مشتهى الأجيال

578/684

لحظة القرار

وإذ تركهم يسوع مضى مرة أخرى إلى معتكفه وخر على وجهه إذ طغي على نفسه رعب ظلمة عظيمة. لقد ارتعبت بشرية ابن الله في تلك الساعة الحرجة . إنه لم يصل الآن لأجل تلاميذه لكي لا يفنى إيمانهم بل كان يصلي لأجل نفسه المجربة المعذبة ، إذ أتت اللحظة المخيفة التي كانت ستقرر مصير العالم . كان مصير العالم يتأرجح في كفة الميزان . كان يمكن المسيح حتى الآن أن يرفض شرب الكأس التي كان يجب أن يشربها الإنسان الأثيم . لم يكن قد مضى الوقت بعد ، فيمكنه أن يمسح عن جبينه ذلك العرق الدموي تاركا الإنسان يهلك في إثمه . كان يمكنه أن يقول : ليقع على الإنسان العاصي قصاص خطيته وعصيانه ، أما أنا فسأعود إلى أبي . فهل سيشرب ابن الله كأس الهوان والعذاب المريرة ؟ وهل سيتحمل البار عواقب لعنة الخطية ويخلص المذنب ؟ ثم نطقت شفتا يسوع الشاحبتان المرتعشتان بهذا القول: “يا أبتاه، إن لم يمكن أن تعبر عنّي هذه الكأس إلا أن أشربها، فلتكن مشيئتك”. ML 654.2

نطق بتلك الصلاة ثلاث مرات ، وثلاث مرات ارتجفت بشريته وانكمشت أمام التضحية الآخرة العظمى . أما الآن فها تاريخ الجنس البشري يمر أمام فادي العالم . وقد رأى أن المعتدين على الشريعة لو تركوا لذواتهم فلا بد من هلاكهم ، وهو يرى عجز الإنسان ، ويرى قوة الخطية ، وها هو يسمع عويل ومراثي العالم المحكوم عليه بالهلاك . وإذ يرى مصير العالم المحتوم يعقد إذ ذاك عزمه . فهو سيخلص الإنسان مهما كلفه ذلك . إنه يقبل صبغة الدم حتى بواسطته ينال ملايين الهالكين الحياة الأبدية . لقد ترك عرش السماء حيث الطهارة والسعادة والمجد ليخلص الخروف الواحد الضال ، العالم الواحد الذي سقط بسبب العصيان . ولن يتراجع عن أداء مهمته وسيصير كفارة عن الجنس الذي أصر على ارتكاب الخطية . وها هي صلاته لا تنم عن شيء سوى التسليم ، إذ يقول :“إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أنا أشربها، فلتكن مشيئتك”. ML 655.1

فلما كان قد عقد العزم على ذلك انطرح كالمائت على الأرض بعدما كان قد نهض عنها قليلا . فأين كان التلاميذ الآن ليسندوا رأس معلمهم المعيى بأيديهم الرقيقة ، ويغسلوا ذلك الجبين الذي كان حقا مشوها أكثر من بنى آدم ؟ لقد داس المخلص المعصرة وحده ومن الشعوب لم يكن معه أحد. ML 655.2

ولكن الله تألم مع ابنه . لقد رأى الملائكة آلام المخلص . رأوا سيدهم محاطا بفيالق من قوات الشيطان ، وقد ناءت طبيعته مرتجفة تحت وطأة رعب غامض ، فحدث سكوت في السماء ولم تسمع ألحان موسيقية . فلو أمكن لبني الإنسان أن يروا ذهول أجناد السماء ، عندما رأوا بحزن الآب يحجز أشعة نور محبته ومجده عن ابنه الحبيب لأمكنهم أن يدركوا إدراكا أعمق حقيقة كون الخطية خبيثة ومكدرة في نظر الله. ML 655.3