الأنبياء والملوك
الفصل السادس والعشرين —”هوذا إلهك“
كان الإدراك الروحي لبني البشر أيام إشعياء مظلماً بسبب عدم معرفته لله. لقد حاول الشيطان طويلاً أن يجعل الناس ينظرون إلى خالقهم كأنه علّة الخطيئة والآلام والموت. لقد تصوّر الذين خدعهم أن الله صارم كثير المطالب. وأنه يراقبهم ليفضحهم ويدينهم. ويرفض قبول الخاطئ طالما وجد عذراً شرعياً لعدم مد يد العون إليه. وقد حرّف الشيطان شريعة المحبة الإلهية التي تسري حتى على ساكني السماء وشوّهها قائلاً إنها تضيّق على الناس عيشهم وتنغّص عليهم سعادتهم وهي بمثابة نير ثقيل يسرّهم التخلّص منه. وأعلن أنه لا يمكن إطاعة الفرائض والوصايا، وأن عقوبات العصيان فرضت على نحو استبدادي. AM 254.1
إذ غابت عن أنظار شعب إسرائيل صفات الله الحقيقية أمسوا بلا عذر. كان الله قد أعلن نفسه لهم مراراً على أنه إله: ”رحيم ورؤوف طويل الروح وكثير الرحمة والحق“. وقد شهد قائلاً ”لما كان إسرائيل غلاماً أحببته ومن مصر دعوت ابني“ (مزمور 86 : 15، هوشع 11 : 1). AM 254.2
لقد عامل الرب شعبه بكل رقة وحنان في إنقاذهم من عبودية مصر وفي أثناء ترحالهم إلى أرض الموعد: ”في كل ضيقهم تضايق وملاك حضرته خلّصهم. بمحبة ورأفته هو فكّهم ورفعهم وحملهم كل الأيام القديمة“ (إشعياء 63 : 9). AM 254.3
وهذا هو الوعد الذي قدّم لهم في أثناء سيرهم في البرية: ”وجهي يشير (معك)“ (خروج 33 : 14). وقد صحب هذا التأكيد إعلان عجيب عن صفات الرب، الأمر الذي أعان موسى للإعلان لكل الشعب عن صلاح الله ولتعليمهم تعليماً كاملاً عن صفات ملكهم غير المنظور: ”فاجتاز الرب قدّامه ونادى الرب الرب إله رحيم ورؤوف بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء. حافظ الإنسان إلى ألوف. غافر الإثم والمعصية والخطية. ولكنه لن يبرئ إبراء“ (خروج 34 : 6، 7). AM 255.1
لقد بنى موسى التماسه العجيب للإبقاء على حياة الشعب انطلاقاً من إدراكه طول أناة الرب ومحبته ورحمته اللامحدودة، عندما رفضوا وهم عند تخوم أرض الموعد التقدّم إطاعة لأمر الله. فإذ كانوا في ذروة تمرّدهم أعلن الرب قائلاً: ”إني أضربهم بالوبا وأبيدهم“. وأراد أن يجعل نسل موسى: ”شعباً أكبر وأعظم منهم“ (سفر العدد 14 : 12). ولكن النبي توسّل إلى الرب ذاكراً حوادث عنايته العجيبة ومطالباً الله بمواعيده لأجل الشعب المختار. والآن ها هو يقدّم التماساً أقوى ألا وهو محبة الله البشرية الساقطة (انظر سفر العدد 14 : 17 — 19). AM 255.2
وقد أجاب الرب في رحمته وحنانه قائلاً: ”قد صفحت حسب قولك“. ثم أعطى موسى، في هيئة نبوءة، معرفة قصده بالنسبة إلى نصرة شعبه النهائية. فأعلن قائلاً: ”ولكن حي أنا فتُملأ كل الأرض من مجد الرب“ (سفر العدد 14 : 20، 21). إن مجد الله وصفاته ورأفته ومحبّته — التي طلبها موسى متوسّلاً لأجل الشعب — كانت مزمعة أن تعلن لكل الجنس البشري. وقد تأكّد وعد الرب هذا بما لا يحتمل الشك فقد تثبّت بقسم. فكما نحن متحققون من أن الله حيّ ويملك فينبغي أن يعلن: ”بين الأمم بمجده بين جميع الشعوب بعجائبه“ (مزمور 96 : 2). AM 255.3
