28 : 19، 22، 23). AM 268.2

وقرب نهاية حكم هذا الملك المرتد أمر بإغلاق أبواب الهيكل. وبذلك توقّفت الخدمات المقدّسة. وما عادت أضواء المنائر تشتعل أمام المذبح، وما عادت الذبائح تقدّم عن خطايا الشعب وما عاد البخور العطر يصعد إلى السماء في وقت ذبيحة الصباح وتقدمة المساء. فإذ هج سكان تلك المدينة الملحدة أروقة بيت الله وأوصدوا أبوابه باحكام فأنهم أقاموا مذابح لعبادة الآلهة الوثنية في الشوارع وعلى قارعة الطريق وفي كل أحياء أورشليم بكل جرأة. وقد بدا كأن الوثنية انتصرت وكادت قوات الظلمة أن تغلب. AM 268.3

ولكن كان يوجد في مدن يهوذا جماعة ظلّوا محتفظين بولائهم للرب إذ رفضوا بكل إباء وثبات الانسياق مع تيار الوثنية. وقد نظر إشعياء وميخا وزملاؤهما إلى هؤلاء الأمناء برجاء وهم يستعرضون أمامهم الدمار الذي حدث أثناء سنوات آحاز الأخيرة. لقد أغلق مقدسهم ولكن أولئك الأمناء جاءهم هذا التأكيد: ”الله معنا“، ”قدّسوا رب الجنود فهو خوفكم وهو رهبتكم. ويكون مقدساً“ (إشعياء 8 : 10، 13، 14). AM 268.4