مشتهى الأجيال
لحظة القرار
وإذ تركهم يسوع مضى مرة أخرى إلى معتكفه وخر على وجهه إذ طغي على نفسه رعب ظلمة عظيمة. لقد ارتعبت بشرية ابن الله في تلك الساعة الحرجة . إنه لم يصل الآن لأجل تلاميذه لكي لا يفنى إيمانهم بل كان يصلي لأجل نفسه المجربة المعذبة ، إذ أتت اللحظة المخيفة التي كانت ستقرر مصير العالم . كان مصير العالم يتأرجح في كفة الميزان . كان يمكن المسيح حتى الآن أن يرفض شرب الكأس التي كان يجب أن يشربها الإنسان الأثيم . لم يكن قد مضى الوقت بعد ، فيمكنه أن يمسح عن جبينه ذلك العرق الدموي تاركا الإنسان يهلك في إثمه . كان يمكنه أن يقول : ليقع على الإنسان العاصي قصاص خطيته وعصيانه ، أما أنا فسأعود إلى أبي . فهل سيشرب ابن الله كأس الهوان والعذاب المريرة ؟ وهل سيتحمل البار عواقب لعنة الخطية ويخلص المذنب ؟ ثم نطقت شفتا يسوع الشاحبتان المرتعشتان بهذا القول: “يا أبتاه، إن لم يمكن أن تعبر عنّي هذه الكأس إلا أن أشربها، فلتكن مشيئتك”. ML 654.2
نطق بتلك الصلاة ثلاث مرات ، وثلاث مرات ارتجفت بشريته وانكمشت أمام التضحية الآخرة العظمى . أما الآن فها تاريخ الجنس البشري يمر أمام فادي العالم . وقد رأى أن المعتدين على الشريعة لو تركوا لذواتهم فلا بد من هلاكهم ، وهو يرى عجز الإنسان ، ويرى قوة الخطية ، وها هو يسمع عويل ومراثي العالم المحكوم عليه بالهلاك . وإذ يرى مصير العالم المحتوم يعقد إذ ذاك عزمه . فهو سيخلص الإنسان مهما كلفه ذلك . إنه يقبل صبغة الدم حتى بواسطته ينال ملايين الهالكين الحياة الأبدية . لقد ترك عرش السماء حيث الطهارة والسعادة والمجد ليخلص الخروف الواحد الضال ، العالم الواحد الذي سقط بسبب العصيان . ولن يتراجع عن أداء مهمته وسيصير كفارة عن الجنس الذي أصر على ارتكاب الخطية . وها هي صلاته لا تنم عن شيء سوى التسليم ، إذ يقول :“إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أنا أشربها، فلتكن مشيئتك”. ML 655.1
فلما كان قد عقد العزم على ذلك انطرح كالمائت على الأرض بعدما كان قد نهض عنها قليلا . فأين كان التلاميذ الآن ليسندوا رأس معلمهم المعيى بأيديهم الرقيقة ، ويغسلوا ذلك الجبين الذي كان حقا مشوها أكثر من بنى آدم ؟ لقد داس المخلص المعصرة وحده ومن الشعوب لم يكن معه أحد. ML 655.2
ولكن الله تألم مع ابنه . لقد رأى الملائكة آلام المخلص . رأوا سيدهم محاطا بفيالق من قوات الشيطان ، وقد ناءت طبيعته مرتجفة تحت وطأة رعب غامض ، فحدث سكوت في السماء ولم تسمع ألحان موسيقية . فلو أمكن لبني الإنسان أن يروا ذهول أجناد السماء ، عندما رأوا بحزن الآب يحجز أشعة نور محبته ومجده عن ابنه الحبيب لأمكنهم أن يدركوا إدراكا أعمق حقيقة كون الخطية خبيثة ومكدرة في نظر الله. ML 655.3