و بالنسبة إلى إتمام هذه النبوءة مستقبلاً سمع إشعياء السرافيم المتلألئين بالضياء يسبّحون أمام العرش قائلين: ”مجده ملء كل الأرض“ (إشعياء 6 : 3). وإذ كان النبي واثقاً من يقينيّة هذه الأقوال أعلن هو نفسه بعد ذلك بكل جرأة قائلاً عن الذين كانوا يسجدون أمام التماثيل المصنوعة من الخشب والحجر: ”هم يرون مجد الرب بهاء إلهنا“ (إشعياء 35 : 2). AM 256.1
”واليوم تجد هذه النبوّة إتماماً سريعاً. إن نواحي نشاطات كنيسة الله الكرازية على الأرض تحمل ثماراً وفيرة ورسالة الإنجيل ستذاع سريعاُ بين كل الأمم. فلأجل: ”مدح مجد نعمته“، فالرجال والنساء من كل قبيلة ولسان وشعب يُقبلون ”في المحبوب“. ”ليظهر في الدهور الآتية غنى نعمته الفائق باللطف علينا في المسيح يسوع“ (أفسس 1 : 6، 2 : 7). AM 256.2
”مبارك الرب الله .. الصانع العجائب وحده. ومبارك اسم مجده إلى الدهر ولتمتلئ الأرض كلها من مجده“ (مزمور 72 : 18، 19). AM 256.3
لقد أعطي لإشعياء في الرؤيا التي رآها في رواق الهيكل إعلان واضح لصفات الله. إن ”العلي المرتفع ساكن الأبد القدوس اسمه“ ظهر أمامه في جلال عظيم، ومع ذلك فقد كان على النبي أن يدرك طبيعة الرب الرحيمة. فذاك الذي يسكن في ”الموضع المرتفع المقدّس“ يسكن أيضاً ”ومع المنسحق والمتواضع الروح لأحيي روح المتواضعين ولأحيي قلب المنسحقين“ (إشعياء 57 : 15). إن الملاك الذي أرسل ليمس شفتي إشعياء قدّم له هذه الرسالة: ”انتزع إثمك وكفّر عن خطيّتك“ (إشعياء 6 : 7). AM 256.4
إذ رأى النبي إلهي، مثل شاوب الطرسوسي عند باب دمشق، لم ير عدم استحقاقه فحسب، فلقد جاء إلى قلبه المثقل يقين الغفران الكامل المجاني فقام إنساناً جديداً. لقد رأى ربّه وإلهه كما رأى لمحة من جمال الصفات الإلهية. وأمكنه أن يشهد للتغيّر الذي حدث له عندما رأى المحبة السرمدية. ومن ذلك الوقت ألهم برغبة حارّة لأن يرى بني شعبه المخطئين يتحررون من حمل الخطيئة وعقابها. وقد تساءل النبي قائلاً: ”على من تضربون بعد؟ .. هلم نتحاجج يقول الرب إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج إن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف“. ”إغتسلوا. تنقّوا. اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني. كفوا عن فعل الشر. تعلّموا فعل الخير“ (إشعياء 1 : 5، 18، 16، 17). AM 256.5
فالإله الذي كانوا يدّعون أنهم يعبدونه والذي لم يدركوا صفاته على حقيقتها عرض أمامهم بوصفه الشافي العظيم للأسقام الروحية. ماذا لو أن كل الرأس مريض وكل القلب سقيم؟ وماذا لو أنه من هامة الرأس إلى أخمص القدم ليس فيه صحّة بل جرح واحبط وضربة طرية؟ (انظر إشعياء 1 : 6). إن من ذهب عاصياً في طريق قلبه كان يمكنه أن يجد الشفاء بالرجوع إلى الرب. لقد أعلن الرب قائلاً: ”رأيت طرقه وسأشفيه وأقوده وأرد تعزيات له .. سلام سلام للبعيد وللقريب قال الرب وسأشفيه“ (إشعياء 57 : 18، 19). AM 257.1
