مشتهى الأجيال

466/684

كلمات عطف

سمعت مريم تلك الانتقادات فارتجف قلبها داخلها. وكانت تخشى لئلا توبخها أختها على تبذيرها ، بل حتى المعلم نفسه قد يعتبر عملها هذا مجازفة لا داعى لها . وبدون اعتذار أو استئذان كانت موشكة على التسلل والانسحاب ، وإذا بصوت سيدها يسمع قائلا: “اتركوها! لماذا تزعجونها؟” (مرقس 14 : 6). لقد رآها مرتبكة ومتضايقة . وعرف أنها بهذه الخدمة إنما كانت تعبر عن شكرها له إذ غفر لها خطاياها وأنالها راحة البال . وإذ رفع صوته فوق أصوات التذمر والانتقاد قال: “قد عملت بي عملاً حسناًّ! لأن الفقراء معكم في كل حين، ومتى أردتم تقدرون أن تعملوا بهم خيراً. وأما أنا فلست معكم في كل حين. عملت ما عندها. قد سبقت ودهنت بالطيّب جسدي للتكفين” (مرقس 14 : 6 — 8). ML 525.2

إن ذلك الطيب الذي كانت مريم تفكر في أنها ستسكبه على جثمان المخلص بعد موته سكبته على جسده وهو بعد حي . فلو أنها سكبته على جثمانه عند دفنه فإن رائحته الطيبة كانت تملأ القبر وحده ، أما الآن وهو حي فإن ذلك الطيب أبهج قلبه بيقين إيمانها ومحبتها. إن يوسف الرامي ونيقوديموس لم يقدما ليسوع عطية محبتهما في حياته فلقد أحضرا الأطياب ومزجاها بدموع حزنهما المرير لتطييب جثمانه البارد الساكن. ثم إن النساء اللواتي أحضرن الأطياب إلى القبر في صبيحة يوم القيامة اكتشفن أنهن عبثاً أحضرن تلك العطور لأن السيد كان قد قام . ولكن مريم إذ سكبت محبتها مع أطيابها على رأس المخلص وقدميه وهو شاعر لتعبدها وتكريسها كانت تسكب ذلك الطيب على جسده للتكفين. وعندما نزل إلى أعماق ظلمة محنته العظيمة حمل معه ذكرى ذلك الصنيع عربونا للمحبة التي ستقدم له من مفدييه إلى الأبد. ML 525.3

كثيرون هم الذين يقدمون أثمن تقدماتهم للموتى. فإذ يقفون أمام ذلك الجثمان البارد الساكن ينطقون بكلام المحبة بكل طلاقة . يغدقون من كلمات الرقة والتقدير على ذاك الذي لا يرى ولا يسمع . ومن لو أنهم نطقوا بهذه الأقوال عندما كانت تلك النفس المتعبة في أشد الحاجة إليها ، عندما كانت الآذان تستطيع أن تسمع والقلب يحس ويشعر ، فكم كان شذا عطرها يفوح وينعش تلك النفس الخائرة! ML 526.1

إن مريم لم تكن تدرك إدراكا كاملا مدى دلالة عمل محبتها. ولم تستطع مجاوبة المشتكين عليها ، ولا أمكنها إيضاح سبب اختيارها لتلك المناسبة لدهن جسد يسوع بالطيب . لقد رسم لها الروح القدس خطة السير فأطاعت إلهامه . إن الوحى الإلهي لا يتنازل ليقدم تعليلا عن ذلك . إن ذلك الإلهام الإلهي الذي هو حضور غير منظور إنما يخاطب الذهن والنفس ويحرك القلب ليعمل . إنه هو الذي يزكي نفسه. ML 526.2

أخبر المسيح مريم بمعنى عملها وبذلك أعطاها أكثر مما أخذ منها. فقد قال: “فإنها إذ سكبت هذا الطيب على جسدي إنما فعلت ذلك لأجل تكفيني” (متى 26 : 12). فكما كسرت قارورة الطيب فامتلأ البيت بتلك الرائحة العطرة ، كذلك كان ينبغي أن يموت المسيح ويسحق جسده . ومن كان لابد له أن يقوم ثانية من قبره وكان لابد أن يفوح شذا عطر حياته ليملأ أرجاء الأرض . لقد أحبنا المسيح “وأسلم نفسه لأجلنا، قرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة” (أفسس 5 : 2). ML 526.3