وقد مجّد النبي الله بوصفه خالق الجميع. وكانت رسالته لمدن يهوذا هي هذه: ”هوذا إلهك!“ ”هكذا يقول الله الرب خالق السموات وناشرها باسط الأرض ونتائجها“، ”أنا الرب صانع كل شيء“. ”مصوّر النور وخالق الظلمة“، ”أنا صنعت الأرض وخلقت الإنسان عليها. يدي أنا نشرتا السموات، وكل جندها أنا أمرت“ (إشعياء 40 : 9، 42 : 5، 44 : 24، 45 : 7، 12). ”فبمن تشبهوني فأساويه يقول القدّوس. ارفعوا إلى العلاء عيونكم وانظروا من خلق هذه من الذي يخرج بعدد جندها يدعو كلها بأسماء الكثيرة القوة وكونه شديد القدرة لا يفقد أحد“ (إشعياء 40 : 25، 26). AM 257.2
أما الذين كانوا يخشون الرفض إذا ما رجعوا إلى الله فقد أعلن النبي قائلاً لهم: ”لماذا تقول يا يعقوب وتتكلّم يا إسرائيل قد اختفت طريقي عن الرب وفات حقّي إلهي؟ أما عرفت؟ أم لم تسمع؟ إله الدهر الرب خالق أطراف الأرض لا يكل ولا يعيا. وأما منتظرو الرب فيجددون قوة. يرفعون أجنحة كالنسور. يركضون ولا يتعبون يمشون ولا يعيون: (إشعياء 40 : 27 — 31). AM 258.1
إن قلب المحبة السرمدية يحن إلى الذين يحسّون بعجزهم عن تحرير أنفسهم من أشراك الشيطان وهو في رحمته يقدّم لهم القوة كي يعيشوا له. ويأمرهم قائلاً: ”لا تخف لأني معك. لا تتلفت لأني إلهك. قد أيدتك وأعنتك وعضدتك بيمين برّي“. ”أنا الرب إلهك الممسك بيمينك القائل لك لا تخف أنا أعينك. لا تخف يا دودة يعقوب يا شرذمة إسرائيل أعينك يقول الرب وفاديك قدوس إسرائيل“ (إشعياء 41 : 10، 13، 14). AM 258.2
كان سكان يهوذا قوماً عديمي الاستحقاق إلا أن الله لم يرد أن يتركهم. كان اسمه سيتمجّد بين الأمم بواسطتهم. وكثيرون ممن لم يكونوا يعرفون شيئاً عن صفاته كانوا سيرون مجد الصفات الإلهية فيما بعد. فلكي تتضح مقاصده الرحيمة ظلّ يرسل عبيده الأنبياء بهذه الرسالة: ”ارجعوا كل واحد عن طريقه الرديء“ (إرميا 25 : 5). وقد أعلن على لسان أشعياء قائلاً: ”من أجل إسمي أبطئ غضبي ومن أجل فخري أمسك عنك حتى لا أقطعك“. ”من أجل نفسي من أجل نفسي أفعل. لأنه كيف يدنس اسمي؟ وكرامتي لا أعطيها لآخر“ (إشعياء 48 : 9، 11). AM 258.3
وقد قدمت الدعوة للتوبة بوضوح تام لا يمكن تجاهله، وقد دعي الجميع ليرجعوا. فقد أعلن النبي قائلاً: ”اطلبوا الرب ما دام يوجد ادعوه وهو قريب. ليترك الشرير طريقه ورجل الإثم أفكاره وليتب إلى الرب فيرحمه وإلى إلهنا لأنه يكثر الغفران“ (إشعياء 55 : 6، 7). AM 259.1
فهل اخترت طريقك الخاص أيها القارئ العزيز؟ وهل ضلّلت بعيداُ عن الله؟ وهل التمست أن تتلذذ بثمار الإثم فوجدت أنها استحالت على شفتيك إلى طعم الرماد؟ والآن بعدما تعطّلت خطط حياتك وتلاشت آمالك فهل تجلس وحدك مستوحشاً يائساً؟ إن ذلك الصوت الذي ظلّ يحادث قلبك طويلاً الذي رفضت الاستمتاع إليه يأتيك واضحاً جلياً قائلاً: ”قوموا واذهبوا لأنه ليست هذه هي الراحة. من أجل نجاسة تهلك والهلاك شديد“ (فلكونها نجسة فهي ستهلككم هلاكاً شديداً“ (ميخا 2 : 10). فارجع إلى بيت أبيك. إنه يدعوك قائلاً: ”ارجع إليّ لأني فديتك“ (إشعيا 44 : 22). ”هلمّوا إليّ اسمعوا فتحيا أنفسكم واقطع لكم عهداً أبدياً مراحم داود الصادقة“ (إشعياؤ 55 : 3). AM 259.2
لا تصنع إلى ما يقترحه عليك العدو وببقائك بعيداً عن المسيح ريثما تصلح نفسك، أو إلى أن تغدو صالحاً بحيث يمكنك الدنوّ من الله. فلو انتظرت إلى أن تتحسّن فلن تأتي قطّ. وعندما يوجّه الشيطان نظرك إلى ثيابك الملوثة فعليك بترديد وعد المخلّص القائل: ”من يُقبل إليّ لا أخرجه خارجاً“ (يوحنا 6 : 37). وقل للعدو إن دم يسوع المسيح يطهّر من كل خطيئة. واجعل صلاة داود صلاتك قائلاً: ”طهّرني بالزوفا فأطهر. اغسلني فأبيض أكثر من الثلج“ (مزمور 51 : 7). AM 259.3
لم تكن إرشادات النبي لشعب يهوذا للنظر إلى الله الحي وقبول هبات رحمته بلا جدوى. فقد وُجد بعض من اهتمّوا اهتماماً جديّاً ورجعوا عن أوثانهم ليعبدوا الرب. وتعلّموا أن يروا في صانعهم المحبة والرحمة والإشفاق والرأفة. وفي الأيام المظلمة التي كانت تزحف على شعب يهوذا في تاريخهم، عندما لم يبق في البلاد غير أقليّة ضئيلة، جادت أقوال النبي بأثمارها الشهيّة في الإصلاح الحاسم. وقد أعلن إشعياء قائلاً: ”في ذلك اليوم يلتفت الإنسان إلى صانعه وتنظر عيناه إلى قدوس إسرائيل. ولا يلتفت إلى المذابح صنعه يديه ولا ينظر إلى ما صنعته أصابعه السواري والشمسات“ (إشعياء 17 : 7، 8). AM 260.1
كثيرون كانوا سينظرون ذاك الذي كلّه مشتهيات المعلم بين ربوة: ”الملك ببهائه تنظر عيناك“ (إشعياء 33 : 17) — هذا هو الوعد الرحيم الذي قُدّم لهم. كانت خطاياهم ستغفر وكانوا سيفتخرون بالرب وحده. في ذلك اليوم العظيم السعيد يوم فدائهم من الوثنية سيصرخون قائلين: ”هناك الرب العزيز لنا مكان أنهار وترع .. الرب قاضينا الرب شارعنا. الرب ملكنا هو يخلّصنا“ (إشعياء 33 : 21 — 22). AM 260.2
إن الرسائل التي حملها إشعياء إلى الذين اختاروا الرجوع عن طرقهم الشريرة كانت مفعمة بالتعزية والتشجيع. اسمعوا كلام الرب على لسان نبيّه: AM 260.3
”اذكر هذه يا يعقوب .. فإنك أنت عبدي قد جبلتك. عبد لي أنت .. لا تُنسى مني. قد محوت كغيم ذنوبك وكسحابة خطاياك. ارجع إليّ لأنّي فديتك“ (إشعياء 44 : 21، 22). AM 260.4
”وتقول في ذلك اليوم أحمدك يا رب لأنه إذ غضبت عليّ ارتد غضبك فتعزيني. ”هوذا الله خلاصي فأطمئن ولا أرتعب، لأن ياه يهوة قوتي وترنيمتي وقد صار لي خلاصاً .. رنمو للرب لأنه قد صنع مفتخراً. ليكن هذا معروفاً في كل الأرض. صوتي واهتفي يا ساكنة صهيون لأن قدوس اسرائيل عظيم في وسطك“ (إشعياء 12 : 1، 2، 5). AM 260.5